تاريخ نظرية الانتخاب الثقافي
(١) النزعة التطورية Evolutionism
لامارك وداروين
ظهرت فكرة الانتخاب الثقافي، أولَ ما ظهرت، في إنجلترا أيام العصر الفيكتوري. ثقافة حققت نجاحًا خلال عملية الانتخاب الثقافي أكبر مما تحقق في أي مجتمع آخر. ولكن قبل الحديث عن هذه النظرية يتعين علينا أن نلقي نظرة على نظرية التطور البيولوجي التي وضع أساسَها كلٌّ من لامارك وداروين.
وواجه المفكرون التطوريون في ذلك العصر مشكلة كبيرة نظرًا لجهلهم آنذاك بقوانين الوراثة. والحقيقة أن الراهب النمساوي جريجور مندل كان خلال هذه الفترة تقريبًا عاكفًا على إجراء سلسلة من التجارب قادته إلى قوانين الوراثة التي تحمل اسمه اليوم، وتشكل أساس علم الوراثة الحديث. ولكن أعمال مندل المهمة ظلت غير معروفة على نطاق عام إلا مع بداية القرن العشرين، وهو ما يعني أنها كانت مجهولة لدى الفلاسفة البريطانيين في القرن التاسع عشر؛ إذ لم يكونوا على علم بشأن الجينات أو الطفرات. ولهذا عجز داروين عن تفسير مصدر التباينات العشوائية، واضطر داروين إزاء الانتقادات التي جوبِهت بها نظريتُه إلى مراجعة كتابه «أصل الأنواع» وإلى افتراض إمكانية وراثة السمات المكتسبة. وقال إن هذه الإمكانية هي أساس التباين الذي يمثل شرطًا لحدوث الانتخاب الطبيعي (داروين ١٨٦٩م و١٨٧١م). ونشر العالم البيولوجي الألماني أوجست وايزمان في عام ١٨٧٥م سلسلة من التجارب تدحض النظرية القائلة بإمكانية وراثة السمات المكتسبة. وكان كتابه الذي تُرجم إلى الإنجليزية في ١٨٨٠–١٨٨٢م سببًا في أن تفقد اللاماركية الكثير من أنصارها.
باجهوت Bagehot
«ولكن عندما بدأ ذات يوم تكوينُ الدولة لم يكن ثَمة صعوبةٌ في تفسير سبب استمرارها. وأيًّا كان ما يمكن أن يقال ضد مبدأ «الانتخاب الطبيعي» في المجالات الأخرى، إلا أنه لا يخالِجُنا أيُّ شك في أنه كانت له الهيمنة هنا في مطلع التاريخ البشري. اعتاد الأقوى قتْل الأضعف قدر المستطاع. ولست بحاجة إلى التوقف هنا لأبرهن على أن أي شكل من أشكال الدولة أفضل من لاشيء؛ وأن تجمعًا من الأسر التي ربما لا تشعر سوى بقدر من الولاء والقلق تجاه رئيس فرد سيكون وضعها يقينًا أفضلَ من مجموعة من الأسر التي لا تَدين بالطاعة لأي أحد، وقنعت بالبقاء متناثرةً في أنحاء العالم لتحارب حيثما حطَّت الرحال … إن ما يلزمهم ضرورةً هو قيام حكومة واحدة … وسمِّها ما شئت — من أسماء؛ كنيسة أو دولة — لتنظيم مجمل الحياة البشرية … وهدف مثل هذا التنظيم هو خلق إطار من الأعراف.»
إذا ما نظرنا إلى هذه الرواية بعيون عصرنا الراهن، بدت لنا أشبهَ بمثال واضح للانتخاب الثقافي: الجماعات الأفضل تنظيمًا قهرت الجماعات الأضعف. ولكن مفهوم الانتخاب الثقافي لم يكن له معنًى تقريبًا داخل الإطار المرجعي الذي ينطلق منه باجهوت. ولم يكن ثمة خطٌّ فاصل واضح يمايز بين الوراثة الاجتماعية والعضوية؛ وذلك نتيجةً لسيادة النظرة اللاماركية. واعتقد مفكرو القرن التاسع عشر أن الأعراف والعادات والعقائد تترسب وتترسخ في النسيج العصبي على مدى بضعة أجيال قليلة لتصبح بعد ذلك جزءًا من استعداداتنا الفطرية. ونظرًا لعدم وجود أي تمييز بين العرق أو السلالة وبين الثقافة، فقد كانوا يعتبرون التطور الاجتماعي تطورًا عرقيًّا. واعتاد باجهوت في أول الأمر النظرَ إلى نموذجه عن التطور البشري باعتباره مماثلًا، وإن لم يكن مطابقًا، لنظرية داروين، ليس بسبب الفارق بين الوراثة الاجتماعية والوراثة العضوية، ولكن بسبب الفارق بين البشر والحيوانات. ولم يذهب باجهوت في تقديره إلى أن البشر والحيوانات من أصل مشترك. وأكثر من هذا أنه ناقش مسألةَ ما إذا كان لكل سلالة من السلالات البشرية المختلفة آدم وحواء خاصين بها (باجهوت، ١٨٦٩م). ولكنه بطبيعة الحال راجع آراءه في عام ١٨٧١م عندما نشر داروين كتابه «أصل الإنسان».
بيد أنني، وعلى الرغم من هذه التعقيدات، أرى حقًّا أن باجهوت عنصر مهم بالنسبة لنظرية الانتخاب الثقافي؛ ذلك لأنه يركز على الأعراف والعادات والعقائد والنظم السياسية وغير ذلك من قسمات نراها اليوم عناصر جوهرية للثقافة؛ على عكس السمات الفيزيقية التي نعزوها اليوم إلى الوراثة العضوية في الأساس. ومن الأهمية بمكان بالنسبة لنظريته أن الأعراف … إلخ، يمكن أن تنتقل، ليس فقط من الآباء إلى الأبناء، بل وأيضًا من أسرة إلى أخرى. معنى هذا أنه حين يهزم شعبٌ ما شعبًا آخر في حرب دائرة بينهما، ويحتل أرضه، فإن فنون الحرب التي تميَّز بها الشعب المنتصر سوف تنتقل إلى الشعب المهزوم، أو لنقل إنه سوف يحاكيها. وهكذا فإن أي فن حربي يثبت أنه الأقوى سوف ينتشر ويكون له الرواج دائمًا. ولعل من المهم أن نشير هنا إلى أن باجهوت، على عكس الفلاسفة من بعده، لم يعتبر هذا الانتخاب الطبيعي مفيدًا ونافعًا بالضرورة: إنه يدعم القوة في الحرب، لا يدعم بالضرورة مهارات أخرى (باجهوت ١٨٦٨م).
تايلور
ترك عالم الأنثروبولوجيا إدوارد بي. تايلور أثرًا واضحًا على الفكر التطوري وعلى مفهوم الثقافة. ونحن نعزو أساسًا إلى تايلور فكرة أن المجتمع المتمدن الحديث ظهر نتيجة تطور تدريجي لمجتمعات أكثر بدائية. وتقضي النظرية السائدة في عهده بأن شعوب الهمج والبرابرة ظهرت نتيجة تحلل مجتمعات متمدنة. وتشتمل كتب تايلور على وصف شامل للأعراب والتقنيات والعقائد السائدة في ثقافات مختلفة، وكيف تغيرت. ويناقش كيف أن أوجُهَ التماثل بين الثقافات يمكن أن ترجع إما إلى الانتشار أو إلى تطور مستقل موازٍ. ولا نجد في كتاباته إشارة صريحة إلى نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، ولكن لا شك في أنه استلهم نظرية داروين كما هو واضح من الرواية التالية:
«إن التاريخ في مجاله الدقيق بامتياز، وكذا الإثنوجرافيا، يتَّحدان لبيان أن المؤسسات التي تثبت أنها الأفضل والأكفأ في العالم تجبُّ تدريجيًّا الأقلَّ ملاءمةً وتحل محلها. ويحدد هذا الصراع الأبدي المسار العام للثقافة الناجم عن ذلك.»
وأوشك تايلور منذ مطلع عام ١٨٦٥م أن يقدم وصفًا لمبدأ الانتخاب الثقافي؛ أي قبل منشورات باجهوت سالفة الذكر:
«كم هو عسير أن توجد معًا في وقت واحد الفنونُ التي تزدهر في العصور التي يبلغ فيها التهذيب أو الترف شأوًا كبيرًا، والعمليات المعقدة التي تستلزم تآلفًا من المهارة أو العمل، وتكون عُرضة للتشوش بسهولة، وغالبًا ما يصيبها التحلل. ولكن على الرغم من هذا فإنه كلما كان الفن أكثر أُلفةً ونفعًا، وكلما كانت ظروف ممارسته أقل صعوبة، كلما قلَّ احتمال اندثاره من العالم، ما لم يتغلب عليه ويتجاوزه فنٌّ آخر أفضل.»
وبينما كان داروين عاكفًا على دراسة «البقاء للأصلح» كان تايلور معنيًّا أكثر بموضوع «بقاء غير الصالح». ورأى تايلور في وجود المؤسسات والأعراف البالية والمهجورة، والتي لم يعد لها أي نفع، أفضلَ برهان على أن المجتمع الحديث تطور عن وضع أكثر بدائية. ويبدو أن اتجاه تايلور إزاء الداروينية يحمل في طياته ثنائية نقيضيةً؛ نظرًا لأن إشارته الوحيدة إلى داروين تمثلت في الرواية الملغِزة التالية التي وردت في تصديره للطبعة الثانية من كتابه الرئيسي «الثقافة البدائية»:
«ربما استرعى انتباه بعض القرَّاء ما ظنوه سهوًا منَّا؛ حيث إن دراسة عن الحضارة تؤكد بقوة على نظرية التنامي والتطور، لا تكاد تذكر اسم السيد داروين أو السيد هربرت سبنسر، ولهما ما لهما من نفوذ على مجمل مسار الفكر الحديث المعنيِّ بهذه المواضيع؛ ومن ثم ما كان ينبغي عدم الاعتراف بهما. ولكن يفسر إغفالنا أي إشارة عنهما أن هذه الدراسة التي بين يدي القارئ والتي جرى تنظيمها وَفقًا لأُطُرها الفكرية الخاصة، نادرًا ما استعانت من حيث التفاصيل بالأعمال السابقة لهذين الفيلسوفَين المبرزَين.»
سبنسر
منذ عام ١٨٥٢م وقبل أن ينشر داروين كتابه «أصل الأنواع»، قدَّم الفيلسوف الإنجليزي المبرز هربرت سبنسر عرضًا لمبدأ يقضي بأن أكثر الأفراد ملاءمةً وصلاحية يبقون على قيد الحياة، بينما الأقل صلاحية يموتون خلال الصراع من أجل الوجود. ولم تكن لهذا المبدأ أولَ الأمر سوى أهميةٍ أدنى شأنًا في فلسفة سبنسر التطورية، التي ارتكزت على فكرة مؤداها أن جميع أنواع التطور تخضع لمبادئ أساسية واحدة. ذلك أن الكون والأرض والأنواع والأفراد والمجتمع تتطور جميعُها وَفق النمط ذاته وفي الاتجاه نفسه، أي، حسبما رأى سبنسر، في اتجاه المزيد من الاختلاف والتوازن دائمًا وأبدًا. إنها جميعًا تمثل جزءًا من عملية واحدة:
«… ليست هناك أنواع عديدة من التطور تجمع بينها سمات معينة مشتركة، وإنما هناك تطور واحد يمضي في كل الاتجاهات وله الاسم ذاته.»
وفي عام ١٨٥٧م، أي قبل عامين فقط من صدور كتاب داروين عن أصل الأنواع، وصف سبنسر علة هذا التطور بقوله: «ذلك السر الأزلي الذي يتجاوز بالضرورة دائمًا وأبدًا الذكاء البشري.» (سبنسر، ﻫ. ١٨٥٧م).
وذهب سبنسر إلى أن تطور المجتمعات يمضي عبر أربع مراحل؛ إذ ظهرت من بين الحالة الهمجية غير المنظمة المجتمعاتُ البربرية المؤلَّفة من البدو الرحَّل والرعاة. واتحد هؤلاء فيما بعدُ في مدن ودول قومية، تسمى المجتمعات المحاربة. وتسمى المرحلة الأخيرة في التطور باسم المجتمع الصناعي، الذي سوف يواصل تطوره في اتجاه التوازن وانعدام النمو والسِّلم والتناغم.
وحددت التطورَ الاجتماعي أولَ الأمر عواملُ خارجية؛ مثل المناخ وخصوبة التربة والنباتات والحيوانات والسمات الخاصة المميِّزة للبشر أنفسهم. وثمة عوامل ثانوية تشتمل على تعديلات أدخلها البشر على بيئتهم وعلى أنفسهم وعلى مجتمعهم؛ علاوةً على تفاعلهم مع المجتمعات الأخرى. ويمثل النمو السكاني القوةَ الدافعة في هذا التطور؛ ذلك أن الزيادة المطردة في السكان تستلزم دائمًا وأبدًا إنتاج المزيد من وسائل إنتاج الطعام، ومن ثم زيادة درجة التنظيم وتقسيم العمل والتقدم التقاني.
والحرب لها دور مهم في الانتقال من حالة البربرية إلى المجتمع المحارب؛ ذلك أن أي حرب أو أي تهديد بالحرب يستلزم تشكيل حلفاء وتأسيسَ حكومة مركزية قوية. ومن ثم يتميز المجتمع المحارب باحتكار قوي للقوة وللسلطة التي يتعين على الناس الخضوعُ لها. وغالبًا ما تكون المحصلة النهائية لأي حرب هي اندماج مجتمعين في مجتمع أكبر؛ حيث تمتزج الثقافتان ببعضهما، وتبقى على قيد الحياة الجوانب الأفضل من كلٍّ من الثقافتين. والملاحَظ أن إنشاء دول أكبر وأكبر على هذا النحو هو ما يهيئ إمكانية للخطوة الأخيرة في المخطط التطوري عند سبنسر؛ أي التصنيع. ولا تزال الحكومة المركزية الصارمة والشمولية عقبةً دون التصنيع؛ لأنها تَعوق المبادراتِ الاقتصادية الخاصة والتقدم العلمي. لذلك فإن المجتمع المحارب سوف يتحرك في زمن السلم في اتجاه المزيد من الحرية الفردية والديمقراطية، ومن ثم يتحول إلى ما يسميه سبنسر المجتمع الصناعي (سبنسر ﻫ. ١٨٧٢م و١٨٧٦م).
وطبَّق سبنسر مبدأ «البقاء للأصلح» على تشكل المجتمعات البدائية تمامًا مثلما فعل باجهوت:
«… إن تشكل المجتمعات الأكبر حجمًا على هذا النحو نتيجة اتحاد المجتمعات الأصغر بسبب الحروب، وتدمير أو استيعاب المجتمعات الأكبر المتحدة للمجتمعات الأصغر غير المتحدة؛ يمثل عملية حتمية. واستطاعت الأنواع المختلفة من البشر الأكثر تكيفًا مع الحياة الاجتماعية أن يقتلعوا الأنواع المختلفة الأقل تكيفًا.»
ولم يكن سبنسر، شأنه شأن باجهوت وتايلور، يمايز بين الوراثة الاجتماعية والعضوية إلا نادرًا. لذلك يتعذر علينا أن نقرر ما إذا كانت الرواية السابقة تشير إلى انتخاب جيني أم ثقافي. بيد أن سبنسر يطبق بالفعل مبدأ الانتخاب الطبيعي على ظواهر لا يمكن اعتبارها من وجهة النظر المعاصرة إلا وراثةً اجتماعية. ويصف سبنسر نشأة الأديان على النحو التالي:
«قد نرى أن المألوف أن الرئيس أو الحاكم الذي نشأت عن عادة استرضائه عقيدةٌ محلية، إنما اكتسب وضعه بفضل نجاحات من هذا النوع أو ذاك. وإذا كان الأمر كذلك يتحتم علينا أن نستنتج أن طاعة الأوامر الصادرة عنه والالتزام بالأعراف التي استهلها من شأنهما في متوسط الحالات أن يحققا رخاءً اجتماعيًّا طالما ظل الوضع على حاله دون تغيير. ولذلك فإن النزعة المحافِظة القوية لدى المؤسسات الدينية تبدو أمرًا له ما يبرره. ويمكن القول، حتى دون النظر إلى مدى الملاءمة النسبية للعقيدة الموروثة مع الظروف الاجتماعية الموروثة، أن ثمة ميزة، إن لم نقل ثمة ضرورة، للتسليم بالمعتقدات التقليدية، وبالتالي من الامتثال للأعراف والقواعد المترتبة عليها.»
ولكن سبنسر لم يساند سياسة حرية العمل عندما جرت محاولة تطبيقها في الحروب الدولية (شالبرجر ١٩٨٠م). والتزم موقفًا نقديًّا للغاية من تزايد سياسة العسكرة والهيمنة الإمبريالية في بريطانيا؛ إذ رآها بمثابة ظاهرة نكوص في المسيرة التطورية. وحذَّر أيضًا من حقيقة واقعة نلمسها في المجتمع الحديث؛ وهي أن العناصر البشرية الأقوى هي التي تذهب في الغالب الأعم إلى الحرب وتلقى حتفها، هذا بينما الأضعف منهم يبقون حيث هم ويتكاثرون. واعتقد سبنسر، انطلاقًا من نظرته التفاؤلية التي ظل ملتزمًا بها، أن الحروب مرحلة انتقالية في التاريخ التطوري للبشر:
«ولكن مع ظهور مجتمعات أرقى، وهو ما يعني توفر خصائص فردية لعلاقات تعاون أكثرَ متانة، فإن الأنشطة التدميرية التي تمارسها هذه المجتمعات تفرز ردود أفعال لها نتائجها الضارة بالطبائع المعنوية لأبنائها، وهذه نتائج ضارة تفوق في تأثيرها المنافع الناجمة عن استئصال الأعراق الأدنى مرتبة. وبعد بلوغ هذه المرحلة تقوم الحرب الصناعية بإنجاز عملية التطهير، والتي لا تزال تمثل شأنًا مهمًّا، أي تجري هذه العملية من خلال المنافسة بين المجتمعات. وتحقق المجتمعات الأفضل فيزيقيًّا وانفعاليًّا وفكريًّا خلال هذه العملية أوسعَ انتشار ممكن لها، وتخلف وراءها المجتمعاتِ الأقلَّ قدرة لكي تندثر تدريجيًّا؛ نتيجة إخفاقها في إنجاب ذريات كثيرة العدد.»
وصادفت نظريات سبنسر، أولًا وقبل كل شيء، نقدًا بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تفيد بأن السيادة المطلقة للقوى العظمى سوف تفضي إلى حالة تناغم. وقال خصومه إنه أنكر مثالب وسلبيات المجتمع الرأسمالي؛ رغبةً منه في الحفاظ على عقيدته الأولى، والتي تقضي بأن التطور هو عين التقدم. وقيل إن سبنسر في أواخر أيامه زايله هذا الوهم، وبدأ يدرك حقيقة هذه المشكلة (شالبرجر، ١٩٨٠م).
برونتيير
استلهم مؤرخ الأدب الفرنسي فرديناند برونتيير نظرية دارون عن التطور، وذهب إلى أن الأدب والفنون الأخرى تطورت بناءً على مجموعة من القوانين التي تماثل، وإن لم تطابق، القوانينَ الحاكمة للتطور البيولوجي:
«والآن إذا عرَفنا أن ظهور أنواع بذاتها، في ظرف محدد زمانًا ومكانًا، يفضي إلى اندثار أنواع أخرى محددة، أو إذا صح أيضًا أن الصراع من أجل الحياة لا يكون أشد شراسةً إلا بين الأنواع المتجاورة، ألَا يدَعُ هذا الأمثلةَ تتزاحم في فكرنا لتذكرنا بأن الوضع لم يكن على غير هذا النحو في تاريخ الآداب والفنون؟»
وعلى الرغم من أن مفهوم الوراثة الثقافية لم يذكره برونتيير صراحةً؛ إلا أنه دون ريب يمايز بين العرق والثقافة. إنه يقول إن تطور الأدب والفن رهن العرق؛ مثلما هو رهنُ البيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية، وكذا العوامل الفردية؛ علاوة على هذا، فإنه يمايز بين التطور والتقدم.
ستيفين
«المدفعية المتقدمة مثلها مثل الأسنان الحادة؛ إذ تمكِّن الفريق الحائز لها من أن يستأصل أو يُخضع منافسيه؛ بيد أننا نجد فارقًا واضحًا من ناحية أخرى، ذلك أن الأسنان الحادة تخص فقط أفرادًا ظهرت لديهم هذه الأسنان، وتخص ذرِّياتهم ممن سوف تنتقل إليهم الأسنان بالوراثة. ولكن المدفعية المتقدمة يمكن أن يَحوزها فريقٌ من أفراد يؤلفون مجتمعًا متصلًا بالمبتكر الأصلي. وها هنا نجد ابتكار فرد يمكن اعتباره من نواحٍ معينة ابتكارًا خاصًّا بالجميع. هذا على الرغم من أن قوانين انتشار الاختراع ستكون بطبيعة الحال شديدة التعقد.»
ورأى ستيفين أن التمييز بين التطور الثقافي والتطور العضوي مهم؛ لأن التطور العضوي شديد البطء؛ بحيث لا نجد له أي علاقة وثيقة بالعلوم الاجتماعية. ويناقش ستيفين أيضًا مسألة «وحدة الانتخاب»، ويرى أن وحدة الانتخاب قد تكون في الحروب القَبَلية البدائية هي القبيلة كلها التي تقضي عليها، وتحل محلها قبيلة أخرى متميزة بفنون حربية أكثر كفاءةً وفعالية. ولكن الملاحَظ في الحروب الحديثة بين الدول المتحضرة تكون وحدة الانتخاب: نظام سياسي ينتصر على نظام آخر؛ بينما يظل القطاع الأكبر من الشعب المهزوم على قيد الحياة. ورأى أيضًا أن الأفكار يمكن انتخابها خلال عملية ليست وقفًا على ميلاد أو موت الناس. وهكذا كان ستيفين واعيًا بأن ثمة ظواهرَ مختلفة تنتشر بآليات مختلفة. ويتضح لنا هذا من الرواية التالية:
«العقائد التي تمنح معتنِقيها قوةً أكبر لديها فرصة أكبر للانتشار؛ بينما تندثر العقائد الضارة عن طريق اندثار معتنقيها. بيد أن هذا يعبر عما يمكن أن نسميه الشرط الحاكم أو المنظِّم، ولا يمثل القانون المباشر للانتشار. وتنتشر النظرية من مخ إلى آخر طالما كان المرء قادرًا على إقناع غيره. وتمثل هذه عملية مباشرة أيًّا كانت طبيعتها النهائية، ونجد لها قوانينها الخاصة الحاكمة للوضع العام الذي يحدد آخِر ما يبقى على قيد الحياة من منظومات الفكر المختلفة.»
ولكن نظريات ليزلي ستيفين النابهة عن التطور الثقافي لقيت الإهمال، ولم يكن لها أثر، فيما يبدو، على الفلاسفة الذين جاءوا من بعده. وها هو بنيامين كيد على سبيل المثال لم يذكر الانتخاب الثقافي في كتابه «التطور الاجتماعي» الصادر عام ١٨٩٤م.
كيد Benjamin Kidd
استلهم كيد أفكار كلٍّ من ماركس وسبنسر (في المقام الأول) وإن انتقدهما. ويبدو وكأنه حاول أن يلتزم قاعدة الوسط الذهبي. اتفق مع الماركسيين على أن أبناء الطبقة الحاكمة ليسوا أسمى من سواهم. واعتقد أن الأسرة الحاكمة كانت آخذة في التحلل بحيث بات لزامًا ظهورُ حكَّام جدد من بين القاعدة. وعارض لهذا السبب الامتيازات، وأنكر التفوق العقلي الفطري للعرق الأبيض، وعزاه إلى ميراث اجتماعي، والذي يعني به المعارف المتراكمة. واتفق من ناحية أخرى مع العنصريين على أن العرق الإنجليزي كان هو الأرقى عندما بلغ مستوى «الكفاءة الاجتماعية»، والتي يعني بها القدرة على تنظيم وكبح الغرائز الأنانية لصالح المجتمع والمستقبل. وعزا كيد هذه الغيرية إلى الغريزة الدينية. وعمَد، إزاء هذا الرأي المثير للفضول، إلى تفسير تطور الدين في ضوء الانتخاب الطبيعي للعرق الأقوى؛ تأسيسًا على الوراثة العضوية. وعلى الرغم من أن كيد يشير إلى ليزلي ستيفين في سياقات أخرى، إلا أنه لم يذكر أبدًا الانتخاب القائم على الوراثة. وذهب كيد، بناءً على رفض وايزمان للنزعة اللاماركية، إلى أن المنافسة الأبدية ضرورية لاطراد تطور العرق؛ لذلك نراه يرفض الاشتراكية التي اعتقد أنها سوف تُفضي إلى حالة من التحلل.
(٢) الداروينية الاجتماعية Social Darwinism
استمرت مشكلة التمييز بين الوراثة الاجتماعية والوراثة العضوية إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بفترة غير قصيرة. مثال ذلك أن عالم النفس الاجتماعي وليم ماكدوجال تحدث عن الانتخاب بين السكان على أساس الدين أو القوة العسكرية أو المنافسة الاقتصادية، دون الحديث عن الوراثة الاجتماعية. وذهب ماكدوجال إلى أن هذه الخصائص ترتكز على استعدادات طبيعية نظرية في الأعراق المختلفة (ماكدوجال، ١٩٠٨، ١٩١٢).
وأدخل خصوم سبنسر مصطلح الداروينية الاجتماعية عام ١٨٨٥م، وأصبح يطلق منذ ذلك التاريخ على أية فلسفة مبنية على الداروينية (بانيستر ١٩٧٩م). وظل تعريف هذا المصطلح مرنًا ومتباينًا؛ اعتمادًا على ما يريد المرء أن يشمله هذا القدح.
ولقد كان سبنسر — وليس داروين — هو الذي صاغ تعبير «البقاء للأصلح». وتنطوي هذه الصياغة ضمنًا على افتراض أن الأصلح هو الأفضل؛ أي: أن ذلك الذي يبقى على قيد الحياة خلال المنافسة هو الأفضل. ولم يدرك أحد إلا بعد سنوات طويلة أن هذا التعبير ضربٌ من التكرار والحشو؛ ذلك لأن الصلاح يتحدد في الحقيقة بأنه القدرة على البقاء، ومن ثم فإن البقاء لمن يبقى على قيد الحياة (بيترز، ١٩٧٦م).
وتنطوي عبارة داروين «الانتخاب الطبيعي» على نزعة حتمية ضمنية أن ما كان طبيعيًّا هو أيضًا ما كان نافعًا ومرغوبًا. ويذهب الداروينيون الاجتماعيون في نظرتهم إلى العالم إلى أن البشر والمجتمع البشري كانوا جزءًا من الطبيعة، ومن ثم صادف مفهوم الطبيعية؛ أي حالة الفطرة الطبيعية آنذاك، مثلما تصادف الآن هوًى وإعجابًا. ولا ريب في أن النظر إلى الإنسان كجزء من الطبيعة لا بد من أن يعني — كنتيجة منطقية — أن كل ما هو بشري فهو طبيعي، أي ينتمي إلى الطبيعة، ولا شيء غير طبيعي. وهكذا يبدو مفهوم الطبيعة غير ذي معنًى. ولكن يبدو أن أحدًا لم يدرك أن هذا لم يكن مقولة موضوعية بل مفهومًا تعسفيًّا مثقلًا بأحكام القيمة، ونحن إذ نصف التطور بأنه طبيعي إنما نحول دون أنفسنا والاختيار؛ إذ أصبح كل شيء متروكًا للسيادة الحرة للقوى العظمى. ولم يجرؤ أحد على كسر نظام الطبيعة أو أن يتساءل عن مدى استصواب الانتخاب الطبيعي. وهكذا كان التطور والتقدم مترادفَين.
واستخدم المفكرون الداروينية الاجتماعية لتبرير كل أنواع النزعات الليبرالية والإمبريالية والعنصرية والنازية والفاشية وتحسين النسل … إلخ. وإنني أُمسك عن ذكر قوائم الأيديولوجيات العديدة التي تعززت بفضل مفهوم الداروينية الاجتماعية؛ إذ سبق أن تناولت كتبٌ عديدة هذا الموضوع، ولكنني أكتفي هنا بملاحظة أن الداروينية الاجتماعية لم يرفضها أحد إلى أن كشفت الحرب العالمية الثانية عن الأهوال المروعة التي أفضى إليها هذا الفكر.
كيلر
انتقد عالم الاجتماع الأمريكي ألبرت جي كيلر الداروينيين الاجتماعيين السابقين؛ لأنهم أقاموا نظريتهم التطورية على الوراثة العضوية (١٩١٦م). ورفض — في إشارة منه إلى وايزمان — فكرة أن الخصائص المكتسبة مثل التقاليد والأخلاق يمكن وراثتها.
استوحى كيلر القاعدة العامة عن التطور البيولوجي عند داروين؛ التي تقول إن النتيجة المشتركة للتباين والانتخاب والتكاثر تفضي إلى التكيف. وقدم تعريفًا على أساس من التماثل المجرد للتباين الاجتماعي والانتخاب الاجتماعي والتكاثر الاجتماعي. واعتبر كيلر أن هذه فكرته هو، وأشار بطبيعة الحال إلى عديد من المفكرين الاجتماعيين البريطانيين، بمن فيهم سبنسر وباجهوت، غير أنه ذهب إلى أن نظرياتهم ترتكز على الوراثة العضوية، ولم يكن يعرف شيئًا عن ليزلي ستيفين.
«كان النظام تحديدًا هو ما يحتاج إليه البشر وقتما كان الجنس البشري في طفولته، وظل بحاجة إلى النظام منذ ذلك التاريخ؛ إذ يتعين على البشر أن يتعلموا كيف يتحكمون في أنفسهم. وعلى الرغم من أن النظام المحدِّد للعلاقات حقق انضباطًا مهمًّا إلا إن القائمين عليه هم مجرد بشر؛ ومن ثم كان الرئيس مضطرًا إلى أن يغفو بين الحين والآخر، وغير قادر على أن يكون هنا وهناك وفي كل مكان في وقت واحد، كما كان بالإمكان خداعُه وتجنُّبه. ولكن الحال ليس كذلك بالنسبة للأشباح والأرواح؛ ذلك أن عين الروح الحارسة للبشر تُبصر كل شيء ولا تأخذها سِنة من النوم، ولا تخفى عليها خافية في الزمان أو المكان. وإن إثبات كل هذا في سجلٍّ أمرٌ لا ريب فيه. هذا علاوة على أن عقوبة الخطيئة مروعة، ومع التسليم بأن الرئيس يمكنه أن يضرب أو يبتر أو يفرض غرامة أو يقتل إلا إن ثمَّة حدودًا لكل ما له أن يفعله. هذا على عكس الحال بالنسبة للأرواح؛ إذ يمكنها أن تصيب الناس بأضرار وأذًى لا عهد لهم بها، وأن تبتليَهم بتشوهات وتحوِّلهم إلى مُسوخ. ويمتد سلطانها إلى ما بعد القبور، وتتجاوز قدراتها على الإيذاء حدود أقصى الخيالات إثارةً (…) وليس ثمة شكٌّ في أن القيمة الانضباطية لهذا فاقت قدرة كل مظاهر القوة والقهر التي عرَفتها البشرية طَوال تاريخها.»
وتميز نقد كيلر للداروينية الاجتماعية (١٩١٦م) بأنه نقد علمي محض وليس سياسيًّا. وناصَر كيلر فكرة تحسين النسل التي ساد اعتقاد، على نطاق واسع حتى الحرب العالمية الثانية، بأنها فكرة تقدمية.
(٣) الوظيفية
«لا تمثل النزعة التطورية الآن الاتجاه السائد، هذا على الرغم من أن فروضها الرئيسية ليست فقط صحيحةً بل إنها أيضًا ضرورية ولا غنَى عنها للباحث الميداني، وكذا لدارسي النظرية.»
ويمكن يقينًا المؤالفةُ بين النزعة الوظيفية والتطورية في مركب واحد طالما وأن نظرية الانتخاب تمثل رابطة ممكنة بين وظيفة أي مؤسسة ثقافية وأصلِها الذي نشأت عنه. ويبين واضحًا أن المؤسسة الوظيفية سوف تتغلب على المؤسسة الأقل كفاءةً أثناء عملية الانتخاب الثقافي (دور، ١٩٦١م). وإذا وضعنا هيمنة الفكر الوظيفي في الاعتبار، ليس لنا أن ندهَش لعودة ظهور النزعة التطورية في صورة ميلاد جديد حوالي ١٩٥٠م.
(٤) التطورية الجديدة
يفيد اسم التطورية الجديدة ضمنًا معنَى أن ثمة شيئًا جديدًا، وهو ما قد يكون خادعًا إلى حد ما. ورفض بعض التطوريين الجدد هذا المصطلح وأطلقوا على علمهم اسم «التطورية القديمة الواضحة». وهكذا كانت هي! (ساهلين وسيرفيس، ١٩٦٠م، ص٤). والمعروف أن تراث هذا الفكر، ابتداءً من سبنسر وحتى تايلور، استمر دون إضافة الكثير من الفكر الجديد. وركز التطوريون الجدد اهتمامهم على وصف تطور المجتمعات عبر عدد من المراحل. وأوضحوا أوجه التماثل بين العمليات التطورية المتوازية، مع الكشف عن قاعدة مشتركة لاتجاه التطور. ونلحظ أن أحد الفوارق المهمة التي تختلف عن النزعة التطورية للقرن التاسع عشر هو أن قوانين الوراثة البيولوجية باتت معروفة للجميع؛ ومن ثم ليس لأحد أن يستمر في الخلط بين الوراثة الجينية والاجتماعية، كما أصبح هناك خط فاصل يمايز بوضوح بين التطور العرقي والتطور الاجتماعي، ولم تعد ثمة نظرياتٌ عرقية، كما أضحت التطورية الاجتماعية القديمة مرفوضة.
فإذا كانت الوراثة الجينية تنتقل فقط من الأبوين إلى الأبناء، فإن التراث الثقافي ينتقل في كل الاتجاهات حتى بين شعوب لا علاقة بينهم. لذلك رأى التطوريون الجدد أن الانتشار لا أهمية له، ورأوا أن ثقافةً ما يمكن أن تندثر دون أن يندثر الشعب الحامل لهذه الثقافة. معنى هذا بعبارة أخرى أن التطور الثقافي على عكس التطور الجيني ليس رهن ميلاد ووفاة الأفراد (تشايلد، ١٩٥١م).
ورأى التطوريون الجدد أن من المهم الكشف عن قانون عام شامل يصور لنا اتجاه التطور:
«لكي يكون المرء تطوريًّا يتعين عليه أن يحدد اتجاهًا للتطور …»
وظهرت اتجاهات كثيرة تحدثنا عن ماهية هذا الاتجاه. وذهب تشايلد إلى أن التطور الثقافي سار في نفس اتجاه التطور البيولوجي، بل وأضحى في الواقع بديلًا عنه. وذكر على سبيل المثال أننا نرتدي معطفًا من الفرو حين يبرُد الجو؛ بدلًا من أن ينبُت فروٌ لنا؛ كما هو الحال بالنسبة للحيوانات. وسبق لسبنسر أن وصف اتجاه التطور بأنه حالة من التعقد والتكامل المطرد. ولا تزال هذه الفكرة تجد أنصارًا كثيرين لها بين التطوريين الجد (كامبل، ١٩٦٥م؛ إيدر، ١٩٧٦م).
ورأى ليزلي هوايت (١٩٤٩م) أن التكامل والدمج يعني سيطرة سياسية قوية ووحداتٍ سياسيةً أكبر، يتزايد حجمها دائمًا وأبدًا. ولم يكن هذا التكامل هدفًا في ذاته بل وسيلة نحو الهدف الحقيقي للتطور؛ ألَا وهو استخدام الطاقة بأكبر قدر ممكن وعلى نحو أكثر كفاءة. ودافع هوايت بلغة الديناميكا الحرارية عن وجهة النظر القائلة بأن استغلال الطاقة هو المقياس الكلي الشامل للتطور الثقافي. وعبَّر عن هذا بالصيغة التالية:
«إن الاتجاهية أو تحديد الاتجاه في أي فترة بذاتها تأتي محصِّلة الوضع التنافسي للابتكارات الثقافية لأنماط مختلفة والوضع التنافسي للمجتمعات الملتزمة بها. وإن ناتج كلٍّ من هذا التنافس بقدر ما ينطوي على تحوُّل لا رجعة عنه (مثال ذلك في حالة تدمير الموارد الطبيعية أو ابتكار يُلغي ابتكارًا قديمًا ويتفوق عليه) يحدد مسار الاتجاه.»
وهذا حشو فارغ تمامًا من المعنى حتى إن المرء لا يسعه إلا أن يتساءل في دهشة كيف تسنى للتطوريين الجدد الالتزامُ بزعمهم أن التطور يتخذ اتجاهًا قابلًا للتحديد!
والشيء اللافت للنظر أن غالبية التطوريين الجدد استنفدوا في دراستهم لمسار واتجاه التطور طاقةً تفوق كثيرًا ما استنفدوا من أجله دراسة الآليات الأساسية للتطور. وقنع أغلبهم بتكرار ثلاثة عناصر تضمنتها القاعدة العامة عند داروين: التباين والانتخاب والتكاثر، دون الدخول في التفاصيل. وإن ما يثير الدهشة بوجه خاص اهتمامُهم الضئيل بعملية الانتخاب. ونحن لا نكاد نجد واحدًا منهم حريصًا على بيان المعايير التي حددت أي القسمات دعمها الانتخاب الثقافي، وأيها تم التخلص منها. واكتفوا بالمعيار العام: قيمة البقاء، وظل الحشو الزائد سائدًا. ونلحظ أنهم بسبب انتفاء معيار الانتخاب فقدوا كل حُجة توضح لماذا يتعين على التطور أن يتخذ المسار المزعوم.
وظهر أيضًا قدر من الخلط والاضطراب بشأن بيان ماهية وحدة الانتخاب؛ هل الأعراف الاجتماعية هي ما يجري انتخابها أم الناس الحاملون لها؟ أم أن المجتمعات على بكرة أبيها هي موضوع عمليات الانتخاب؟ أخفق بعض المفكرين في تحديد أي وحدة من وحدات الانتخاب تمامًا. واستخدم الكثيرون كلمة ابتكار (تشايلد، ١٩٣٦م؛ ١٩٥١م). وكانت لدى إمرسون (١٩٥٦م؛ ١٩٦٥م) فكرة تقضي بأن الرموز تناظر في التطور الثقافي الجيناتِ في التطور البيولوجي. وذكر بارسونز (١٩٦٦م) عديدًا من وحدات الانتخاب المحتملة. وعرضت ميد القائمة الأكثر اكتمالًا بوحدات الانتخاب الممكنة:
«سمة واحدة، مجموعة متكاملة من السمات، بنية كاملة، مرحلة من التعقد في استخدام الطاقة، نمط من التنظيم الاجتماعي.»
وقدم عدد قليل من العلماء عرضًا تفصيليًّا معقولًا لعمليات الانتخاب المحتملة (موردوك، ١٩٥٦م؛ كابلان دي، ١٩٦٠م؛ بارسونز، ١٩٦٦م). ونجد القائمة الأكثر شمولًا لآليات الانتخاب في مقال يأتي ذكره مرارًا كثيرة لعالم النفس الاجتماعي دونالد كامبل (١٩٦٦م):
«البقاء الانتخابي لتنظيمات اجتماعية كاملة. والانتشار أو الاستعارة على أساس الانتخاب بين الفرق الاجتماعية، والشيوع الانتخابي لتباينات وقتية عابرة، والمحاكاة الانتخابية للتباينات فيما بين الأفراد، والارتقاء الانتخابي إلى مستوى القيادة والأدوار التعليمية، والانتخاب العقلاني الرشيد.»
وفي عام ١٩٦٠م شهدت النظرية التطورية انقسامًا ثنائيًّا جديدًا: التطور النوعي أو الخاص المحدد مقابل التطور العام، ويشير التطور النوعي إلى تكيف نوع أو مجتمع ما مع الأوضاع المحلية للحياة أو مع موطن ملائم بذاته. ولكن التطور العام يعني قدرة عامة على التكيف حسنة الإمكانيات. ومن ثم فإن نوعًا أو مجتمعًا ما لديه قدرة تكيفية عالية يمكنه أن يتفوق في المنافسة على مجتمع أو نوع متكيف تكيفًا خاصًّا محددًا خاصة حين تكون المنافسة داخل بيئة متغيرة. ونجد في حالات أخرى أن النوع أو المجتمع ذا القدرة التكيفية الخاصة المحددة يمكنه البقاء في بيئة استيطانية بذاتها (ساهلين وسيرفيس، ١٩٦٠م). وبدا أن هذا الانقسام الثنائي حسم الاضطراب الذي كان سائدًا؛ حيث التطور العادي أحادي الخط؛ بينما التطور الخاص المحدد متعدد الخطوط (هوايت، ١٩٦٠م).
ولجأ الباحثون إلى التطورية الجديدة أساسًا من أجل تفسير الفوارق بين البلدان الصناعية والبلدان النامية، وكذا بين الماضي والحاضر. وانصبَّ الحديث بشكل رئيسي على المبادئ الأساسية، ونادرًا ما تطرَّق إلى التاريخ التطوري لثقافات محددة أو لوقائع تاريخية بذاتها. واقتصرت الطاقة التفسيرية للنظريات عادةً على ما هو جليٌّ واضح: إن ابتكاراتٍ معينةً تنتشر لأنها نافعة، بينما الابتكارات غير النافعة مآلها النسيان.
ونلحظ أن علماء الاجتماع المعاصرين حريصون غالبًا على أن ينأوا بأنفسهم بعيدًا عن التطورية الاجتماعية. ولكن لا يزال الفكر التطوري — على الرغم من كل هذا — هو السائد في كثير من مجالات البحث في العلوم الاجتماعية، ولا تزال النظريات التطورية تجد سبيلها إلى النشر (مثال ذلك جرابر آر بي، ١٩٩٥م).
(٥) النزعة الانتشارية Diffusionism
تمثل النزعة الانتشارية تراثًا بحثيًّا آخر اعتبره الباحثون على مدى سنوات طويلة بديلًا عن النزعة التطورية. ويركز هذا التراث البحثي على الانتشار دون الابتكار، ويرى في الانتشار تفسيرًا للتغير الاجتماعي. وإذا شئنا الدقة نجد أن التصوير الانتشاري يتضمن العناصر الثلاثة ذاتها التي تنبني عليها النزعة التطورية: الابتكار والانتخاب والتكاثر، ولكن منظورًا إليها من زاوية أخرى. والفارق بين إطارَي الفكر في النزعتين أن الانتشار يركز على البعد المكاني للتكاثر؛ بمعنى الانتشار الجغرافي للظاهرة، هذا بينما تركز النزعة التطورية على البعد الزمني للتكاثر؛ بمعنى اطراد وجود الظاهرة وبقائها في حالة جيدة. ويعتبر الانتشاريون الابتكار حدثًا نادرًا وفريدًا، بينما يقر التطوريون بإمكانية حدوث الابتكار نفسه مراتٍ عديدةً في أماكن مختلفة مستقلة عن بعضها. ولم يناقش الانتشاريون إلا نادرًا مفهومَ الانتخاب تحت هذا الاسم، على الرغم من أنهم تناولوا كثيرًا مفاهيم مثل عوائق الانتشار أو قابلية تلقِّي أفكار جديدة (أورمرود، ١٩٩٢م). ويعتبر كثيرون من الانتشاريين أنفسهم معارضين للنزعة التطورية دون أن يدركوا أن الفارق بين النموذجين فارق كمي وليس كيفيًّا.
ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي جابرييل تارد أول العظام بين العلماء الانتشاريين. لم ينكر نظرية الانتخاب الطبيعي، ولكنه رأى أن هذه النظرية تعميم كامل أوليناه أهميةً أكبر مما يمكن أن تبرره طاقته التفسيرية؛ علاوةً على أن الوقائع العشوائية لها دور أهم مما يظنه التطوريون (تارد، ١٨٩٠م؛ ١٩٠٢م). ولم يكن تارد مؤمنًا بالحتمية على الرغم من إقراره لأهمية التقدم؛ إذ يرى أن التقدم ليس حتميًّا. ونلحظ أن التقليد هو الكلمة المفتاح في نظرية تارد. وتنتشر الابتكارات من شعب إلى آخر عبر التقليد. ومايَز بين نوعين من الابتكارات: تراكمية وبديلة. ويعني بالابتكارات البديلة الأفكارَ والأعراف التي لا يمكن أن تنتشر دون أن تحل بديلًا عن فكرة أو عرف آخر. وتسلل الانتخاب عبر هذا المفهوم إلى نظرية تارد تحت اسم التعارض؛ ذلك أن التعارض بين الابتكارات البديلة يمكن أن يأخذ صورة حرب أو منافسة أو حوار (تارد، ١٨٩٠م؛ ١٨٩٨م).
«عندما يستحدث العقل البشري فكرة ما، أو عندما يستعير الفكرة ذاتها، لنا أن نفترض بأنها تطورت أو صادفت قبولًا؛ لأنها تنسجم مع تنظيم العقل البشري، هذا وإلا ما كان بالإمكان تطويرها أو قَبولها. وكلما اتسع نطاق انتشار فكرة ما، سواء أصيلة أم مستعارة، كانت أكثر تطابقًا وانسجامًا مع القوانين الحاكمة لأنشطة العقل البشري. وسوف يزودنا التحليل التاريخي بالبيانات الخاصة بنمو الأفكار بين أناس مختلفين. كذلك فإن مقارنة عمليات نموها سوف تزودنا بالمعارف اللازمة عن القوانين الحاكمة لتطور وانتخاب الأفكار.»
وعمد الانتشاريون اللاحقون إلى وصف الخاصيات المميزة ذات الأهمية لابتكار ما؛ بحيث تجعله ينتشر أو لا ينتشر. ويعرض أفرين روجرز الخاصيات التالية لابتكار ما، والتي يراها مهمة: فائدة كلٍّ من البدائل، والملاءمة مع الهياكل القائمة، والتعقد، وإمكانية التجريب، وإمكانية الملاحظة. ولكن روجرز لا يفتأ يكرر مرارًا أن الخاصيات المدركة، وليست الخاصيات الموضوعية للابتكار، هي المهمة (روجرز، إي. إم. ١٩٨٣م). وإنه بتأكيده هذا يجعل محور التحكم مَنوطًا بالطرف المحتمل له أن يتبنى ابتكارًا جديدًا دون الابتكار ذاته الفاقد للحياة. وها هنا يكمن البرنامج الخفي للنزاع بين الانتشاريين والتطوريين؛ ذلك أن الانتشاريين يريدون تأكيد نظرة إلى العالم محورها الإنسان؛ حيث العالم تحكمه قرارات واعية لأشخاص ذوي إرادة حرة. هذا بينما نموذج النزعة التطورية التي لا تعتمد على محورية الإنسان يعزو قدرًا كبيرًا من التحكم للمصادفة، وغالبًا ما يعزوه إلى آثار غير مدرَكة مسبَّقًا وإلى آليات عفوية.
وإن أوضح فارق بين النزعة الانتشارية والنزعة التطورية هو أن الانتشارية تمثل أولًا وقبل كل شيء تقليدًا يركز على دراسة الحالة الفردية؛ ذلك أنها تركز على دراسات بعينها لظواهر محددة الإطار، وتحاول رسم خارطة للتوزيع الجغرافي لعرف بذاته أو تقانة بعينها، واكتشاف موطن النشأة الأولى وكيفية الانتشار. ويرفض الانتشاريون التعميمات الكبرى، ويؤمنون بالوقائع التي تحدث مصادفةً أكثر من إيمانهم بالقوانين الكلية. ولكن النزعة التطورية على العكس من ذلك؛ فهي علم معنيٌّ بصياغة القوانين ونادرًا ما يعكف على دراسة تفاصيل بذاتها (هاريس، ١٩٦٩م).
ويمكن لنا أيضًا أن نصور الفارق بين تقليد البحث في كلٍّ من المدرستين بأنه فارق بين مجاز كيميائي-فيزيائي ومجاز بيولوجي. ذلك أن الانتشار أشبه بعملية تمتزج خلالها جزيئاتٌ مختلفة نتيجةَ حركاتها العشوائية. واستخدم الانتشاريون الحركة العشوائية للجزيئات بوصفها صورةً مجازية لانتشار الأعراف داخل المجتمع، وأكدوا بذلك على أهمية العشوائية. وطبيعي أن يجذب هذا التعبير المجازي انتباه العلماء تجاه البعد المكاني والسرعة التي تنتشر بها الأعراف جغرافيًّا، وكذلك تجاه العوائق التي تعيق هذا الانتشار. ويشمل المجاز الجانب الحركي فقط دون الابتكار أو الانتخاب أو التكاثر؛ إذ إن هذه الجوانب الثلاثة الأخيرة تخص المجاز البيولوجي الذي ترتكز عليه النزعة التطورية الاجتماعية. وتركز النزعة التطورية على بُعد الزمان، وترى أن من الأهمية بمكانٍ ملاحظةَ أن البعد الزمني غير قابل لأن يعكس اتجاهه. والملاحظ أنه بسبب عدم قابلية عكس الاتجاه تركَّز انتباه التطوريين على اتجاه التطور. وهكذا أصبحت النزعة التطورية فلسفة حتمية عن التقدم.
وجدير بالملاحظة أن الصيغة الأكثر تطرفًا للنزعة الانتشارية مبنية على مفهوم وجود مراكز ثقافية قليلة، تظهر فيها الابتكارات كمعجزات ثم تنتشر من المركز في دوائر متحدة المركز. ونبع هذا الخط الفكري أساسًا من خلال دوائرَ دينية كرد فعل ضد النزعة التطورية الملحدة، وأيضًا كمحاولة لجعل العلم متناغمًا مع القصة المسيحية عن الخلق (هاريس، ١٩٦٩م).
وكم هو عسيرٌ الزعمُ بأن النزعة التطورية الباكرة تمثل مدرسةً نظرية؛ ذلك لأنها ظهرت أولًا وقبل كل شيء ردَّ فعل ضد عمليات التنظير المفرطة من جانب التطوريين. ونجد أكثر من ذلك أن هناك من وصف النزعة الانتشارية بأنها لا مبدئية (هاريس، ١٩٦٩م).
والملاحظ أن دراسات كثيرة عن الانتشار ظهرت مستقلة عن بعضها في كثير من دوائر البحث المختلفة، وظهرت جميعها خلال القرن العشرين، وكانت في الأساس دراسات تنصب على حالات فردية، وهي كثيرة جدًّا بحيث يتعذر ذكرها هنا (انظر: كانز وآخرين، ١٩٦٣م؛ روجرز إي. إم. ١٩٨٣م). ويدرس غالبية الانتشاريين الابتكارات فقط، والتي يقال إنها نافعة؛ مما قد يجعلهم يُغفلون معايير الانتخاب (روجرز إي. إم. ١٩٨٣م).
وحدث، بين الحين والآخر، أنِ اقترنت الدراسات عن الانتشار بالتفكير الدارويني، وهو ما يتمثل في علم اللغة (جرينبرج، ١٩٥٩م). وقد يبدو من غير المنطقي تطبيق نظرية الانتخاب على علم اللغة؛ نظرًا لأنه من الصعوبة بمكان يقينًا على علماء اللغة تفسيرُ لماذا كلمة مرادفة أو طريقة نطق كلمة تنتشر على حساب أخرى؛ إذا كانتا متكافئتين مبدئيًّا من حيث إمكانية الاستعمال. ويفترض جيرارد وآخرون (١٩٥٦م) أن معايير الانتخاب تقضي بأن تكون الكلمة بالضرورة سهلة النطق ويسيرة الفهم.
وجدير بالذكر أن النظريات الانتشارية الأحدث عهدًا خرجت بصورة أو بأخرى عن التقليد المعنيِّ فقط بدراسة الحالة الفردية، واستحدثت نزعة شكلية رياضية تفصيلية تمكِّن الباحث من وصف سرعة انتشار الابتكارات في المجتمع (هامبلين وآخرون، ١٩٧٣م؛ فالنت، ١٩٩٣م). ونذكر بهذه المناسبة أن علماء البيولوجيا الاجتماعية أنتجوا نماذج رياضية مشابِهة تمامًا عن الانتشار الثقافي (أيوكي وآخرون، ١٩٩٦م). ولكن لا تزال المدرستان تتطوران في خطين متوازيين دون أن ترجع إحداهما إلى الأخرى.
(٦) البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology
«على الرغم من أوجه التماثل العديدة التي حددها باحثون بين المفاهيم التطورية البيولوجية والتطور الثقافي، إلا أن القارئ سوف يرى حسب تقديره أنها من نوع مغاير عن تلك التماثلات التي سبق لها أن ألحقت «بالتطور الثقافي» سمعةً سيئة (…) وإنني أتجنب بوجه خاص أي شيء يوحي بأن ثمة ميولًا حتمية وضرورية تجاه زيادة التعقد و«تحسن» السمات والتراكمات الثقافية مع مرور الزمن.»
وكانت إصدارات كافالي-سفورزا وفيلدمان متأثرة بقوة بخلفيتهما العلمية عن علم تحسين النسل الذي هو أحد العلوم المضبوطة. ويتمثل عرضهما لنظرية الانتخاب أساسًا في صورة تقديم نماذج رياضية (كافالي-سفورزا وفيلدمان، ١٩٨١م).
ولا ريب في أن وصف النماذج في صورة صيغ رياضية موجزة أمر له مزاياه، وإن كان بمثابة عوائق جدية؛ ذلك أن ظواهر اجتماعية كثيرة هي أكثر تعقدًا وعدم انتظام مما يمكن أن تعبر عنه الصيغ الرياضية. هذا وتكشف عمليات العرض عن أن الأمثلة التي استشهد بها الباحثان إنما جرى اختيارها لتلائم النماذج الرياضية وليس العكس. وهكذا تصف غالبية النماذج عملية انتقال رأسية، أي من الآباء إلى الأبناء، دون أنواع انتقال أخرى. ونجد أيضًا تركيزًا معينًا على نماذج يعتمد فيها الانتخاب على من صدرت عنهم الفكرة، وليس على نوعية الفكرة ذاتها. وإن من المسلَّم به أن مثل هذه النماذج تلائم إلى حد ما وصْفَ التقسيم الطبقي الاجتماعي والحراك الاجتماعي.
(٧) التفاعل بين الانتخاب الجيني والانتخاب الثقافي
وأخيرًا قدم بويد وريتشرسون في عام ١٩٨٥م مجموعة شاملة وكاملة من نماذج الانتخاب الثقافي والقائمة على أساس متين. ويعرض كتابهما أيضًا كيف أن الجينات التي تجعل الانتخاب الثقافي والنقل الثقافي أمرًا ممكنًا؛ يمكن أن تكون قد نشأت بدايةً مع تحليل للظروف التي تحدد ما إذا كان الانتخاب الثقافي سوف يزيد أو ينقص الصلاحَ الجيني (بويد وريتشرسون، ١٩٨٥م؛ انظر أيضًا: ريتشرسون وبويد، ١٩٨٩م).
وتوقف لامسدين وويلسون في إصدارات تالية عن الإصرار على أن الخيارات الثقافية لها تفسير جيني، وإن لم يعدلا عن هذا الزعم؛ إذ ظلا يؤكِّدان على أن التغيرات في المركَّب الجيني لتجمع بشري يمكنها — مهما كانت ضئيلة — أن تفضي إلى تغيرات مهمة في الثقافة. (لامسدين وويلسون، ١٩٨٥م؛ لامسدين، ١٩٨٨م و١٩٨٩م).
«من الممكن يقينًا أن بعض الجينات التي تحررت بفضل القدرة المهيأة للثقافة أن تفيد في «ضبط» دقة تناغم الاستجابات البشرية الساعية إلى اللذة؛ بحيث تزيد من احتمالات جعل ما مِن شأنه أن يجلب لذة، يوجه السلوك على نحو يفضي إلى زيادة الملاءمة الجينية (…) وثمة افتراض عام بأن الانتخاب القائم على اللذة سوف يجري في اتجاه معين، إلى أن يعيقه تولُّد خصائص تجعل من سوابقه شيئًا غير ملائم ….»
«ثمة معايير مختلفة — من بينها كفاءة الاستحواذ على الطاقة وإشباع حاجات ومطالب مقصودة — يمكنها أن تحدد على المدى القصير انتخاب سلوك معين والحفاظ عليه. ولكن إذا أسهم هذا السلوك في بقاء الجماعة من حيث اطراد التكاثر، فإن بالإمكان هنا فقط الاحتفاظ به على المدى الطويل.»
ولا يدع هذا النموذج مجالًا واسعًا للانتخاب النفسي للظواهر الثقافية. ويرى كيرش (١٩٨٠م) أن مثل هذا الانتخاب ليس مسموحًا له أن يتجاوز الانتخاب الأرقى من جانب الفرد أو الجماعة كما تسمح وحدة الانتخاب.
(٨) مبحث الميمات memetics
وجدير بالملاحظة أن الفكرة القائلة أن بالإمكان النظر إلى الميمة كناسخ أناني يحثُّ الناس على اصطناع نسخ منه استلهمها باحثون كثيرون خلال السنوات الأخيرة. ونجد مثالًا واضحًا على هذا في العقيدة الدينية التي تستنفد أكبر قدر من طاقتها؛ من أجل جذب أعضاء جدد. وتدعم الطائفة مجموعة من المعتقدات التي تخص أعضاءها على هذا العمل تحديدًا: جاهِد من أجل جذب أعضاء جدد.
وتطورت فكرة الميمات الأنانية إلى تقليد نظري جديد يسمى عادةً نظرية أو مبحث الميمات. وإذا كان أصحاب نظرية الميمات يتفقون في رأيهم على أن غالبية الميمات مفيدة لعوائلها، إلا أنهم يركزون أكثر الأحيان على الميمات غير الملائمة أو الطفيلية؛ لأن هذا هو المجال الذي تتمتع فيه نظرية الميمات بقدرة تفسيرية أكبر من الأُطر الفكرية البديلة. ولا يجد أصحاب نظرية الميمات أية مشكلة في العثور على أمثلة مقنعة من الحياة الواقعية تدعم نظرياتهم؛ على عكس الحال بالنسبة لعلماء البيولوجيا الاجتماعية من أصحاب التوجه الرياضي. واعتمد هذا التقليد في بداية الأمر — كما يشهد الواقع — على حالات وأمثلة أكثر مما اعتمد على مبادئ نظرية.
وتزخر نصوص النظرية الميمية بالعديد من الأمثلة عن النتائج غير المقصودة للانتخاب الثقافي؛ مثال ذلك المنظمات الخيرية التي تنفق القسط الأكبر من أموالها على النهوض بالمنظمة:
«إن فعاليتها في جذب التمويل والمتطوعين هي التي تحدد ما إذا كان بإمكانها البقاءُ وأداء وظائفها (…) وإذا سلمنا بمحدودية الموارد في العالم وبأن منظمات جديدةً تظهر وتتأسس طَوال الوقت، فإن المنظمات التي تحظى بالبقاء لا بد من أن تصبح أفضل وأفضلَ حالَ بقائها؛ وأن استخدامها لأموالها أو طاقتها لأي غرض آخر غير ضمان البقاء — حتى وإن استخدمتها للأغراض الخيرية التي تأسست من أجلها — سوف يفتح ثغرة لجماعة منافسة تزاحمها من أجل الحصول على الموارد.»
وأبدى برودي اهتمامًا خاصًّا بمعايير الانتخاب التي تجعل بعض الميمات تنتشر على نحو أسرعَ من غيرها. وحيث إن نظريته قائمة على أساس علم النفس التطوري، فإنه يقول إن الميمات تحقق أعلى قدر من الصلاحية حين تستهوي غرائز أساسية:
«الميمات التي تنطوي على خطر وطعام وجنس تنتشر أسرع من غيرها؛ لأنها تستثير أكبر قدر من الاهتمام. إن لنا أزرار استثارة خاصة بهذه الموضوعات.»
نقول بعبارة أخرى إن الميمات التي تضغط على الأزرار الصحيحة في النفس الإنسانية هي الأكثر احتمالًا للانتشار. وسبق أن أشار إلى أهم الأزرار الأساسية: الخطر والطعام والجنس. وحدد برودي أزرارًا أخرى؛ من بينها: الانتماء إلى جماعة؛ تمييز النفس عن الآخرين؛ الطاعة للسلطة؛ القوة؛ التأمين الزهيد؛ الفرصة؛ الاستثمار بأقل قدر من المخاطرة مع أكبر قدر من العائد؛ حماية الأطفال.
مثال ذلك أن زرار الخطر هو السبب في شيوع أفلام الرعب، وأن زرار الكسب دون كُلفة أو عناء هو ما يجعل الناس تطرُق الخشب حتى مع زعمهم بأنهم لا يؤمنون بالخرافات. كذلك زرار أقل قدر من المخاطرة وأعلى قدرًا من العائد هو ما يجعل الناس تستثمر في اليانصيب حتى وإن كانت فرص الفوز متناهية الضآلة (برودي، ١٩٩٦م).
(٩) علما الاجتماع والأنثروبولوجيا
«يبدو أن عقودًا من التطور في عزلة فكرية عن بعضنا بعضًا سمحت بأن يتباعد علماء البيولوجيا وعلماء الاجتماع من حيث المصالح والأفكار، وكذا اللغة بوجه خاص، إلى حد أن العلماء من الطرازَين يجدون الآن من الصعوبة بمكان أن يتواصلوا.»
وهذا ليس مبالغة؛ ذلك أن كثيرين من علماء الاجتماع رفضوا البيولوجيا الاجتماعية ولأسباب وجيهة. ونورد فيما يلي اقتباسًا من جدل إذاعي دار بشأن كتاب لامسدين وويلسون تحت عنوان: الجينات والعقل والثقافة (١٩٨١م):
«من البديهي أن التراث (إرثنا الثقافي) عملية اتصال متعمدة، ومع هذا فإن بالإمكان عن طريق الدراسة التحليلية بيانَ أن أي تراث هو انتخاب وإعادة انتخاب لتلك العناصر التي تلقيناها واستعدناها من الماضي، والتي تمثل استمرارًا مرغوبًا فيه، وليس مجرد استمرار ضروري. ويشبه في هذه الحالة التعليمَ الذي هو بالمثل انتخابٌ لمعارف منشودة وأنماط تعلُّم وسلطة مرجعية نريدها.»
وأوضح ويليامز بذكاء شديد كيف ترتبط أشكال ثقافية مختلفة بدرجات مختلفة من الاستقلال الذاتي وبدرجات من الحرية، ومن ثم بإمكانات غير متساوية للانتخاب. ويحلل ويليامز كلًّا من الابتكار والتكاثر والانتخاب الثقافي، ولكنه، ويا لِلغرابة، لم يحاول ربط هذه المفاهيم الثلاثة في صورة نظرية تطورية متماسكة منطقيًّا. ونراه يُغفل أيَّ إشارة إلى العلماء التطوريين (ويليامز آر، ١٩٨١م). وربما يرجع هذا الإغفال إلى رفضه للتعميمات المفرطة وإلى الخوف — كما هو محتمل — من أن يرتبط اسمه بالداروينية الاجتماعية.
(١٠) محاولة صوغ توليفة من البيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا
من الأمور الواضحة أن تُجرى محاولة لملاءمة النظرية البيولوجية الاجتماعية مع الأنثروبولوجيا، وظهر بطبيعة الحال عديد من المحاولات في هذا الاتجاه، ولكن للأسف إن من حاولوا ذلك تعذَّر عليهم بالكاد التخلصُ من القيود التي تفرضها عليهم أُطُرهم الفكرية القديمة، ومن ثم نادرًا ما كانت النتائج التي توصلوا إليها مقنعة.
«… يفيد نموذج توزيع الحصص أنه في أنماط معينة من المواطن سوف يعمِد القائمون على الصيد وجمع الثمار إلى حل أعراض مشكلة الضغط السكاني إلى توزيع حصص المواد البرية الثابتة؛ سواء على نحو طوعي أو لا إرادي. ويفيد — إضافةً إلى ذلك — أنه في عدد من الحالات الأكثر محدودية وقيودًا (في ضوء التنظيم الإداري للأراضي) سوف يدرك الناس أن النتائج المترتبة على الضغوط الناجمة عن الزيادة السكانية سوف تخفُّ حدَّتها بفضل الإنتاج الغذائي، دون الحرب أو غير ذلك من سلوكيات تهدف إلى التصدي لنتائج مماثلة. أخيرًا يفيد النموذج أيضًا بأنه في ظل مثل هذه الظروف تحديدًا يجري انتخاب نظام الإقامة الدائمة وتخزين المواد الغذائية، وغير ذلك من سلوكيات يسود الظن أنها جزء من العملية.»
وعلى الرغم من حقيقة أن هذين العالمَين الاجتماعيَّين استطاعا دمج أُطُر فكرية مختلفة على نحو أفضل مما فعل غالبية العلماء الآخرين؛ إلا أن نظريتهما صادفت انتقادًا؛ لأنها نظرية اختزالية ولم تولِ اهتمامًا كافيًا لأجزاء معينة ذات أهمية في الحياة الاجتماعية. (ستراوس، ١٩٩٣م).
(١١) علم النفس الاجتماعي
إن الدراسات المعنيَّة بالانتخاب الثقافي من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي قليلة جدًّا بحيث لا تفي لتشكِّل تقليدًا بحثيًّا مستقلًّا، وواضح أن هذا مجال بحث مهمل.
ويمكن أن يكون للعوامل النفسية والمعرفية تأثيرها المهم على انتخاب المعلومات. وذكر سبيربر العوامل التالية: سهولة تذكر عرض بذاته؛ وتوفر خلفية من المعارف وثيقة الصلة بعملية العرض؛ وكذا توفر حافز لتوصيل المعلومات (سبيربر، ١٩٩٠م).
(١٢) المنافسة الاقتصادية
وينتقد الباحثان النظرية الاقتصادية التقليدية بسبب اعتمادها الكبير على افتراض أن المؤسسات تسلك النحو الذي يزيد من أرباحها إلى أقصى حد، ويستلزم اكتشاف الاستراتيجية المثلى توفر معرفة كاملة ومهارات حسابية. ويقال إن المعرفة لا تكون كاملة أبدًا، وإن البحث باهظ التكلفة؛ ومن ثم ليس بالإمكان أبدًا معرفة الحد الأمثل نظريًّا. ويؤكد نلسون ووينتر في مقابل النظرية الاقتصادية التقليدية أن التوازن الاقتصادي يمكن أن يتوفر في سوق لا يبلغ فيها شيء حدَّه الأمثل، وأن مؤسساتٍ كثيرةً يمكنها أن تتشبث بأساليب عملها التقليدية القديمة ما لم تحفزها عوامل خارجية إلى البحث عن استراتيجيات جديدة:
«ليس لنا أن نتوقع عملية تاريخية للتغير التطوري «تختبر» كل الملابسات السلوكية الممكنة لمجموعة مفترضة من الروتينيات، ناهيك عن اختبارها كلها مرارًا وتكرارًا (…) لذا ليس ثمة من سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن ما تبقَّى على قيد الحياة من أنماط سلوك عملية انتخاب تاريخية هي أنماط متكيفة على نحو جيد مع ظروف جديدة لم يسبق مواجهتها مرارًا ضمن تلك العملية (…) لذلك ليس لأحد في سياق عملية تغير مرحلي مطرد أن يتوقع مشاهدة تكيف مثالي مع ظروف راهنة بفضل نتاج العمليات التطورية.»
وعمد نلسون ووينتر (١٩٨٢م) إلى تطوير نظريتهما التطورية لعلم الاقتصاد؛ بحيث بلغت مستوًى رفيعًا من الصقل الرياضي يهدف أن تفسر على نحو أفضل مما تستطيع أن تفسر النظرية الاقتصادية التقليدية جوانبَ مهمةً للنمو الاقتصادي، والتي تحدث بفعل التقدم التقاني.
ويمثل أثر البيئة عنصرًا مهمًّا في نظرية ألدريتش. ويصنف البيئات وَفق أبعاد عديدة؛ مثل القدرة والتجانس والاستقرار وقابلية التنبؤ والتمركز مقابل تشتت الموارد … إلخ. والملاحظ أن توليفات مختلفة من هذه المحددات يمكنها أن تهيئ بيئات استيطان ملائمة ومختلفة، والتي يمكن لتنظيم ما أن يتكيف معها (ألدريتش، ١٩٧٩م).
(١٣) نظرية الانتخاب الشاملة
ويعتبر التطور البيولوجي والتطور الثقافي مثالين واضحين هنا، ولكن تبين كذلك أن نمو التطور الفردي وتعلُّم الفرد يتضمنان مثل هذه العمليات، ويعتبر علم المناعة خير مثال مقنع هنا؛ حيث يشتمل تطور الأجسام المضادة في الكائن الحي على عملية تشبه بدرجة ملحوظة التطور البيولوجي (كزيكو، ١٩٩٥م). وإن الأمثلة في عالم اللاعضويات أكثر دقة؛ إذ يلاحظ خلال عملية نمو البلُّورة أن كل جزيء جديد يطوِّف عشوائيًّا إلى أن يصطدم مصادفة بمكان ملائم داخل البيئة البلورية الشبكية. والملاحظ أنه حين يصادف جزيئًا ما موضعًا ملائمًا، فإن الشيء المرجح أكثر من سواه أن يبقى هذا الجزيء حيث هو على عكس الحال بالنسبة لجزيء يصادف موضعًا غير ملائم. ويفسر لنا هذا كيف تتولد بنية بلورية أو كتلة ثلجية رقيقة على درجة عالية من التنظيم.
إن كل جزيء جديد يمر بذات العملية العفوية التباين والانتخاب والاستبقاء، وليس استنساخ «المعرفة» من سوابقها، وهذه آلية أقل فعاليةً من التطور البيولوجي، حيث كل جيل جديد يرث الناتج المتراكم عن جميع الانتخابات السابقة. وليس لزامًا على الأجيال الجديدة أن تنتظر تكرار الطفرات الناجحة. وهذا فارق مهم يخفق فلاسفة كثيرون في التعرف عليه.
وأضاف كامبل فرعًا جديدًا إلى نظرية الانتخاب الشاملة يحمل اسم مبحث المعرفة التطويرية «الأبستمولوجية التطورية»، ويؤكد فيه أن أي تكيف من جانب الكائن الحي مع بيئته يمثل شكلًا من المعرفة بالبيئة؛ مثال ذلك أن هيئات أجسام السمك والحيتان تمثل معرفة وظيفية بالهيدروديناميكا، وأن عملية التباين — الانتخاب — الاستبقاء العفوية تولد مثل هذه المعرفة في عملية تشبه الاستقراء المنطقي. ويزعم كامبل أن أي زيادة في ملاءمة منظومة ما مع بيئتها لا تتحقق إلا من خلال عملية كهذه، وتفضي نظريته إلى ثلاثة مبادئ هذا هو أولها.
والجدير بالملاحظة أن حجة كامبل تناظرية؛ حيث إنه لا يقول فقط إن التكيف معرفة، بل يقول أيضًا إن المعرفة تكيف. معنى هذا أن المعرفة البشرية برمَّتها تنبع في النهاية من عمليات تباين — انتخاب — استبقاء عفوية الطابع، ومن هنا جاء مصطلح مبحث المعرفة «الأبستمولوجية» التطورية.
بيد أن كل هذه العمليات التي تتجاوز المستوى الأدنى من عمليات الانتخاب هي ذاتها تماثلات لمعارف تحققت في نهاية الأمر عن طريق: التباين، الانتخاب، الاستبقاء؛ على نحو عفوي، وهذا هو المبدأ الثاني عند كامبل.
المبدأ الثالث أن جميع آليات التجاوز المماثلة تشتمل أيضًا على عملية عفوية من التباين والانتخاب والاستبقاء عند مستوًى ما من نشاطها. وأكثر من هذا أن بعض الوسائل غير المؤقتة لاكتساب المعرفة شأن الملاحظة البصرية أو إدراك تعليمات لفظية من شخص آخر لديه معرفة، هي أيضًا، وحسب المبدأ الثالث عند كامبل، عمليات متضمنة تباينًا وانتخابًا واستبقاءً على نحو عفوي (كامبل، ١٩٧٤م؛ ١٩٩٠م).
وأعترف هنا بأن المبدأين الأول والثاني عند كامبل يهيئان حلًّا واعدًا لمشكلة فلسفية أساسية تتعلق بمصدر المعرفة وماهية المعرفة، ولكنني أرى المبدأ الثالث اختزاليًّا إلى أقصى حد؛ مما يجعله غير ذي صلة بالموضوع.
(١٤) الخلاصة
افتقر التطوريون في القرن التاسع عشر إلى التمييز الواضح بين الوراثة العضوية والاجتماعية؛ لأنهم لم يكونوا على علم بقوانين مندل عن الوراثة؛ ومن ثم كانت «السلالة» و«الثقافة» مترادفَين في نظرهما، وكان مبدأ البقاء للأصلح يعني عندهم أن التطور يعتمد على أقوى الأفراد الذين ينتصرون على من هم أضعف. واعتبروا هذه عملية طبيعية؛ ومن ثم لم يمايزوا بين التطور والتقدم، وكانت النتيجة المنطقية لهذه الفلسفة القول بمبدأ «سياسة حرية العمل»؛ حيث السيادة حق للقوي الأعظم. وتجلت النزعة العرقية في أقصى صورها تطرفًا عند من يسمون الداروينيين الاجتماعيين الذين اعتقدوا أن سلالتهم وثقافتهم هما الأسمى قياسًا إلى سلالة وثقافة الآخرين جميعًا. وترتب على هذا إيمانُهم بأن حقهم وواجبهم غزو العالم كله وإخضاعه لمشيئتهم.
وظهر تناقض شديد بين الداروينية الاجتماعية والاشتراكية؛ وسبب ذلك أن فلسفة الداروينية الاجتماعية تفترض أن الضعف خاصية فطرية، ولا بد وأن تفضي بطبيعتها إلى مصير غير كريم؛ هذا بينما يؤمن الاشتراكيون بأن الفقر والضعف نتيجةٌ لعوامل اجتماعية؛ ومن ثم يتعين علاجها.
ونجد في فلسفة هربرت سبنسر أن جميع أنواع التطور متشابهة: الكون والأرض والأنواع والأفراد والمجتمع؛ إذ تتطور جميعُها وَفق عملية واحدة متماثلة، ورفض المفكرون هذه النظرية فيما بعد، ولكن لسوء الحظ لا نزال نستخدم الكلمة نفسها «التطور» للدلالة على مختلف أنواع التغير. وماثل سبنسر المجتمع بالكائن الحي، ورأى مؤسسات المجتمع المختلفة موازية لأعضاء الجسم، وشاعت هذه الصورة المجازية في علم الاجتماع، ولكن إذا كانت صورة مجازية ملائمة بالنسبة لنموذج مجتمع سكوني، شأن النزعة الوظيفية، إلا أنها يمكن أن تفضي إلى مغالطات خطيرة عندما يكون التغير الاجتماعي موضوع دراسة. وإن من نتائج تشبيه المجتمع بجسم الكائن الحي أنْ توضع نظرية التغير الاجتماعي في تطابق مع تطور الفرد دون تطور النوع. إننا نعرف أن كل شيء محدد مسبقًا في التطور الجيني للجسم، وأن علة التغير كامنة فطريًّا في الجسم المتغير، ولكن إذا انتقلنا إلى تطور المجتمع فإن هذا النهج في التفكير يقودنا إلى فلسفة حتمية؛ أحادية الخط وغائية. والملاحظ أن فكرة التناظر بين مختلف أنواع التطور بُعثت مؤخرًا من جديد ضمنَ نظرية الانتخاب الشاملة.
وسادت الجدلَ — ولا يزال — نزاعاتٌ بين نظرات وآراء متنافرة عن الطبيعة البشرية. ولا ريب في أن الخلافات بشأن الطبيعة مقابل التنشئة، والبيولوجيا مقابل الثقافة، والحتمية مقابل حرية الإرادة … إلخ، جعلت من المستحيل الوصول إلى اتفاق ومن ثم استمرار النزاع بين الأطر الفكرية المختلفة على مدى تجاوز القرن. وبالغ كل طرف من موقفه وتطرف في نزعته الاختزالية التي جعلتهم هدفًا سهلًا للنقد. والتمس أنصار فلسفة حرية الإرادة وصفًا لحالات فردية؛ بينما طالب العلماء أصحاب التوجه البيولوجي عرضًا يمثل قانونًا عامًّا.
وكان غالبية التطوريين الاجتماعيين أكثر اهتمامًا بوصف اتجاه أو هدف التطور دون وصف أسبابهما. وأخفق كثيرون في تحديد وحدة الانتخاب أو آلية الانتخاب أو نموذج التكاثر؛ بينما مايز القليلون منهم بين الصلاحية الجينية والثقافية؛ لهذا اتسمت نظريتهم بقدرة تفسيرية ضعيفة، وافتقدت بخاصة أي تفسير يوضح لماذا يتعين على التطور اتخاذُ الاتجاه المزعوم.
ولم يتضاءل استقطاب الآراء عندما أخذ علماء البيولوجيا الاجتماعية موقع الريادة في سبعينات القرن العشرين؛ ذلك أن المفكرين أفرطوا في استخدام معادلات رياضية أدت إلى تباعدهم أكثر فأكثر عن ظواهر العالم الواقعي التي يعتزمون وصفها، وبات لزامًا تقديمُ إيضاحات تبسيطية وافتراضات ملتبسة؛ بغيةَ جعل النماذج مستساغة رياضيًّا. واشتملت النماذج الرياضية على كثير جدًّا من المقادير متغيرة القيمة، والتي أصبح من المستحيل تحديد قيمتها العددية؛ لذلك لم يكن بالإمكان سوى استخلاص نتائج كيفية ومشروطة، على الرغم من التركيز الشديد على نماذج كمية. وطبيعي أن أدت اللغة الرياضية إلى توسيع هوَّة الاتصال بين علماء البيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيين.
وأحدث التطورات تمثله مدرسة المبحث الميمي التي لم تعُد بعدُ مبحثًا علميًّا مضبوطًا ومحكمًا، شأنها في ذلك شأن البيولوجيا الاجتماعية، وكثيرًا ما كان افتقار المبحث الميمي إلى الدقة والصقل موضع استهجان؛ بيد أن ليونة هذا الإطار الفكري ربما تساعد على تجسيد الهوَّة مستقبلًا بين البيولوجيا والعلوم الإنسانية.
وكثيرًا ما قيل فيما يتعلق بنظرية الانتخاب الثقافي أن المعرفة تراكمية، وإنها لمفارقة يتعذر تصديقها أن نعرف أن هذه النظرية ذاتها انحرفت كثيرًا جدًّا عن هذا المبدأ عند النظر إليها باعتبارها مسألةً واقعية في تاريخ الأفكار. والملاحَظ أن نظريات التغير الاجتماعي اتبعت مسارًا دراميًّا متعرجًا حيث ترفض كلُّ بدعة نظرية جديدة كل ما سبقها رفضًا كاملًا دون محاولة تعديلها وتحسينها؛ ولهذا نجد أن الأفكار والمبادئ ذاتها يطويها النسيان ويعاد ابتكارها هي ذاتها مراتٍ ومرات على مدى أكثر من قرن.