الفصل الرابع
تطوير جديد للنموذج
(١) مفهوم الصلاحية
تحدد معنى الصلاحية بأنها قدرة حدث ما على البقاء والتكاثر في
الزمان والمكان، وهذه هي الوظيفة الرياضية المتخيلة التي تجاهد
عملية الانتخاب على إنجاز أقصى حد لها.
ويفضل بعض علماء البيولوجيا التطورية استخدام كلمة تكيفي
adaptive بدلًا من صالح
fit؛ رغبةً منهم في تحاشي المفاد
القيمي الذي تنطوي عليه الكلمة الثانية. ولكن كلمة تكيفي يمكن —
لسوء الحظ — أن تُحدث خلطًا بين مفهومَي التكيفية
adaptedness (حالة كون الكائن
متكيفًا) والقدرة على التكيف
adaptivity (قدرة الكائن على
التكيف مع التغيرات التي تطرأ على البيئة). لذلك سوف أستمر في
استخدام كلمة الصلاحية fitness،
ولكن مع التأكيد على عدم تضمينها أيَّ مفاد قيمي؛ ذلك أن أي سمة
تكون صالحة في ظروف معينة ليست بالضرورة سمةً مستصوبة وَفقًا
لمعايير أيديولوجية.
وغالبًا ما تكون صلاحية ناسخ ما (جينة أو ميمة) رهن عوامل عديدة
مختلفة، وبعض هذه العوامل مهمة لأنها مسئولة عن جانب كبير من
التباين في حالة الصلاحية، بينما بعضها الآخر أقل أهمية بسبب ضآلة
تأثيرها على الصلاحية، أو لأنها لا تتباين كثيرًا داخل حدود
المنظومة موضوع الدراسة، وقد يكون مفيدًا بالنسبة للمنظومات شديدة
التعقيد، بحيث يصعب تحليلها تفصيليًّا، أن نركز على تلك العوامل
التي لها أقوى أثر على الصلاحية. وتحدد أهم العوامل ما أسميه
معايير الانتخاب الرئيسية.
وإن مفهوم الصلاحية لا يكون واضحًا إلا من حيث علاقته بعملية
محددة للتكاثر والانتخاب، سواء أكانت عملية جينية أم ثقافية،
وأيضًا من حيث علاقته ببيئة بعينها.
ومن الأهمية بمكانٍ الاعترافُ بأن الصلاحية مفهوم نسبي رهن آلية
الانتخاب والظروف الخارجية، ويمكن لشروط مختلفة للانتخاب أن تدفع
بالعملية في اتجاهات مختلفة؛ ولذلك يكون ضروريًّا عمل دراسة فاحصة
لمعايير الانتخاب للتنبؤ باتجاه التغير التطوري. ولقد أدى الفضل في
الاعتراف بهذه الاعتمادية إلى القول بنظريات أحادية الخط عن التطور
الثقافي، وهي نظريات صادفت انتقادات كثيرة.
ورغبةً في توضيح نسبية مفهوم الصلاحية سأعطي مثالًا قياسيًّا
تقليديًّا إلى حد كبير: نعرف أن عادة تدخين التبغ انتشرت إلى كل
أنحاء الأرض تقريبًا؛ لأنها تعطي إحساسًا ذاتيًّا بالمتعة وبسبب ما
يلاقيه المدخن من صعوبة للإقلاع عنها عندما يعاني من نتائج سيئة
مترتبة عليها، ولكن التدخين يدمر الصحة الإنجابية بوسائل كثيرة من
شأنها أن تقلل من احتمال إنجاب أطفال أصحاء؛ لذلك يتعين علينا أن
نخلُص إلى نتيجة مؤدَّاها أن الانتخاب الثقافي يدعم التدخين؛ بينما
الانتخاب الجيني يناهضه. إن تدخين التبغ له صلاحية إيجابية من حيث
الانتخاب الثقافي، وصلاحية سلبية من حيث الانتخاب الجيني. وإذا
جزَّأنا عملية الانتخاب الثقافي إلى عمليات جزئية؛ كأن تكون
انتخابًا للمتعة، وانتخابًا عقلانيًّا، وانتخابًا اقتصاديًّا …
إلخ، سوف نجد أن عبارة الانتخاب الثقافي العامة تتألف من آليات
كثيرة مختلفة، وأن كلًّا منها يدفع في اتجاه خاص بها.
وإن دراسة الصراعات بين آليات الانتخاب الجيني المختلفة التي
تدفع في اتجاهات متباينة أدت إلى نتائج مهمة في نظرية البيولوجيا
الاجتماعية. ونحن في مسيس الحاجة إلى دراسة مماثلة في مجال
العمليات الثقافية، وإن هذه الدراسة هي على وجه الدقة والتحديد
الهدف الرئيسي من هذا الكتاب.
ومعيار الانتخاب غير آلية الانتخاب، ولكن تحدده آلية الانتخاب؛
وبخاصة الظروف الخارجية والقوى الانتخابية المؤثرة في المنظومة،
وسوف أوضح ما أعنيه بمعايير الانتخاب؛ وذلك بالإشارة إلى مثال
المنافسة الاقتصادية: نعرف أن المشروعات الصناعية يمكن أن تتنافس
من أجل إنتاج أرخص المنتجات ذات النوعية المحددة، ونجد أن إحدى
الآليات المحتملة في هذه العملية هي أن تلك المصانع التي تستخدم
أرخص مصادر الطاقة، وهي الطاقة البشرية وموارد أخرى، تتفوق على
المنتجين الأقلَّ فعاليةً وتدفعهم إلى الإفلاس والاندثار. وهناك
آلية أكثر كفاءة؛ وهي أن المديرين الأذكياء يلتمسون عن وعيٍ
المواردَ الأرخص وطرق الإنتاج الأرخص، وبذا يتجنبون الإفلاس.
وتعتبر الآلية الثانية أسرع من الأولى، ولكن الآليتين تدفعان
التطور في الاتجاه نفسه؛ لأن لهما معاييرَ انتخاب واحدة: الإنتاج
الرخيص. وإن معرفتنا بمعايير الانتخاب دون معرفة الآلية قد
تمكِّننا من التنبؤ باتجاه التطور دون سرعته.
وقبل أن أشرع في تقديم المزيد عن الآليات الثقافية، أجد ضرورةً
في أن أستطرد بالحديث عن نظرية الانتخاب الجيني لتوضيح آليات
الانتخاب المختلفة ومعايير الملاءمة المعروفة في ذلك المبحث
الدراسي.
(٢) نماذج الانتخاب الجيني
يوضح الجدول
٤-١ إطارًا تخطيطيًّا لنماذج الانتخاب الجيني ومعايير
الصلاح المقابلة لها.
جدول ٤-١: نماذج الانتخاب الجيني
العملية |
الآلية |
معيار الصلاح |
النتيجة |
(١) انتخاب فردي |
الفرد يعمل من أجل بقائه وتكاثره هو |
تكاثر وبقاء |
تكاثر فعال، أنانية |
(٢) انتخاب قرابي |
الفرد يساعد أقرباءه |
البقاء والتكاثر للفرد لأقرب الأقرباء في العشيرة |
مشاعر أسرية وانحياز أسري |
(٣) انتخاب جماعي |
الفرد يعمل لجماعته |
بقاء ونمو وانشطار الجماعة |
الولاء للجماعة، الغيرية، التعاون حين يكون مفيدًا
للطرفين، العرفان بالجميل
|
(٤) الانتخاب التبادلي |
الأصدقاء يسهمون تبادليًّا لنفعة بعضهم بعضًا |
بقاء كل من الطرفين |
الكشف عن سمات الجاذبية |
(٥) انتخاب تزاوجي |
يختار الفرد القرينة الأكثر جاذبيةً له |
القدرة على اختيار أفضل قرينة أو أن يكون هو موضوع
اختيار
|
الكشف عن سمات الجاذبية |
تفسير الآليات المختلفة
-
(١)
الانتخاب الفردي:
هذا هو أبسط نماذج الانتخاب والفكرة الأساسية
للداروينية. ويمكن تفسيره على أساس صراع كل فرد من أجل
حياته وتكاثره هو، دون اعتبار لأثر استراتيجيته على
غيره.
-
(٢)
الانتخاب القرابي:
يفيد هذا النموذج بأن الجينة التي تجعل حاملها يساعد
أقرب أقربائه على البقاء؛ سوف تكون لها الغلبة نظرًا
لزيادة احتمال أن يحمل الأقارب الجينة نفسها. ولا فارق
هنا — من وجهة نظر الجينة الأنانية — فيما إذا كان
حاملها هو الذي يبقى أم شخص آخر يحمل جينة مطابقة.
وكلما ابتعدت علاقة القرابة، قلَّ احتمال أن يحمل هذا
القريب الجينة ذاتها، وبناءً على هذا تكون مساعدة
الأقربين أفيد من الأباعد؛ تأسيسًا على دعم جينات
المرء. وأفاد نموذج الانتخاب القرابي كثيرًا في تفسير
السلوك الاجتماعي للنمل والنحل، كما أفاد أيضًا
بالنسبة للحيوانات الأخرى بما في ذلك الإنسان. واستخدم
هذا النموذج تفسير العواطف والانحيازات الأسرية. وإن
نزوع الجينة إلى الانتشار عن طريق تكاثر حاملها
وأقاربه يسمى «الصلاح الضميني»
inclusive fitness
(إي. أو. ويلسون، ١٩٧٥م).
-
(٣)
الانتخاب الجماعي:
يمكن توسيع حجة الانتخاب القرابي لتشمل الجماعات
داخلية التزاوج الأكبر حجمًا، حيث تزداد احتمالات حمل
جميع أبناء الجماعة للجينة نفسها. ولنتخيل أنواعًا
حيوانية تعيش جماعات، والهجرة عند أدنى مستوياتها بين
الجماعات وبعضها. وإذا كان بقاء الجماعة ككل وقدرتها
على تفريخ جماعات جديدة رهن إرادة أبناء الجماعة في
التعاون والمساعدة فيما بينهم، فإن هذه السمات
السلوكية سوف يدعمها الانتخاب الجماعي. وإذا كان
الانتخاب الجماعي قويًّا بما فيه الكفاية، فإنه سيفضي
إلى سلوكيات تقلل الصلاحية الفردية ولكنها تَزيد من
صلاحية الجماعة، وتسمى هذه الظاهرة الغيرية. ونذكر
مثالًا متطرفًا للغيرية؛ وهو إرادة الفرد في التضحية
بحياته دفاعًا عن جماعته (إي. أو. ويلسون، ١٩٧٥م؛ واين
إدواردز Winne
Edwards، ١٩٨٦م).
وتتضمن نظرية الانتخاب الجماعي عديدًا من النماذج
الفردية، ولكن الأمر رهن الكيفية التي تقضي بها
الجماعات والكيفية التي تتشكل بها جماعات جديدة
(بورمان وليفيت Boorman &
Levitt، ١٩٨٧م). ويدور جدال ممتد بين
علماء البيولوجيا الاجتماعية حول كيفية المقارنة بين
الانتخاب الجماعي الضعيف والانتخاب الفردي والقرابي
القوي (دي إس ويلسون، ١٩٨٣م؛ بي جي وليامز، ١٩٨١م؛ جي
سي وليامز، ١٩٦٦م؛ ١٩٨٥م).
-
(٤)
الانتخاب التبادلي: إذا كان
شخصان (أو أكثر) يساعدان بعضهما بعضًا تبادليًّا على
النحو الذي يكون فيه التعاون لمصلحة الطرفين، فإن أي
جينة ناتجة عن مثل هذا التعاون يمكنها أن تنتشر في ظل
ملابسات بعينها (إي. أو. ويلسون،
١٩٧٥م؛ بورمان
وليفيت، ١٩٨٠م). مثال ذلك أن الكلاب البرية تستفيد من
الصيد التعاوني أكثر مما تستفيد من الصيد المنفرد؛
شريطة الاتفاق فيما بينها على اقتسام الفريسة فيما
بعد. كذلك فإن الأفراد المتعاونين يزيدون بالتبادل
احتمالَ بقاء كل منهم؛ ومن ثم يمكن الحديث عن صلاحية
متبادلة، ولكن هناك حالة من التعقد إزاء هذه الآلية،
وتتمثل في المخادعين الذين يستغلون ويُثرون على حساب
المساعدة التي يتلقونها؛ وذلك بعدم تقديم منافع
مقابلة. ويمكن لهذا أن يؤدي إلى تطور آليات معقدة
للخداع، وتسجيل الخداع، وحساب متى يثمر الخداع ومتى
يكون التعاون هو الأفضل، مع محاولات للتنبؤ
باستراتيجية الآخرين … وغير ذلك. وأدت الدراسات
التحليلية النظرية لهذه التعقيدات إلى ظهور أُطُر
جديدة لفهم النفس البشرية (ترايفرز
Trivers، ١٩٧١م؛ نيس
ولويد Nesse &
Lioyd، ١٩٩٢م).
-
(٥)
الانتخاب التزاوجي
Sexual Selection
: سبق
لنا أن ذكرنا هذه الآلية، وتتعلق باختيار أفضل قرين.
وطبيعي أن الطرف الذي يختار يمكن أن ينشأ ويتطور لديه
شعور بأفضلية أقران تبدو في ظاهرها أنها تشتمل على
جينات جيدة، كما وأن الطرف الذي يقع عليه الاختيار
يمكن أن تنشأ وتتطور لديه سمات تحسِّن من جاذبيته في
عيون الطرف الآخر. وإن هذه السمات ليست دائمًا وثيقة
الصلة ببقاء وتكاثر الزوجين؛ مثال ذلك أن ذكور الطيور
في أنواع كثيرة نشأت وتطورت لديها مجموعات من الريش
رائعة الألوان، وكذا أصوات تغريد مؤثرة؛ نظرًا لأن هذه
السمات تستهوي إناث الطيور. ونجد من ناحية أخرى أنه
نشأت وتطورت لدى الإناث أفضليات تكشف عن نواحي الجمال،
لا لأنها تُسهم في تكاثرها، بل لأن هذه الميزات
المفضلة تزيد من فرص وراثة ذريتها من الذكور هذه
المظاهرَ الجمالية التي تمكِّنها من جذب الإناث (إي.
أو. ويلسون، ١٩٧٥م).
ها أنا ذا فرغت من تفسير أهم نماذج الانتخاب الجيني حتى أبين
أن آليات الانتخاب المختلفة ومعايير الصلاح المغايرة يمكن أن
تقود التطور في اتجاهات مختلفة.
(٣) الانتخاب الجيني R
وK
سننظر الآن إلى تصنيف مغاير للعمليات التطورية: التمييز بين ما
يسمى الانتخاب R−، والانتخاب
K− (إي. أو. ويلسون،
١٩٧٥م).
إذا كان نوع ما يعيش في ظروف وافرة الموارد؛ مما يهيئ له فرصًا
جيدة للتوسع، ولكن مع وجود أخطار مهمة محدِقة به مثل وحوش ضارية،
فإن من المفيد لهذا النوع أن يستغل القسط الأكبر من موارده على
التناسل بأسرع ما يمكن، وهذا هو ما يسمى الانتخاب
R، وحرف
R هو رمز رياضي دالٌّ على معدل
التكاثر. وإن من شأن الانتخاب R−
أن يجعل تطور الكائنات الصغيرة ينمو سريعًا، ويكون تناسلها سريعًا
أيضًا؛ مثال ذلك الفئران والحشرات.
ونقيض الانتخاب R− هو الانتخاب
K−، وهذا هو ما يحدث عندما يعيش
نوع ما في بيئة مزدحمة حيث تحُدُّ الموارد المتاحة، وليست الوحوش
الضارية، من عدد أفراد النوع. وإن حرف
K هو رمز رياضي للعبارة سعة الحمل
Carrying Capacity؛ بمعنى أقصى عدد
من الأفراد الذين يمكن للموارد في موئل بذاته أن تعولهم. ويفضي
الانتخاب K إلى تطور حيوانات ضخمة
تتناسل ببطء وتستخدم الموارد المتاحة الاستخدام الأمثل، وتستثمر
نسبة كبيرة من مواردها في رعاية نسلها القليل. ونجد الانتخاب
K− عند الحيوانات التي تحتل
المرتبة الأخيرة في سلسلة الغذاء مثل الحيتان والأفيال
والبشر.
واستخدم المقياس R
وK على نطاق واسع لتصنيف
استراتيجيات التكاثر؛ ذلك أن الاستراتيجيات
R− هي استراتيجية حيوان سريع
التناسل، ويلد عددًا من الذرية الصغيرة، ولكنه لا يعبأ بهذه
الذرية. وتشتمل الاستراتيجية K−
على الاستيلاد المتأخر
late-breeding، ولادة عدد قليل
ورعاية مجهدة للذرية. وتفيد الاستراتيجية
R− حين يكون الافتراس، أو غير ذلك
من أسباب الاضطراب، عاملًا يحد من عدد العشيرة إلى ما دون سعة
الحمل للبيئة. وتكون الاستراتيجية
K− هي الأمثل حين تكون البيئة
مكتظةً، وحجم السكان تقيِّده نُدرة الغذاء أو أي موارد
أخرى.
وصادفت نظرية R/K انتقادًا؛ لأن
الأساس النظري الذي تنبني عليه مفرط في التبسيط، هذا علاوة على أن
القدر الأكبر من التباين الحادث في المحددات التي من المفترض أنها
مرتبطة بالمقياس R/K هي تباينات
بين ذريات من نسل واحد، وليست بين أنواع من النسل نفسه، أو تباين
داخل النوع ذاته (ستيرن Stearns،
١٩٩٢م).
وتفتقر النظرية أحيانًا إلى تفسير نظري مقنع للرابطة بين سمات
متباينة، ويبدو هذا واضحًا بوجه خاص في حالة الانتخاب
K− (بويس
Boyce، ١٩٨٤م).
وأيًّا كان الأمر فإن من انتقدوا النظرية يسلِّمون بأن لها
ميزاتها:
«كثيرون وجدوا فيها إطارًا مفيدًا لتفسير ملاحظاتهم؛ مما
يعني أنها تنطوي بالضرورة على عنصر صدق، والمشكلة هي تحديد هذا
العنصر.»
(ستيرن، ١٩٩٢م)
ولكن على الرغم من المشكلات النظرية، تظل هناك رابطة ذات دلالة
بين السمات المهمة، حتى بعد تصويب العوامل التي كان بالإمكان
اعتبارها عواملَ مثيرة للاضطراب (ستيرن، ١٩٩٢م). وجرت محاولات
عديدة لتحسين النموذج بهدف التوفيق بين النظرية والمشاهدات (بويس،
١٩٨٤م؛ تايلور وآخرون، ١٩٩٠م؛ كوزلوفسكي وجانكزور
Koslowski &
Janczur، ١٩٩٤م).
وسوف أدفع بأن القدرة
التفسيرية لنظرية K/R يمكن فهمها
على نحو أيسرَ حين نعيد تفسير النظرية في ضوء معايير الانتخاب؛ أي
حينما يكون حجم السكان صغيرًا بسبب عمليات الافتراس أو غيرها من
أعمال عدائية، ولكن موارد الغذاء وغيرها وافرة، فإن المعيار
الرئيسي للانتخاب سيكون كما هو واضح كم عدد الذرية. وسوف تكون
الاستراتيجية الأمثل للتكاثر هي التناسل بأسرع ما يمكن، وإنتاجُ
أكبر عدد من الصغار بدلًا من إنفاق الموارد على التنشئة والتربية.
ونجد في الحالة المقابلة حيث حجم السكان تقيِّده سَعة الحمل للبيئة
فقط ظهور منافسة شرسة على الغذاء، ويصبح متوقعًا أن تطوِّر
الحيوانات لنفسها قدرات تنافسية. وغالبًا ما يكون حجم الجسم عاملًا
حاسمًا في المنافسة مع أبناء النوع ذاته؛ ومن ثم ستكون
الاستراتيجية الأمثل بذل أكبر قدر من الموارد على التربية والتنشئة
وأقل قدر على التناسل، وستكون الصغار بالضرورة أقل حجمًا من
الكبار، ولهذا يفقِد الصغار ميزة المنافسة على الطعام ما لم
يساعدهم الآباء، وها هنا تنشأ وتتطور الرعاية الأبوية، ومن هنا
أيضًا يكون إنجاب عدد قليل من الصغار ذوي الحجم الكبير بدلًا من
عدد كبير من ذوي الحجم الضئيل. وربما تبدو العملية وكأنها تدعم
نفسها تلقائيًّا؛ نظرًا لأن الحيوانات الكبيرة أقل تعرضًا
للافتراس، ومن الأرجح أيضًا لهذا السبب ألَّا تقيدها عمليات
الافتراس، بل يقيدها مدى توفر الغذاء وغير ذلك من موارد.
وإنني إذ أعدت تأويل نظرية R/K
في ضوء معايير الانتخاب إنما جعلتها أكثر قَبولًا حدسيًّا؛ ذلك أن
ما كان يبدو أحيانًا فهمًا قاصرًا لآليات الانتخاب
K/R أصبح أقل إشكالية بعد أن حددت
معايير الانتخاب اتجاه التطور بغض النظر عن الآليات.
وهكذا أصبحنا نرى القسط الأكبر من التباين داخل هذه السمات هو
تباين بين ذريات من نسل واحد، وليس بين أنواع، وهو ما يعترض عليه
ستيرن (١٩٩٢م). ويمكن تفسير هذا الواقع بأنه ناجم عن عوائق جينية
كما سبق أن حددنا في الباب الثالث. إن التباين الجيني داخل نوع أو
داخل نسل واحد قد لا يكون كافيًا للتكيف مع تغير جذري في ظروف
K/R؛ وذلك بسبب العوائق الجينية،
وفي مثل هذه الحالة يكون الأرجح أن يستعمر هذه البيئة الملائمة
نسلٌ مغاير له سمات أقربُ إلى الوضع الأمثل اللازم لهذه البيئة
الجديدة.
(٤) نماذج الانتخاب الثقافي
عدد النماذج المحتملة في نظرية الانتخاب الثقافي أكبر بكثير مما
هو الحال في العمليات الجينية؛ وسبب ذلك أن كلًّا من ابتكار وتكاثر
وانتخاب الظواهر الثقافية يمكن أن يتضمن الكثير من الآليات
المختلفة، ويمكن لجميع هذه الآليات أن تتفاعل مع بعضها بعضًا
بوسائل معقَّدة كثيرة للغاية؛ مما يجعل من الصعوبة بمكانٍ إجراءُ
حساب وتصنيف دقيق للعمليات الثقافية المحتملة، ويصبح من المشكوك
فيه أكثرَ معرفةُ ما إذا كان من المفيد تطبيق مثل هذا النهج في
مجال البحث الاجتماعي أم لا.
وبدلًا من وضع تصنيف للعمليات الثقافية على أساس آليات الانتخاب،
آثرت أن أبني تصنيفي على أساس القوى الاجتماعية التي تنهض
بالانتخاب وما يقابل ذلك من معايير للانتخاب. ويناظر هذا المبدأ
التمييز سالف الذكر بين انتخاب R−
وانتخاب K− في التطور الجيني. ولم
ألجأ إلى هذا الطريق المختصر رغبةً مني فقط في أن أتجنب المشكلات
الرياضية المستعصية، بل ولأنني كذلك أعتبر اتجاه التطور أهم عندي
من سرعته، هذا فضلًا عن أن اتجاه التطور إنما تحدده في الحقيقة
معاييرُ الانتخاب.
وغنيٌّ عن البيان أن نظرية الانتخاب الثقافي لا تزال في المهد،
وأن ما نحن بحاجة إليه في هذه المرحلة هو توفر نماذج عامة يمكن أن
تهيئ لنا نظرة واسعة الأفق. وطبعي أن النهج الاختزالي في تحليل
التفاصيل لآلية بذاتها من آليات الانتخاب الثقافي الكثيرة لن
يقودنا إلى فهم عام لمجتمع معقد. وحدث في السابق أن أفادت النظرية
التطورية البيولوجية فائدةً جمةً من نظرية
K/R، ولكنها بلغت اليوم مرحلة تبدو
فيها نظرية R/K تبسيطية للغاية،
ولم تبلغ نظرية الانتخاب الثقافي هذه المرحلة بعد؛ ومن ثم فإن توفر
نموذج تبسيطي مطلب له ما يبرره.
وسوف توضح الأبواب التالية أن هذا النهج أضحت له قدرة تفسيرية
تفوق بمراحل قدرةَ نماذج الانتخاب السابقة. وطبعي أن يكون بإمكان
مبادئ تصنيف أخرى مغايرة تقديم تطبيقات قيِّمة.
(٥) الانتخاب الثقافي R−
وK−
أود أن أؤكد أن ليس بالإمكان استخدام التناظر بين الانتخاب
الجيني والثقافي للبرهنة على أي شيء خاص بأيٍّ من الآليتين؛ ذلك أن
الفوارق بين الآليتين ضخمة جدًّا كما سبق أن أوضحنا، ولكن هذا
التناظر يمكن أن يفيد كمصدر إلهام دون اعتباره أيَّ شيء آخر في
الأبواب التالية عندما أقدم ما سوف أسميه الانتخاب الثقافي
R−
وK− (فوج، ١٩٩٧م).
حدث الانتخاب الثقافي R− عندما
تتوفر لجماعة ما فرص موضوعية للتوسع سياسيًّا وثقافيًّا؛ بمعنى
هزيمة جماعات أخرى وفرض أيديولوجية أو ثقافة الجماعة المنتصرة
عليهم، ولكنها في الوقت نفسه تواجه مخاطرة كبرى تتمثل في سقوطها
ضحيةَ توسُّع جماعات أخرى. أو لنقل بعبارة أخرى: إن الجماعة خاضعة
لهيمنة نزاعات وحروب خارجية، وأعني بالجماعة مجموعةً متكاملة
ومترابطة من الناس يربط بينهم شعور بأن ثمة هويةً جمعية مشتركة
بينهم؛ كأن تكون قبيلة أو دولة أمة أو طائفة دينية. وتتحدد عضوية
الجماعة عادةً على أساس انتماء ديني أو سياسي أو عرقي، وغالبًا ما
يرمز إليها بعلامات مميزة ذات طابع معين (هوج وأبرامز،
١٩٨٨م).
ويفضي الانتخاب الثقافي R− إلى
تخصيص نسبة عالية من موارد الجماعة لصد الحروب أو النزاعات
الخارجية أو غيرها من أخطار جمعية. وطبعي أن الجماعة التي تملك
القوة العسكرية الأقوى والاستراتيجية الأكفأ سوف تنتصر في عملية
الانتخاب الثقافي للجماعة. أو بعبارة أخرى: إن الانتخاب الثقافي
R− يفضي إلى التسلح، وإن هذا
التسلح ليس من النوع التقني فقط، بل إن الجماعة الأكبر منه ذو
طبيعة أيديولوجية وسياسية؛ إذ تتعزز روح قوية للمجتمع المحلي في
ارتباط بأيديولوجيا تفيد بأن الفرد موجود لصالح الجماعة؛ ومن ثم
على الفرد أن يضحي بنفسه من أجل المجتمع. وتسود هنا نظرة تقول إن
النظام والالتزام والتماثل فضائل، وإن الشهادة هي الشرف الأسمى،
ويسود الاعتقاد بأن الحكومة المركزية القوية علامة على الثروة. وإن
هذا النوع من الأيديولوجيات وما يناظره من تنظيم سياسي يجعل القوى
الأشد منعة وتسليحًا في نزاع سياسي وأيديولوجي مع جماعات الجوار؛
ومن ثم تكون هي الأكثر ملاءمةً ثقافيًّا في وضعٍ تهيمن عليه عملية
الانتخاب الثقافي R−.
ونقيض الانتخاب الثقافي R− هو
الانتخاب الثقافي K− الذي يحدث
عندما تنتفي فرص التوسع الثقافي لجماعة ما، ولا يتهددها عدوان من
جانب جماعات أخرى. وتتمثل هذه الحالة تمامًا عندما تكون جماعة ما
معزولة جغرافيًّا؛ كأن تكون على سبيل المثال داخل جزيرة منعزلة أو
عندما تكون الفوارق الثقافية بين جماعة ما وجيرانها ضئيلة
بالمقارنة بالفوارق الداخلية للجماعة نفسها؛ إذ تكون النزاعات
الخارجية هنا ضئيلة أو لا وجود لها؛ بينما النزاعات الوحيدة ذات
الدلالة والأهمية في عمليات الانتخاب هي النزاعات الدائرة داخل
الجماعة بين القادة والرعايا أو بين الثقافات الفرعية أو بين
الأفراد.
ومن ثم، فإنه في حالة عدم وجود نزاعات خارجية يكون تشكيل قوة
عسكرية ذات بأس تبديدًا للموارد. ولن يقبل السكان نظام حكم
استبدادي يفرض الوحدة والنظام، وإنما سوف يتمردون ضد الزعماء
الأقوياء، وسوف تكون الحروب من أجل حرية كل فرد هي النزاعات
السائدة. وهذا من شأنه أن يفضي إلى أيديولوجيا تقضي بأن المجتمع
قائم لخدمة مصالح الفرد وليس العكس، وسوف يحظى الفرد بقدر أكبر من
حرية الاختيار، كما سيتوفر قدر أكبر من التسامح إزاء الاختلافات
الفردية، وهنا يعتبر الزعماء حياةَ ورفاهةَ أيِّ فرد أمرًا
مهمًّا.
ويمكن تصور معيار الانتخاب في عملية الانتخاب الثقافي
R− بأنه معيار إمبريالي أو تسلطي
imperialistic. إنه قدرة ثقافة ما
على الانتشار وصولًا إلى شعوب جديدة، والتصدي لنفوذ وافد من ثقافات
أخرى. ونجد من ناحية أخرى أن معيار الانتخاب لعملية الانتخاب
الثقافي K− هو رضا وقناعةُ جميع
الأفراد؛ ومن ثم تقليل النزاعات إلى أدنى حد لها بين الزعماء
والرعايا؛ ذلك لأنه يكفي إشباع حاجات ورغبات جميع الأفراد قدر
الاستطاعة؛ لكي تتجنب الثقافة حدوث هبات ثورية. ويتحدد الانتخاب
R− على أساس تكاثر الثقافة في
المكان؛ بينما يتحدد الانتخاب K−
على أساس التكاثر في الزمان.
وحتى نتجنب الاستخدام الاصطلاحي غير العملي لكل من
R−
و
K− والابتعاد عن التناظر المتهافت
مع الخصائص الوراثية، سوف أقدم هنا كلمتَي ريجال
Regal وكاليبتي
Kalypti؛
١ لاستعمالهما بدلًا من الرمزين
R
و
K عند الحديث عن الانتخاب
الثقافي. وسوف أسمي نتيجة الانتخاب الثقافي
R− الثقافية الريجالية
Regal Culture ونتيجة الانتخاب
الثقافي
K− الثقافية الكاليبتية
Kalyptic Culture. ومصدر كلمة
ريجال هو كلمة
rex، والتي تعني
الملك واخترت هذه الكلمة لأن بالإمكان اعتبار الدكتاتورية نموذجًا
للثقافة الريجالية. وصككت كلمة كاليبتي
Kalyptic من الكلمة كاليبسو
Kalypso، وهي اسم إحدى الحوريات في
الأساطير الإغريقية، والتي أسرت أدويسيوس
Odysseus فوق جزيرة مهجورة. واخترت
هذه الكلمة لأن أصدق الأنماط للانتخاب الثقافي
K− نجدها فوق الجزر المعزولة.
ويمكن للقارئ أن يلاحظ أن الحرف
K
في الانتخاب الجيني
K− حرف كبير؛
لأن الرمز الرياضي الذي يوحي به كبير أيضًا؛ بينما عبارة الانتخاب
الثقافي
K− نكتبها مقترنةً بحرف
k صغير؛ لأنها تعني كاليبي.
ويمكن تحديد معالم مفهوم ريجالي على أساس التعريفات
التالية:
-
(١)
الانتخاب الريجالي هو عملية انتخاب ثقافي تهيمن عليه
نزاعات فيما بين الجماعات أو أخطار جمعية أخرى.
-
(٢)
الثقافة الريجالية Regal
culture هي حصاد مثل هذا الانتخاب أو
…
-
(٣)
ثقافة تنفق نسبة عالية من مواردها على التوسع أو الدفاع
أو …
-
(٤)
ثقافة تقيد حرية الفرد من أبنائها وتفرض متطلبات كبيرة
على موارد الفرد لغرض تقوية الجماعة.
-
(٥)
المنتج الثقافي الريجالي هو ظاهرة ثقافية تمثل جزءًا من
استراتيجية ثقافة ريجالية أو أنها بمعنًى آخر منتج نمطي
لثقافة ريجالية.
وطبيعي أن يتحدد المصطلح كاليبي
Kalyptic بأنه النقيض؛ بمعنى أنه
ثقافة لا تحكمها النزاعات الخارجية، والتي تنفق على إشباع الفرد
موارد أكثر مما تنفق على وسائل تقوية الجماعة؛ ومن ثم تولي حرية
الفرد أهمية. ولعل من الأفضل استخدام الكلمتين على أساس من التدرج
النسبي، وليس باعتبار أنهما يمثلان نمطين مطلقين. ويبدو مفهومًا
أكثر أن تقول إن الثقافة س أكثر ريجالية من الثقافة ج؛ بدلًا من
الاكتفاء بقولنا إن الثقافة س ثقافة ريجالية.
وطبيعي أن التوافق بين التحديات الخمسة سالفة الذكر يتأكد إذا ما
ثبت صواب نظريتي. وتوخيًا للبساطة آثرت تطبيق المصطلح نفسه على
عملية تطورية وكذلك على نتيجتها، مثلما طبقتها على ثقافات كاملة
ومجملة، وكذلك على ثقافات جزئية ومنتجات ثقافية. وإن هذا النقص
المتعمد في التحديد الدقيق سببه أن النظرية الراهنة لا تزال في
المرحلة الأولى من تطورها؛ ولهذا أعترف هنا بأن أي تعريف صارم
متشدد قد يؤدي إلى تقييد البحث وحصره في إطار مفرد، ومن ثم يعيق
تحقيق المزيد من استحداث مفاهيم جديدة، وسوف يتضح المعنى من خلال
السياق والأمثلة المطروحة.
(٦) آليات الانتخاب الثقافي R−
وK−
كما أوضحنا سابقًا يمكن تعريف الانتخاب الثقافي
R−
وK− بأنهما القوة المحركة الدافعة
للتطور في هذا الاتجاه أو ذاك، وأن أهم قوة دافعة وراء عملية إضفاء
الصبغة الريجالية هي النزاعات بين الجماعات، بينما القوة الدافعة
وراء إضفاء الصبغة الكاليبية هي النزاعات داخل الجماعة، أو لكي
نكون أكثر تحديدًا: بين القادة والتابعين، بيد أن القوة الدافعة
ليست هي الآلية؛ لذلك سأوضح بعض الآليات المحتملة وراء عمليتي
الانتخاب الثقافي R−
وK−.
الحرب هي العامل الأساسي في إضفاء الصبغة الريجالية أو التحكمية؛
ذلك لأن المجتمع الذي يحكمه نظام صارم وإدارة فعالة في السيطرة على
الناس؛ سوف تتوفر له فرص للفوز في الحرب أكثر من مجتمع آخر يسوده
قدر أكبر من اللين والتساهل. وأن الأرجح هنا أن يفرض المنتصرون
قسرًا تلك المبادئ السياسية والأيديولوجية والدينية على الشعب
المهزوم. وهذا من شأنه أن يجعل الحكومة القوية أمرًا ممكنًا؛ ومن
ثم تشيع وتنتشر تلك السمات. ويمكن البرهنة على هذا إحصائيًّا
كمعامل ترابط بين المركزية السياسية والفعالية العسكرية (أوتربين
Otterbein، ١٩٧٠م).
ولكن من المهم أيضًا أن نفهم أن إضفاء الصبغة الريجالية أمر ممكن
بدون حرب؛ ذلك أن التهديد بالحرب كافٍ وحده؛ إذ سيدرك الناس سريعًا
أن التسلح ماديًّا ومعنويًّا ضروري للتصدي لخطر الحرب، ولن تواجه
الجمهورية أية مشكلات لفهم أن التضحيات ضرورية للدفاع عن الأمن
القومي. وأوضح مثال على هذه الاستجابة الحربُ الباردة وسباق التسلح
بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في السابق. ولنا أن نتحدث
هنا عن الانتخاب البديل vicarious
selection. إن رد الفعل العقلاني إزاء خطر الحرب
يقلل من مخاطرة التعرض للهجوم كما يقلل من مخاطرة خسارة الحرب إذا
اندلعت. وإن النتيجة الثقافية واحدة، كأنهم ينتظرون في وضع سلبي
اندلاع الحرب: إضفاء الصبغة الريجالية. ويمضي الانتخاب البديل في
الاتجاه نفسه؛ شأن الانتخاب المباشر، وإن كان أسرع وأكثر فعاليةً
مع كلفة أقل؛ لذلك يعتبر الانتخاب البديل عاملًا شديد الأهمية في
الانتخاب الثقافي.
والعملية النقيض هي الكلبتة
Kalyptization أو إضفاء الطابع
الكاليبي، ونجدها بين من يعيشون في ظروف سلمية؛ إذ في حالة انعدام
النزاعات الخارجية، تصبح النزاعات الداخلية هي العوامل السائدة
المحددة لاتجاه التطور الثقافي؛ ذلك أنه في حالة التنافس بين
نظامين سياسيين بديلين سوف يفضِّل الناس الأكثر راحة لهم؛ أي ذلك
النظام الذي يفرض على الناس أقل المطالب، ويهيئ للفرد أعلى قدر من
الحرية والاستقلال الذاتي، ولنا أن نسمي هذا الانتخاب المتعي
(مارتيندال Martindale، ١٩٨٦م). إن
الناس لا يقبلون دكتاتورية استبدادية طاغية، وسوف يتمردون ضد
عمليات التركيز المفرطة للسلطة. ونلاحظ أنه في حالة غياب أي
احتمالات أخرى يمكن للناس أن يقترعوا بأقدامهم؛ أعني أن بإمكانهم
ببساطةٍ الفرارَ من المجتمع الريجالي إلى مجتمع أكثر كاليبية.
وطبعي أن مثل هذا الخروج يكون أكثر فعالية حين يكون موجهًا ضد
قبيلة صغيرة، ولكن الدول — الأمم الأكبر حجمًا — يمكن أن تتأثر
وتسير في اتجاه كاليبي حين تواجه خطر الهجرة الجماعية، ويمكن من
ناحية أخرى أن يضفي المهاجرون صبغة ريجالية على المجتمع الذي
غزَوه.
آلية انتخاب أخرى يمكن أن تدفع في اتجاه كاليبي؛ وهي المنافسة
الاقتصادية والتقانية. إن المجتمع الكاليبي عادةً أكثرُ تسامحًا
إزاء المبادرات الاقتصادية الفردية بالقياس إلى المجتمع الريجالي.
ويهيئ هذا النوع من الليبرالية أرضًا خصبة أكثر لرعاية النمو
الاقتصادي ولزيادة الثروة المادية، كذلك فإن استراتيجية
K− تتضمن أيضًا قدرًا أكبر من
الاستثمار في التعليم، ويتجلى مقابل هذا الاستثمار فيما يتحقق من
تقدم علمي وتقاني. وتحقق هذه الاستثمارات في المشروعات وفي التعليم
نتيجةً تتمثل في أن المجتمع الكاليبي على المدى الطويل سيكون له
الفوز في المنافسة الاقتصادية، ويتغلب على المجتمع الريجالي. وجدير
بالذكر أن الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة كان أكثر ريجالية
من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هذه الأخيرة فازت لأن النمو
الاقتصادي والتقدم التقاني هيَّآ للولايات المتحدة تقانة عسكرية
أكثر تفوقًا. ولا ريب في أن الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف
أدرك القصور الاقتصادي للمجتمع السوفييتي الصارم والمتحجر؛ وذلك
حين طرح سياسته عن الانفتاح والإصلاح، وكان نتيجة هذا الانتخاب أن
الثقافة الأمريكية والأوروبية باتت تغرق الآن الاتحاد السوفييتي
السابق؛ بينما لا يتجه إلى الناحية الأخرى سوى النزر اليسير جدًّا
من الثقافة.
بيد أن هذه الاعتبارات لا تعني أن المنافسة الاقتصادية تفضي
دائمًا إلى الكلبتة؛ إن السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية
مترابطتان بقوة، وحيث تفيد المنافسة الاقتصادية العمليات الضخمة
فإن تركُّز السلطة الاقتصادية سوف يعني أيضًا تركزًا في السلطة
السياسية. وإن القسط الأكبر من سلطة الأمر الواقع سوف يقع في أيدي
رجال الأعمال وليس في أيدي القادة المنتخبين ديمقراطيًّا.
ويمكن كذلك تعريف الفارق بين الثقافة الريجالية والثقافة
الكاليبتية بأنه فارق في استراتيجية التكاثر للثقافتين؛ فالثقافة
الريجالية هي ثقافة تستخدم طاقة وموارد الأفراد من أبنائها لصالح
تكاثر الثقافة ذاتها. وأوضح مثال على ذلك العقيدةُ الدينية التي
تفرض على أنصارها دعوة الناس للإيمان بها، ويكون العمل التبشيري
هنا لصالح انتشار العقيدة الدينية وليس لصالح العمل التبشيري في
ذاته. ولكن استراتيجية الثقافة الكاليبتية مختلفة تمامًا؛ إنها
تقامر بأن تقدم لأصحابها أكبر قدر من المزايا مع أقل الأعباء قدرَ
المستطاع. وتنتشر مثل هذه الثقافة عن طريق الاختيار الأناني من
جانب الأفراد، على عكس الثقافة الريجالية التي تحُدُّ من حرية
الاختيار.
وجدير بالذكر أن كلمة استراتيجية هنا لا تتضمن بالضرورة عملية
تخطيط واعٍ، وإنني أستخدم الكلمة بالطريقة نفسها التي يستخدمها
علماء البيولوجيا عند حديثهم عن استراتيجية التكاثر لحيوان بدائي
أو لنبات ليس لديه وعي بما يفعل؛ ومن ثم فإن استراتيجية تكاثر
الثقافة ليست هي ذات الاستراتيجية عند البشر، وإن النمط الثقافي
القادر على التكاثر بكفاءة ربما ظهر بفعل انتخاب تلقائي لابتكارات
عشوائية، أو ربما تظهر نتيجة نشاط تخطيطي ذكي من جانب البشر، وتنشط
آلية الانتخاب سواء فهم البشر هذه الآلية أم لم يفهموها، وسواء كان
هذا النمط الثقافي مواتيًا لحامليه أم غير ذلك.
(٧) الآليات النفسية البديلة
ثمة ظاهرة نفسية مشهورة؛ وهي أن الأخطار الخارجية التي تتهدد
جماعة ما من شأنها أن تعزز التضامن من داخل الجماعة، وتخلق نزعة
محورية إثنية ونزعة عسكرية. وسبق أن أوضح هذه الظاهرة أيضًا علماءُ
البيولوجيا التطورية وعلماء النفس الاجتماعيون.
وتؤكد النظريات البيولوجية على أهمية الدفاع عن الجماعة؛ تأسيسًا
على نظرية الانتخاب القرابي أو نظرية انتخاب الجماعة (لورنز،
١٩٦٣م؛ ورينولدز Rynolds وفالجر
وفاين Falger & Vine،
١٩٨٧م).
وجدير بالذكر أن مفهوم الشخصية التسلطية جرى استخدامه تقليديًّا
في نطاق علم النفس الاجتماعي لتفسير النزعة المحورية الإثنية
والنزعة الفاشية. وتتمثل خصائص المرء ذي الشخصية التسلطية في أنه
يرغب في هيكل لسلطة تراتبية قوية، كما يريد إخضاع نفسه لسلطات قوية
سياسية وأيديولوجية ودينية. إنه يخشى ويكره الأجانب مثلما يخشى
ويكره المنحرفين داخل جماعته، كما وأن أخلاقياته تتسم بالصرامة في
الشئون الدينية والجنسية (أدورنو وآخرون، ١٩٥٠م).
وأثبتت بحوث عديدة أن تلك المواقف والسلوكيات المميزة للشخصية
التسلطية تدعمها عوامل تشكل خطرًا على النظام الاجتماعي؛ مثل الحرب
أو الأزمات الاقتصادية (دوتي Doty
وآخرون، ١٩٩١م؛ ماكان McCan،
١٩٩١م؛ وماكان وستيوين Stewin،
١٩٨٤م). ونجد من ناحية أخرى أن ثمة شكوكًا فيما إذا كانت العوامل
التي تتهدد الفرد تفضي إلى نزعة تسلطية (دوكيت
Duchitt، ١٩٩٢م)، وإذا حدث وكشفت
بعض الدراسات السالفة عن عامل ارتباط بين البطالة الواسعة والنزعة
التسلطية، فقد يكون سبب ذلك أن البطالة تعني أزمةً للمجتمع ككل
وليست أزمة فرد.
وأعرب بعض علماء النفس عن رأي يقضي بأن النزعة التسلطية وكراهية
الأجانب سببهما إسقاط الصراعات الداخلية النفسية أو الصراعات داخل
الجماعة على عدو خارجي (انظر: دينين
Dennen، ١٩٨٧م). وصادفت وجهة النظر
هذه نقدًا نظرًا لاستحالة استخلاص أي نتائج بشأن الآليات النفسية
الداخلية على أساس البيانات التجريبية الراهنة (ماكيني
McKinny، ١٩٧٣م). وثمة تفسير بديل
يتمثل فيما يسمى نظرية النزاع الجماعي الواقعي، والتي تفيد بأن
النزاعات بين جماعات البشر تنبع من مشكلات واقعية، وهي في الغالب
الأعم المنافسةُ على الموارد المحدودة. وإن زيادة التنافس بين
الجماعات من شأنها أن تعزز التضامن الجماعي، وتصبح الجماعة محددة
المعالم بصورة أكثر وضوحًا، كما تتعزز الهوية الجماعية لأبنائها،
هذا علاوة على اضطهاد ونبذ الخونة والمنحرفين (لوفاين
Levine وكامبل
Campbell، ١٩٧٢م).
وفسر علماء الإثنولوجيا الآلية على أنها رد فعل طفولي، تمامًا
مثل صغار الحيوان؛ إذ يلتمسون الحماية من الأم حين ينتابهم الخوف،
كذلك الكبار من بني البشر يلتمسون في حالة الخوف الحماية في ظل
زعيم قوي يتلقون منه تعليماته في سهولة ويسر، ولكن هذه النظرية لم
تفسر لماذا تفضي الأخطار الجمعية إلى ردود أفعال مختلفة عن الأخطار
التي تتهدد الفرد.
ولنا، دون اعتبار لأيٍّ من الآليات النفسية الداخلية التي تعمل
هنا، أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الأخطار التي تواجه المجتمع تفضي
إلى نزوع نفسي نحو التضامن وتعزيز التنظيم السياسي. وهذه آلية
فعالة للغاية؛ ذلك لأنها تجعل المجتمع مهيَّأً على نحو أفضل للتصدي
للأزمة أو للتهديدات الخارجية. وإن بالإمكان اعتبارها بمثابة نوع
من الانتخاب البديل: الأزمات والأخطار الخارجية سبب في ظهور حالة
من التسلح النفسي الذي يهيئ للمجتمع قدرة على مواجهة الأخطار،
وربما أيضًا الفوز في حالة النزاع فيما بين الجماعات. وإن التسلح
النفسي نتيجة خطر الحرب يفضي إلى النتيجة الثقافية ذاتها مثلما
تفعل الحرب: إضفاء الصبغة الريجالية، ولكن على نحو أسرع وكلفة أقل،
وربما نشأت هذه الآلية البديلة بفعل الانتخاب الجيني أو الانتخاب
الثقافي، أو — وهو الأرجح — نتيجة تآلف عديد من آليات
الانتخاب.
لنتخيل مجتمعًا يعيش في سلام أغلب الوقت، هنا ستكون الثقافة
الريجالية غير ملائمة في أوقات السلم؛ لأنها ستفضي إلى إنفاق كمٍّ
غير ضروري من الموارد على إحكام تنظيم الناس والحفاظ على قوة
محاربة لا لزوم لها، وكذلك لأن الانتخاب الثقافي
R−، شأنه شأن الانتخاب الجيني
R−، يفضي إلى زيادة غير محكومة في
السكان؛ ومن ثم إلى إنهاك الموارد الطبيعية. وهذا من شأنه حسب
النهج المالتوسي أن يؤدي إلى مجاعة وانقراض واسع النطاق (مالتوس،
١٧٩٨م). ولكن الانتخاب الثقافي K−،
شأنه شأن الانتخاب الجيني K−، سوف
يؤدي من ناحية أخرى إلى استقرار السكان وضمان حفظ وسائل
العيش.
وربما تكون الثقافة الريجالية غير مستصوبة في بيئة سلامية، ولكن
الثقافة الكاليبتية في ظروف الحرب قد تكون مهلكة؛ ذلك أن الجماعة
الكاليبتية ستكون دائمًا فريسة سهلة لأطماع جارٍ ريجالي يرغب في
التوسع؛ ولهذا فإن أية جماعة لا يمكنها أن تبقى على قيد الحياة في
ظروف عدوانية إلا إذا كانت ريجالية؛ إذ لا حاجة للحد من السكان،
فهذا أمر تفي به الحروب المتكررة، ولكن على العكس يصبح التناسل
السريع أمرًا ضروريًّا للحفاظ على قوة عسكرية في أقصى
قدراتها.
والمرونة هي الحل الأمثل لجماعة خاضعة لتأثيرات خارجية متغيرة،
معنى هذا إضفاء سريع للصبغة الريجالية حين يتهددها خطر خارجي،
وعودة سريعة إلى استراتيجية كاليبتية عند زوال الخطر. ويمثل
الانتخاب البديل الوسيلة الوحيدة لتحقيق القدرة على التكيف السريع،
ويمكن اعتبار هذا ضبطًا للتغذية المسبقة feed
forward control. إن أي آلية تفضي إلى مثل هذا
التحسن في القدرة على التكيف سوف تكون ذات ميزة كبيرة للصلاح، وسوف
يدعمها كلٌّ من الانتخاب الجيني والانتخاب الثقافي. وثمة تقدير بأن
التطور المشترك الجيني/الثقافي بدأ منذ مليونَي سنة على الأقل
(دورهام، ١٩٨٢م)، وهي حقبة أكثر من كافية لكي تصبح فيها مثل هذه
الآلية راسخة في ميراثنا الجيني والثقافي. ويمكن تفسير الآليات
سالفة الذكر بهذه الطريقة، وإن كان من المسلَّم به أن هذا ليس هو
التفسير الممكن الوحيد للاستجابات النفسية موضوع الدراسة.
ولكن من الممكن تمامًا، نظريًّا، أن يكون هناك العديد من آليات
الانتخاب البديل الأخرى ذات طبيعة نفسية، وعلينا أن نستكشفها (سوف
أعود مرة أخرى إلى آليات الانتخاب البديل وعلاقتها بالتناسل
البشري).
(٨) مفارقة الثورة
عندما تخف حدَّة الضغط
الانتخابي الريجالي على مجتمعٍ ما تبدأ الثقافة في النزوع إلى
الاتجاه الكليبتي، مدفوعة بالرغبة في إنجاز الحرية والسعادة للفرد.
ولنا أن نسمي هذا ثورة لأنها تمرد عامة الناس ضد الحكام، وقد تكون
الثورة سلمية أو عنيفة. وثمة مفارقة في عملية الثورة العنيفة؛ ذلك
أن الثورة لا تنجح إلا إذا توفر لها عددٌ كافٍ من المؤيدين، وأنها
لكي تحشد مؤيدين كثرًا يتعين عليها أن تستخدم لذلك وسائل قوية.
ولنقل بعبارة أخرى: إن الاستراتيجية الريجالية لازمة للحرب ضد
التوجه الريجالي، وكم هو يسيرٌ الدفاعُ عن أهداف الثورة؛ الحرية
والعدالة والسعادة! وهذه هي الجزرة التي تجعل الناس يتحالفون
وينخرطون في الحركة الثورية، ولكن يجب على المتمردين أن يغامروا
بمخاطر كثيرة ويقدموا تضحيات مهولة؛ حتى تتهيأ لهم فرصة النصر.
ولكن لكي يُقدِم الناس على هذا كله يجب على الحركة الثورية أن
تستخدم تقنيات نفسية هي من خصائص الثقافات الريجالية؛ إذ يجب أن
تَشحَذ فيهم روح القتال والولاء. إن الأمراض الميئوس منها توجب
لزامًا تعاطي أدوية شديدة الخطر؛ لذلك ربما يبدو وكأن حدوث ثورة
كاليبتية أمر مستحيل، وأنها لن تقود المجتمع إلا إلى مزيد من الوضع
الريجالي. ولكن التاريخ يوضح أن بالإمكان حقيقة جعْل مجتمع أكثر
كاليبتية بهذه الطريقة، وهذه مفارقة. إن العملية التي تحشد بها
الحركة الثورية أعضاءً لها هي بطبيعة الحال انتخاب خارج الحركة،
ولكنه داخل الدولة التي تتمرد ضدها. وهذا الوضع الوسيط بين
الانتخاب الداخلي والانتخاب الخارجي يعني أن التنظيم الثوري هو في
الحقيقة تنظيم ريجالي، ولكنه أقل ريجاليةً من ذلك التنظيم الذي
يحارب ضده. أو لنا أن نقول إنه ريجالي عند مستوًى أدنى. ولن ينسى
الناس ما يحاربون من أجله، ولن يفرطوا في التضحية دفاعًا عن القضية
ما لم تتوفر لديهم آفاقُ ربح مهم. والخلاصة أن ثورةً ما يمكن أن
تكون خطوة في الاتجاه الكاليبتي حتى وإن لم تكن سوى خطوة صغيرة.
وإن الانتقال من مجتمع ريجالي إلى آخر كاليبتي هو عملية طويلة المد
ومثيرة للضجر؛ إذ تقضي باتخاذ خطوات صغيرة في كل مرة خاصةً حين
تكون الوسائل العنيفة ضرورية.
وتعتبر الحركة الشيوعية مثالًا واضحًا على ذلك؛ إذ بدأت كثورة ضد
طغيان الرأسماليين مع المطالبة بالمساواة، وكانت هذه هي الجزرة
الكاليبتية التي هيأت للشيوعيين أنصارًا كثيرين، وجعلت من الممكن
قيام ثورة عنيفة، ولكن المسافة بين المساواة والتماثل خطوة صغيرة
فقط، وتطورت الدولة الشيوعية على نحو ما إلى الاتجاه الريجالي.
وكان لازمًا التسلحً الأيديولوجي الشامل لقمع الدين والتصدي لخطر
الحرب من جانب البلدان الرأسمالية. وأحل الروس نظام حكم الحزب
الواحد محل النظام القيصري. حقًّا إن المسافة الفاصلة بين النظام
الريجالي إلى نظام حكم الأقلية (الأوليجاركية) هي خطوة واحدة في
الاتجاه الكاليبتي، ولكنها فقط خطوة صغيرة جدًّا. وكم كان يسيرًا
اكتشافُ الخصائص الريجالية لشيوعية الدولة؛ حكومة مركزية، وإدارة
بيروقراطية، وقهر منظم لكل الأيديولوجيات السياسية والدينية
الأخرى.
ونشهد نوعًا من الثورات أكثر سلمية في الكثير من الحركات الشعبية
التي ظهرت على نحو غير متوقَّع في العالم الغربي خلال القرن
العشرين. إن الناس يكافحون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ونزع
السلاح والسلم وإلغاء الرق، والمساواة بين الأعراق، وإلغاء
المركزية، والحرية الدينية، وحماية الطبيعة من استنفادها وتلويثها،
ومن أجل تحرير المرأة والتحرر الجنسي … إلخ. وإن ظهور هذه الحركات
مؤشر على عملية كلبتة تجري داخل العالم الغربي الآن بعد نهاية عصر
الاستعمار، وإن نجاح هذه الحركات — وواقعُ أن تنظيمها في أغلب
الحالات غير رأسمالي — يمثل مؤشرات لا تخطئها العين على أن الثورة
الكاليبتية السلمية يمكن في الحقيقة أن تكون فعالة.
ولا يزال مفهوم المساواة موضع شقاق في العملية الثقافية
R/K؛ إذ إن المجتمع الريجالي مجتمع
تراتُبي هرمي وقائم على عدم المساواة وعلى الامتيازات. ويمثل
التمرد الكاليبتي ضد التراتُبية مطلبًا من أجل المساواة، وهو
التماثل والتطابق، وكلاهما استراتيجية ريجالية. واستخدم كلٌّ من
أنصار المجتمع الكاليبتي والريجالي المثل الأعلى للمساواة؛ إذ
يستخدم المعنى الكاليبتي حين يكون الموقف ضد التمييز والامتيازات
على نحوِ ما حدث على سبيل المثال في الثورة الفرنسية، ويكون المعنى
ريجاليًّا عند استخدامه لتبرير التماثل المفروض قسرًا على نحوِ ما
حدث في ظل الستالينية.
ولكن حالات التمرد والحروب الأهلية وغيرها من النزاعات الداخلية
في مجتمع ما لا تعني دائمًا الكلبتة؛ أي إضفاءَ الطابع الكاليبتي.
وربما تكون للجماعات المتمردة دوافع ريجالية أو يستخدمون طرقًا
تحقق نتائج ذات صبغة ريجالية؛ إذ لو استخدمت جماعةٌ تمثل أقليةً في
مجتمع ما أسلوبَ الإرهاب أو غير ذلك من استراتيجيات خطرة على
المجتمع، يمكن أن يفضي ذلك إلى نتائجَ ذات صبغة ريجالية، وأن ينظر
المجتمع إلى هذه الجماعة من الأقليات باعتبارها خطرًا يتهدد
المجتمع كله.
ونظرًا لأن النتيجة ذات الصبغة الريجالية المترتبة على مثل هذا
النزاع ذاتٌ طبيعة نفسية، فإن الخطر الاجتماعي المدرك ذاتيًّا،
وليس التهديد الواقعي، هو الذي يحدد ما إذا كان النزاع سيفضي إلى
نتيجة ذات صبغة ريجالية أم لا. وإن الحالات التي يكون فيها خطر
الجماعة من الأقليات مبالغًا فيه أو خياليًّا تمامًا تسمى مطاردة
السحرة أو الذعر المعنوي دون مبرر واقعي. وسوف أعود إلى هذه
الظاهرة فيما بعد.
(٩) الخصائص النمطية للثقافات الريجالية والكاليبتية
لنا أن نتصور ثقافات مختلفة
وثقافات فرعية ومنتجات ثقافية مرتبة في جدول متصل من
R/K على امتداد؛ من الريجالي في
أقصى صوره إلى الكاليبتي في أشد صوره تطرفًا. وطبيعي أن مثل هذا
الجدول له قيمة حدسية فقط، وإنه لمن الصعوبة بمكان أن نحدد أرقامًا
مطلقة؛ نظرًا لأن القيمة R/K− غير
محددة على أساس معيار واحد مضبوط، بل جاء تقييمها على أساس معايير
مختلفة أكثرُها ذاتي بدرجة أو بأخرى. وليس الغرض من تقديم مثل هذا
الجدول الخيالي هو وضع الثقافة في صيغة معادلات رياضية، بل إعطاء
معنًى للبيانات المقارنة؛ مثل: «موسيقى الروك أكثر كاليبتيةً من
الغناء الترنيمي.» وطبيعي أن جميع الظواهر ليست قابلة للمقارنة،
ولكن الشرط الضروري لكي يكون للمقارنة معنًى أن يكون لدينا مقياس،
وهذا هو ما أسميه الجدول الثقافي
R/K.
ونعرض في الجدول
٤-٢ قائمة بالخصائص التي
أراها خصائص نمطية للثقافات الريجالية والكاليبتية. وتتوخى القائمة
هدفًا وحيدًا هو المساعدة في تفسير الجدول
R/K. وسوف نعرض في الأبواب التالية
مناقشة شاملة للمجالات المختلفة للثقافة.
جدول ٤-٢: الخصائص النمطية للمنتجات الثقافية الريجالية
والكالبتية
|
ريجالي |
كاليبتي |
الدين |
التوحيد |
النزعة الإحيائية، التعددية، عقيدة الخصوبة، عبادة
السلف
|
السياسة |
حكومة مركزية قوية، إمبريالية، التماثل، التعصب،
الرقابة، عقوبات قاسية
|
حكم لا مركزي، ديمقراطية، تسامح، سِلم |
الفن |
مثقل بالتفاصيل، نزعة الكمال، زخرفي، تكرار التفاصيل
الصغيرة في التزام هندسي صارم، تصوير رموز السلطة مثل
الآلهة أو الحكام أو أبطال الحروب أو النهَّابين.
|
غير مقيد، ارتجالي، يصور اللذة، الخيال، الألوان،
الطبيعة، الحيوانات، الخصوبة، الفردية، نزعة
التمرد.
|
الموسيقى والغناء |
رتابة، زخرف، غرور وتفاخر بالنزعة الريجالية
العدوانية، قواعد صارمة للإيقاع والوزن، كورس غنائي،
ابتهالات، تسبيح بحمد الآلهة والحكام والتفوق العسكري
والحب الحقيقي
|
دور مصاحب جهير (باص) يقلب على الصوت الميلودي، تنوع
نغمي وإيقاعي، خيالي، ارتجالي في الغالب، رصيد كبير من
نصوص الموضوعات
|
الرقص |
منظم، مقيد |
غير منظم، مرح |
الملابس |
محتشم، أنيق، متماثل، متباين حسب الجنس، يعكس المكانة
الاجتماعية
|
إبداعي، فردي، زاخر بالألوان، جنسي، يعكس الذوق
الشخصي
|
العمارة |
مباني دور العبادة والمباني الحكومية تتسم بالفخامة
والعظمة والتفاخر، غنية بالتفاصيل ومزودة ببوابات
وأبراج مبالغ في حجمها.
|
ذات دور وظيفي، إبداعية، طابع فردي، غير منتظمة، لا
أساليب تكشف عن الفوارق الاجتماعية.
|
السلوك الجنسي |
أخلاقيات جنسية صارمة، أدوار نمطية جامدة حسب الجنس،
الجنس هدفه فقط التناسل، التناسل فرض، النظر إلى
الأطفال على أنهم بُرآء من الجنس وجَهَلة، عدم مشروعية
موانع الحمل والإجهاض، الزواج المبكر، زيادة سكانية
كبيرة
|
أخلاقيات جنسية متحررة، الجنس له أغراض عديدة، السلوك
المرن والفردي والمُترَع باللذة، التربية الجنسية
للأطفال، التعليم والتربية قبل الزواج، السماح بموانع
الحمل والإجهاض، لا زيادة سكانية.
|
الوقائع الظاهرة |
بلد مؤلف من يابسة رئيسية تشن حروبًا كثيرة مع تباينات
ثقافية، إمبراطوريات، مستعمرات جديدة
|
مجتمعات صغيرة معزولة، مناطق سلمية مع كثافة سكانية
منخفضة وانعدام التباينات الثقافية
|
(١٠) حدود النظرية
كل نظرية بسيطة في صيغة قانون تحمل في باطنها مخاطرة الاختزالية
والحتمية؛ ذلك أن التركيز على نموذج سلبي محدد يمكن أن يُعمي المرء
عن رؤية تفسيرات أخرى محتملة، ولا توجد أبدًا في العلوم الطبيعية
علة واحدة ومعلول واحد. وليس ثمة نموذج واحد جامع شامل ولا نظرية
كاملة. والاعتراض العام ضد النماذج السببية هو صعوبة البرهنة
عليها. وربما تكشف المعطيات السوسيولوجية عن معاملات ارتباط، ولكن
على المرء ألَّا ينسى أبدًا أن معاملات الارتباط لا يمكنها أن تميز
بين السبب والنتيجة. وترى العلوم المضبوطة أن التجارب المحكومة
ضرورية للبرهنة على العلاقات السببية، غير أن مثل هذه التجارب
مستحيلة في الدراسات الاجتماعية لأسباب أخلاقية وأسباب عملية. وقد
يستهوي بعض علماء الاجتماع نبذ النظريات التي تأتي في صيغة قانون
جملةً وتفصيلًا لهذه الأسباب، إلا أن هذا لن يسهم في تحسين وتقدُّم
فَهمنا للنظريات الاجتماعية. ويمكن تبرير أي نظرية اجتماعية أولًا
وأساسًا في ضوء قدرتها التفسيرية وقدرتها على التنبؤ بنتائج مؤثرات
جديدة. وعندي أن النظرية الثقافية
R/K لها بالضبط هذه الخصائص على
الرغم من بساطتها.
المخاطرة الأكبر في تطبيق هذه النظرية إمكانية أن يستهوينا صبغ
كل شيء؛ إما أبيض أو أسود، بينما الحقيقة هي أن كل شيء رمادي بدرجة
أو بأخرى. وليس ثمة في الواقع مجتمع ريجالي بصورة مطلقة أو كاليبتي
بصورة مطلقة، ولم يكن له وجود في الماضي أيضًا. وتبدو تنظيمات
كثيرة مثيرة للتناقض أو التشوش؛ لأنها تجمع بين الخصائص
والاستراتيجيات الريجالية والكاليبتية في مزيج غير متوقع. وسبق أن
أشرتُ إلى المقاومة التي تتصف بها حركات ثورية، وثمة مثال آخر
توضحه تنظيمات تسلُّطية معينة يتعذر فيها الحصول على عضويتها. وعلى
خلاف التنظيمات الريجالية النمطية التي تبذل قصارى جهدها لحشد
أعضاء جدد، نجد تنظيماتٍ معينةً تفرض شروطًا صارمة للسماح بدخولها؛
بحيث إن الأعضاء المحتملين يضطرون إلى العمل بجدية ومشقة لإثبات
التزامهم وولائهم؛ من خلال تحمُّل أعمال تعذيب مختلفة أو أداء
شعائر وطقوس تكشف عن جدارتهم. وإن مثل هذه التنظيمات أبعد ما تكون
عن الاستخدام الكامل لطاقتها المحتملة للتوسع، وهي حسب التعريف
خصوصًا كاليبتية. ولكننا نجد من ناحية أخرى أن شرط الالتزام المطلق
والولاء التام إنما هو علامة مهمة تدل على الصفة الريجالية. وتتمثل
خلفية هذا التعارض في أن التنظيم بحاجة إلى التزام كامل من جانب
أعضائه بالدفاع عن أهدافه وليس عن العضوية، وأن نوع الأعضاء أهم من
عددهم في ضوء هذا المنظور. ومن أمثلة هذه التنظيمات بعض فرق الشباب
المولع بالدراجات البخارية، وجماعات الأخوة السرِّية، وجماعات
العمل السياسي المتطرف ومنظمات الجريمة.
(١١) نظريات وثيقة الصلة سبق نشرها
ترتكز النظرية الثقافية R/K على
التمييز بين الانتخاب الداخلي والانتخاب الخارجي، وهو تمييز ليس
بالجديد بطبيعة الحال. ونذكر على سبيل المثال أن عالم
الأنثروبولوجيا رادكليف براون
Radcliffe-Brown مايَز بين التكيف
الداخلي والخارجي للمجتمع (١٩٤٨م، ص٨٧). وحدثنا لينسكي
Lenski (١٩٧٠م، ص٨٩) عن الصراع
المحتمل بين الانتخاب الداخلي والخارجي، ولكن دون الدخول في
تفاصيلَ عن النتائج المترتبة على هذا الصراع.
كذلك فإن دافيد هول، الذي يعتبِر التقدم العلمي أشبه بعملية
انتخاب، قارن طرق العلماء في نشر أفكارهم باستراتيجيات التكاثر
R/K، ولكن دون أن يستخلص أية نتائج
من هذا التمييز.
التطور النوعي مقابل التطور العام
ثمة تصنيف آخر للعمليات التطورية مبني — شأن النظرية
R/K — على معايير الانتخاب
وليس على آليات الانتخاب، ونعني به التمييز بين التطور النوعي
والتطور العام (ساهلينز وسرفيس Sahlins
& Service). ويعني التطور النوعي
التكيف مع بيئة نوعية محددة وظروف ثابتة. ويعني التطور العام
نشوء وتطور قدرة على التكيف متقدمة؛ أي القدرة على التكيف
السريع مع الظروف المعيشية المتغيرة. وإن هذا التمييز بين
التطور العام والنوعي مستقل عن الآلية؛ ومن ثم يمكن تطبيقه على
كلٍّ من التطور البيولوجي والتطور الثقافي. ويوضح دافيد كابلان
David Kaplan (١٩٦٠م) هذا
الاختلاف من خلال أمثلة تاريخية، إنه يقول إن الثقافات
المتكيفة على نحوٍ ما (وهي ما يسمى عادةً ثقافات عالية التطور)
غالبًا ما تكون قادرة على الهيمنة على الثقافات المتكيفة بصورة
نوعية محددة، وإن لم يكن الحال كذلك دائمًا؛ ذلك أن هذه
الثقافات الأخيرة ربما تكون هي الأفضل في ظل ظروف بذاتها،
وربما تظل باقية في بيئتها الملائمة، على الرغم من المؤثرات
الوافدة من ثقافات متطورة أكثر على نحو عام.
ثقافة الضغط
استحدث عالِمَا الاجتماع سي. ودبليو. رسل نظريةً عن الانتخاب
الثقافي نجد فيها مفهوم ثقافة الضغط له دور محوري. وتشير هذه
النظرية إلى أن الاكتظاظ السكاني والمجاعات وغير ذلك من أزمات
تنشأ عنها ثقافة ضغط ذاتُ خصائص مميزة؛ هي التراتُبية الصارمة،
والاتباعية، والقسوة مع الأطفال. وتتصف ثقافة الضغط بعدم
المرونة وقلة عدد الابتكارات الثقافية؛ مما يخفض قدرة الثقافة
على التكيف. وإن حالة التكيف الضعيفة مقترنة بالمجاعة … إلخ،
تفضي إلى نقص في عدد السكان، وهو ما يفضي إلى زوال عوامل
الضغط. ويمهد هذا السبيل لازدهار ثقافي جديد مع مظاهر النمو
والابتكارية والتطورية والإنتاجية الفنية العالية. وتطَّرد هذه
الحالة المسماة نهضة إلى أن يعود البلد ثانيًا إلى حالة
الاكتظاظ السكاني (رسل ورسل، ١٩٨٢م–١٩٩٢م).
الاستبداد بين الحيوانات
استحدثت عالمة البيولوجيا ساندرا فهرينكامب
Sandra Vehrencamp نموذجًا
للفوارق التراتبية بين الحيوانات الاجتماعية، ويفيد هذا
النموذج أن زعيم الجماعة لا يمكنه إخضاعُ الحيوانات الأخرى إلى
حد الإذلال، وإلا آثرت هجر الجماعة؛ لذلك فإن قوة الزعيم
تحددها ميزات العيش داخل جماعة مقارنة بإمكانيات العيش خارج
الجماعة. وإذا طبقنا هذه النظرية على البشر سوف تعني أن سلطة
المستبد تحددها إمكانات رعاياه على ترك الجماعة (فهرينكامب،
١٩٨٣م).
النظرية الجينية
R/K−
أثارت النظرية البيولوجية
R/K− نقاشًا حول ما إذا كان
ثمة فارقٌ بين السلالات البشرية المختلفة من حيث استراتيجيتهم
الوراثية R− أو
K− أو عما إذا كانت مثل هذه
الفوارق يمكن أن تفسر الاختلافات في السلوك أو الذكاء
(سيلفرمان، ١٩٩٠م). وظل هذا النقاش محصورًا داخل الإطار
البيولوجي والجيني؛ بينما جرى إغفال أهمية الوراثة
الثقافية.
ويستخلص بعض العلماء نتائج بعيدة المدى للغاية من النظرية
الجينية R/K−، مؤكدين أن
الفوارق ليست فقط بين السلالات البشرية، بل وبين الطبقات
الاجتماعية المختلفة، بل وبين الأفراد داخل الطبقة ذاتها، وأن
بالإمكان بيانها بالرجوع إلى النظرية البيولوجية
R/K− (رشتون
Rushton، ١٩٨٧م؛ إليس
Ellis، ١٩٨٧م). ويدرس هؤلاء
العلماء معاملات الترابط بين المتغيرات الديموجرافية وثيقة
الصلة بالانتخاب الجيني R/K،
وأنماط سلوكية معينة التي يعتقدون بأنها خاصية مميِّزة
للاستراتيجيتَين البيولوجيتين
R−
وK− (وكما سبق أن أوضحنا فإن
الاستراتيجية R− تعني أن الفرد
ينفق القسط الأكبر من موارده على إنتاج أكبر عدد ممكن من
الأطفال؛ بينما الاستراتيجية
K− تعني أن المرء لديه عدد
قليل فقط من الأبناء ولكنه يستثمر قدرًا كبيرًا من موارده على
رعايتهم). وتعتبر استراتيجية التكاثر
R− عند النساء استراتيجية
K−؛ ذلك لأن النساء ينفقن
نسبةً عالية من كلفة تنشئة الأطفال، ولكن استراتيجية الرجال هي
من ناحية أخرى تسير في اتجاه قدر أكبر من
R−؛ ذلك لأن الرجال نظريًّا
يمكنهم إنجاب عدد غير محدود من الأبناء بتكلفة قليلة جدًّا،
ولأن الرجال لا يمكنهم تحديد أطفالهم بنفس اليقين عند المرأة.
ويمكن أن يفسر لنا هذا المبدأ نفسُه فوارق العمر في مجال
السلوك؛ إذ إن كبار السن أكثر ميلًا لاستثمار مواردهم في رعاية
من أنجبوهم من أبناء وأحفاد، وليس للمزيد من الأبناء.
ويرى هؤلاء العلماء أن أنماط السلوك المقترنة نسبيًّا
بالاستراتيجية R− هي: الزواج
المبكر، السلوك الإجرامي، ظلم وإهمال الأبناء، إنجاب عدد كبير
من الأبناء، الاستغلال النفعي للبيئة، والنزعة الاستعمارية.
ويتضمن السلوك الذي تغلب عليه الخاصية
K العناية الفائقة برعاية
الطفل، الاستخدام الكفء لموارد الطاقة، الذكاء المرتفع،
الاستقرار السكاني، الغيرية، درجة عالية من التنظيم الاجتماعي،
الإخلاص في العلاقة الزوجية. وتفيد نظريتَا رشتون (١٩٨٧م)
وإليس (١٩٨٧م) أن الاستراتيجية
R− تأكدت أولًا في بشر منحدرين
من أفريقيا وفي ناس من مكانة اجتماعية اقتصادية متدنية، بينما
الاستراتيجية K− نجدها، وعلى
نحو نموذجي، في بشر ذوي مكانة اقتصادية اجتماعية عالية، وفي
بشر منحدرين من الشرق ويتبعهم الأوروبيون.
وهنا تَطفِر إلى الذهن مباشرةً تداعياتٌ عن الداروينية
الاجتماعية. إن الفارق الرئيسي بين النظرية السالفة
والداروينية الاجتماعية هو أن العلماء أنفسهم لا ينتمون إلى
السلالة الأكثر نبالة، بل قنعوا بمكانة ثانية.
وطبعي أن نقطة الضعف في هذه النظرية أنها تبالغ في تقديرها
لأهمية الوراثة الجينية قياسًا إلى الوراثة الثقافية. إن
الانتخاب الثقافي أسرع بمراحل كثيرة جدًّا من الانتخاب الجيني؛
ولذلك فإن نظرية الانتخاب الثقافي هي على الأرجح أقْدرُ من
نظرية الانتخاب الجيني لتفسير الفوارق بين جماعات البشر (لمزيد
من النقد، انظر: كاننجهام وباربي
Cunningham &
Barbea وألين
Allen وآخرون، ١٩٩٢م).
بيد أن الشيء المهم فيما يتعلق بالنظرية سالفة الذكر هو أن
أنماط السلوك التي وجد كلٌّ من رشتون وأليس وسيلفرمان أنها
مرتبطة باستراتيجية
R− مقابل
استراتيجية
K− (من وجهة نظر
النظرية البيولوجية
R/K−) تكاد
تكون هي نفسها أنماط السلوك التي تبيَّن لي أنها مميِّزة
للثقافتين الريجالية والكاليبتية (حسب وجهة نظر النظرية
الثقافية
R/K).
٢
وتنبني نظريتا R/K على
معايير انتخاب وليس على آليات، وترتب على هذا أن الكثير من
النتائج التي يمكن استخلاصها على أساس هاتين النظريتين واحدة؛
سواء أكانت آلية التكاثر هي الوراثة الجينية أو الثقافية أو
مزيجًا منهما. وتتحدد الفوارق بين النتائج المستخلصة من
النظريتين على أساس الاختلافات بين وحدات الانتخاب أكثر مما
تتحدد على أساس الاختلافات في آليتي التكاثر والانتخاب، ويفسر
لنا هذا أوجه التماثل بين نتائج كلٍّ من النظريتين. وتمثل
السرعة موضوع الاعتراض الرئيسي ضد استخدام النظرية الجينية
R/K− في تفسير الفوارق بين
الجماعات البشرية؛ لذلك فإن هذه النظرية ستفوز بالمصداقية إذا
ما أبدلنا الوراثة الثقافية بالوراثة الجينية. وثمة إمكانية
نظرية أخرى؛ وهي افتراض وجود آليات نفسية أو هرمونية تعمل
كانتخاب بديل عن الانتخاب R/K−
الجيني أو الثقافي.
سبنسر
لعل ما يثير الدهشة أن النظرية الأقرب إلى النظرية الثقافية
R/K− من بين النظريات
الاجتماعية المنشورة سابقًا هي نظرية نشرها هربرت سبنسر في
أواخر القرن التاسع عشر. حدد سبنسر عديدًا من الأنماط المختلفة
للمجتمعات أهمها المجتمعان العسكري والصناعي، وذهب سبنسر إلى
أن المجتمع العسكري يتميز بخاصة الحكومة المركزية القوية.
وتتعزز قوة الحكومة بفعل الصراعات الخارجية، وتضعف بفعل
النزاعات الداخلية، ويمتلك المجتمع منظومتين تشريعيتين
حاكمتين: البقاء، والدفاع. والملاحظ في المجتمع العسكري أن
هيكل الدفاع يطغى على هيكل البقاء، ولكن المجتمع الصناعي على
النقيض، إنه يتميز بالسلم، والحكومة الضعيفة، والديمقراطية.
والفرد في المجتمع العسكري موجود لصالح المجتمع، ولكن في
المجتمع الصناعي يسود الاعتقاد بأن المجتمع موجود لصالح الفرد،
ويعيش الناس في المجتمع العسكري للعمل بينما في المجتمع
الصناعي يعملون ابتغاء العيش. كذلك فإن التعاون إجباري داخل
المجتمع العسكري، ولكنه طوعي في المجتمع الصناعي (سبنسر إتش،
١٨٧٦م و١٨٩٣م).
وإذا أبدلنا كلمة عسكري بكلمة ريجالي، وكذا كلمة صناعي بكلمة
كاليبتي سيبدو واضحًا أن هربرت سبنسر منذ أكثر من مائة عام
قدَّم تشخيصًا دقيقًا إلى حد كبير لهذين النمطين من المجتمعات.
وعلى الرغم من أن سبنسر كان قد صاغ آنذاك مبدأ الانتخاب، إلا
أنه وجد صعوبات إزاء تفسير الآليات الكامنة وراء الانتقال من
نمط اجتماعي إلى نمط آخر. واضطره هذا في الغالب إلى أن يلجأ
إلى تفسيرات يغلب عليها الطابع الغائي؛ مثال ذلك أن الحكومة
القوية تنشأ عندما تضطرها إلى ذلك تهديداتُ الأعداء الخارجيين،
أو أن يقول إن المجتمع العسكري حلَّ بدلًا منه المجتمع
الصناعيُّ؛ لأن هذا الأخير أكثر فعالية وكفاءة. وتبدو مثل هذه
التفسيرات ذات دلالة عند ارتباطها بالانتخاب البديلي، وهو
مفهوم لم تكن قد تمت صياغته بعد.
(١٢) النزعة المحافظة مقابل النزعة الابتكارية
التكاثر المطرد لثقافة ما ربما لا يكون دقيقًا بدرجة أو بأخرى؛
ذلك أن الأعراف والمعايير في مجتمع محافظ يجري الالتزام بها في كل
صغيرة وكبيرة، كما وأن أي انحراف عن المعايير يلقى جزاءه مباشرةً.
ونقيض ذلك مجتمع دينامي وموجَّه نحو التقدم؛ حيث كل تفكير جديد
يلقى تشجيعًا، وحيث كل أفكار جديدة تكون موضع ترحيب لمجرد ما فيها
من جدَّة. وميزة التسامح إزاء الابتكارات هي أنها تفضي إلى سرعة
التطور الاجتماعي والتكيف مع الظروف المتغيرة. ولكن النزعة
الابتكارية من ناحية أخرى تهدد الاستقرار الاجتماعي؛ وذلك لأن
المعايير الاجتماعية تتحطم بسهولة وأيضًا بسبب إنفاق موارد كثيرة
على محاولات تجربة الأفكار الجديدة؛ ومن ثم فإن مدى حماس المجتمع
للتمسك بالأعراف القديمة، وإلى أي مدًى يمكن للمجتمع أن يشجع السبل
الجديدة المنحرفة؛ هي أمور يتعين أن تكون في صورة توفيق ومواءمة
بين استقرار المجتمع وقدرته على التكيف. وحريٌّ أن تكون نزعة
المحافظة الاستراتيجية الأكثر ملاءمةً لمجتمع معزول خاضع لأوضاع
بيئية مطردة الثبات. هذا بينما المجتمع الذي يواجه بيئة مضطربة
قلبًا حيث تظهر دائمًا وأبدًا مشكلاتٌ وتحديات جديدة، فإن من
الأفضل له أن يُبدي تسامحًا إزاء الأفكار الجديدة؛ حتى يتسنى له
التكيف بأسرعِ ما يمكن مع الأوضاع المتغيرة أبدًا.
٣
وتفيد النظرية الثقافية R/K أن
المجتمع المنعزل سوف يتطور في اتجاه كاليبتي؛ ولذلك لنا أن نتوقع
قدرًا أكبر من التسامح إزاء الأفكار المنحرفة في هذا المجتمع. ولكن
المجتمع المنعزل بحاجة إلى استقرار أكثر من حاجته إلى قدرة على
التكيف إذا ما كانت الأوضاع الخارجية ثابتة؛ لذلك فإننا غالبًا ما
نشهد في المجتمعات القديمة المنعزلة درجةً عالية من الانصياع
للقواعد والمعايير القديمة، وجزاءاتٍ قاسيةً ضد أي شخص ينتهكها.
هذا على الرغم من أن هذا المجتمع نفسه في مواقف أخرى يكشف عن قدر
عالٍ من التسامح والاحترام للخصائص الفردية.
ولنا في ضوء هذه الخلفية أن نحدد بُعْدًا آخر في نظرية الانتخاب
الثقافي: المحافظة مقابل الابتكارية. والمجتمع المحافظ مجتمع يتشبث
بالتقاليد القديمة وبأشكال الحياة القديمة، ولا يتسامح مع التغيير.
ونقيض ذلك المجتمعُ الابتكاري المجدِّد الذي يشجع التفكير الجديد،
ولديه ولع بكل جديد. وحسب هذه النظرية فإن المجتمع المنعزل يتطور
في الاتجاه المحافظ على نحو يفضي إلى اطراد استقراره، هذا بينما أي
مجتمع يتعين عليه التكيف مع الأوضاع الجديدة سوف يتطور في اتجاه
النزعة الابتكارية. ويبين لنا هنا أن البعد المحافظ/الابتكاري، شأن
البعد R/K تمامًا تحدَّد على أساس
معايير الانتخاب وليس الآلية.
والملاحظ أن هذا البعد المحافظة مقابل الابتكارية — غالبًا ما
يتعارض حتى مع البعد R/K. وكما
ذكرنا آنفًا، فإن الميول الكاليبتية في مجتمع منعزل سوف تنزع إلى
زيادة التسامح إزاء الانحراف، هذا بينما الميول المحافظة في
المجتمع نفسه ستشتمل على عدم التسامح إزاء أي تغيرات في سبيل
الحياة.
وربما نرى معضلة مماثلة عند الطرف المقابل من الجدول؛ ذلك أن
مجتمعًا ما غير منعزل، ولكنه في نزاع دائم مع جيرانه، قد يرتئي أن
الاستراتيجية الريجالية والمحافظة أصلح له وأكفأ إذا ما دأب عدوُّه
على استخدام الأساليب ذاتها، ولكن إذا كان العدو لا يكفُّ عن
ابتكار أساليب أو أسلحة جديدة، فإن المجتمع سيكون مضطرًّا إلى أن
يكون مجتمعًا ابتكاريًّا؛ حتى يتسنى له التكيف مع المواقف المتغيرة
أبدًا ومع التحديات الجديدة، هذا وإلا فإنه سوف يخسر المعركة ويفقد
فرصة انتخابية، ولكن الابتكارية والطابع الريجالي لا يقترنان معًا؛
لأن المجتمع الريجالي يقمع الانحراف والتفكير الجديد والمبادرة
الفردية؛ لذلك فإن أي مجتمعين اثنين سوف يتنافسان إما من أجل
الطابع الريجالي أو الابتكارية، وليس من اليسير التنافس على
الاثنين معًا.
ولقد كانت العصور الوسطى الحقبة التي تنافست فيها البلدان
الأوروبية في مجال سيادة الطابع الريجالي، ولكن الأزمنة الحديثة
شهدت تحولًا في محددات العمل من حيث التنافس بين البلدان الصناعية.
وكان سباق التسلح خلال الحرب الباردة، وإلى درجة كبيرة، منافسة
بشأن التقانة العسكرية، وكان الفائز هو الأكثر ابتكاريةً دون أن
يكون بالضرورة الأكثر ريجالية.