الانتخاب الثقافي عبر العصور
(١) تطور الوحدات السياسية الآخذة في الكِبَر باطراد
عندما شرع البشر في زراعة التربة وتربية الماشية بدأوا تطورًا جديدًا أثَّر منذ ذلك التاريخ في كل جوانب الحياة البشرية. وبعد أن عاش البشر في السابق على القنص وجمع الثمار، تهيأت لهم الآن سبل مختلفة تم ابتكارها. وكما سبق أن أوضحنا فإن هذا الابتكار لم يكن من المحتمل انتخابه إلا بعد أن زادت الكثافة السكانية، وجعلت من الضروري إنتاج غذاء بصورة أكثر وفرة، وتتجاوز إمكانات جمع الثمار التي تمنحها الطبيعة، وثمة إمكانية أخرى؛ وهي أن الزراعة دخلت لأول مرة بناءً على طلب رئيس قوي أراد خلق أساس لزيادة سكان سلطنته لأسباب استراتيجية.
ولا بد وأن تكون الكثافة السكانية في المناطق الخصبة منخفضة بالضرورة، وأن نجعل المسافات البعيدة الفاصلة بين الحرب أمرًا عسيرًا أو مستحيلًا؛ ومن ثم يمكن استدامة حالة التوازن الكاليبتي داخل هذه الأقاليم ذات الكثافات السكانية المنخفضة والمتباعدة، وأن تدوم هذه الحالة آلافًا من السنوات. هذا بينما تتوفر إمكانات كثيرة للتطور الريجالي في المناطق الخصبة ذات الكثافة السكانية العالية. ونلحظ بوجه خاص أن المناطق الحدودية للإقليم الخصب تستثير روح النزاعات؛ إذ تعيش خارج المنطقة الخصبة جماعةٌ من القناصة أو البدو الرحَّل ممن تغريهم حالةُ الرخاء الوفير لدى من يعيشون على الزراعة. ويشعر الفلاحون بدورهم بإغراء تجاه المساحات المهولة الموجودة في الخارج وغير المستعملة، وقد يحاول كلٌّ من الفريقين الاستيلاء على أراضي الآخر، لا لشيء سوى لأن الأرض المغتصبة غير ملائمة لأسلوبهم في الحياة.
وأدى تركُّز السكان في المدن إلى ظهور إمكانية لزيادة التخصص وتقسيم العمل؛ ومن ثم لتطور التجارة والحِرَف والتقانة ثم الصناعة أخيرًا. وأدخل هذا التطور محددات جديدة للمنافسة في مضمار الانتخاب الثقافي: تقانة إنتاج الغذاء، وتقانة السلاح، وتقانة الاتصال. وتحسنت وسائل إنتاج الغذاء؛ مما هيأ إمكانية الاستخدام الأكثر كثافةً للموارد الطبيعة؛ وبالتالي إلى المزيد والمزيد من الكثافة السكانية. وأفضى تحسُّن الأسلحة إلى حالة من التفوق العسكري، كذلك فإن تحسُّن النقل والاتصالات جعل بالإمكان توحيد مساحات أكبر تحت سلطة حكومة مشتركة.
حدث هذا الدمج المتواصل مع إضفاء الطابع الريجالي داخل أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، مع فترات توقف محدودة منذ نهاية العصر الحجري. ولكن لكل شيء حدُّه الذي ينتهي عنده؛ إذ عرَفت العصور القديمة والوسطى حدودًا لاتساع نطاق الإمبراطوريات الكبرى. وكانت الحدود أولًا وأخيرًا تفرضها وسائل الاتصال؛ إذ كان عسيرًا التحكمُ في حرب تستلزم قطع مسافات تمتد أيامًا طويلة بعيدة عن القصر الإمبراطوري، وكان عسيرًا أيضًا حَفْز الناس إلى التضحية بموارد ضخمة من أجل حرب تجري بعيدةً كلَّ البعد عنهم؛ مما يجعلهم يشعرون أنْ لا ناقة لهم فيها ولا جَمل.
وما إن تبلغ الإمبراطورية حدود النمو القصوى لها حتى تتوقف عملية إضفاء الطابع الريجالي لتبدأ عملية إضفاء الطابع الكاليبتي، وهنا تكون الحكومة الاستبدادية هي وحدها القادرة على الحفاظ على تماسك هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، وحفظ النظام وضمان القوة العسكرية.
ولا يرى الناس ضرورة لقيام نظام حكم على درجة عالية من الطغيان والاستبداد؛ ومن ثم يبدءون في الثورة. وما إن يبدأ الإمبراطور يخفف على مَضَض من سطوة قبضته الحديدية حتى تبدأ تتفجر النزاعات والصراعات الداخلية، ويظهر فجأةً أن الناس أقل تجانسًا مما كان الظن سابقًا. ونلحظ أن جميع هذه الجماعات الفرعية التي سبق أن تم إلحاقها الواحدة بعد الأخرى بالإمبراطورية؛ إنما حرَصت على الاحتفاظ ببعض خصائص هويتها الدينية أو العرقية. وتتعزز هذه الهوية مع الحماسة في الدعوة إلى الاستقلال والتمرد ضد استبداد الحاكم. وينقسم السكان على أنفسهم، وتحارب جماعات فرعية مختلفة من أجل الاستقلال. وتبدأ الإمبراطورية في التفكك، ويعيش الملك محنة يحاول خلالها قمع الجماعات المتمردة؛ رغبةً في الحفاظ على تماسك الإمبراطورية. وقد يحدث في هذه الأثناء أن تبدأ مملكة جديدة مجاورة تنمو وتكبر، وتغدو الإمبراطورية القوية التي بدأت تتفسخ ويسودها نظام كاليبتي فريسةً سهلة إزاء الجهود التوسعية للمملكة الجديدة الصاعدة، ويفتقر المواطنون إلى الحماس الصادق في الدفاع عن بلدهم عندما يهاجمها جيش الإمبراطورية الناشئة؛ إذ ليس بوسعهم أن يتخيلوا أن الحاكم الجديد ربما يكون أكثر طغيانًا واستبدادًا وقسوةً من الحاكم القديم، ويستسلم الكثيرون للإمبراطور الجديد وقد ظنوا أنه محرِّرُهم، وهكذا تظهر وتنمو إمبراطورية جديدة. وتضم الإمبراطورية الجديدة جزءًا من الإمبراطورية القديمة ويتفتت الجزء الباقي ويتحول إلى دويلات صغيرة.
والملاحظ أن الطابع الريجالي هو الذي غلب على عملية الانتخاب الثقافي منذ العصر الحجري، وبلغ ذروته مع نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ منذ ذلك التاريخ تم استعمار جميع القارات، كما تم استنفاد أي إمكانات جديدة للتوسع. والآن وبعد أن لم تعُدْ ثمة إمكاناتٌ جديدة، بدأت القوى العظمى في التنافس من أجل غزو الفضاء الخارجي. وحيث إن الفضاء الخارجي غير مأهول ولا يصلح لسُكنى البشر، فإن المعركة ليس لها سوى أهمية رمزية.
(٢) تطور الأديان
وكان الشرط الأول لظهور التطور الثقافي في الأزمنة الأولى هو وجود آلية تكاثر فعالة، وكان المطلوب هو حامل للمعلومات يمكنه نقلُ تعليمات تحكمية مطلقة من جيل إلى جيل؛ حتى يصبح بديلًا كفؤًا عن الجينة، ومن هنا نشأ الدين؛ ذلك أن الدين في الحقيقة هو هذه الآلية التي تيسر اتصال الأحكام والقواعد والتعليمات والتحريمات التحكمية المطلقة؛ لذلك سأزعم أن الدين — أو على الأصح: نزوع البشر للتدين — نشأ نتيجة تطور جيني/ثقافي مشترك كجزء من طاقتنا التي هيأتها لنا الثقافة؛ بسبب قيمتها العليا باعتبارها تكيُّفًا أعلى. وبعد أن فسرنا ظهور آلية تكاثر ثقافي لم تعُدْ أمامنا مشكلات تحول دون تفسير العاملَين اللازمَين لتيسير التطور الثقافي؛ وهما الابتكار والانتخاب. وخلاصة هذه الحجة أن الإنسان الأول طور القدرة والنزوع للتدين؛ لأن ذلك يمثل أساسًا لتكيفٍ أعلى أصبح له منذ نشوئه تأثيرُه المهول على تطور الجنس البشري.
وإذا كانت الأديان الأجنبية تبدو لنا غريبةً وخرقاءَ عند النظر إليها بعيون العلم المعاصر، فحريٌّ بنا أن نتذكر بأن لها وظيفة مهمة:
«يمكن النظر إلى هذا الإرث الثقافي في ضوء القواعد التطورية باعتباره إرثًا تكيفيًّا؛ ومن ثم حريٌّ بنا أن نتعامل معه بتوقير واحترام. وعلينا أن ندرك أن عالم البيولوجيا التطورية حين يصادف شكلًا يثير الحيرة والسخرية في الحياة الحيوانية، فإنه يدرسه وفي نفسه قدرٌ من الرهبة؛ إذ إنه على يقين بأن وراء هذا الشكل الغريب تكمن حكمةٌ وظيفية لا يزال عليه أن يفهمها. وأعتقد أن الأمر بالنسبة للتطور الاجتماعي الثقافي كفيل تمامًا بأن يدفع علماء النفس وغيرَهم من العلماء الاجتماعيين عند التفكير في شيء يبدو مضحكًا في ظاهره وغيرَ مفهوم في ضوء تراثهم هم الاجتماعي، أو التفكير في أمر يتعلق بثقافة أخرى — إنما يتعين عليهم — أن يتناولوه بالدراسة وفي نفوسهم مثل هذه الرهبة. ولهم هنا أن يتوقعوا بأن ما يبدو لهم في ظاهره خرافة غريبة سوف يتحول بعد أن يفهموه وتفسره لهم النظريات الأخرى إلى أمر له دلالة تكيفية. وإني أرى أن علم النفس والطب النفسي في عصرنا هذا يفتقران تمامًا إلى مثل هذا النهج.»
«إن أكثر الشعائر والطقوس والخيالات بربرية، وأشد الأساطير غرابة؛ إنما تترجم بعضًا من حاجات الإنسان، وبعضًا من جوانب الحياة؛ سواء الفردية أم الاجتماعية. وإن الأسباب التي يستند إليها المؤمن في تبريرها قد تكون — وعادةً ما تكون — خاطئة، ولكن الأسباب الحقيقية لم تزل قائمة؛ ومن ثم فإن واجب العلم اكتشافُها؛ ولهذا لا توجد في الحقيقة أديان زائفة؛ جميعها حقيقي صادق حسب طريقته، وجميعها تعطي إجابة ما — وإن اختلفت الأساليب — بشأن الظروف المحيطة بالوجود البشري.»
ويمثل الدين صورة بدائية من صور تنظيم المجتمع، والخطوة الأولى التي تعلو المنظومة التراتبية الهرمية في سُلَّم الحيوانات الاجتماعي. ونجد من يقارن الشعائر الدينية، وما تبديه من خضوع للأرباب، بشعائر الحيوانات الاجتماعية التي تبدي خضوعًا وتسليمًا لرئيس مهيمن من النوع ذاته (موريس، ١٩٦٧م).
ولقد كان الدين آلية شاملة لكل مناحي الحياة بهدف تنظيم وضبط المجتمعات البدائية، وأُدمجت كل مظاهر الحياة البشرية داخل العقيدة الدينية، حتى لم يعد ثمة مجالٌ للتمييز بين الدين والثقافة في هذه المجتمعات. ومع التطور الثقافي ونمو المعارف البشرية اكتسب الانتخاب العقلاني تدريجيًّا أهمية أكثرَ فأكثر؛ قياسًا إلى آليات الانتخاب الأخرى الأقل كفاءة، وهكذا أصبح المجتمع رويدًا رويدًا أكثر فأكثر علمانية. والملاحظ أن الوظائف التي كانت في السابق جزءًا متحدًا بالدين أخذت تنفصل شيئًا فشيئًا، وتتحول الواحدة بعد الأخرى إلى قطاعات مستقلة ذاتيًّا: السياسة والاقتصاد والإدارة والقضاء والتعليم والثقافة والطب والعلم والخدمة الاجتماعية والرعاية النفسية … إلخ، وأخذ الدين يفقد رويدًا رويدًا الكثير من وظائفه ليقتصر في النهاية على شئون العبادات.
(٣) الإحيائية Animism
وكانت الشعوب البدائية تؤمن بالأرواح أكثر من الأرباب؛ ذلك أن كل شيء في الطبيعة وفي السماء له روح، وكفلت عبادة أرواح السلف استمرارَ واستقرار الثقافة. والملاحظ أنه حتى الأشياء اليومية مثل الأكواخ والأدوات والأغذية جميعها أمور قدسية أو محمَّلة بدلالات دينية، والكلمات لها قوة السحر، وكانت الوظيفة الأهم للدين هي تنظيم الحياة اليومية؛ ولهذا كانت جميع الأفعال والتصرفات داخلة عضويًّا ضمن منظومة العقيدة؛ إلى حدِّ أن لم يكن بالإمكان في تلك المجتمعات التمييز بين الدين والثقافة.
(٤) عقيدة تعدد الآلهة
كان تطبيق الزراعة وتربية الحيوانات يعني تحولًا جذريًّا في أسلوب الحياة؛ ومن ثم تحولًا آخر في الدين؛ إذ بينما كانت علاقة الصياد البدائي بفريسته أشبه بمن يتلقى منحةً ومنَّة، كان الزارع قادرًا على إنتاج طعامه هو، ولم يعُدِ البشر يعتبرون أنفسهم أدنى من الحيوانات، بل أندادًا على قدم المساواة، ثم اعتبروا أنفسهم بعد ذلك أرقى شأنًا من الحيوانات وأخيرًا سادتها.
ورويدًا رويدًا، وبعد أن أصبح البشر أكثر فأكثر قوةً وسيطرةً على ظروف حياتهم، بدأ إبدال الأرواح والأرباب، أو تحولوا تدريجيًّا إلى أرباب على صورة البشر. وأصبح هؤلاء الأرباب أكثر قوةً وسلطانًا بعد أن أصبحت القوة والسلطة مفهومًا مهمًّا في حياة البشر اليومية، وحلت الأرباب محل الشخصيات الأسطورية كموضوعات يُسقِط عليها البشر خيالاتهم. وتزايد تقسيم العمل في المجتمع، وانعكس ذلك في مملكة الأرباب أيضًا: الكهان والمحاربون والزرَّاع والتجار، كل فريق له أربابه. وأدى تقسيم العمل وزيادة الدمج السياسي إلى ظهور تراتُبية هرمية معقدة، وإلى اتساع الهوَّة بين القمة والقاعدة. وانعكست هذه التراتبية الهرمية بدورها في تراتبية مماثلة بين الأرباب؛ وخاصةً في زيادة المسافة الفاصلة بين الأرباب والبشر، ولا بد وأن نشأت — كما سبق أن أوضحنا — حالةٌ من المواءمة بين المجالات المختلفة للثقافة. لذلك نجد بالضرورة مع تطور الدين مواءمةً بين مملكة الأرباب ومملكة الحياة البشرية، وهذه المواءمة تتجلى واضحة في حقيقة الأمر في مظاهر تَماثُل كثيرة بين حياة الأرباب وحياة البشر.
ومملكة الأرباب متعددة الآلهة لها عدد من الوظائف النفسية التي تشبه وظائف الشخصيات في حكايات ومسرح الأطفال. ويشبه عالم الأرباب عالم البشر الفانين بكل ما فيه من خير وشر، ويمثل الأرباب هنا الموضوعات التي يُسقِط عليها البشر مختلِفَ أدوار الحياة في المجتمع وما يدور فيه من نزاعات بينهم. واختلق البشر نزاعات خيالية تجري بين الأرباب، واستطاع البشر بهذه الوسيلة أن يصطنعوا لأنفسهم شاشة يسقِطون عليها تخييلاتهم التي تسمح لهم بتفسير وتبرير النزاعات والعمل في المجتمع على الرغم منها؛ ومن ثم فإن الأرباب نماذج للأدوار التي تتمثل في سلوك البشر. وتسامى البشر بسلوك الأرباب إلى مستوى نموذجي؛ وذلك بأن عمدوا إلى تشخيص الأرباب في صورة أوثان وعبادتها. وهكذا لم يعد الأرباب مجرد موضوعات أسقط عليها البشر خيالاتهم فحسب، بل أصبحوا كذلك موضوعات تحتل مكنون الوعي والتوحد معها. ويجري استدخال نماذج الأدوار الخاصة بالأرباب وعلى أساسها تتحدد معايير الأدوار الاجتماعية، ويتأكد ويترسخ الولاء للأرباب عن طريق الأضاحي والقرابين المتواترة.
ولا ريب أن الأرباب في صورة البشر أكثر تلاؤمًا من الأرباب في صورة الحيوانات كنماذج للتطابق معها؛ لذلك كانت عقائد تعدد الآلهة أداةً أكثرَ فعاليةً للتحكم في مجتمع معقد، وتطورت المجتمعات المؤمنة بتعدد الآلهة تدريجيًّا، واستحدثت مملكة الأرباب متسلطين ومحاربين جبارين؛ ليكونوا أداة لإضفاء الطابَع الملكي للمجتمع؛ على النحو الذي أوضحناه في مستهل هذا الباب.
بيد أن عقيدة تعدد الآلهة بعيدة تمامًا عن الدين المغرق في الطابع الريجالي؛ إذ تبدو عقيدة تعدُّد الآلهة أقرب إلى الطابع الكاليبتي عند مقارنتها بعقيدة التوحيد أو وحدة الوجود؛ ذلك أن عالم الأرباب المتعددة يمكن استخدامه يقينًا لتبرير مجتمع عسكري وقائم على التراتُبية الهرمية، ولكنه لا يشجع المحورية العرقية، وليس ثمة حد نظري لعدد الأرباب. وجدير بالذكر أن المؤمنين بعقيدة تعدد الآلهة حين يلتقون أجانب سيرون آلهة الأجانب إما أنهم مطابقون لآلهتهم هم، أو أنهم بمثابة أرباب محليين، ولكن ليسوا زائفين. وها هنا تشبه عقيدة تعدد الأرباب العقيدة الإحيائية في عدم تبرير قهر الأديان الأخرى.
سمة أخرى تحُدُّ من الطابع الريجالي للمجتمعات المؤمنة بتعدد الأرباب؛ ألا وهي الصراع بين الأرباب؛ إذ يمكن أن يتصارع الأرباب ويتقاتلون، وليس ثمة قانون طبيعي يحسم أيهم المنتصر. ونجد بالمثل في المجتمع البشري حيث النزاعات الداخلية يمكن حسمها بالاقتتال، وليس ثمة ما يحول دون العبيد أو غيرهم من المقهورين من محاولة التمرد. والملاحظ أن الملك حتى وإن برَّر سلطانه بمزاعمَ تفيد أنه الأقرب إلى الأرباب دون سواه من البشر، فإن هذا لا يعصمه من الهجوم. وكما كان بالإمكان الإطاحة بملك وتنصيب غيره، أو بعبارة أخرى: لا تستطيع عقيدة تعدد الآلهة أن تمنع الانتخاب الداخلي في المجتمع؛ ومن ثم لا تستطيع أن تحول دون إضفاء الطابع الكاليبتي على المجتمع.
إننا نعرف عن عقائد تعدد الآلهة أكثر مما نعرف عن العقائد الإحيائية البدائية. لقد خلفت الإمبراطوريةُ القائمة على العقائد التعددية الكثيرَ من معالمها في تراثنا الثقافي. وبلغت عقيدة تعدد الأرباب أوج ازدهارها في العصور القديمة، مع اتساع نطاق الوحدات السياسية وتحولها إلى وحدات أكبرَ فأكبر. وأدى تمركز السلطة في ارتباط بترابية هرمية قوية، إلى أن أصبح بإمكان رجال الدين والسياسة ابتكار مصنوعات فنية ثقافية تتسم بقدر غير مسبوق من العظمة والأبهة، وانعكست الفوارق التراتبية في العمارة: مدافن ركامية، والنُّصب الحجرية الضخمة «الميجاليث»، والأهرام والمعابد والقصور، كذلك فإن زيادة الثروات ومظاهر تقسيم العمل هيأت لرجال الدين والفلاسفة والشعراء والنحاتين الوقتَ اللازم والموارد الضرورية لإنتاج أعمال فنية ذات نِسب وأبعاد رائعة.
(٥) عقيدة التوحيد
عقيدة التوحيد هي الصورة الأكثر ريجاليةً من بين جميع الصور المعروفة عن الدين. خلق الرب الواحد الأرض والبشر، إنه القوي، ويطالب جميع البشر بطاعة غير مشروطة. وإذا كنا نسلم بأن مملكة ما فوق الطبيعة نموذج للحياة البشرية — كما سبق أن أوضحنا في عقيدة تعدد الآلهة — إذن لا ريب في أن الإله القوي المكين هو النموذج الأعلى لملك مستبد. وتمثل العلاقة بين الرب والبشر الزائلين نموذجًا للعلاقة بين الملك ورعاياه؛ فالملك اختاره وباركه الرب، والمطالبة بالطاعة والانصياع لإرادة الرب تعني في الممارسة العملية طاعة وانصياعًا لممثلي الرب على الأرض؛ أي: الملك ورجال الدين والأوامر الدينية. لذلك تعتبر عقيدة التوحيد أكثر صور الأديان ملاءمةً لتبرير الملكية المطلقة ولضمان استقرارها، أو أنها تركيز قوي للسلطة … كذلك فإن عقيدة التوحيد دين أبوي؛ لأن الرب ذكر، ولا نجد ربَّةً أنثى.
سمة أخرى مهمة تجعل عقيدة التوحيد عقيدةً ريجالية، وهي ظاهرة عدم التسامح بشكل استثنائي مع الأديان الأخرى. ولاحظنا أن المؤمنين بتعدد الآلهة ينظرون إلى أرباب الشعوب الأخرى على أنهم ليسوا أقل حقيقةً وواقعية من أربابهم. ويسلِّم الحلوليون بأن الألوهية يمكن أن تظهر أو أن نتصورها في أي شكل نراه، بما في ذلك أشكال يمكن أن تعزوها الأديان الأخرى إلى أربابها. ولكن الموحدين، على العكس من ذلك، ينكرون وجود كل الأرباب الأخرى فيما دون إلههم الأوحد، ويرون في عبادة تلك الأرباب غير الموجودة في رأيهم الخطيئةَ الكبرى، ونتيجة لذلك يعزف أصحاب عقيدة التوحيد عن الاستماع إلى الخطاب الديني للأجانب. وواضح أن هذه النزعة التعصبية المتطرفة لها وظيفة ريجالية؛ من حيث إنها تقلل إلى أدنى حدٍّ احتمالَ أن يتحول الموحد إلى عقيدة أخرى، وتُضاعف من حافزه إلى دعوة الآخرين للتحول إلى عقيدته.
ويلاحظ أن الفصل بين الرب والبشر الفانين في عقيدة التوحيد فصل مطلق؛ فالزمن هنا يتصورونه في صورة خطية، يبدأ مع الخلق وينتهي مع يوم الدين. ونادرًا ما يؤمن الموحدون بالحلول؛ نظرًا لما في هذا الاعتقاد من تناقض مع المفهوم الخطي للزمن.
والمعروف أن الأديان التوحيدية الثلاث الكبرى، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، نشأت جميعها في آسيا في عصور شهدت صراعًا لا يتوقف بين البدو الرُّحَّل والمشتغلين بالزراعة.
«إن الثبات الفريد لجهاز ضبط النفس ذهنيًّا، والذي يظهر في صورة سمة حاسمة راسخة في عادات كل امرئ «متحضر» تربطه أوثقُ علاقة بعملية احتكار القوة المادية والثبات المتنامي للأعضاء المركزية في المجتمع.»
وبعد صلب يسوع المسيح انشقت المسيحية عن اليهودية. لم يؤمن اليهود بالمسيح، واحتقر المسيحيون اليهود لأنهم صلبوا يسوع المسيح، وانطلق المسيحيون إلى كل أرجاء الأرض يبشِّرون كما أوصاهم يسوع، وآمن بهم تدريجيًّا الكثيرون.
وبعد ستمائة عام تقريبًا ظهر محمد، ودعا إلى عقيدة الإسلام التي وحدت العرب. ولم ينكر محمد اليهودية والمسيحية السابقتَين عليه، وإنما هما عقيدتان تؤمنان بإله الإسلام ذاته. واستطاع أن يجذب حوله الكثيرين ممن آمنوا به خلال سنوات قليلة.
وعلى الرغم من أن الأديان التوحيدية الثلاثة تنبع من مصدر واحد، إلا أن استراتيجية كل منها في عملية الانتخاب الثقافي مختلفة عن الأُخريَين تمامًا؛ إذ يرى اليهود أنفسَهم شعب الله المختار؛ ولذلك لا مبرر لأن يبشر اليهودي بدينه. ويتحدد معنى اليهودي بأنه المولود من أم يهودية. وقليلون هم من تحولوا إلى اليهودية، وهو ما لم يحدث إلا عند الزواج بيهودية. ونجد من ناحية أخرى الكثيرين من اليهود الذين تحولوا عن عقيدتهم واعتنقوا دياناتٍ أخرى. والنتيجة أن الوسيلة الوحيدة لانتشار اليهودية هي زيادة النسل من اليهود. وتخضع اليهودية لأخلاق جنسية صارمة تُلزم اليهود بزيادة النسل. واليهودية عقيدة وشريعة تتضمن تعاليمَ محددةً للاستقامة والأسلوب الصحيح في الحياة.
عاش الشعب اليهودي أغلب حياته مضطهدًا منفيًّا، واستطاع اليهود الحفاظ على أنفسهم بفضل تضامن قوي ونظام تعليمي كفؤ. وكان اليهود، كجماعة، يعيشون في الشَّتات إلى أن نشأت إسرائيل وبدأت الهجرة إليها. وأدت قرون الاضطهاد إلى ترسخ الطابع الريجالي الاستبدادي، وهو ما يتجلى واضحًا في الصراع بين العرب وإسرائيل، ونجد في التاريخ شواهد كثيرةً تبين أن تطور الطابع الريجالي الاستبدادي لدى جماعة ما خلال تبنِّيها موقفًا دفاعيًّا؛ إنما يجعلها في سهولة ويسر تلتزم موقفًا عدوانيًّا وقتما تحين الفرصة؛ ذلك أن أي شعب ينتقل من حالة القهر إلى السلطة فإنه يتحول إلى قوة قهر، وينزع إلى قهر الآخرين، حتى وإن تصورنا من زاوية أخلاقية أن كان الأجدر به أن يكشف عن قدْرٍ من التضامن مع الشعوب الأخرى المقهورة.
والملاحظ أن استراتيجية الانتخاب الثقافي في المسيحية أكثر ريجالية منها في اليهودية؛ إذ ثمة عنصر مهم في هذه الاستراتيجية، وهو أن المسيحية تطالب المؤمنين بها بالتبشير (الكتاب المقدس، متَّى، ٢٨: ١٩). ولقد كانت المطالبة بالتبشير عاملًا حاسمًا هيَّأ للمسيحية إمكانيةً لم تتوفر لدين آخر للانتشار عن طريق الإرساليات التبشيرية والحروب الصليبية والحروب الدينية والغزوات والاستعمار وكذا الاضطهاد المنظَّم لكل صاحب عقيدة مخالفة؛ الأمر الذي بلغ ذروته في محاكم التفتيش. ولم يتحول سوى قليلين طوعًا وبمبادرة منهم، غير أن الملايين دخلوا الدين إمَّا تملقًا وغوايةً أو قسرًا.
وطبيعي أن مثل هذا التوسع ذا الطابع الريجالي لم يكن ممكنًا إلا بفضل سيطرة قوية وفعالة على المجتمع. ولقد كان التهديد بالمطهر أو الجحيم وسيلةً قوية حقًّا، ولكن أصبح بالإمكان إضفاء قوة أكبر عليها عن طريق إضافة أداة من أدوات القوة والسلطة والتي تميز المسيحية، وأعني بها الخطيئة الأولى. ذلك أن المسيحية هي الدين الوحيد الذي يزعم أن جميع البشر أصحاب خطيئة، فإنها تجعل كل امرئ يحمل على كاهله دَينًا أبديًّا هو الاعتراف بفضل الرب يسوع الذي ضحى بنفسه ليكون فداءً وليكفِّر بذلك عن خطايا البشر الزائلين. وليس على المسيحيين سوى أن يلتمسوا الرحمة من الرب، وبات لزامًا عليهم دوام الصلاة والدعاء ليغفر الله لهم خطاياهم:
«لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعِل الكثيرون خُطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعَل الكثيرون أبرارًا.»
«فإني أسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويَسْبيني إلى ناموس الخطيَّة الكائن في أعضائي.»
«ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟»
ورغبةً في السيطرة على الخطيئة التي لا مناص منها، عمَد المسيحيون الأتقياء إلى الاعتزال في أديرة والتزام حياة الزهد بعيدًا عن كل مظاهر الغواية في العالم. ويمثل الزهد وسيلة فعالة لضبط النفس وجعْل المؤمن مهيَّأً لطاعة وصايا الدين مهما كلَّفه هذا من آلام. وجدير بالذكر أن نزعة التطهر «البيوريتانية» يمكن أن تكون الحاكمة، ليس فقط داخل الأديرة بل وأيضًا في الخارج حيث تمارَس الوظيفة ذاتها.
وتمثل النزعة المحافظة أهم عامل حال دون انتشار أي من الأديان الثلاثة ذات الطابع الريجالي (الاستبدادي) أكثر مما هي عليه الآن. والملاحظ مثلًا أن الإسلام هو أحدث الأديان العالمية، ولكن المجتمعات الإسلامية عاجزة عن التكيف مع المجتمع الحديث؛ ذلك أن التأويل الإسلامي اليوم ريجالي الطابع وغير مرن؛ شأن المسيحية في العصر الوسيط. ولا ريب في أن فقر التعليم والثقافة بين المسلمين حال دون تفاعلهم مع العلم الحديث الذي يمكن أن يكون حافزًا لهم، هذا فضلًا عن عجزهم التقاني. كذلك فإن تحريم الربا (أحد القواعد الدينية التي أسقطتها المسيحية منذ زمن طويل) يمثل عقبة أخرى مهمة تحول دون التطوير الاقتصادي؛ ومن ثم عجزهم عن المنافسة وَفقًا لشروط اقتصاد السوق الحرة.
(٦) الديانات الشرقية
الديانتان الشرقيتان، البوذية والهندوسية، ليستا مثل الديانات العالمية الأخرى؛ ذلك لأنهما ديانتان حلوليتان أكثر منهما موحدتان.
والديانة الأهم في الهند هي الهندوسية، وهذه الديانة ليس لها مؤسس، وإنما تطورت مع الزمن. وينقسم الهندوس إلى طوائف، ولكل طائفة دور هام في المجتمع. ويولد المرء في طائفة بعينها، ومحظور عليه الزواج خارج طائفته. ويحفظ هذا النظام تقسيمًا قديمًا للعمل بين رجال الدين والمحاربين والمنتجين. وجدير بالذكر أن النظام الطائفي هذا لا يزال نافذًا على الرغم من صدور قانون بإلغائه عام ١٩٥٠م.
والملاحظ أن جميع ديانات العالم ريجالية الطابع، وما كان بالإمكان أن تكون دياناتٍ عالميةً بدون ذلك، ولكن ديانات الشرق ليست ريجالية تمامًا؛ شأن ديانات التوحيد، كما وأن استراتيجيتها للتكاثر خلال عملية الانتخاب الثقافي مختلفة تمامًا. ولعل الأهم أن ديانات الشرق متسامحة مع أصحاب المعتقدات الأخرى؛ إذ على الرغم من وجود مدارس فكرية عديدة داخل الهندوسية، إلا أنه نادرًا ما يحدث صراع بينها. إن المقدس جزء من الإنسان، أيِّ إنسان، ويمكن أن يأخذ أي شكل؛ بما في ذلك الأشكال التي تعزوها الأديان الأخرى إلى أربابها؛ لذلك لا توجد أرباب زائفة أو أنبياء مزيفون، ولا يرى الهندوسي خطأ في أن يعبد يسوع إذا ما شعر أن من الخير له أن يسلم أمره لإله في هذا الشكل.
وثمة رؤيا حاكمة تجمع بين ديانات الشرق وعقيدة التوحيد؛ وهي أن البشر ينالون عقابًا بعد الموت جزاء خطاياهم. ونعرف أن أصحاب عقيدة التوحيد يؤمنون بأن مآلهم بعد الموت إما إلى المطهر أو الجحيم وإما إلى الفردوس؛ تأسيسًا على كمِّ الخطايا التي ارتكبها المرء. ولكن الهندوسي يتقمص أو يتناسخ في طائفة أخرى؛ تأسيسًا على كارماه؛ أي حصاد أفعاله ونواياه في الحياة الدنيا. كذلك البوذيون فإنهم يتناسخون ولكن ليس في طوائف مختلفة، وإنما في عوالم مختلفة. وترى عقيدة التوحيد أن الحاكمية لله، فهو الذي يقضي ويعاقب، ولكن في الهندوسية وفي البوذية فإن الكارما — كقانون من قوانين الطبيعة — هي التي تقرر مصير كل شخص. وترى عقيدة التوحيد أن عين الله لا تخفى عنها خطيئة، وإنما تسجلها جميعها، وترى أديان الشرق أن كل الأفعال الخاطئة تترك أثرها الدال عليها في كارما الشخص. ويبين هنا أن النتيجة واحدة في الحالتين ضبطُ النفس؛ ذلك أن البشر إذ يؤمنون بأن كل خطيئة لها نتائجها المترتبة عليها وعواقبها بالنسبة لهم، وأن كل فعل خاطئ لن يكون خافيًا مستورًا، فإنهم هنا يخضعون بالكامل لسيطرة الدين.
وعلى الرغم من أن جميع أديان العالم تعتمد، كما رأينا، على مسئولية الفرد عن ضبط الذات والتحكم في نفسه، إلا أنَّ ثمَّة فوارقَ كبيرةً بين الكيفية التي تستخدم بها الأديان المختلفة هذه السلطة على الناس لخدمة التكاثر الثقافي. وإذا كانت نظرة عقيدة التوحيد إلى العالم تقوم بدور النموذج للملكية المركزية، فإن نظرة عقيدة الحلول على خلافها؛ إذ تمثل ضمنًا دافعًا إلى اللامركزية. ونلاحظ أن ديانات الشرق أقل نزوعًا إلى القتال والحرب، إنها تاريخيًّا لم تبدأ بشن حروب دينية أو صليبية، كما وأن نشاطها التبشيري أقل عدوانيةً بكثير من المسيحية. وإذا كانت استراتيجية عقيدة التوحيد إنكار الأديان الأخرى ومحاربتها، فإن استراتيجية عقيدة الحلول هي الامتزاج مع الأديان الأخرى والتأثير فيها من الداخل؛ على نحو ما يفعل الفيروس. وهذه، ولا ريب، استراتيجية أكثر سلمية وأقل ريجالية؛ لأنها تعمل على أساس الانتخاب داخل المجتمع.
تحدد المسيحية عددًا من الوصايا والقواعد التي يتعذر — إن لم يكن من المستحيل — الوفاءُ بها، بيد أنها — وعلى عكس ديانات الشرق — لا تقدم نهجًا فعالًا يوضح السبيل لقمع شهوات المرء نحو الخطيئة؛ حتى يتسنى له طاعة وصايا الدين والوفاء بها. ونجد الهندوس والبوذيين على خلاف ذلك يتعلمون اليوجا والتأمل، وغير ذلك من تقنيات العلاج النفسي التي تمكِّنهم من التخلي عن جميع الملذات وتحمُّل كل صنوف المعاناة ومآسي الحياة. وبينما تفرض ديانة التوحيد على أتباعها مقاومة شهواتهم وغرائزهم تركِّز ديانات الشرق على العلاج النفسي الذي يؤثر في النفس مباشرةً ويطمس الدوافع، وهو ما من شأنه أن يجنِّب المرء صراعًا نفسيًّا باطنيًّا. وأكدت هذه الآلية على نحو يقيني ما زعمه عالِم التحليل النفسي سي جي يونج من أن الدين علاج نفسي (يونج، ١٩٣٥م؛ وانظر أيضًا: فرويد، ١٩٤٨م).
والملاحظ أن إمكانات هذه الديانات للتوسع تبلغ أقصاها في المناطق غير الخصبة؛ حيث العمل الشاقُّ ضرورة للبقاء؛ ومن ثم تقدم هذه الديانات للمؤمنين بها ملاذًا على مدى الحياة للهرب من الواقع؛ عن طريق الدعوة إلى نبذ العالم المادي.
إن تاريخ مهاتما غاندي خير مثال على فعالية وجدوى استراتيجية اللاعنف. لقد نظم في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا عصيانًا ضد قهر حكومة البيض للعمال الهنود المقيمين ضيوفًا على البلد، ودعا أنصاره إلى رفض تقديم بطاقات الهوية عند طلبها، وطالبهم، بدلًا من ذلك، بأن يأخذوا على أنفسهم عقدًا مقدسًا برفض التسجيل حتى وإن كلفهم هذا السجنَ أو الموت، ولكن عليهم تجنب استخدام العنف بشكل مطلق، وترك استخدام العنف لخصومه. وأثبتت هذه السياسة أنها فعالة للغاية، حتى إن غاندي استخدمها بعد ذلك في الهند، وحصلت الهند بفضل جهوده على الاستقلال عام ١٩٤٧م، وأفادت سياسة غاندي كنموذج تقتديه الكثير من حركات التحرر بغير وسائل العنف في الغرب.
(٧) الديانات ثورة ثقافية
ونذكر أكثر من ذلك أن المسيحية التي شنَّت دائمًا وأبدًا حربًا ضد أي عقيدة أخرى وضد أي شكل من أشكال الوثنية؛ ليست عقيدة توحيدية خالصة، وإن زعمت ذلك. إن روح القدس تشبه كثيرًا جدًّا في جوهرها ربوبية عقيدة الحلول، وإن الثالوث المؤلَّف من الرب ويسوع والروح القدس سمة من سمات عقيدة تعدد الآلهة، كذلك فإن تقديس الأنبياء والملائكة يذكِّرنا بعقيدة تعدد الآلهة، كما يذكرنا تقديس القدِّيسين والأولياء بعقيدة عبادة السلف. ولكن أصدق برهان على سمات عقيدة تعدد الآلهة يتمثل في وجود الشيطان؛ ذلك أن الشيطان يطابق من جميع النواحي تعريف عقيدة تعدد الآلهة للرب: إنه كائن لا دنيوي، خالد، صاحب نفوذ على العالم الأرضي الدَّنِس، علاوة على هذا فإنه يتأثر بالقرابين، هذا على الرغم من أن تقديم القرابين باسمه خطيئة قاتلة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة؛ ذلك أن الله القوي المكين لن يقبل أبدًا بوجود الشيطان. وجدير بالملاحظة أن أقدم الديانات، وهي العقيدة الإحيائية، بقيت في المسيحية. ونعرف أنه في أيام يسوع كان لا يزال الاعتقاد السائد بأن الأمراض تسببها أرواح شريرة يتعين طردها بالرُّقَى والتعاويذ، ويقدم الكتاب المقدس أمثلة كثيرة تقول بأن يسوع وتلامذته عمدوا إلى شفاء المرضى عن طريق طرد الأرواح الشريرة بالرقى والتعاويذ.
ولكن لا تزال المسيحية — شأن الأديان الأخرى — تتطور، ولا تزال عمليات طرد الأرواح الشريرة بالرقى والتعاويذ تمثل بعض التيار سائد بين الناس. ونلحظ أن كثيرًا من المفاهيم ذُويت وتلاشت تدريجيًّا خلال الفترات التي اصطبغت فيها المسيحية بالصبغة الكاليبتية؛ مثال ذلك أن مسيحيين كثيرين لا يؤمنون اليوم بالمطهر والجحيم والشيطان.
(٨) العلمنة secularization
(٩) الإمبريالية
إذا عدنا بأنظارنا إلى أواخر العصور الوسطى يمكننا أن نلحظ أن المسافة بين الأرستقراطية والبرجوازية كانت في وسط أوروبا أكبرَ منها في إنجلترا على سبيل المثال. لقد عانت القارة لقرون طويلة من الحروب الكثيرة؛ ولهذا كانت للقوات العسكرية أهمية كبرى. وتصالحت الطبقات الوسطى والدنيا مع الاحتكار القوي للسلطة على أيدي الملك وجباية الضرائب؛ نظرًا لضرورتها لضمان الحفاظ على جيش قوي. ونظرًا لأن الولاء للحكومة كان عاملًا انتخابيًّا مهمًّا، حرَص الناس على إظهار الطاعة والانصياع للسلطات؛ الأمر الذي اشتهر به الألمان بخاصة. واختلف الوضع في الجزر البريطانية إذ كانت، بحكم الوضع الجغرافي، أقلَّ تعرضًا للحروب من القارة؛ ومن ثم كانت مؤسسة القوة العسكرية أقل شعبية، وحظيت الطبقة الوسطى بقدر أكبر من الاستقلال الذاتي والسلطة، واعتمد نجاح البرجوازية على التحكم الذاتي الذي أصبح عنصرًا هامًّا من عناصر الشخصية القومية البريطانية.
وأدى هذا — في تطابق كامل مع النظرية — إلى سيادة ثقافة ريجالية تمامًا داخل قارة أوروبا، بينما طورت الجزر البريطانية مجتمعًا أكثر كاليبتية بشكل نسبي. بيد أن هذه الصورة انقلبت تمامًا رأسًا على عقب مع تصاعد أهمية الحروب البحرية، وارتد كيد النزعة التسلطية الألمانية إلى نحر أصحابها؛ إذ أصبح بالإمكان إبدال السلطة بغيرها في أي وقت؛ ومن ثم تكون الطاعة للغالب. ولكن على العكس من ذلك فإن التحكم الذاتي البريطاني تحول ليصبح أداة ريجالية أكثر فعاليةً بعد أن تعززت سلطة الحكومة المركزية، واصطبغت بالطابع الريجالي بفضل نجاحات الأسطول. وسبق أن ذكرنا أن السيطرة من خلال التحكم الذاتي أفضل أنواع نُظُم الحُكم الممكنة. وهيأت الحرية الاقتصادية للطبقة الوسطى أساسًا ومناخًا لإنتاج وتكاثر الصناعة والتجارة اللتين بدأتا في الازدهار. وأصبحت الصناعة والتجارة هما الأساس الاقتصادي والتقاني لإنتاج تقانة عسكرية متفوقة. وثمة عامل آخر مهم؛ وهو أن الشعب البريطاني أكثر تجانسًا من شعوب وسط أوروبا، وأدى هذا التجانس إلى ترسخ نزعة قومية قوية. واستطاعت بريطانيا بفضل كل هذه الظروف أن تتغير بسرعة كبيرة نسبيًّا من بلد كاليبتي إلى حد كبير، بالمقارنة ببلدان القارة، إلى القوة الاستعمارية الأكبر في العالم. وانتشرت الثقافة البريطانية على نحو مذهل خلال فترة قصيرة، ووصلت إلى أكثر أنحاء أمريكا الشمالية وإلى أستراليا ونيوزيلاندا، هذا علاوة على ما خلفته من آثار واضحة في كلٍّ من أفريقيا وآسيا. وأدى اعتماد الشخصية القومية البريطانية على النزعة الفردية وضبط الذات إلى تحقيق نجاحات مهولة خلال عملية الانتخاب الثقافي.
وفي المقابل كان مصير الإمبريالية الألمانية، على نحو ما سوف يعرف القارئ، الإخفاقَ التام. لم تتوفر لألمانيا ذاتُ الإمكانيات للشحن البري والتجارة، وبالتالي للاستعمار على نحو ما كان الوضع على سبيل المثال بالنسبة لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا؛ علاوةً على هذا فإن الحروب المحلية الكثيرة والأرستقراطية القوية كل هذا أخَّر التطور الاقتصادي والتقاني داخل القارة. ولم تكن النزعة التسلطية كافيةً لضمان وَحدة وتماسك السكان غير المتجانسين قوميًّا. صفوة القول: تأخرت ألمانيا كثيرًا في السباق خلال محاولاتها الإمبريالية، ولم تحقق نجاحًا.
وقد يبدو عسيرًا للوهلة الأولى أن يكتشف القارئ أوجه تماثل بين شخصية البريطاني وشخصية الياباني، ولكنَّ ثمة توازيًا معينًا في تاريخ كلٍّ من البلدين، وأعني بذلك سيادةَ الطابع الريجالي المتأخر جدًّا. استطاعت اليابان بفضل تكوينها الجغرافي كجزيرة أن تحافظ حتى اليوم على الدين والثقافة بطابعهما الكاليبتي نسبيًّا. إن التدبير الاقتصادي والعمل الشاق والطاعة من الفضائل التقليدية الشرقية، ولكن جدير بالملاحظة أن الطاعة هي طاعة لسلطات لامركزية، وليس ثمة حكومة مركزية استبدادية؛ لذلك فإن الحرية والمرونة الكامنتين في طبيعة نظام الحكم اللامركزي هيَّأتَا أفضل الظروف لاقتصاد السوق. وإن هذا الجمع الفريد بين المركزية والتسامح تجاه الأفكار الجديدة مقترنًا بالتحكم القوي في الذات، كل هذا يمثل سببًا رئيسيًّا لِمَا يسمى معجزة اليابان الاقتصادية. بيد أن التطور الحادث أخيرًا والثقافة ذات الطابع الكاليبتي النسبي حالَا دون أن تؤكد اليابان ذاتها كإمبراطورية سياسية.
(١٠) المجتمع الحديث
لأول مرة منذ آلاف السنين اتخذ النزوع الرئيسي في القرن العشرين اتجاهًا كاليبتيًّا. إن المثُل العليا عن الحرية وحقوق الإنسان التي ظهرت مع الثورة الفرنسية بدأت أخيرًا تجد سبيلها إلى التحقق. استقلت المستعمرات، وتم القضاء على العبودية، وانتشرت الديمقراطية، وأضحت حقوق الإنسان أساسًا لأيديولوجية جديدة. وأهم سبب لهذا كله — كما سبق أن ذكرنا — أن كل إمكانات التوسع تقريبًا استنفدت، وهكذا بات لزامًا على التوسع الريجالي، كما هو واضح، أن يتوقف بعد أن استُعمرت جميع القارات وبدأ التطور الكاليبتي.
(١١) الهجرات
تؤدي الهجرات إلى امتزاج الناس بثقافات وديانات مختلفة، وهو ما من شأنه في غالب الأحيان أن يثير نزاعاتٍ ومن ثم إلى انتخاب ثقافي. ويمكن للانتخاب هنا أن يمضي في اتجاه ريجالي أو كاليبتي حسب الظروف والملابسات؛ مثال ذلك أن هجرة متفرقة بطيئة وغير متجانسة إلى بلد ما ستُفضي عادةً إلى كلبتة، وينظر المجتمع الجديد في هذه الحالة إلى المهاجرين باعتبارهم أفرادًا وليسوا جماعة؛ ولهذا لا يشكلون خطرًا على الثقافة القائمة. كذلك فإن المهاجرين الذين يَفِدون فُرادَى سرعان ما يندمجون في المجتمع؛ لأنهم لا يملكون أي إمكانية للحفاظ على لغتهم أو ثقافتهم الأصلية. ويتحول الناس تدريجيًّا وببطء إلى مجتمع غير متجانس بسبب الهجرة، وتمتزج الثقافات والديانات، ويألف الناس التسامح مع الفوارق ويرضَون بها، وتقلُّ فرص نشوء نزعة قومية مشتركة. وطبيعي أن كل هذه العوامل تدعم نشوء مجتمع كاليبتي.
ولكن إذا وفَد المهاجرون بمعدلات عالية، وكانوا بوجه خاص يؤلفون جماعة متجانسة، فسوف تكون هناك إمكانية لأن يؤلفوا أحياءً مستقلة لهم؛ حيث يمكنهم الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم وديانتهم الأصلية. ويؤدي هذا لا محالة إلى مواجهة بين جماعتين محددتين بوضوح: المواطنون والأجانب. ويغدو التمييز سهلًا بين الجماعتين؛ نظرًا لأن كل فريق له ثقافته التي لم تكد تمتزج بغيرها، وهنا يمكن أن تؤدي المواجهة بسهولة إلى نزاع خارجي داخل الجماعة؛ ومن ثم يضفي طابعًا ريجاليًّا على المجتمع، ويحرص كل فريق على تطوير اهتمام قوي، إلى حد التطرف، بالخصائص المميزة لثقافته، قرين مشاعر نفور ضد كل ما يمثل ثقافة الخصم كرد فعل لهذا النزاع. ويطور أبناء البلد مشاعرَ لنزعة قومية، ويلتمس المهاجرون حماية أنفسهم بالعيش في أحياء منعزلة (جيتو). ونادرًا ما يسعَون إلى مصاحبة أبناء البلد، ويؤدي هذا إلى استقطاب النزاع؛ ومن ثم يقلل من إمكانية اندماج الثقافتين. صفوة القول هنا غلبة الطابع الريجالي على كلا الطرفين.
وسواءٌ أدى امتزاج الفريقين إلى دمج أو مواجهة ثقافية، فإن هذا كما هو واضح يعتمد أيضًا على كيفية ومدى الاختلاف بين الثقافتين، وما إذا كانت في السابق ثقافة ريجالية أم كاليبتية؛ إذ لو كانت الثقافتان معًا يسودهما طابع كاليبتي نسبيًّا، وليس بينهما فارق كبير، فإن النتيجة المرجَّحة هي الدمج واطراد الطابع الكاليبتي، ولكن إذا كانت الثقافتان لهما طابع ريجالي أو بينهما اختلاف شديد، فإن النتيجة مزيد من غلبة الطابع الريجالي، وربما نشوب نزاع عنيف.
وإذا نظرنا إلى مشكلات الهجرة في أوروبا المعاصرة سوف يَبين لنا بسهولة أن فئة المسلمين من المهاجرين هم الأكثر ازدراءً، ويرجع هذا إلى ضخامة عددهم وتجانسهم النسبي كجماعة (في عيون المواطنين من أهل المهجر)، ثم أخيرًا وليس آخرًا أن دينهم ممعِنٌ في طابَعه الريجالي حتى إنهم يتشبثون في تزمت بأسلوب حياتهم الأصلية، على الرغم من عدم ملاءمته للمجتمع الذي وفَدوا إليه. وجدير بالذكر أن النزعة المحافظة التي تمثل خاصية مميزة للثقافات الريجالية تجعل التأقلم مع ظروف المعيشة الجديدة بطيئًا وعسيرًا، ويبدو في نظر الأوروبي أن الالتزام إلى حد التعصب بالأوامر الدينية ضربٌ من العبث والعمل الأخرق. ويميلون إلى تكوين أسر كبيرة الحجم أكبر مما هو ملائم في ثقافة كاليبتية، ويحرصون على تدبير زيجات مع فتيان وفتيات من بلدهم الأصلي؛ مما يُسهم أكثر في الحفاظ على ثقافتهم الأصلية.
ولكن الموقف في الولايات المتحدة مختلف جدًّا؛ حيث يوجد عدد قليل جدًّا من المهاجرين المسلمين لا يكفي لإثارة نزاع ثقافي، ولكن ثمة نزاع قديم بين السود والبيض له في الأساس أسباب اجتماعية اقتصادية ناجمة عن العبودية في الماضي.
(١٢) المنافسة الاقتصادية
قد يبدو حجم السكان ثابتًا في المجتمع الحديث، ولكنَّ ثمة شيئًا آخر ينمو ويزداد؛ ألا وهو الاقتصاد. أضحت المنافسة الاقتصادية الآن بديلًا عن المنافسة العسكرية؛ ومن ثم بدأ العالم الحديث يكون أكثر سِلمًا. ويتنافس الآن آلاف الشركات الصناعية من أجل إرضاء العملاء، وتحدِّد آليات السوق الحرة ما الذي يجري إنتاجه واستهلاكه، وتستغل الشركات متطلبات واحتياجات أي عميل لكي تبيع منتجاتها، وإذا لم تتوفر به حاجة إليها فإنها تستخدم الإعلانات لخلق حاجات مصطنعة. أو لنقل بعبارة أخرى: يجري استكشاف كل وسيلة ممكنة لبيع أكثر ما يمكن. وطبيعي أن العملاء — من حيث المبدأ — ربما يكتفون بعدد قليل ومحدود من طُرُز الأحذية، ولكنهم اليوم يشاهدون مئات النماذج المختلفة للاختيار من بينها. ولا ريب في أن النماذج المختلفة من الأحذية لا تختلف عن بعضها كثيرًا من حيث الأداء الوظيفي؛ إذ جميعها ملائمة على قدم المساواة من حيث أداء الغرض. ولكن الفارق يكمن أولًا وأساسًا في التصميمات التي تستهوي العملاء لِمَا لهم من أساليب حياة مختلفة. وتسهم الإعلانات بكثافة في تقسيم السوق إلى بؤر؛ عن طريق ربط تنويعات الإنتاج المختلفة بأساليب الحياة المختلفة، وهكذا أضحت السلع حاملاتٍ للثقافة، والتي تتمثل في العميل وفي نمو المجتمع المنتج.
وتعكس إعلانات الأزياء وأساليب الحياة كل اتجاه ثقافي جديد في المجتمع، حتى قبل أن يظهر ويسود، كما وأن التغيرات المتوالية في الأزياء تخلق حماسًا نحو الاستهلاك الزائد.
وتتلاءم المنافسة الاقتصادية في المجتمع الحديث مع الشركات الكبرى؛ ذلك أن مشروعات الأعمال الكبرى تفيد كثيرًا من الإنتاج الضخم والتوزيع واسع النطاق، مع الحد من المنافسة، وتفيد كذلك من الإعلانات على نطاق واسع؛ وذلك بالإعلان في أجهزة ووسائل الإعلام الكبرى القومية والدولية، ورعاية وتبنِّي أحداث رياضية ضخمة … إلخ. وتستطيع اهتمامات الشركات الكبرى أن تتفوق على المؤسسات الصغرى التي تكاد لا تملك الإمكانات الاقتصادية للإعلان سوى في أجهزة ووسائل الإعلام المحلية فقط، وهكذا فإن الكبير الضخم يزداد اتساعًا وضخامةً. معنى هذا تركُّزُ القوة الاقتصادية بين أيادٍ أقلَّ فأقل تدريجيًّا؛ وبالتالي زيادة نفوذ هذه القلة سياسيًّا.
لقد كان النمو المطرد هو السمة الغالبة على اقتصاد العالم الغربي لفترة زمنية طويلة؛ حتى إن النظام الاقتصادي كله، بل وأساسه النظري أيضًا، ظل متلائمًا مع ظاهرة النمو المطرد. ويرى السياسيون وعلماء الاقتصاد معًا أن حالة النمو هي الحالة السوية، وأن حفز النمو هو الحل لجميع المشكلات الاقتصادية. ولكن الآن فقط بدأ قليلون منهم يدركون أن ثمة حدًّا للنمو الاقتصادي، وأننا على وشك بلوغ هذا الحد. وطبيعي أن توقُّفَ النمو الاقتصادي سيخلق أزمة اقتصادية، إن لم نقل انهيارًا كاملًا، وسوف نشهد آنذاك آثار تلك الأزمة التي ستُضفي طابَعًا ريجاليًّا على المجتمعات.