الفصل السادس

الديموجرافيا

تعرِّف النظرية الجينية R/K الاستراتيجية R− بأنها استراتيجية حيوان أو إنسان يلد صغارًا أكثر، ولكنه ينفق مواردَ محدودةً على رعاية صغاره. غير أن تعريف الاستراتيجية K− هو أن ينجب المرء ذريةً محدودة العدد، ولكنه يستثمر موارد كثيرة لينفقها على كل فرد من نسله. وضوعفت هاتان الاستراتيجيتان في النظرية الثقافية R/K−؛ ذلك أن البشر في المجتمع الريجالي ينجبون أطفالًا أكثر، ويبدأ هؤلاء الأطفال حياتهم العملية مبكرًا، ويتزوجون ويستقلون بأنفسهم في فترة مبكرة من عمرهم، وليس الحال كذلك في المجتمع الكاليبتي؛ حيث ينخفض معدل الولادة، وينفق الأبوان الكثير من الموارد على تنشئة وتعليم أطفالهم المحدودين، ويقضي الأطفال فترة طويلة من العمر في التعليم قبل أن يصبحوا قادرين على إعالة أنفسهم وإنجاب أطفال.
وعسير علينا أن نحدد كيف يعمل تنظيم حجم السكان عند تطبيقه. إن آليات التنظيم ربما تكون شديدة التعقد ويتعذر بحثها (صمويل، ١٩٨٢م). وأهم عامل يؤثر في معدل النمو هو — كما سبق أن ذكرنا — المستوى الثقافي R/K−. ويرتفع معدل الولادة في المجتمع الريجالي، وغالبًا ما يعتبِر هذا المجتمع تكوين أسرة كبيرة الحجم واجبًا اجتماعيًّا. ويحتاج المجتمع الريجالي إلى مستوًى عالٍ من التكاثر البشري حتى يتسنى له خوضُ الحروب بنجاح، أو حتى يتمكن من التوسع واحتلال أراضٍ جديدة. ولا يتسنى كشف حجم السكان في هذه الحالة إلا بواسطة الحرب والمجاعات والأمراض، وهذه عملية تغذي نفسها وتتكرر بشكل مطرد، ولكن الوضع على خلاف ذلك في المجتمع الكاليبتي؛ حيث يتعين الحد من حجم السكان لتفادي حدوث مجاعة، ويتحقق الحد من السكان طوعيًّا عن طريق وسائل منع الحمل أو الإجهاض أو وأد الأطفال أو الهجرة أو الانتحار.
وثمة آلية تنظيم أخرى مهمة، وهي ما تسميها عالمة الاجتماع ماري دوجلاس Mary Douglas المكانة الاجتماعية. درست دوجلاس ما هو مهم في القرار الذي يتخذه كل زوجين بشأن عدد الأطفال الذين يعتزمان إنجابهم، ووجدت أن القدر المتاح من الغذاء وغير ذلك من موارد حيوية لم يكن هو العامل الحاكم في تحديد رغبة الأبوين في إنجاب الأطفال، وإنما تبين لها أن العوامل المهمة هي موارد الترف والثراء التي تعطي مكانة ومنزلة؛ ذلك أن الأبوين ينشُدان لأطفالهما مكانةً ومنزلة رفيعتين؛ ولهذا لا يريدان تقسيم الموارد التي تهيئ لصاحبها المكانة والمنزلة بين عدد كبير من الأطفال (دوجلاس، إم، ١٩٨٢م). بعبارة أخرى يبدو أن مجتمعات كثيرة طورت لنفسها منظومات خاصة بالمكانة الاجتماعية، وهي التي تؤدي دورًا خفيًّا في التحكم في النمو السكاني. وإذا حدث أنِ انهارت منظومة المكانة لسبب ما يتهدم معها بالتالي التنظيم أيضًا. ونرى هذا في حالات التدخل الثقافي الخارجي أو في حالة ما إذا دهَم الفقر أعدادًا كبيرة من السكان بحيث يصبح أي شكل من أشكال المكانة والمنزلة أمرًا يتعذر بلوغه؛ ومن ثم لا شيء يمنع الناس في هذه الحالة من تكوين وإعالة أسر كبيرة.
تبدو هذه الملاحظة مفهومة وذات قيمة من حيث العلاقة بالنظرية الجينية R/K−؛ ذلك لأن الاستراتيجية K− ستكون مفيدة إذا ما كان الأبوان ينعمان بموارد ثقافية واقتصادية وفيرة؛ نظرًا لأن هذه الموارد يمكن استثمارها في تغذية الأطفال وضمان وضع اجتماعي ملائم لهم، علاوةً على مستقبل آمن، ولكن الأبوين اللذين يعانيان من فقر شديد فإنهما لا يملكان الموارد لاستثمارها في تنشئة أطفالهما. إن المورد الوحيد المتاح لهما هو طاقة هؤلاء الأطفال على العمل؛ لذلك فإن الاستراتيجية R− هي الإمكانية الأفضل بالنسبة للفقراء لتكاثر جيناتهم، وربما لا يعي الأبوان هذه الآلية؛ إذ لو سألنا أبوين فقيرين لماذا أنجبا عددًا كبيرًا من الأطفال مما يتعذر الوفاءُ بحاجتهم للطعام، لن تجد عادةً سوى إجابة عاطفية؛ وهي أنهما يحبان الأطفال. لذلك وجدت من المستصوب القول بأن ثمة آلية نفسية بديلة تنظم عدد الأطفال الذين يرغب الزوجان في إنجابهم.
وحسب عالم الأنثروبولوجيا آلان روجرز Alan Rogers الاستراتيجية الأمثل للتكاثر باعتبارها دالةً على الثراء الاقتصادي في ضوء نموذج مبسط الثراء فيه موروث. ويوضح النموذج أن العدد الأمثل من الأطفال يكون في ظل ظروف معينة أقل عند الأغنياء منه عند الفقراء، ولكن روجرز لم يضع في الاعتبار أن نمط وراثة الثروة يظل ثابتًا لفترة زمنية طويلة لدى البشر؛ مما يمكِّنهم من تطوير استراتيجية مُثلى في هذا الصدد (روجرز، إيه آر، ١٩٩٠م).

الانتحار

يمكن تقسيم الانتحار إلى أربع فئات حسب النظرية الاجتماعية ذات النفوذ الواسع عند إميل دوركايم:

  • الانتحار بدافع غيري؛ حيث يفدي شخص المجتمع بحياته، مثل ما في حالة الحرب.

  • الانتحار قضاءً وقدرًا، مثل ما يحدث مع المسجونين والعبيد.

  • الانتحار بدافع أناني لشخص لا يعطي اعتبارًا لأحد سوى لنفسه.

  • الانتحار بدافع الاغتراب Anomic، حين يتعذر على شخص ما التكيفُ مع التغيرات الاجتماعية.

نجد الفئتين الأوليين في المجتمعات التي تتوفر فيها درجات عالية من التكامل والتنظيم الاجتماعيَّين، وتحدث الحالتان الأخريان في مجتمعات يضعف فيها التكامل والتنظيم (دوركايم، ١٨٩٧م؛ ليستر، ١٩٨٩م).

وتبين لي عند إعادة تقييم الإحصاءات الراهنة (إيفانز وفاربيرو Evans & Farberow، ١٩٨٨م؛ ليستر ١٩٨٩م) أن معدل الانتحار بوجه عام أعلى في البلدان ذات الطابع الكاليبتي منه في البلدان ذات الطابع الريجالي. وتتطابق هذه الملاحظة مع نظريات دوركايم عن الانتحار بدافع أناني وبدافع الاغتراب؛ حيث التكامل الاجتماعي يكون عند أدنى مستوًى في المجتمعات ذات الطابع الكاليبتي. إن المرء لا يجد أحدًا يوليه اعتبارًا سوى نفسه في المجتمع الكاليبتي، ويكون هو وحده سيد حياته. وتشتمل حرية العمل هذه على إمكانية أن يُنهي المرء حياته إذا لم تكن نوعية الحياة مرضية له. وليس الأمر كذلك في المجتمع الريجالي الذي تسوده أيديولوجية تقول إن الفرد لا يعيش لنفسه ولكن لصالح المجتمع وأسرته. هنا ليس للمرء الحقُّ في أن يُزهق حياته مهما كان الألم الذي يعانيه في حياته. وتتسق هذه النظرية مع الملاحظات القائلة بأن الانتحار نادرًا — على نحو نسبي — ما يقع في المجتمعات القائمة على محورية إثنية (روزنبلات Rosenblatt، ١٩٦٤م). ولكنها من ناحية أخرى واضحة التناقض مع بحث يبين أن معدل الانتحار يزيد في أوقات الأزمات (ماكان وستيوين، ١٩٩٠م). بيد أن البحث الأخير لا يميز بين أزمات الفرد وأزمات المجتمع، وليس ثمة من شك في أن أزمة الفرد يمكن أن تقوده إلى الانتحار.

وعلى الرغم من أن الانتحار يتكرر كثيرًا في المجتمعات الكاليبتية، إلا أنه يحدث أيضًا في المجتمعات الريجالية؛ خاصةً بالنسبة للفئة المسماة عند دوركايم الانتحار بدافع الغيرية. ذلك أن المرء يمكن أن يضحي بحياته من أجل جماعته أو مجتمعه في حالات نشوب نزاع أو حرب على نحو ما يحدث كمثال عند الطيارين اليابانيين الفدائيين الكاميكازي، أو شهداء الجهاد في الإسلام، أو من يفجِّرون أنفسهم. ويمكن أن يحدث الانتحار بدافع غيري أيضًا في أوقات السلم كرد فعل على حدث يجلب العار (مثال الهاراكيري، وهو انتحار الياباني تخلصًا من العار).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤