الفصل الثالث

نموذج أساسي للانتخاب الثقافي

(١) الأساس الجيني للثقافة

التطور الثقافي أسرع كثيرًا من التطور الوراثي «الجيني» لأسباب كثيرة سوف يجري شرحها فيما بعد. وهيأ هذا للبشر ميزة مَهولة على الحيوانات الأخرى من حيث القدرة على التكيف، وتمثل جيناتنا الركيزة التي تنبني عليها الطاقة البشرية فيما يتعلق بالثقافة، ولنا أن نسمي هذه الخاصية طاقة التكيف أو التكيف الأعلى meta adaptation؛ ذلك لأنها قدرة على التكيف وليست تكيفًا في ذاتها. لذلك لنا أن نقول إن التطور الوراثي «الجيني» خلق بديله (وهو ما يسمى بالانتخاب البديل vicarious selection).
وتحدِّثنا نظرية التعلم البيولوجية عن التعلم المبرمج؛ بمعنى توفُّر ملَكة سابقة على البرمجة pre-programmed faculty لتعلم قدرة بذاتها؛ إذ تحدد الجينات القدرة على التعلم وترسُّم حدود ما يمكن وما لا يمكن تعلمه، وقد تضيق أو تتسع هذه الحدود (جولد جي ومارلر Gould J. & Marler، ١٩٨٧م؛ ماير Mayr، ١٩٧٤م). والطاقة البشرية بشأن الثقافة هي برنامج تعلم واسع الحدود جدًّا. والجدير بالذكر أن الجينات لا تحدد بشكل مباشر الثقافة؛ ولذلك لا يمكن دراستها بالمناهج نفسها باعتبارها سلوكًا غريزيًّا.

وثمة جانب مهم للطاقة البشرية بشأن الثقافة؛ وهو القدرة على التعلم من الأنواع نفسها. ويمكن اكتساب السلوكيات التي نتعلمها عن طريق الملاحظة والاستماع لتعليمات منطوقة، ولكن اللغة المنطوقة ليست القناة الوحيدة للمعلومات؛ ذلك أن البشر لديهم استعداد خاص للدين والمعتقدات الخارقة للطبيعة والطقوس والشعائر الدينية والموسيقى والرقص … إلخ. وإن هذه الظواهر التي تبدو غير عقلانية تمثل وسائط اتصال مهمة لنقل أنماط السلوك وقواعد ومعايير تحكمية، لذلك يقال إنها جينات الثقافة على نحو ما سوف نرى فيما بعد.

وهناك جانب آخر مهم يميز الطاقة البشرية بشأن الثقافة؛ وهو سلوكنا الجمعي؛ ذلك أن لدى البشر قدرةً كبيرة على التعاون واستعدادًا للتوحد مع جماعة، وتصنيف البشر الآخرين حسب انتمائهم الجمعي، وعلى إيثار أبناء الجماعة التي ينتمي إليها المرء والمبالغة في تقديرهم، مع الحط من قدر أبناء الجماعات الأجنبية والتمايز عنهم (وهو ما نسميه المحورية العرقية «الإثنية» ethnocentrism)، وكذلك التعبير عن الانتماء إلى الجماعة عن طريق الوشم أو تزيين الجسم، وعن طريق اللغة والطقوس والشعائر الدينية … إلخ (هوج وأبرامز Hogg & Abrams، ١٩٨٨م). وهذا السلوك الجمعي الواضح له دور مهم في عملية الانتخاب الثقافي كما سوف يبين لنا في الباب الرابع.

(٢) الانتخاب الثقافي

نظرية الانتخاب الثقافي هي نظرية عن ظواهرَ يمكن أن تنتشر داخل مجتمع ما، مثل الشعيرة الدينية أو أسلوب في الفن أو طريقة في الصيد. وتشتمل النظرية على ثلاث عمليات أساسية؛ أولًا: أن تنشأ الظاهرة، وهذا هو ما يُسمى التجديد أو الإبداع. ثانيًا: يمكن أن تنتشر الظاهرة من إنسان إلى آخر أو من جماعة من البشر إلى جماعة أخرى، وهذا ما يُسمى التكاثر أو النقل أو المحاكاة أو الانتشار. وثالثًا: العمليات الأساسية في النظرية هي الانتخاب، ونعني بالانتخاب أيَّ آلية أو عامل يؤثر في مدى انتشار الظاهرة من حيث الكثرة أو القلة. وأوضح أنواع الاختيار هو الاختيار الواعي من جانب البشر.

لنأخذ الزراعة كمثال: لكي تبدأ مرحلة الزراعة كان لا بد وأن يظهر شخص على حظ من النباهة والذكاء ليخترع طريقة لاستنبات الحبوب أو أي محاصيل أخرى (ابتكار). يمكن لهذه الممارسة أن تنتشر بعد ذلك إذا ما قدم المخترع فكرته لآخرين لكي يحاكوا طريقته (تكاثر). ويتعين توفير ظروف عديدة لكي تنتشر هذه الممارسة بشكل نشط وفعَّال؛ أولًا: يجب أن يكون المزارعون راغبين في تقديم معارفهم إلى الآخرين. ثانيًا: أن يكون غير العاملين بالزراعة على اتصال بالمزارعين. ثالثًا: يجب أن يكون غير العاملين بالزراعة راغبين في تغيير أسلوب حياتهم. وأخيرًا: يجب أن يكون المزارعون قادرين على توفير الغذاء والتنشئة لعدد كافٍ من الأطفال. وتؤلف هذه العوامل الأربعة عملية الانتخاب التي هي عملية حاسمة لانتشار الزراعة بين تجمع سكاني.

وغني عن البيان في هذا المثال أن من المحتمل جدًّا أن الابتكار جرى تطبيقه مراتٍ لا حصر لها دون أن ينتشر، لا لشيء سوى لأنه مجهد للغاية. إن جنْي ثمار تنتجها الطبيعة تلقائيًّا يستلزم وقتًا أقل بدلًا من استنباتها، أو لنقل بعبارة أخرى: لم تصبح عوامل الانتخاب مُواتيةً للزراعة بحيث تنتشر إلا بعد أن قلَّت الموارد الطبيعية، وعجزت عن الوفاء بحاجات ترتبت على الزيادة الكبيرة في السكان (روزنبرج، إم، ١٩٩٠م).

وجدير بالملاحظة أن هذا النموذج من الانتخاب الثقافي يشبه كثيرًا جدًّا نظرية شارلس داروين عن الانتخاب الطبيعي؛ ذلك أن العمليات الثلاث الأساسية هي نفسها: تباين (ابتكار) وتكاثر وانتخاب. والفارق هو أن نظرية داروين تتناول الوراثة الجينية؛ بينما تتناول نظرية الانتخاب الثقافي الوراثة الثقافية، ولكن على الرغم من التماثل الشكلي بين النظريتين ثمة فوارقُ مهمة تفيد أن ليس بالإمكان استخلاص أي نتائج من نوع من النوعين لتطبيقها على الآخر (دالي Daly، ١٩٨٢م). ونشير إلى فارق مهم؛ وهو أن التكاثر الثقافي لا يرتبط لزومًا بالتكاثر البشري؛ ذلك أن العادة لا تنتقل من الآباء إلى الأبناء فقط بل وأيضًا إلى آخرين لا علاقة لهم بالمبتكر. مثال ذلك أن عادة الحياة داخل الأديرة انتشرت على الرغم من أن الرُّهبان والراهبات في واقع الأمر ليس لهم أطفال. وفارق آخر مهم يمايز بين العمليتين هو أن السمات المكتسبة يمكن أن تنتقل عن طريق التوارث الثقافي وليس عن طريق التوارث الجيني.

ولعل من المفيد أن نتصور ظاهرة ثقافية وكأنها كائن حي مستقل يشبه طفيل أو فيروس قادر على الانتشار من إنسان إلى آخر، ويتكاثر مستقلًّا عن التكاثر البشري. وواقع الحال أن نظرية الانتخاب الثقافي نموذج جيد جدًّا لوصف انتشار الأمراض المعدية. ومن المهم أن ندرك أن الظاهرة الثقافية ربما تكون لها «مصالحها» التي لا تتطابق دائمًا مع مصالح الإنسان الحامل لها، ونلحظ في مثال الزراعة أن هذه العادة تنتشر فقط حين تخدم مصالح البشر؛ ذلك أن فوائد الزراعة تطابق مصالح البشر، هذا وإلا ما كان لها أن تنتشر، ولكن مثال المرض يتضمن صراعًا بين مصالح الفيروس والحامل له. مثال آخر مهم هو إدمان العقاقير المخدرة؛ إذ إن الهيروين يمكنه أن يدفع الإنسان إلى إتيان أفعال لا يأتيها وهو في الحالة العادية؛ بما في ذلك تشجيع آخرين على تعاطي العقار المخدر لتمويل استهلاكه الشخصي. وهنا نقول مجازًا إن العقار له «إرادته» التي يمكنها إلى حد ما أن تتجاوز إرادة المدمن. ويمكن لعادة إدمان الهيروين أن تنتشر على الرغم من أنه لا يوجد من يريد لنفسه أن يكون مدمنًا.

ونستطيع أن نناقش إلى درجة الملل ما إذا كان يتعين النظر إلى الانتخاب الثقافي باعتباره «ثقافة-جينات» أنانية؛ شأن الطفيليات في تعاملها مع البشر من أجل أن تتكاثر، أو أن البشر ذوي الذكاء والإرادة الحرة هم من يختارون عن وعي تلك الأشكالَ الثقافية التي تخدم حاجاتهم على أحسن وجه. ويبدو لي أن هذا جدل عقيم؛ نظرًا لأن المحصلة النهائية واحدة دائمًا: ظواهر ثقافية معينة تُستنسخ وتنتقل أكثر من غيرها، كما وأن خصائص كل ظاهرة ثقافية حاسمة بالنسبة لناتج عملية الانتخاب هذه، شأن الخصائص المميزة للبشر. لذلك فإن الموقفَين المتطرفَين المذكورين آنفًا ليسا سوى طريقتين متعارضتين في النظر إلى أحداث واحدة. وإذا عبَّرنا عن هذا رياضيًّا سنجد أن المحصلة النهائية واحدة بغض النظر عن الجانب الذي ننظر منه إلى العملية. وسوف أحدد في الفقرات التالية وحدة الانتخاب والعناصر الأساسية الثلاثة في نظرية الانتخاب الثقافي: الابتكار والتكاثر والانتخاب.

(٣) وحدة الانتخاب

إذا أردت أن تصوغ نموذجًا تفصيليًّا لعملية انتخاب ثقافي فإنه سوف يتعين عليك أن تحدد ما الذي يجري انتخابه. ونخطئ إذا نظرنا إلى أفراد أو جماعات البشر باعتبارهم وحدات انتخابية؛ نظرًا لأن الشخص يمكنه أن يغير سماته الشخصية عدة مرات على مدار حياته. لذلك يتعين عليك عمومًا أن تحدد ظاهرة ثقافية، أو فكرة أو مفهوم أو طريقة تفكير أو نمط سلوكي أو إحدى المشغولات الفنية، أو المعلومة التي تخلق أو تتحكم في مثل هذه الظاهرة، واعتبارها وحدة الانتخاب للنموذج موضوع البحث. وثمة ظواهر ثقافية معينة مثل الزي، وهي ظواهر مقترنة بالأفراد؛ بينما هناك ظواهر أخرى مثل شكل التنظيم السياسي لا تتحقق إلا على أيدي مجموعة من الناس متحدين معًا.

والملاحظ في نماذج الانتخاب الجيني أننا غالبًا ما نعالج الجينات باعتبارها وحدات غير قابلة للانقسام؛ بينما الوحدات الثقافية في المعلومات نادرًا ما تكون قابلة للانقسام. مثال ذلك لو أن مقطوعة موسيقية معينة حظيت بمكان الصدارة في قائمة ما، فإن الانتخاب يتعلق بالمقطوعة الموسيقية ككل. ولكن إذا استلهم مؤلف موسيقي آخرُ هذه الموسيقى، واقتبس صوتًا معينًا أو نغمات بذاتها من هذه المقطوعة وأدمجها في مقطوعة جديدة، فإنه هنا يكون قد اقتبس جزءًا صغيرًا من المقطوعة الموسيقية الأصلية المنتخبة. ويتحقق الانتخاب على مستويات كثيرة؛ ومن ثَم حري بنا ألا يضللنا مصطلح «وحدة الانتخاب» ونظنها شيئًا غير قابل للانقسام.

وأدت الصعوبة في تحديد وحدة الانتخاب الثقافية إلى حدوث تشوش وخلط في غالب الأحيان؛ لذلك يتعين الكشف عن كمٍّ وافر من المعلومات المتلازمة لفترة طويلة لقياس مدى انتشارها وتخللها، ولكن حجم هذا الكم الوافر رهن الظاهرة المطلوب تحليلها، ويتعين من حيث المبدأ أن يشتمل التحليل الكامل والتام على جميع مستويات الانتخاب (مثال ذلك الأسلوب الموسيقي والميلوديا والموتيفة ومجموعة أنغام محددة وصوت بذاته)، ولكن غالبًا ما نكتفي — لأغراض عملية — بالتركيز على مستوًى بعينه ملائم لتحقيق الغرض من التحليل. وإذا عمَدنا إلى دراسة مستوًى أعلى في سلَّم المعلومات، كأن ندرس عقيدة دينية برمتها أو مدرسة فكرية كاملة أو أسلوبًا فنيًّا، فإن النهج الأكثر ملاءمة هو أن نسميها: مركب ميمي meme complex بدلًا من: ميمة مفردة a single meme.
وجدير بالذكر أن المشكلة بالنسبة للانتخاب متعدد المستويات موجودة أيضًا في التطور الجيني؛ حيث نادرًا ما تكون الجينات غير قابلة تمامًا للانقسام بشكل كامل، وحيث لا يمكن أن يقتصر الانتخاب فقط على الجينات والأفراد، وإنما أيضًا على عائلات الأفراد ذوي القربى والجماعات من الأفراد، بل وأيضًا على أنواع وأفرُع بأكملها species & clades. ولكن المشكلة ربما تكون أكبر من ذلك في نظرية الانتخاب الثقافي؛ لأن الوحدات غير منتظمة الشكل، كما وأن المستويات ليس بالإمكان التمييز بينها بوضوح كامل. وأكثر من هذا أنه حتى في المنظومة المشوشة التي يمكن فيها تقسيمُ جميع الوحدات الثقافية إلى وحدات فرعية، فإن وحدات الانتخاب الصحيحة قد لا نتمكن من الكشف عنها إلا باتباع تقنيات إحصائية (بوكلينجتون وبست Pocklington & Best، ١٩٩٧م).
وظهرت محاولات كثيرة لإيجاد تعريف كلي شامل لوحدة الانتخاب، ولكن هذه التعريفات أفضت إلى خلافات في الرأي لا نهاية لها؛ سواء في نظرية التطور البيولوجي أو الثقافي. ونذكر أن من أكثر هذه التعريفات عموميةً مصطلح الناسخ replicator؛ ذلك أن أي شيء يستنسخ نفسه دون تغيير نسبيًّا يمكن اعتبارُه وحدة انتخاب (هال، ١٩٨٨م)؛ بيد أن هذا تعريف غير كامل. ولنتأمل وضعًا يحكم فيه المبتكرون على ابتكاراتهم بأنها جيدة أو رديئة، إن الابتكارات الجيدة يشارك فيها الآخرون وتتكرر، أي تُستنسخ، بينما الابتكارات الرديئة يرفضها ويتخلى عنها المبتكر دون أن يخبر أحدًا بذلك. وواضح أن هذه عملية انتخاب، وهي في الحقيقة عملية مهمة وفعالة للغاية. ولكن إذا ما عرَّفنا وحدة الانتخاب بأنها ناسخ فإننا سنواجه مشكلة؛ لأن الابتكارات التي يعاد انتخابهُا ليست مستنسخة أبدًا، ومن ثم لا يمكن اعتبارها وحدات انتخاب. ويعجز المرء عن تعريف عملية الانتخاب ما لم يتضمن التعريف نواسخَ محتملة، ولكن حيث إن كل الأشياء في العالم تقريبًا هي نواسخ محتملة، فإن هذا التعريف يصبح مفرطًا في شموليته؛ ومن ثم لا جدوى منه. وعندي أنه لا يوجد تعريف مفيد كليًّا لوحدة الانتخاب؛ لذلك يتعين علينا أن نختار من وقت لآخر التعريفَ الملائم أكثر من سواه للظاهرة موضوع الدراسة. والملاحظ في أغلب الحالات المحددة للانتخاب الثقافي سنجد أن اختيار وحدة الانتخاب واضح تمامًا وغير معقد، وأن من السهولة بمكانٍ عملَ تحليل مفيد لظاهرة محددة دون أن يتوفر لدينا تعريف يصدُق أيضًا على جميع الظواهر الأخرى.
وتمايِز النظرية البيولوجية بين النمط الوراثي والنمط الظاهري، وهنا علماء بذاتهم يضعون تمييزًا مماثلًا في نظرية التكاثر الثقافي. ووضع علماء البيولوجيا الاجتماعية تعريفًا للاستعداد الثقافي أو لوحدة المعلومات الثقافية، واقترحوا أسماءً عديدة لوحدة المعلومات الثقافية هذه: طراز المنتج الصناعي artifact type الطراز الميمي memo type، الفكرة، المثيل idene، الجينة الاجتماعية sociogene، إفادة instruction، طراز ثقافي culture type، المنتج الثقافي culturgen، الميمة meme، الوحدة الذهنية menteme، المفهوم concept، القاعدة rule، التمثيل الذهني mental representative (لامسدون وويلسون، ١٩٨١م؛ ستيوارت فوكس Stuart Fox، ١٩٨٦م؛ هيل، ١٩٨٩م؛ بيرنس ودييتس Burns & Dietz، ١٩٩٢م). ولكن كلمة الميمة هي الاسم الذي شاع، وتوصف الدراسة التحليلية للميمات باسم المبحث الميمي.
ولنا أن نطلق على نحو ملائم على المظهر الخارجي للميمة الكلمة ذاتها كما هي واردة في النظرية الجينية: النمط الظاهري phenotype، خاصةً حين يتعلق الأمر بالأفراد. وسبب استخدامنا للكلمة نفسها في كلتا الحالتين هو أن ظاهر الفرد أو سلوكه تحدده عادةً كلٌّ من الجينات والثقافة، كما وأن من الصعب عادةً فصلَ هذين العاملين عن بعضهما. ويستطيع المرء أن يمايز بشكل عام أكثر بين النواسخ replicators والعناصر التفاعلية interactors. ويمثل العنصر التفاعلي التعبير الوظيفي للناسخ، الذي هو علة الانتخاب (هال، ١٩٨٢م؛ وسبيل Speel، ١٩٩٧م).
والملاحظ أن قليلين من علماء الاجتماع هم الذين مايزوا على النحو السابق بين الاستعدادات الثقافية ومظهرها الخارجي، ويمايز بيير بورديو Pierre Bourdieu في كتابه «سوسيولوجيا التربية» بين الاستعدادات الثقافية الباطنية، والتي يسميها الخاصية الذاتية habitus، وبين المظهر الخارجي الذي يسميه البنية الاجتماعية (بورديو وباسيرون Bourdieu & Passeron، ١٩٧٠م، وبورديو، ١٩٧٩م).
ويبدو أحيانًا ضروريًّا هذا التمييزُ بين وحدة ثقافية للمعلومات ومظهرها؛ مثال ذلك أننا نخطئ إذا قلنا إن فأسًا حجريًّا يمكن أن يعيد إنتاج نفسه ويتكاثر؛ ذلك أن ما يتكاثر هو الوصفة التي توضح لنا كيف نصنع فأسًا حجريًّا، وهذه الوصفة هي وحدة المعلومات القابلة للتكاثر؛ بينما الفأس هو مظهرها الخارجي. ويُعتبر الإنسان صانع الفأس الحجري حاملَ أو عائل host الميمة وأداة نقلها. ونجد في أحيان أخرى أن التمييز غير مهم على نحو ما نجد كمثال في حالة رواية قصة (بول Ball، ١٩٨٤م).

ويمكن النظر إلى وحدة الانتخاب على أنها حالة كيفية (مثال ذلك ما إذا كان الناس يقصدون دور العبادة أم لا) أو كمية (كم عدد المرات التي يذهب فيها الناس إلى دور العبادة). ويستحيل وصف السمات الكمية وصفًا كافيًا وملائمًا في صورة وحدات ذرية مثل الميمات؛ ومن ثَم نكون بحاجة إلى نموذج من نوع مغاير، وهذا ما يوضحه لنا المثال التالي:

تنزِع الشركات الكبرى في نظام اقتصاد السوق الحرة إلى النمو باطراد لتكون أكبر وأكبر؛ وسبب ذلك أن هذه الشركات الكبرى تتمتع بمزايا الترشيد والإنتاج الضخم، والتوزيع على نطاق واسع، والإعلان على نطاق واسع، وظواهر التعاضد synergism effects، وتدنِّي حد المنافسة. وواضح أن هذه الآليات التي تعطي للشركات الكبرى ميزةً على الشركات الصغرى تؤلف عملية انتخاب، ولكنها ليست عملية يمكن وصفها وصفًا كاملًا في حدود الميمات؛ ومن ثم يتعين أن نحدد حجم الشركات في ضوء محددات كمية، وأن نحلل ديناميات التغذية المرتدة داخل المنظومة، وهذه نماذج معروفة جيدًا في الرياضيات، وتتوفر مناهج ملائمة لتحليلها (مثال المعادلات التفاضلية، وتحولات لابلاس Laplace transforms).

(٤) الابتكار

الابتكار هو النظير الثقافي للطفرة. ويمكن أن يكون الابتكار الثقافي فكرة جديدة أو أسلوبًا جديدًا في الحصول على الغذاء، أو شعيرة اجتماعية جديدة، أو أغنية جديدة، أو قانونًا جديدًا، أو تحولًا في الهيكل الاجتماعي … إلخ. وحين نستخدم كلمة تباين في هذا السياق إنما تكون أثرًا من زمن داروين وقتما كان غيرُ معروف للباحثين كيف تنشأ عوامل التباين الجديدة. ونظرًا لأن التباين يصور عادةً حالة اختلاف تحدث داخل تجمع ما، فإن من المستصوب النظرَ إلى الابتكار «والطفرة» باعتبار أيهما مفهومًا أكثرُ أساسيةً من التباين، ومن ثم يتعين عدم اعتبار المفهومَين مترادفين.

وحريٌّ ألا تضلِّلَ كلمة ابتكار أحد منا ويُظن أنها تعني بالضرورة اختراعاتٍ عقلانيةً إبداعية أصيلة، ولكن حريٌّ استخدام الكلمة بغض النظر عما إذا كان الشكل الجديد يَحيد كثيرًا أم قليلًا عن الأشكال المعروفة في السابق، وعما إذا كانت الظاهرة الجديدة نشأت عرضًا أم نتيجة تفكير عقلاني.

وثمة اعتقاد عام في النظرية التطورية البيولوجية بأن جميع الطفرات عفوية وعشوائية، ولكن الابتكارات في العملية الثقافية نادرًا ما تكون عشوائية تمامًا؛ ذلك أن الابتكارات يمكن أن تحدث نتيجة تخطيط جيد وغالبًا ما تكون مفيدة للمبتكر.

وتحدث بعض الابتكارات عرَضًا وعلى نحو عفوي؛ مثال ذلك ما يحدث نتيجة لعب أو تجريب عشوائي (فاندنبرج Vandenberg ١٩٨١م). وإذا تصادف أنْ كانت لمثل هذه التجربة نتائج مفيدة (ذاتيًّا)، فإنها سوف تتكرر وتُفضي إلى اكتشاف ما، ولكن ليست جميع الابتكارات هي اكتشافات تلقائية وعفوية؛ ذلك أن غالبية الابتكارات تستحثها مشكلةٌ ما يحاول الناس إيجاد حل لها، وهنا قد تأتي نتيجة تجارب مبنية على تفكير بارع أو تجارب عفوية، ولكنها غالبًا ما تكون مقترنة بهدف واعٍ لحل مشكلة معينة تشغل البال.

والابتكارات ليست بالضرورة مفيدة للمبتكر؛ ذلك أن ابتكارًا ما ابتكره صاحبه بدافع من أفضل النوايا، ولكنه ربما يأتي بنتائج غير مقصودة تجعله أقلَّ فائدةً مما كان متوقعًا. ويمكن أن تأتي الابتكارات أيضًا نتيجة أخطاء في المحاكاة؛ إذ لو أن شخصًا ما نسي الإجراء الصحيح والدقيق لأداء شيء ما؛ ومن ثم يُنجزه على نحو غير تام ومضبوط، فإنه يقدم إلى خلفائه صورة أدنى مستوًى، وهذا ابتكار غير مفيد.

وتمثل العقيدة الدينية مجالًا لحدوث ابتكارات عفوية أو لا عقلانية؛ مثال ذلك أن جماعةً من الناس تصدِّق هلاوس شخص يعاني من مرض عقلي خطير؛ على نحو ما تظهر جماعات الآن، وتراه نبيًّا وهلاوسَه وحْيًا. ولكن المرض العقلي ليس تفسيرًا كافيًا للقرارات المنافية تمامًا للعقل؛ ذلك أن مجتمعاتٍ كثيرةً لها شعائرها الدينية التي تفضي عن عمد إلى هلاوس، ويمكن أن يحدث هذا بوسائل عديدة: نتيجة عقاقير مخدرة مسبِّبة للهلاوس، أو نتيجة للاستغراق في التأمل أو الإيحاء الذاتي أو حالة الجذب أو حرمان حسي … إلخ. ويفسر المؤمنون بالعقيدة هذه الهلاوس على أنها رؤًى أو كشف عن الحجاب أو نبوءات أو تكهنات، ويتصرفون وَفق تأويلهم هذا. وهناك وسائل أخرى في حالة افتقاد الهلاوس، ويمكن استخدامها بالطريقة نفسها، نذكر من ذلك تأويلَ الأحلام أو الطقس أو غير ذلك من وقائع عشوائية، ولكن لا شيء من الأحلام أو الهلاوس عشوائي بمعنى الكلمة؛ إنها جميعًا نتاج العقل الواعي الذي يتأثر بدوره بكم هائل من الظواهر الثقافية؛ مثل الدين والفن والشعائر والأساطير والتفاعلات الوجدانية … إلخ. ومن هنا فإن تأويل هذه الهلاوس والأحلام وغيرها هي أيضًا، وإلى درجة كبيرة، مسألة اختيار؛ إذ غالبًا ما يختار القائمون بهذا السلوك، سواءٌ عن وعي أو عن غير وعي، ومن بين تأويلات عديدة محتمِلةٍ، التأويلَ الذي يفضي إلى أكثر النتائج نفعًا. وها هنا نلحظ أن ما يبدو في ظاهره هُلاسًا غير عقلاني يكون بمثابة حافز لاتخاذ قرار تتفاوت درجة عقلانيته.

وجدير بالملاحظة أننا نجد بعض الناس، حتى في أكثر المجتمعات علمانية، يقدمون نبوءاتٍ أو تكهناتٍ على أساس من وقائعَ عشوائية؛ مثل مواقع النجوم والكواكب في الأفلاك، أو حركات الطيور والحيوانات، أو خطوط الكف أو الأثار المترسبة على فنجان القهوة، أو ورق اللعب أو النرد. ويتعين أن نشير هنا إلى أن الناس في حالة افتقارهم للمعارف الموضوعية يظهر لديهم ميلٌ قوي لتوليد معارف خيالية والتصرف على هَدْيها.

ولكن ابتكارًا ما قد لا يجد سبيله إلى التطبيق والانتشار إذا ما كانت ظروف انتخابه غير مواتية في تلك الفترة؛ ومن ثم فإن مثل هذا الابتكار قد يطويه النسيان أو يدخره المجتمع في «رصيده المعرفي»؛ لبعثه إلى الحياة من جديد، في فترة تالية تتغير فيها شروط الانتخاب. والملاحظ أن المجتمع التعددي يمكنه بهذه الطريقة أن يختزن احتياطيًّا مَهولًا من الإمكانات الثقافية التي ترقد كامنةً في صورة أفكار غير محققة أو عادات بالية أو شعائر لا يؤمن بها سوى قلة منحرفة. بيد أنها ربما تظهر بعد ذلك وتبرُز وتنشط أو يعاد تنشيطها إذا ما كانت ظروف الانتخاب بعد تغيُّرها أضحت مواتيةً لها.

ويحدث أحيانًا أن يتخلف ابتكارٌ ما وراء التطور المتوقع له أن ينجزه، وأنا أشير هنا بوجه خاص إلى منظومات أخلاقية ودينية، والتي هي بمثابة تبريرات عقلية لواقع مضى، وتعمل على تبرير أو تثبيت هيكل قائم فعلًا أو تحت الإنشاء.

ولنا أن نخلُص إلى أن هناك إمكاناتٍ وفيرةً لكي تحدث في أي مجتمع ابتكارات عقلانية أو غير عقلانية، مفيدة أو غير مفيدة. ويمكن أن نجد في مجتمع تعددي دعاةً وأنصارًا لأي وجهة نظر من الناحية العملية. وإن مثل هذا المجتمع سيتوفر لديه رصيد لا ينفد من الأفكار والتباينات الثقافية ليختار من بينها. وهنا فإن الانتخاب هو الذي يقرر ويحسم أيًّا من هذه الأفكار التي لا حصر لها سوف تتعزز وفي أي زمن.

وغالبًا ما ينظر المجتمع إلى الابتكارات الاجتماعية على أنها انحرافات، وربما يعاني الأشخاص الممثلون لها من الاضطهاد باعتبارهم منحرفين، وقهر المنحرفين وظيفتُه الحفاظ على المنظومة الاجتماعية. وإذا صادف انحراف ما انتشارًا وحظي بالقبول في قطاعات مهمة من المجتمع على الرغم من جميع المحاولات التي استهدفت قمعه، فإننا هنا يمكن أن نقول إن تغيرًا اجتماعيًّا قد حدث. وجدير بالذكر أن لوويلين Lewellen (١٩٧٩م) قدَّم مثالًا جيد التوثيق لانحراف ديني أحدث تأثيرًا مهمًّا في تطور المجتمع. وسوف نقدم في الباب الثامن المزيد من الشرح والتفسير لأهمية الانحرافات.

(٥) التكاثر

تكاثر السمات الثقافية هو العنصر الثاني من العناصر الثلاثة في نظرية الانتخاب الثقافي، وكذا العنصر الذي حظي بدراسة أكثر شمولًا. ويمكن أن يحدث انتقال السمات الثقافية وَفق أنماط مختلفة: انتقال رأسي من الأب إلى الأبناء، وانتقال أفقي بين أشخاص لا تربطهم ببعض أواصرُ قُربى. وتمثل التنشئة الاجتماعية الجماعية التأثير المتضافر من جانب كثير من أعضاء الجماعة (كبار السن) على طفل أو على عضو جديد في الجماعة، ولكن نمط الانتقال من واحد إلى كثيرين يمثله تأثير المعلم أو الزعيم على جماعة ما (جاجليلمينو وآخرون، ١٩٩٥م).

وثمة نظريات توضح كيف يكتسب البشر من الآخرين المعارفَ والمهاراتِ والمعايير والمعتقدات والاتجاهات. وهذه نظريات مستمَدة من علم نفس التعلم والنظرية البيولوجية عن التعلم المدرسي والتعلم في الطفولة وسوسيولوجيا التعلم ونظرية التنشئة الاجتماعية وغيرها، وتوفرت مباحث علمية عديدة على دراسة هذا المجال دراسةً وافية وشاملة؛ لذا فإنه من نوافل القول محاولة الاستطراد في تفاصيلها هنا.

سوف أكتفي فقط بنوع واحد من التكاثر الثقافي الذي لم يدرسه الباحثون دراسة كافية؛ وأعني به الاتصال اللاشعوري unconscious communication. نعرف أن جميع المجتمعات زاخرة بظواهر لاعقلانية مثل الفن والموسيقى والرقص والشعائر والطقوس الدينية والأساطير والقصص وغيرها. وتتضمن نظرية فرويد عن التحليل النفسي شيئًا عن إمكانية حدوث اتصال أو انتقال لاشعوري من جيل إلى جيل عبر وسائل الاتصال المذكورة:

«أوضح لنا التحليل النفسي أن النشاط الذهني اللاشعوري لدى كل إنسان يشتمل على جهاز يمكِّنه من تأويل إرجاعات الآخرين، أي: يكشف عن التشوهات التي فرضها الآخرون على التعبير عن انفعالاتهم. وإن الفهم اللاشعوري لجميع العادات والطقوس والمعتقدات الجامدة التي تخلفت عن العلاقة الأصيلة بالأب الأول ربما جعلت من الممكن للأجيال التالية التغلب على ميراثهم الانفعالي.»

(فرويد، ١٩١٣م، ص١٥٩)

ونحن إذا رفضنا تصديق أن الرقص واستمطار السماء من شأنها أن تجعل السماء تستجيب وتمطر حقًّا، يصبح لزامًا أن نفترض أن الرقص له وظيفة أخرى؛ مثل خلق تضامن جماعي واتصال لقيم وانفعالات أخرى. وربما لا يدرك المشاركون هذه الوظيفة عن وعي؛ ولهذا يكون لنا الحق في أن نفترض أن اللاشعور له دور مهم هنا، وأن المسلَّمة التي أنطلق منها هنا هي أن الكثير من الأنشطة البشرية اللاعقلانية هي وسائط اتصال بين لاشعور شخص ما إلى لاشعور أشخاص آخرين. وربما لا يدرك الأشخاص المعنيُّون حدوث هذا الاتصال، بيد أنني سوف أدعم هذه النظرية فيما بعد، خاصةً في الباب الحادي عشر. وقد يحدث أن ينظر البعض إلى هذه الظواهر اللاعقلانية نظرةً وظيفية؛ بمعنى أنها تؤثر في السلوك البشري على نحو يجعلها تعزِّز تكاثرهم.

إن حكايةً تُحكى عن الأخيار والأشرار من الناس وكيف يلقى الأشرار حتفَهم ويحظى الأخيار بالسعادة آخرَ المطاف، وبعد مشكلات وعذابات كثيرة؛ يمكن أن تكون لها وظيفة هي نقل معايير الخير والشر، وتدعو الناس إلى التضحية عندما تَدلهِمُّ الأمور. وربما لا يدرك الراوي ولا المستمعون أن الحكاية هنا اتصال ونقل للمعايير. وطبعي أن حافزهم الواعي لقص الحكايات والإنصات إليها مختلف تمامًا: إن القصة مثيرة للاهتمام، ولعل معيار ما نشعر به أنه مثير إنما هو محصِّلة انتخاب جيني وثقافي معًا.

وجدير بالملاحظة أن شعيرة الرقص التي يقوم بها الشامان١ ربما تقول لأبناء قبيلته: أنا أسيطر على قوًى سحرية، وأنا زعيمكم الروحي. كذلك الرقصة الجماعية المتوالية حيث يشارك كل امرئ في توصيل قيم التضامن والوحدة، وأيضًا الرقص الذي يشارك فيه الرجال والنساء معًا داخل صالة الرقص إنما يفيد رسالة مضمونها أن المجتمع مبنيٌّ على الأسرة النواة باعتبارها الوحدة الأساسية.

وتترتب على مثل هذا الاتصال اللاشعوري واسعِ النطاق نتيجةٌ هي أن كل مجتمع يختص بمجموعة مشتركة من الرسائل اللاشعورية، والتي تؤثر وتهيمن على سلوك أبنائه. وكم هو عسير دراسة مثل هذا الاتصال اللاشعوري بسبب مشكلات مهولة تتعلق بمناهج البحث في دراسات التحليل النفسي، ولكنْ ثمة اتفاق في الرأي على أن اللاشعور له تأثير مهم على السلوك؛ لذلك فإن من الجدير يقينًا دراسة كيفية حدوث هذا الاتصال اللاشعوري، وسوف أعود إلى هذه المسألة في الباب الحادي عشر.

(٦) الانتخاب

تضمَّن مثال الزراعة الذي أسلفناه أهمَّ المبادئ الأساسية للانتخاب الثقافي. ثمة شروط أساسية ثلاثة يتعين توافرها لكي تنتقل الظاهرة الثقافية من شخص إلى آخر؛ أولها: أن يكون الشخصان بالضرورة على اتصال ببعضهما، ثانيًا: يجب أن يكون الراسل راغبًا في أن يقاسم الآخر معارفه أو عاجزًا عن حجبها، ثالثًا: يجب أن يكون المتلقي راغبًا في قبول هذه المعرفة وأن يضمنها رصيده السلوكي. وإذا لم يتوفر شرط أو أكثر من هذه الشروط الثلاثة سوف تنتفي الظاهرة. ومعنى شرط الاتصال المباشر بين الراسل والمتلقي أن بعض العادات التي تفيد العزلة الاجتماعية لا تنتشر بسهولة، وأن الانتخاب على أيدي الداعية للمعلومات يؤدي إلى انتشار عقائد دينية من النوع الذي يكلف المؤمنين به بالدعوة إلى العقيدة والتبشير بها. ويتجلى الانتخاب عند الطرف المتلقي في تلك الحقيقة العادية حين نرى أن نفع الابتكار الثقافي واضح لكل ذي عينين، فإنه سوف ينتشر سريعًا.

وتتمثل آلية انتخاب أكثر أولية في البقاء والتكاثر الانتخابيين للأفراد على أساس من سلوكهم المحدد ثقافيًّا، ونجد مثالًا متطرفًا على هذا عند بعض الطوائف الدينية التي تحرِّم تمامًا الاتصال الجنسي؛ مثل عقيدة الهزازين أو الشيكرز shakers٢ وطبعي أن انقرضت هذه الطوائف بسبب انقراض نسلها، ولكن ميمات الفردية ليست دائمًا شيئًا غير ملائم؛ ذلك أن المرء الذي لا يعبأ بالزواج وإنجاب أطفال سوف يتوفر له وقت أطول وطاقة أكثر للدعوة إلى ميماته والعمل على ترويجها.

ولكننا نجد من ناحية أخرى أن التحريمات الدينية لاستخدام موانع الحمل أو للإجهاض هي آلية تَزيد عدد النتاج الجيني؛ ومن ثم النتائج الثقافي.

ويمكن أيضًا أن يعمل البقاء الانتخابي على مستوى الجماعة؛ إذ حين يهزم شعب شعبًا آخر في الحرب نادرًا ما تكون الجماعة الخاسرة قد استُؤصلت تمامًا كبشر، ولكن عقيدتها الدينية وتنظيمها السياسي يمكن استئصالهما إذا ما فرض المنتصرون قسرًا على الخاسرين مبادئهم الدينية والسياسية، ومن المسلَّم به أن تدمير القبيلة أو القضاء على عقيدتها واقعتان مختلفتان، غير أن النتيجة من حيث الانتخاب الثقافي واحدة؛ أن الأديان وأشكال التنظيم السياسي التي تفضي إلى تفوق عسكري سوف تحرز تقدمًا على حساب الاستراتيجيات الأضعف.

ويحدث نوع مهم من الانتخاب حين يكون على المتلقي أن يختار بين بديلين من المرسلين. وهذه محاكاة انتخابية؛ إذ من الشائع أن الناس تحاكي الشخصيات الناجحة من رجال الأعمال أو الرياضيين أو الفنانين أكثر مما تحاكي الفاشلين. ونشهد أمثلة أخرى للمحاكاة الانتخابية في عبادة الأبطال عند المراهقين أو محاكاة البلدان النامية لكل شيء ينتمي إلى العالم الغربي الصناعي.

وصاغ بويد وريتشرسون نموذجًا لهذا النوع من الانتخاب تحت اسم «الانحياز غير المباشر»، ويسميان الخاصية التي تجعل من بعض الناس نماذج أثيرة ويفضلها الآخرون ويسعون إلى تقليدها: «السمة الدالة» indicator trait، وتسمى المعايير التي يلتزم بها المقلدون عند اختيارهم لنموذج المحاكاة باسم «سمة الأفضلية» preference trait. ويرى بويد وريتشرسون أنه إذا كانت كلٌّ من السمة الدالة وسمة الأفضلية موضوعًا للانتخاب الثقافي معًا، وتزاوجت هاتان العمليتان الانتخابيتان فإن العملية يمكن أن تتحقق سريعًا وتفضي إلى مبالغة في إبراز المكانة.

آلية انتخاب أخرى مهمة؛ وهي الارتقاء الانتخابي لأشخاص معينين لشغل مواقع مؤثرة؛ كأن يكونوا قادة أو معلمين (كامبل، ١٩٦٥م).

وتعتبر المنافسة الاقتصادية والانتخابات الديمقراطية من أشهر الآليات.

وغالبًا ما يكون لعلم النفس دور مهم في انتخاب الميمات؛ ذلك أن الميمات الأصلح كثيرًا ما تكون لها جاذبية نفسية أكبر. إنها تضغط على الأزرار المؤثرة في نفوسنا، وكلمة زرار نفسي مجاز للتعبير عن آليات المنبه — الاستجابة— والتي تثير فينا اهتمامًا خاصًّا لموضوعات معينة تستثيرنا مثل الخطر والغذاء والجنس. وهذه موضوعات كان لها، ولا يزال، أهمية حيوية على مدى التاريخ التطوري. ونلحظ وجود ضغط انتخابي قوي موجود دائمًا يثير انتباهنا نحو أية معلومة تتعلق بهذه الموضوعات، وسبق أن أشرنا إلى عدد من أكثر هذه الأزرار فعاليةً وتأثيرًا.

ولنأخذ النكات كمثال: إن نكتةً عن الخطر أو الجنس تغرينا، وهذا يجعلنا نلتفت إلى النكتة، ونتذكرها وننقلها إلى الآخرين، ولكن النكات التي لا تستثير فينا شيئًا سرعان ما ننساها؛ بينما نتذكر ما تُغرينا وتستثير انتباهنا ومن ثم نحفظها ونحكيها للآخرين. إنها تتمتع بقدر عالٍ من الملاءمة والصلاح.

والإغراء له دور مهم في المنافسة بين القنوات التجارية للتليفزيون، ونلحظ أن الرواية الإخبارية عن الفزع أو الجنس تستثير اهتمامنا وانتباهنا أكثر من غيرها، وربما أكثر من موضوعات ذات صلة وثيقة بنا. وليس من المهم كثيرًا ما إذا كانت هذه الروايات صادقة ودقيقة أم لا؛ ذلك أن الصدق غير وثيق الصلة بمدى صلاحية الرواية طالما وأنها لا تقدم برهانًا يؤكد أو ينفي.

وتستخدم الإعلانات التجارية والحملات السياسية أسلوب الإغراء ودغدغة المشاعر على نطاق واسع؛ لكي تستثير اهتمامنا؛ ولهذا فإن سلعة مدعومة بإعلان تجاري يدغدغ الحواس يمكن أن تحقق رواجًا، وتتغلب في المنافسة على سلعة لا تنافسها في الإغراء (برودي، ١٩٩٦م).

ولا بد وأن تكون الميمة ذات معنًى وسهلة الفهم؛ ذلك أن الميمة التي يصعب فهمها أو تكون متنافرة مع الميمات القائمة لا يمكن استيعابها بسهولة، ولكن قد يفيد شيء غير ذي معنًى في جذب الانتباه إلى الميمة؛ مثال ذلك أن تناقضًا ظاهريًّا أو شيئًا يبدو منافيًا لمعارف سابقة من شأنه أن يخلق تنافرًا معرفيًّا. إن عقولنا سوف تجاهد دائمًا لكي تجعل الأشياء مفهومة؛ ومن ثم تنتبه إلى كل ما من شأنه أن يثير تنافرًا معرفيًّا، وكذا إلى الميمة التي يبدو أنها سوف تحل هذا التنافر. ولدى الناس قابلية أكثر لمعرفة الميمات الجديدة حين توضع في موقف متناقض ظاهريًّا أو يثير قلقًا فكريًّا؛ مثلما يحدث عند بذل الجهد من أجل الشروع في مراسم احتفالية (برودي، ١٩٩٦م).

يترتب على هذا أن الميمة يمكن أن تروج ببساطة؛ لأنها لافتة للأنظار؛ مثال ذلك لو أن ثمة أقليةً من الناس ترسم كلمة بعينها بطريقة خرقاء معقدة؛ بينما ترسمها الأغلبية بشكل صريح واضح وجريء، فإن القرَّاء سوف يلحظون على الأرجح أسلوب الكتاب المعقد الأخرق فور النظر إلى الكلمة، ولكنهم لن يلحظوا الشكل البسيط الخالي من التعقيد؛ ولهذا فإن الشكل الأخرق ربما يَشيع استعماله لا لشيء سوى لأن الناس تتذكر فقط الشكل الذي لفت أنظارهم، وهذه هي الظاهرة المسماة ظاهرة الصرعة أو مواكبة الزفة.

ويمثل الاختيار الواعي والتخطيط العقلاني الشكل الأسرع والأوضح للانتخاب، ومن الضروري أن نمايز في هذا السياق بين المعلومة الثقافية (الميمة) واستخدام هذه الميمة في عمل بذاته. وحري أن نلحظ أن الجينات في نظرية الانتخاب الجيني مرتبطة بمحالَّ هندسية loci مميزة، وأن إحدى الأليلات لا يمكنها أن تدخل محلًّا هندسيًّا دون إزاحة أليلةٍ أخرى اندثرت خلال هذه العملية. وليس الأمر كذلك في الانتخاب الثقافي؛ ذلك أن إحدى الميمات يمكنها أن تنفذ إلى عقل شخص دون إزاحة أية ميمة أخرى، معنى هذا ببساطة أن الشخص يكتسب معلومةً جديدة دون نسيان القديم، وهكذا يستطيع المرء أن يحيط علمًا بالعديد من أنماط السلوك المختلفة في الوقت الذي يختار فيه أحدها، وتظل جميع الميمات البديلة حاضرة في المخ، ولكن واحدة منها فقط هي الفاعلة النشطة.

وأخطأ علماء كثيرون في وصفهم الاختيار عند البشر بأنه نقل انتخابي للمعلومة، بينما الصواب أن نتحدث عن الاستخدام الانتخابي للمعلومة المنقولة؛ مثال ذلك عندما تتغير أزياء السيدات من حين إلى آخر ما بين الملابس الطويلة والقصيرة، فإننا يجانبنا الصواب إذا ما زعمنا أن المعلومة عن الملابس القصيرة أزاحت المعلومة الخاصة بالملابس الطويلة أو العكس؛ ذلك لأن النساء يعرفن دائمًا كل شيء عن الملابس الطويلة والقصيرة؛ ومن ثم فإن الانتخاب ليس مُنصبًّا هنا على المعرفة، بل على الأفضليات. وإذا كانت مدارس الأطفال تعلم التلاميذ شيئًا عن الديانات القديمة دون ممارسة شعائر تلك الديانات، فإن هذه الحقيقة يمكن اتخاذها دليلًا على أن المعلومة يمكن نقلها والحفاظ عليها بغير حدود، وتستمر خاملةً في الوقت ذاته. وواقع الأمر أن هناك أوجهًا للتمايز غالبًا ما يغفلها الباحثون، وأعني بها التمييز بين معرفة الميمة ومناقشتها ودعمها وترجمتها إلى عمل، وهو ما يسمى مستويات الاستبقاء (سبيل، ١٩٩٧م). وثمة وسائل شديدة التباين فيما يختص بتصديق شيء ما ودرجات مختلفة من الالتزام بالعقيدة (سبيربر، ١٩٩٠م).

وكما سبق أن أوضحنا فإن كلًّا من عملية الإبداع وعملية التكاثر يمكن أن تكونا عمليتين انتخابيتين؛ لذلك فإنه يكون عسيرًا في بعض الأحيان الفصل بين الإبداع والتكاثر والانتخاب كثلاث عمليات متمايزة. ويؤمن بعض المفكرين بأن المعلومة الثقافية تتحول أو تتعدل على مدى فترة استنساخها، وأن النتيجة المتراكمة لمثل هذه التحولات الكثيرة هي أن تنزع العملية إلى السير في اتجاه التعبير الأكثر استهواءً سيكولوجيًّا (سبيربر، ١٩٩٦م). ولكن الأمور قد تبدو أكثر تعقيدًا عندما نفكر في أن التباينات خلال تكرار الابتكارات يمكن أن يكون لها تأثير انتخابي، فالابتكارات نادرة نسبيًّا داخل مجتمع يعمل بصورة جيدة ومستقرة نسبيًّا؛ بينما الأزمات الثقافية تحفز الابتكارات؛ ولهذا فإن الثقافة المعطلة وظيفيًّا، المتخمة بالضغوط والتوترات والصراعات، تكون بحاجة إلى مزيد من الابتكارات من أجل الانتخاب فيما بينها؛ للعمل على هديها أكثر مما هو الحال بالنسبة لثقافة تعمل وظيفيًّا على نحو جيد وتحقق السعادة لكل أصحابها؛ وهذا هو السبب في أن الثقافة المعطلة وظيفيًّا قصيرة العمر على الأرجح.

وإذا كان بعض القرَّاء يلتمسون المزيد من المعادلات الرياضية المضبوطة عن آليات متمايزة للانتخاب الثقافي، فإننا نحيلهم إلى الدراسات التي نعرض لها في الباب الثاني، ونذكر هنا بوجه خاص بويد وريتشرسون (١٩٨٥م) اللذين يناقشان أثر الجينات على معايير وآليات الانتخاب الثقافي.

(٧) انتخاب المركبات الميمية

يكون من الملائم أحيانًا النظر إلى بعض عمليات الانتخاب الثقافي باعتبارها انتخابًا لمركبات ميمية كاملة بدلًا من ميمات مفردة. ويصدق هذا كمثال على انتشار الطوائف الدينية؛ إذ الملاحظ أن الأعضاء الجدد في طائفة ما يستوعبون مجموعة المعتقدات كحزمة واحدة، وكذا أسلوب الحياة وليس مجرد ميمة مفردة. وتشتمل الأجزاء النمطية للمركب الميمي على ما يلي:

  • الطُّعم: وعد بمنفعة ما يجعل المركب الميمي يبدو في صورة جاذبة للمؤمنين الجدد المحتملين؛ مثال ذلك الوعد بحياة أفضل. ويشتمل الطعم في غالب الأحيان على إغراء يثير انتباه واهتمام المؤمنين المنتظرين، وقد يكون الطعم مجرد حصان طروادة.
  • الصنارة: هي جزء من مركب ميمي يحفز إلى التكرار، وتتمثل هذه في حالة الدين في الأمر بالدعوة والتبشير، وتتمثل في حالة المخطط الهرمي لمشروعات الأعمال أو الرسالة المسلسلة في صورة حافز اقتصادي لحشد وتجنيد أعضاء جدد.
  • التلقين: ضمان أن العائل للمركب الميمي يكتسب جميع الميمات التي يتضمنها المركب، وقد يشتمل هذا على التكرار المتواتر أو على عملية غسيل للمخ، والأمثلة النمطية على ذلك نجدها في الشعائر والتراتيل والصلوات والقسم بالإيمان.
  • الحياة ضد مركبات ميمية مناهضة: وقد تتمثل في الميمة الزاعمة بأن الإيمان الأعمى فضيلة والبدعة كفر ورذيلة.
  • الثواب والعقاب: واضح أن الثواب والعقاب ضروريان في الغالب لجعل المؤمن ينصاع لتعاليم المركب الميمي وللتنظيم الممثل له. والمثل النمطي للثواب المباشر هو الانتماء إلى فريق اجتماعي مؤيد. ويفيد المركب الميمي أحيانًا في الوفاء بجميع الحاجات الأساسية للمؤمن، ولكن أقوى الثوابات والعقوبات الموعودة تأثيرًا هي غالبًا ما تتعلق بمستقبل بعيد أو في الحياة بعد الموت؛ لذلك يصبح الوقت متأخرًا جدًّا لكي يغير المؤمن تفكيره إذا لم تتحقق الوعود في الحياة الدنيا، وأوضح مثال على هذا الوعدُ بالجنة والنذيرُ بالجحيم.
  • الغُرْم: مطالبة المؤمن بأن يسهم بوقته وجهده أو ماله لصالح المركب الميمي وتنظيمه، ويحتاج التنظيم إلى هذه الموارد لتمكينه من المنافسة ضد مركبات ميمية مناوئة.

(٨) الانتخاب البديل Vicarious Selection

يمكن في أحيان كثيرة وصف عمليات الانتخاب الثقافي بأنها انتخاب بديل (كامبل، ١٩٦٥م)، وتسمى أيضًا انتخابًا تمهيديًّا preselection. ويتمثل المبدأ الذي يقوم عليه الانتخاب البديل في أن عمليةَ انتخاب بطيئةً وغير فاعلة تحل محلَّها عمليةُ انتخاب أكثر فاعلية، وتفضي إلى الاتجاه نفسه تقريبًا على نحو يضاعف من القدرة على التكيُّف. ويمكن القول، بشكل ما، إن عملية الانتخاب القديمة هي التي خلقت الآلية البديلة، وربما تتحكم أيضًا في عملها إذا ما حادت عن السبيل، وإن لم يكن هذا الضبط والتوجيه فعالًا. ويضرب كامبل مثالًا على هذا بطريقتنا في اختيار الطعام: إننا إذا أكلنا شيئًا غير ملائم ربما لقينا حتفنا بسبب سوء التغذية أو التسمم؛ ولهذا فإن اختيار الطعام محكوم في النهاية بالانتخاب الطبيعي. بيد أن اختيارنا المباشر مبنيٌّ على أساس التذوق. ونعرف أن التطور الجيني قد صاغ حس التذوق عندنا بحيث تعطي الأغذية الصحية مذاقًا طيبًا. ويعادل معيار التذوق تقريبًا معيار التغذية، وهكذا يصبح الانتخاب القائم على التذوق بديلًا عن انتخاب أبطأ كثيرًا معنيٍّ بالبقاء.

ويمثل الانتخاب الجنسي مثالًا آخر للانتخاب البديل. إن نساءً كثيرات يفضلن الرجال الأقوياء الأصحاء. وتعتبر القوة البدنية — على الأقل في المجتمعات البدائية — عاملًا مهمًّا لضمان البقاء. ولهذا فإن الانتخاب الفردي القائم على أساس البقاء من شأنه أن يعزز القوة البدنية، ولكن الانتخاب الجنسي القائم على اختيار الشريك يحل محل هذه العملية، ويتخلص من الأفراد الضعاف بأسرع مما تستطيع أن تفعل عملية الانتخاب الفردي، أو لنقلْ بعبارة أخرى: إن الانتخاب الجنسي حل بديلًا عن الانتخاب الفردي. ويعتبر الانتخاب العقلاني أفضل مثالًا على الانتخاب البديل؛ مثال ذلك أننا نطبق قواعد الصحة العامة بهدف واعٍ لتجنب الأمراض الوبائية، وإن هذه القواعد ذاتها كان بالإمكان أن تنشأ نتيجة تطور حافز غريزي يحثنا على الاغتسال، وأيضًا كان بالإمكان أن تنشأ بفضل الانتخاب الثقافي إذا ما راجت قواعد التحريم والتطهر الدينية كنتيجة لحقيقة أن من أطاعوا قواعد التحريم أقل من المخالفين تعرضًا لخطر الموت بسبب الأمراض المعدية، وهكذا فإن الاختيار الرشيد لقواعد الصحة العامة هو البديل عن آليات الانتخاب الأشد بطئًا والقائمة على البقاء أو الموت. وتظهر لنا هنا بوضوح ميزة الانتخاب البديل، إنه يعني تكيُّفًا أسرع وأكثر فعالية من ظروف الحياة المتغيرة، كما يعني أقل قدر من الخسائر من حيث الوفَيات؛ لذلك فإن آلية الانتخاب البديل سوف تكون بحد ذاتها آلية تكيُّف؛ ومن ثم ستدعمها وتعززها ذات العملية التي ظهرت لتكون بديلًا عنها.

بيد أننا نلحظ تعقدًا خطرًا في آليات الانتخاب البديل؛ حيث إنها لا تفضي أبدًا إلى ذات الاتجاه تمامًا الذي استنَّته العمليات التي حلت محلها، وليسمح لنا القارئ بالعودة ثانيةً إلى مثال حاسة الذوق. ينبني اختيار الغذاء في مجتمعنا على الذوق، وأدى هذا إلى زيادة مفرطة في استهلاك السكر، وإلى إضافة نكهات صناعية لأغذية غير صحية. وانتشرت هذه الإمكانات سريعًا جدًّا؛ حتى إن الانتخاب الجيني بات عاجزًا عن كبحها. وأشهر مثال لانحراف عملية الانتخاب البديل هو ذيل الطاووس الذي تطور بفعل الانتخاب الجنسي على الرغم من واقعِ أنه يقلل من إمكانية استمرار بقاء الطاووس.

ومفهوم الانتخاب البديل مهم لأن عملية الانتخاب الثقافي في صورتها الإجمالية تعمل كبديل عن الانتخاب الجيني، وبشكل فعال جدًّا في الحقيقة. وثمة آليات انتخاب كثيرة مغايرة، بما في ذلك الاختيار الواعي، يمكن عرضها كأمثلة للانتخاب البديل.

(٩) عوائق على طريق التطور

التحول التدريجي ليس بالضرورة خاصية للتطور البيولوجي كما كان الاعتقاد السائد من قبل، ولعل الأصوب أن التاريخ التطوري ربما يكشف عن فترات تمثل وَثَبات من التغير السريع تتبادل مع فترات سكون تسمى «التوازنات الفاصلة» punctuated equilibria (سوميت وبيترسون Somit & Peterson، ١٩٩٢م). ذلك أنه بعد تجاوز عتبة معينة يمضي التطور سريعًا نسبيًّا إلى أن تحدث حالة اتزان جديدة. وإن تجاوُزَ هذه العتبات عملية قليلة الاحتمال؛ ولذلك فإنها قليلة الحدوث جدًّا.
وهناك تفسير محتمل لمثل هذه العوائق على طريق التطور؛ وهو أن نتيجة صلاحية جينتين مختلفتين ليست نتيجة تراكمية بالضرورة. وتسمى هذه الظاهرة باسم التفوق epistasis (مور وتونسور Moore & Tonsor، ١٩٩٤م). ولنفترض على سبيل المثال أن سمة افتراضية أ ب شفرتها جينتان مهيمنتان أ، ب على محلين هندسيَّين مستقلين، وهنا فإن الشخص الحامل لهاتين الجينتين سوف يجسد النمط الوراثي أ ب الذي يهيئ صلاحية عالية. وإن الشخص الذي يحمل إما أ أو ب — وليس كليهما — ستكون صلاحيته على النقيض؛ أي: أقل مستوًى من شخص لا يحمل أيًّا من الاثنتين. وليس من المرجح أبدًا أن تظهر الجينتان أ، ب عن طريق طفرة في آنٍ واحد لدى المرء نفسه؛ لذلك فإن تطور أ ب لا بد بالضرورة أن يمر عبر مرحلة وسيطة تشتمل على أشخاص هَجينٍ يحملون أ أو ب وليس كليهما معًا، وإن هؤلاء الهجين سيكونون دائمًا نادرَين بسبب صلاحيتهما المتدنية؛ لذلك فإن الأمر رهن قدر كبير من الحظ الذي يزاوج بين شخص أ وشخص ب؛ لينتجا ذرية أ ب. وما إن يحدث هذا حتى يتوفر احتمال كبير بأن تنتشر السمة الجديدة (في ظل ظروف معينة)، وأن تعقب هذا تحولات جينية أخرى تحقق تناغمًا مع التكيف الجديد؛ الأمر الذي يفضي إلى توازن فاصل جديد. وإذا كانت ثمة سمةٌ افتراضية تستلزم الجمع بين أكثر من جينتين قبل ظهور حالة الصلاحية، فإن احتمال حدوث ذلك فرضيًّا هو صفر.

وإن هذا الطراز من العوائق إزاء الاحتمالات في التطور الجيني هو السبب في ندرة ظهور أعضاء جدد في التاريخ التطوري. وإن الشيء الأكثر احتمالًا أن يتعدل العضو القائم وَفق وظيفة جديدة، وليس نشوء عضو جديد من عدم؛ ذلك لأن العملية الأولى تستلزم تغيرات جينية آنية أقل من الثانية، وهذا هو على سبيل المثال السببُ في أن أجنحة الطيور مناظرة لأذرعتنا.

ونشهد كثيرًا حواجز مماثلة في التطور الثقافي؛ ذلك أن فكرة جديدة لا تروج بسهولة داخل مجتمع ما إذا كانت غير مفهومة، أو إذا كانت غير متسقة مع القواعد السائدة أو للهيكل المستقر للمجتمع (بيرنز ودييتس، ١٩٩٢م). وتحدث الإعاقة عندما يكون استخدام فكرة جديدة ممكنًا فقط حال تحوُّل ميمات عديدة في المجتمع معًا في آنٍ واحد، وتكون هذه التحولات باهظة الكلفة. ويشير رامبو (١٩٩١م، ص٨٧) إلى مثال على ذلك، وهو المشكلات المعروفة جيدًا بشأن تصدير الثقافة العليا إلى الدول النامية. ويشتمل تاريخ العلوم على نوع يمثل عائقًا ثقافيًّا يحول دون عمليات التهجين الثقافي، وحظي بدراسة متعمقة. ويسمى هذا العائق تحولًا في النموذج الإرشادي أو في الإطار الفكري (كون، ١٩٦٢م).

والملاحَظ في التطور الجيني أن احتمالات عائق التهجين ضئيلة إلى أقصى حد إذا ما استلزم تغير أكثر من جينتين في آنٍ واحد، ولكن مشكلة هذا الاحتمال في التطور الثقافي يمكن التغلب عليها عن طريق التخطيط العقلاني. ويكفي أن نفكر في جميع الابتكارات التقانية المعقدة التي أبدعها التطور الثقافي. إن جهازًا تقانيًّا حديثًا يمكنه أن يحتوي على آلاف المكونات، وإذا ما حدث وفقد عنصرًا واحدًا من هذه المكونات، فإن الجهاز سوف يتعطل تمامًا. والملاحظ أن ليس بالإمكان أن يفضي التطور الطبيعي إلى ظهور مثل هذه الدرجة من التعقد ما لم تحقق كل خطوة مباشرة على مدى عملية التطور قدرًا طفيفًا من الصلاحية أعلى من سابقتها.

وليسمح لي القارئ أن أعطيه مثالًا على عائق التواؤم في مجتمعنا: إننا إذا طبقنا نظامًا عشريًّا لقياس الزمن بدلًا من الساعات والدقائق والثواني، فإن جميع حسابات فوارق الزمن ستكون أيسر، بيد أن مثل هذا التحول في وحدات الزمن سوف تترتب عليه كلفةٌ باهظة؛ نظرًا لأن جميع المؤسسات الاجتماعية والأجهزة الثقافية مجهزة بحيث تتواءم مع الوحدات القديمة غير العملية، وسوف تسوء الأمور أكثر عندما نضع في عين الاعتبار أن لدينا منظومة متماسكة وراسخة من وحدات القياس. إن الثانية وحدة أساسية استمد منها الباحثون وحدات أخرى مثل جول (وحدة قياس للطاقة) وفولت؛ لذلك فإن التقسيم العشري لوحدات الزمن عندنا يستلزم بالتالي تغييرَ مثلِ هذه الوحدات المشتقة، ولا ريب في أن كلفة مثل هذا التغيير في وحدات القياس ستكون على المدى القصير مَهولة جدًّا؛ مما يجعلنا نتخلى عن الميزة التي سوف نجنيها على المدى الطويل مهما كانت درجة وضوحها لنا.

وطبعي أن مثل هذا الطراز من العوائق يكون من المستحيل تخطيه في التطور الجيني، ولكن من الممكن التغلب عليه خلال العملية الثقافية عن طريق التخطيط الذكي والاستثمار الرشيد إذا ما كانت الميزة على المدى الطويل مغريةً بما فيه الكفاية.

ويحدث أحيانًا أن تتشكل عوائق التواؤم الثقافي على نحو متعمد إلى حد ما؛ بهدف تضليل النشاط الانتخابي للآخرين. إن العناصر النشطة اجتماعيًّا ممن لديهم قدرة عقلانية يمكنهم تحديد حالة بعينها أو مشكلة اجتماعية بذاتها؛ بالرجوع إلى إطار مرجعي معين ثم تحديد أي نوع من التصرفات هو الممكن بالنسبة لهذه المشكلة. ويصف بيرنز ودييتس (١٩٩٢م) هذه الاستراتيجية بأنها «إعادة تجديد الحالة لزيادة احتمالية إنتاج منشودة»، وسوف نعرض المزيد عن هذا في الباب الثامن.

(١٠) الفوارق بين الانتخاب الجيني والانتخاب الثقافي

هناك أوجه تماثُل شكلية بين نماذج التطور الجيني والتطور الثقافي، ولكن حريٌّ ألا يضلل هذا أحدًا، ويستخلص نتائج على أساس التناظر بين نموذج وآخر. إن الفوارق بين العمليتين مهمة وأساسية للغاية؛ مما يجعلنا ننظر إلى نموذج الانتخاب الثقافي كنظرية مستقلة. إن العملية الثقافية أسرع وأكثر كفاءة بما لا يُقاس بالنسبة للعملية الجينية؛ وذلك لأسباب عديدة سأوردها هنا توخيًا للوضوح:

  • السمات المكتسبة يمكن توارثها (الوراثة اللاماركية).

  • غالبًا ما تكون الابتكارات الثقافية موجهةً نحو هدف وتنطوي على توقع مستقبلي؛ على خلاف الطفرات الجينية، فهي عمياء وعشوائية.

  • تحدث الابتكارات مرارًا كثيرةً عندما تكون مطلوبة، بينما الطفرات تحدث بوجه عام مستقلة عن الأوضاع الانتخابية.٣
  • الانتخاب الثقافي ليس بالضرورة مرتبطًا بميلاد أو وفاة الأفراد. ويمكن للمرء أن يختار من جديد أو أن يتحول عقيديًّا مراتٍ عدةً على مدى حياته.

  • الانتخاب الثقافي يمكن أن يكون عقلانيًّا وحَصيفًا.

  • يشتمل الانتخاب الثقافي على آليات مختلفة أكثر من العملية الجينية، ويمكن لهذه الآليات أن تعمل في توازٍ.

  • التكاثر أو الانتقال الثقافي لا ينتقل فقط من الآباء إلى الأبناء؛ إذ يمكن أن ينتقل من أي كائن بشري إلى أي فرد آخر. وإن تطور المجتمعات على خلاف تطور الأنواع؛ غالبًا ما تتلاقى نتيجةَ الانتشار.

  • العملية الثقافية ليس لها حامل واحد للمعلومات يتصف بالشمول وعدم قابلية الانقسام، شأن الجينة، بل ثمة كيانات عديدة متباينة كيفيًّا، والتي يمكن أن تخضع للانتخاب. ويمكن اختزان المعلومة الثقافية ليس في المخ فقط، بل وأيضًا خارج الجسم داخل مجموعة من الكتب … إلخ.

  • في الانتخاب الجيني تتنافس الأليلات البديلة على محل هندسي واحد، وإن مثل هذه المنافسة غير موجودة في الانتخاب الثقافي؛ لأن المعلومات غير مرتبطة بمحالَّ هندسية محددة، وغالبًا ما يكون الإرث الثقافي تراكميًّا، كما أن بالإمكان اختزانَ كمياتٍ كبيرة من المعلومات غير المستخدمة لتنشيطها بعد ذلك إذا ما تغيرت ظروف الانتخاب لصالح هذا التنشيط.

  • في التطور الجيني الاحتمال ضئيل جدًّا لنشوء وتطور سمات تستلزم تغير أكثر من جينة في آنٍ واحد، ولكن عوائق الاحتمالات المماثلة في التطور الثقافي يمكن التغلب عليها بفضل التخطيط الذكي؛ لذلك فإن تطور وظائف مركبة يكون أكثر احتمالًا بكثير في التطور الثقافي عنه في التطور الجيني.

  • حسَب ما تفيد نماذج رياضية معينة، يمكن لمنظومات ثقافية أن تكشف عن سلوكيات معقدة أكثر من المنظومات الجينية المماثلة؛ بما في ذلك التوازنات المتعددة والمنظومات التذبذبية oscillating systems وتعدُّد الأشكال المستقر stable polymorphism (فندلاي، لامسدين وهانسل، ١٩٨٩م).
  • تفيد بعض النماذج أن الانتخاب الجماعي الثقافي يمكن أن يكون أكثر فعاليةً من الانتخاب الجماعي الجيني (بويد وريتشرسون، ١٩٨٥م؛ فندلاي، ١٩٩٢م).

(١١) الانتخاب الثقافي عند الحيوانات

اعتاد العلماء الاجتماعيون النظر تقليديًّا إلى الثقافة باعتبارها شيئًا ينفرد به البشر، بيد أننا إذا عرَّفنا الثقافة بأنها نمط سلوكي مشترك بين أفراد جماعة ما، وينتقل من فرد إلى آخر عن طريق المحاكاة أو التعلم وليس عن طريق الوراثة الجينية، فإن الثقافة هنا دون ريب يمكن أن نجدها أيضًا عند الحيوانات. وهناك أمثلة عديدة موثقة لأنماط سلوكية لدى الحيوانات، والتي تنتقل عن طريق التعلم (بونار Bonner، ١٩٨٠م؛ جاردنر وآخرون، ١٩٩٤م؛ هاييس وجاليف Hayse & Galef، ١٩٩٦م).
وثمة مثال وثيق الصلة يورده الباحثون عادةً عندما يتجه الحديث إلى الانتقال الثقافي بين الحيوانات، ولن نمسك عن ذكره هنا: ففي عام ١٩٥٣م اكتشف الباحثون أن قردًا يابانيًّا من نوع الماكاك، والبالغ من العمر عامًا ونصف، واسمه إيمو، يستطيع غسل الرمل العالق على سطح ثمار البطاطا؛ وذلك بشطفها بالماء قبل أكلها، ولوحظ بعد أربع سنوات ونصف أن ١٨٪ من كبار القردة و٧٩٪ من شباب القردة تعلموا تقنية غسل البطاطا عن طريق تقليد إيمو، وفي عام ١٩٦١م اكتسبت جميع القردة المولودة بعد عام ١٩٥٠م هذه التقنية ما عدا قردًا واحدًا. ودرس ماساو كاواي Masao Kawai انتشار نمط سلوك غسل البطاطا، وأثبت بالوثائق وجود رابطة بين نمط السلوك والهيكل الاجتماعي. وفي عام ١٩٥٦م ابتكر إيمو ابتكارًا آخر؛ إذ وجد أن بإمكانه فصل حبوب القمح وفرزها بعيدًا عن الرمل؛ عن طريق غمسها في ماء بحيث تطفو حبوب القمح وتترسب حبات الرمل، وانتشر هذا الابتكار بالطريقة نفسها. (كاواي، ١٩٦٥م؛ واتانابي Watanabe، ١٩٩٤م)
والجدير بالذكر أن القدرة على التعلم من النوع ذاته ليست قاصرة على أقرب أقربائنا في المملكة الحيوانية، ونذكر مثالًا آخر عن الطيور: تعلمت طيور كبيرة الحجم كيف تفتح غطاء زجاجات اللبن والوصول إلى الكريمة، وظهرت هذه المهارة مصادفةً في أماكن قليلة في شمال أوروبا، ثم انتشر هذا السلوك بالمحاكاة، ولوحظ أن الانتقال عن طريق المحاكاة لم يكن قاصرًا على طيور من النوع ذاته؛ ذلك أن أنواعًا قريبة من هذه الطيور دأبت على محاكاة سلوك فتح الزجاجة كما تفعل طيور التيت Tits الكبيرة (فيشر وهند، ١٩٤٩م؛ ١٩٥١م).

كذلك أنماط شدو الطيور ونقيق الضفادع … إلخ؛ هي سلوكيات تتعلمها صغار الحيوانات من كبار النوع ذاته. وتؤدي هذه الطريقة في النقل إلى توفر لهجات محلية يمكنها أن تساعد الحيوانات على تحديد أقاربها في منطقة تكاثرها (موندنجر، ١٩٨٠م؛ سالتر ووليامز، ١٩٩٤م).

وكان بالإمكان بين حين وآخر توثيق أن تعديلًا طرأ على كل التنظيم الاجتماعي لفريق من الحيوانات كظاهرة تكيُّف مع الظروف الإيكولوجية المتغيرة. ولحَظ كوني أندرسون Connie Anderson (١٩٨٩م) أن جماعة من قردة البابون غيَّرت خلال سنوات قليلة تنظيمها الاجتماعي ونمط التزاوج، وحدث هذا نتيجة وجود حيوان مفترس. وسوف أعود إلى هذا المثال مرة أخرى في الباب السابع.

(١٢) قابلية نظرية الانتخاب الثقافي للتطبيق

كما ذكرنا في الباب الثاني فإن نظرية الانتخاب الثقافي معروفة منذ عام ١٨٦٧م، وظهر لي بعد دراستي للأبيات المتعلقة بهذا الموضوع، على مدى أكثر من مائة عام، أن أكثر المشكلات إثارةً بشأن نظرية الانتخاب الثقافي هي أن هذه النظرية، وحتى عهد قريب جدًّا، نادرًا ما طبقها الباحثون على دراسة ظواهر العالم الواقعي. ولاحظت أن الأمثلة المستخدمة لدعم النظرية تتعلق أساسًا بالانتخاب العقلاني؛ مثال ذلك أن محاصيلَ جديدةً تعطي غلة أفضل تحل بشكل متزايد ومطَّرد محلَّ محاصيل أخرى أقل فعالية. بيد أن هذه نتيجة مبتذلة للغاية؛ بحيث إن لا ضرورة لصوغ نظرية محكمة تفسرها، أو لنقل بعبارة أخرى: استخدمت نظرية الانتخاب الثقافي في الغالب الأعم لتفسير ما هو واضح مسبَّقًا.

وعندي أن قوة نظرية الانتخاب الثقافي تتجلى في أوْج عظمتها في مجال السلوك اللاعقلاني. إن كل المجتمعات زاخرة بأنشطة تبدو في ظاهرها لاعقلانية وغير منتجة؛ شأن الدين والشعائر والأساطير والحكايات والرقص والموسيقى والأعياد والفن والموضة واللعب والرياضة والهواية والجنس والروايات الخيالية. وتغيرت كل هذه الأنشطة تغيرًا كبيرًا على مدى التاريخ، ونادرًا ما نعرف السبب، وهذا في واقع الأمر أحد تحديات نظرية الانتخاب الثقافي.

ولكن القرارات العقلانية يمكن أن تكون لها هي أيضًا نتائجُ مهمة في سياق الانتخاب. إن القرارات الأنانية التي يتخذها أفراد أو جماعات ذوو نفوذ ربما تُفضي إلى نتائج غير مرغوب فيها من قِبَل جماعات أخرى أو من المجتمع ككل. ويقودنا هذا إلى صراع بحثي، وهذا مجال آخر يمكن أن تفيد فيه أيضًا نظرية الانتخاب. وإذا استطعنا أن نكشف عن العوامل المحددة لنتيجة الصراع، فربما نستطيع من حيث المبدأ أن نتنبأ بالحصيلة الشاملة على المستوى الكلي لألف من الصراعات على المستوى الجزئي.

وغالبًا ما كانت التفسيرات الوظيفية في النظرية الاجتماعية غير مقنعة؛ لافتقادها إلى نظرية تفصيلية عن النشأة والأسباب؛ مثال ذلك أن الدراسات التحليلية التقليدية عن الصراع الطبقي غالبًا ما زعمت أن هذه مؤسسة أو تلك قائمة؛ «لأنها تخدم مصالح الطبقة السائدة». بيد أن التحليل التقليدي يفشل غالبًا إذ يحاول الكشف عن المخطط وراء استراتيجية الطبقة السائدة، وقد يكشف الفحص الدقيق عن أن مثل هذه الاستراتيجية ربما تكون أكثر تشذيبًا وصقلًا من أي شيء كان بإمكان أبناء الطبقة السائدة أن يفكروا فيه ويتفقوا عليه، وربما يكون هذا هو الحال أيضًا حين نتحدث بوجه خاص عن الوسائل الدينية أو الأيديولوجية أو غيرهما من الوسائل الثقافية. وإن مثل هذه الاستراتيجيات عن السلطة ربما لا يمكن تفسيرها على أساس التخطيط العقلاني وحده، ولكن يتأتى تفسيرها فقط إذا ما وضعنا في الاعتبار النتيجة المتراكمة عن أحداث انتخاب متواترة.

وسوف أعمِد في الباب التالي إلى تقديم المزيد من تطوير نظرية الانتخاب الثقافي؛ رغبة مني في تحسين قدرتها التفسيرية، وسوف أطبق النظرية في بقية أبواب الكتاب على ظواهر ثقافية تاريخية ومعاصرة، وسوف أركز أساسًا على النتيجة التراكمية بعيدة المدى للكثير من أحداث الانتخاب الصغرى، وعلى صراعات القوى، وأيضًا على ظواهر لاعقلانية مثل الدين والفن.

وإنه لمن المستحيل — كما أوضحت سابقًا — صياغة نموذج رياضي كلي شامل يصف أية عملية انتخاب ثقافي. إن كلًّا من آلية الابتكار وآلية التكاثر وآلية الانتخاب ووحدة الانتخاب رهن ظاهرة نوعية موضوع دراسة. والملاحظ أن غالبية الظواهر الثقافية تخضع لعديد من آليات الانتخاب المختلفة التي تتفاعل جميعها مع بعضها البعض؛ ولهذا فإن نموذجًا رياضيًّا محكمًا للظاهرة الثقافية في الحياة الواقعية مثل الفن أو الدين سيكون معقدًا بدرجة مهولة، ويشتمل على كثير من المحددات المجهولة التي لا جدوى منها، ومن هنا اخترت أن أركز في دراستي للانتخاب الثقافي على النماذج الكيفية دون الكمية.

١  الشامان Shaman طبيب محلي أو عراف يدَّعي أن له اتصالًا بقوى خارقة للطبيعة ويشفي المرضى بأعمال السحر وتسخير الأرواح الخيرة أو الشريرة حسب الطلب (المترجم).
٢  الهزاز أو الشيكر Shaman، عضو في طائفة دينية نشأت أصلًا في إنجلترا عام ١٧٤٧م، وتعيش حياة جماعية وتلتزم العزوبية. والاسم الرسمي لهذه الطائفة «الجمعية المتحدة للمؤمنين بالمسيح الآتي ثانية»، وانتشرت في الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر بعد أن امتزجت ببعض الطقوس والشعائر لديانات محلية (المترجم).
٣  تكشف بعض أنواع البكتريا عن معدل طفرات متزايد في حالة الجوع. ولا تزال الآلية التي وراء هذه الظاهرة غير محسومة (هول، ١٩٩٠م؛ وسينجوفسكي ولينسكي Sinegovski & Lenski، ١٩٩٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤