الفصل السابع

التنظيم الاجتماعي بين قردة الربَّاح (البابون)

لاحظ الدارسون للبابون أن لديها نمطين للتنظيم الاجتماعي مختلفين اختلافًا واضحًا؛ ذلك أن قردة البابون المعروفة باسم هامادرياس١  Hamadryas (papio hamadrias)، والتي تعيش في مناطق السهوب في أفريقيا. ينتظم في جماعات تضم رئيسًا ذكرًا له وحده الهيمنة مع حريم له من أنثيين أو أكثر وصغارهن. وتوجد أهم العلاقات الاجتماعية بين حريم القائد والإناث الكبريات، ولكن ما عدا ذلك القائد من ذكور كبار فليس لهم حريم خاصة بهم، وإنما يعيشون في جماعات ذكورية كلها، وتشكل الجماعات فِرقًا أكبر حجمًا ينامون معًا في أغلب الأحيان.
ولكن قردة الربَّاح أو البابون المعروفة باسم papio cynocephalus، التي تعيش في منطقة السافانا اللصيقة، فإنها تعيش في جماعات أكبر حجمًا مختلطة ببعضها. والملاحظ أن الإناث يتمتعن بنفوذ أكبر على الذكور، ونجد أهم العلاقات الاجتماعية هي تلك القائمة في صورة تحالفات بين إناث وإناث (بايرن وآخرون Byrne et al، ١٩٨٩م).
وأوضحت الدراسات الأحدث عهدًا أن رباح الشقمة أو البابون من نوع الشقمة chacma (papio cynocephalus urinus)، وهو نوع أدنى مرتبةً من بابون السافانا، يقترب من نمط التنظيم الاجتماعي لبابون هامادرياس في ظروف حياة معينة. هذا على الرغم من أن نمط حياته العادي يطابق نمط حياة بابون السافانا (بايرن وآخرون، ١٩٨٧م). ولوحظ أكثر من هذا أن جماعةً غيرت نظامها من نمط التزاوج لدى بابون السافانا إلى نمط الحريم خلال سنوات قليلة؛ نتيجة وجود حيوان النمر المفترس (أندرسون، ١٩٨٩م). وحدث التغير في النمط التنظيمي خلال أقل من جيل؛ لذلك يستحيل القول إن تغيرات جينية كان لها دور في هذا. وإذا قلنا إن هذا التغير في النمط التنظيمي تغير بهدف التكيف، فلا بد وأن تحكمه آليات اجتماعية أو نفسية أو ذهنية بديلة كرد فعل لتغير الظروف الإيكولوجية، كأن نقول خطر أن يفترسها أحد النمور.
والاحتمال الأكبر الذي يجعل بابون السافانا يتجمع في قطعان كبيرة العدد هو أن ذلك هو أفضل دفاع ضد الحيوانات المفترسة. ويعيش بابون الهامادرياس في السهوب الجافة حيث الغذاء قليل متناثر، ثم تضطر قردة البابون إلى البحث عن طعامها في جماعات صغيرة. ولكن بابون الشقمة يعيش في الجبال حيث يصبح الطعام أشد ندرةً وأقل كلما ارتفعنا؛ ولهذا فإن التنظيم الاجتماعي المناسب يشبه نمط الهامادرياس أكثر فأكثر كلما ازداد الارتفاع (بايرن وآخرون، ١٩٨٧م، ١٩٨٩م؛ وفرانجهام Wrangham، ١٩٨٧م).

ومن ثم قد يبدو من غير المنطقي القول إن جماعة من بابون الشقمة تحولت في نمط حياتها لتشبه الشكل التنظيمي لبابون الهامادرياس بسبب وجود نمر؛ على نحو ما أشار أندرسون (١٩٨٩م). ولعل التفسير هو أن القردة تضطر إلى الحياة معًا في قطعان كبيرة العدد خلال موسم الصيف لحماية نفسها من الحيوانات المفترسة، وهذا من شأنه أن يجعل المرعى غير كافٍ وغير مجدٍ؛ ومن ثم تزداد حدة المنافسة بين أفراد القطيع. ولا تجد الأنثى في هذه الحالة فرصًا لإطعام صغارها ما لم تَعِش في كنف ذكر قوي. ويعزز هذا فرص تصدع وانقسام التنظيم الاجتماعي ونمط التزاوج داخل جماعات الحريم، كما تصبح المنافسة داخل القطيع منافسة بين جماعات الحريم.

والعامل المحدد لتكاثر البابون هو، أولًا وقبل كل شيء، ندرة الطعام في السهوب وكذا في السافانا؛ إذ يَنفُق كثيرٌ من صغار القردة بسبب الجوع أو سوء التغذية؛ لذلك يكون للمنافسة على الغذاء دور كبير بالنسبة للأبوين الملزَمَين بإطعام صغارهما. وتدور كذلك منافسة شرسة بين الذكور للتزاوج مع الإناث. ويخضع تنظيم هذه الصراعات لتراتُبية هرمية صارمة ضمانًا للهيمنة، وكذا لعملية تشكيل التحالفات. ونلحظ أن الفارق بين نمطَي التنظيم من حيث المنافسة هو أن المنافسة عند بابون الهامادرياس تدور بين جماعات حريم الذكر الواحد؛ بينما المنافسة بين بابون السافانا تجري أولًا وأساسًا داخل القطيع؛ لأنها غير منقسمة إلى جماعات صغيرة، أو بعبارة أخرى: فإن تنظيم الهامادرياس تهيمن عليه نزاعات خارج الجماعة؛ بينما تهيمن على نمط السافانا نزاعاتٌ داخل الجماعة، وهذا هو الأساس الذي دعاني إلى مقارنة هذين النمطين بالانتخاب الثقافي R− أو K−.
واكتشف واسير Wasser وستارلنج Starling (١٩٨٦م) وجود قدر كبير من المنافسة بين إناث بابون السافانا، والذي يتجلى في محاولات الإناث إعاقةَ تكاثر بعضها بعضًا. ولا غرابة في وجود درجة عالية أيضًا من المنافسة بين الذكور، بل ليس من غير المألوف أن تقتل الذكور صغارَ قردة أخرى بهدف زيادة فرصها، هي، للتكاثر. وغالبًا ما تجامع الإناث الذكور المتاحين لها خلال فترة واحدة للتسافد؛ وذلك لتجنب ذلك القتل. وتحدد الذكور أبوتها مع لحظة الجماع (بوس Busse، ١٩٨٥م)، بينما تثير الإناث الشكوك بشأن الأبوة بالتزاوج مع ذكور كثيرين، وبهذا تقلل إلى أدنى حد ممكنٍ احتمالاتِ أن يقتل الذكور صغارها.

ولكن نمط حياة السافانا على خلاف ذلك؛ إذ نادرًا ما تدور صراعات بين إناث البابون التي تعيش وَفق نمط الهامادرياس، ولم يشاهد الباحثون قيام أي تحالفات بين الإناث (بايرن وآخرون، ١٩٨٩م). والذكر المهيمن هو الذي يحسم كل شيء، ونادرًا ما تحدث صراعات داخلية نظرًا لصغر حجم الجماعة، ولكن إذا اقتربت جماعة من الهامادرياس من جماعة أخرى تنشأ حالة من التوتر. ويبذل الذكر المهيمن قدرًا كبيرًا من الجهد والطاقة ليسوق إناثه بعيدًا عن الذكور المنافسة الوافدة من جماعة أخرى (بايرن، ١٩٨٧م).

ونجد بين جماعة بابون هامادرياس ذكرًا فردًا يتربع على قمة هرم صارم في تراتبية المكانات، وهذا الذكر هو الذي يقرر كل شيء، وله القدرة على حل وإنهاء أغلب النزاعات التي تنشب وسط الجماعة. وليس الحال كذلك بين بابون السافانا حيث عمليات اتخاذ القرار أقل بساطة، والإناث لهن الكلمة مثل الذكور على أقل تقدير. وها هنا نجد التماثل بين هذين النمطين وبين الثقافتين البشريتين الريجالية والكاليبتية على التوالي تماثلًا مثيرًا للدهشة خاصة عند تأمل السلوك الجنسي؛ إذ نلحظ أن التزاوج بين بابون هامادرياس خاضع بشدة لقواعد محددة. وعلى الرغم من أن الذكر يجمع بين زوجات عديدة، إلا أنه يتزوج فقط بإناث من بين حريمه هو، كما وأن الإناث لا يتزوجن أبدًا من ذكور أخرى؛ لذلك فإن الشك بشأن الأبوَّة لا مكان له، ويمكن للصغار أن تنال الرعاية والحماية الكاملتين من الأب.

وليس الحال كذلك في السافانا حيث يوجد التزاوج المختلط شبه كامل تقريبًا. وتسعى الإناث «عامدة» إلى خلق حالة من الشك والتشوش بشأن تحديد من هو أب الصغير حتى تجعل جميع الآباء المحتملة متعاطفة مع صغيرها.

وإذا قارنا هذا بالمجتمعات البشرية سوف نجد بالمثل أخلاقًا جنسية صارمة في المجتمعات الريجالية مع العقوبات الصارمة لحالات الزنا، هذا بينما نجد قدرًا أكبر من الحرية إزاء الزواج المختلط في المجتمعات الكاليبتية. ونجد نظام الحريم القاصر على شخص بذاته في المجتمعات الريجالية فقط. ويستطيع الذكر في مجتمع كاليبتي أن تكون له خليلات ولكنه لا يمتلكهن، كما وأن الإناث بوسعهن في الوقت نفسه أن يتخذن لأنفسهن عشَّاقًا عديدين. وسوف يكون موضوع الباب العاشر هو السلوك الجنسي بين البشر في المجتمعات الريجالية والكاليبتية.

ويلزم التأكيد هنا على أن معارفنا عن الحياة الاجتماعية لقردة البابون غير كافية، وأن التفسير الذي أسلفناه يرتكز على عدد محدود من الدراسات، وإنه لعسير أن نميز بين السبب والنتيجة، علاوة على قدر كبير من الشكوك التي تساورنا بشأن أيِّ العوامل التي تحدد حجم الجماعة والنمط التنظيمي لقردة البابون. وليست لدينا بيانات تجريبية يمكن أن تلقي الضوء على ما نفترضه من آليات اجتماعية أو نفسية تفضي إلى تغيرات في النمط التنظيمي. ولكننا نرى الملاحظات عن الصراعات والتحالفات أكثر مدعاةً للتصديق والثقة؛ ولهذا ثمة أسس معقولة لتأكيدنا وجودَ رابطة بين السلوك الجنسي والنسبة بين النزاعات داخل الجماعة والنزاعات خارج الجماعة. وهذه الرابطة مهمة في الحقيقة نظرًا لأننا نجد رابطة مماثلة لها بين البشر، وهذا ما سوف أفسره في الباب العاشر.

وطبيعي أن ليس لنا أن نستخدم المقارنة بين البشر والبابون لإثبات أي شيء عن الحياة الاجتماعية أو الجنسية للبشر، غير أن دراسة البابون توضح لنا أن ثمة رابطةً سببية تربط أنماط النزاعات بالسلوك الجنسي، وأن هذه الرابطة في الحقيقة ممكنة بيولوجيًّا.

١  ويسمى أيضًا الرباح المقدس؛ إذ كان يقدسه المصريون القدماء. وللذكَر عَرفٌ كثيف (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤