التنظيم الاجتماعي بين قردة الربَّاح (البابون)
ومن ثم قد يبدو من غير المنطقي القول إن جماعة من بابون الشقمة تحولت في نمط حياتها لتشبه الشكل التنظيمي لبابون الهامادرياس بسبب وجود نمر؛ على نحو ما أشار أندرسون (١٩٨٩م). ولعل التفسير هو أن القردة تضطر إلى الحياة معًا في قطعان كبيرة العدد خلال موسم الصيف لحماية نفسها من الحيوانات المفترسة، وهذا من شأنه أن يجعل المرعى غير كافٍ وغير مجدٍ؛ ومن ثم تزداد حدة المنافسة بين أفراد القطيع. ولا تجد الأنثى في هذه الحالة فرصًا لإطعام صغارها ما لم تَعِش في كنف ذكر قوي. ويعزز هذا فرص تصدع وانقسام التنظيم الاجتماعي ونمط التزاوج داخل جماعات الحريم، كما تصبح المنافسة داخل القطيع منافسة بين جماعات الحريم.
ولكن نمط حياة السافانا على خلاف ذلك؛ إذ نادرًا ما تدور صراعات بين إناث البابون التي تعيش وَفق نمط الهامادرياس، ولم يشاهد الباحثون قيام أي تحالفات بين الإناث (بايرن وآخرون، ١٩٨٩م). والذكر المهيمن هو الذي يحسم كل شيء، ونادرًا ما تحدث صراعات داخلية نظرًا لصغر حجم الجماعة، ولكن إذا اقتربت جماعة من الهامادرياس من جماعة أخرى تنشأ حالة من التوتر. ويبذل الذكر المهيمن قدرًا كبيرًا من الجهد والطاقة ليسوق إناثه بعيدًا عن الذكور المنافسة الوافدة من جماعة أخرى (بايرن، ١٩٨٧م).
ونجد بين جماعة بابون هامادرياس ذكرًا فردًا يتربع على قمة هرم صارم في تراتبية المكانات، وهذا الذكر هو الذي يقرر كل شيء، وله القدرة على حل وإنهاء أغلب النزاعات التي تنشب وسط الجماعة. وليس الحال كذلك بين بابون السافانا حيث عمليات اتخاذ القرار أقل بساطة، والإناث لهن الكلمة مثل الذكور على أقل تقدير. وها هنا نجد التماثل بين هذين النمطين وبين الثقافتين البشريتين الريجالية والكاليبتية على التوالي تماثلًا مثيرًا للدهشة خاصة عند تأمل السلوك الجنسي؛ إذ نلحظ أن التزاوج بين بابون هامادرياس خاضع بشدة لقواعد محددة. وعلى الرغم من أن الذكر يجمع بين زوجات عديدة، إلا أنه يتزوج فقط بإناث من بين حريمه هو، كما وأن الإناث لا يتزوجن أبدًا من ذكور أخرى؛ لذلك فإن الشك بشأن الأبوَّة لا مكان له، ويمكن للصغار أن تنال الرعاية والحماية الكاملتين من الأب.
وليس الحال كذلك في السافانا حيث يوجد التزاوج المختلط شبه كامل تقريبًا. وتسعى الإناث «عامدة» إلى خلق حالة من الشك والتشوش بشأن تحديد من هو أب الصغير حتى تجعل جميع الآباء المحتملة متعاطفة مع صغيرها.
وإذا قارنا هذا بالمجتمعات البشرية سوف نجد بالمثل أخلاقًا جنسية صارمة في المجتمعات الريجالية مع العقوبات الصارمة لحالات الزنا، هذا بينما نجد قدرًا أكبر من الحرية إزاء الزواج المختلط في المجتمعات الكاليبتية. ونجد نظام الحريم القاصر على شخص بذاته في المجتمعات الريجالية فقط. ويستطيع الذكر في مجتمع كاليبتي أن تكون له خليلات ولكنه لا يمتلكهن، كما وأن الإناث بوسعهن في الوقت نفسه أن يتخذن لأنفسهن عشَّاقًا عديدين. وسوف يكون موضوع الباب العاشر هو السلوك الجنسي بين البشر في المجتمعات الريجالية والكاليبتية.
ويلزم التأكيد هنا على أن معارفنا عن الحياة الاجتماعية لقردة البابون غير كافية، وأن التفسير الذي أسلفناه يرتكز على عدد محدود من الدراسات، وإنه لعسير أن نميز بين السبب والنتيجة، علاوة على قدر كبير من الشكوك التي تساورنا بشأن أيِّ العوامل التي تحدد حجم الجماعة والنمط التنظيمي لقردة البابون. وليست لدينا بيانات تجريبية يمكن أن تلقي الضوء على ما نفترضه من آليات اجتماعية أو نفسية تفضي إلى تغيرات في النمط التنظيمي. ولكننا نرى الملاحظات عن الصراعات والتحالفات أكثر مدعاةً للتصديق والثقة؛ ولهذا ثمة أسس معقولة لتأكيدنا وجودَ رابطة بين السلوك الجنسي والنسبة بين النزاعات داخل الجماعة والنزاعات خارج الجماعة. وهذه الرابطة مهمة في الحقيقة نظرًا لأننا نجد رابطة مماثلة لها بين البشر، وهذا ما سوف أفسره في الباب العاشر.
وطبيعي أن ليس لنا أن نستخدم المقارنة بين البشر والبابون لإثبات أي شيء عن الحياة الاجتماعية أو الجنسية للبشر، غير أن دراسة البابون توضح لنا أن ثمة رابطةً سببية تربط أنماط النزاعات بالسلوك الجنسي، وأن هذه الرابطة في الحقيقة ممكنة بيولوجيًّا.