الفصل الثامن

سوسيولوجيا الانحراف

التباين شرط مسبَّق لحدوث الانتخاب، إذا لم يحدث تباين في السلوك فلن يكون هناك ما تختار من بينه عملية الانتخاب الثقافي. واكتشف علماء عديدون أن التباين يبلغ أعلى درجاته في فترات الأزمات، وهي الفترات التي يعاني فيها الناس من ضغوط وتوترات. ويعتبر التباين في السلوك شاهدًا على التجريب والابتكارية بهدف اكتشاف حل للمشكلات المتسببة في الضغوط والتوترات (كيرش Kirch، ١٩٨٠م؛ روزنبرج Rosenberg، ١٩٩٠م).
وإذا جاء التباين في السلوك ضد المعايير الاجتماعية المعمول بها أو من النوع الذي تعتبره الغالبية خطأً أو غير مستصوب، فإن بالإمكان أن نسميه انحرافًا. ويرى عالم الاجتماع جاك دوجلاس Jack Douglas (١٩٧٧م) أن الانحراف يمكن أن يكون ظاهرة ابتكارية ضرورية للتغيير والتكيف اجتماعيًّا. إنه يقارن الانحراف بالطفرات؛ ومن ثم يرسم وضعًا موازيًا لنظرية داروين التطورية.
وتحقق علماء اجتماع كثيرون من وجود رابطة وثيقة بين الانحراف والضبط الاجتماعي؛ إذ يمارس القائمون على السلطة سيطرتهم عن طريق تحديد السلوكيات غير المطلوبة والتي تعتبرها سلوكيات منحرفة، ويَصِمون أصحاب هذا السلوك بالمنحرفين (ليميرت Lemert، ١٩٦٧م؛ وفوكو، ١٩٨٠م).
وسوف أناقش في هذا الفصل نظريات عن كيف نشأت المعايير، وكيف تحدث الانحرافات عن المعايير، وأهمية هذه العمليات للتطور الاجتماعي. وسوف أركز أساسًا على الانحرافات التي توصف بأنها خطرة على المجتمع؛ نظرًا لما لها من أهمية خاصة بالنسبة للنظرية الثقافية R/K−.

(١) الصراع لتعريف الواقع

يعتبر عالم الاجتماع ناخمان بن يهودا nachman Ben-Yehuda في نظرياته الأخيرة أن نظرية الانحراف محورية لتفسير الاستقرار أو التغير الاجتماعي (ابن يهودا، ١٩٩٠م). ذلك أنه في موقف يتسم بالانحراف نجد شخصًا أو فريقًا يصف شخصًا أو فريقًا آخر، أو يصف أفعالهم بأنها منحرفة وخطرة على المجتمع. وتفيد مصطلحات ابن يهودا أن أي انحراف إنما هو مفترَض ذهني اجتماعي؛ ولذلك فإن مفهوم الانحراف دائمًا مفهوم نسبي. ويمثل مفهوم «المجال الأخلاقي الرمزي symbolic-moral universe» في علم الاجتماع عند ابن يهودا مفهومًا محوريًّا، ويسميه آخرون إطارًا فكريًّا أو بنية معرفية. ويعتبر المجال الأخلاقي الرمزي تقليدًا نظريًّا theoretical tradition، أو مفهومًا عن الواقع جامعًا في وحدة واحدة الرموزَ والمعاني والقيم والحوافز والأسباب؛ لتصوغ جميعها نسقًا متلاحمًا يبرر شرعية نظام أخلاقي بعينه. ويرسم المجال الأخلاقي الرمزي بوضوح معالمَ الحدود الأخلاقية؛ ومن ثم معايير ما يوصف بأنه منحرف. وغالبًا ما يكون لدى الشخص المنحرف مجال أخلاقيٌّ رمزيٌّ مغاير يبرر مشروعية أفعاله هو نفسه. معنى هذا أن حالة الانحراف تمثل صراعًا بين مجالين أخلاقيَّين رمزيين، ويحدث مثل هذا الصراع في كل مجتمع دائمًا وأبدًا. وتعني الصراعات ضمنًا مساوماتٍ ومفاوضات بشأن الحدود الأخلاقية والهويَّات الاجتماعية. ويمكن أن يكون حصاد مثل هذه الصراعات تغييرَ أو إبدال المجالات الأخلاقية الرمزية بغيرها (انظر أيضًا: كلاوس إيدير، نظرية عن انتخاب الهياكل المعرفية والتي سبق أن أشرنا إليها).
وحيث إن أي مجال أخلاقي−رمزي يبرر شرعية سلطة ما، فإن النتيجة المترتبة على حدوث تغير في هذا المجال يمكن أن تعني أن توزيع السلطة والموارد تغير أيضًا. وهكذا فإن أي تحريف يمكن أن تكون له نتائج سياسية بعيدة المدى حتى وإن لم تتحدد على أنها سياسية (ابن يهودا، ١٩٩٠م). ولعل من المفيد الجمع بين سوسيولوجيا الانحراف عند ابن يهودا وبين النظرية الثقافية R/K−؛ نظرًا لأنها توفر تفسيرًا وظيفيًّا لتوزيع السلطة والموارد.

ويمكن أن تتجه عملية التحريف، أي خلق انحراف، من مركز المجتمع لتكون ضد الأطراف أو العكس (ابن يهودا، ١٩٩٠م). ومعنى هذا بعبارة أخرى أن من هم في السلطة ورعاياهم يمكن أن يتهموا بعضهم بعضًا بالتبادل بأداء أفعال منحرفة ومناهضة للمجتمع. وإذا حدث أن نجح شخص ما في السلطة في اتهام بعض تابعيه بالانحراف، فإن النتيجة هي تعزيز سلطانه، ومن ثم سيادة طابع ريجالي. وها هنا يقيم الانحراف الدليل، ويبرر شرعية سلطانه، ويهيئ فرصة للتدخل من أجل التصحيح في صورة عقاب أو علاج. ويمكن أن تكون هذه الوسيلة لتأكيد السلطة فعالة، وهو ما يشهد عليه الواقع التاريخي من أن محاكم التفتيش دعمت بنجاحٍ احتكارَ الكنيسة الكاثوليكية للسلطة من الأخطار التي تتهددها على مدى خمسة قرون عن طريق المطاردة المنظمة للهراطقة والسحرة. وعلى الرغم من أن الساحرات في واقع الأمر لم تكن لهن تلك القدرات الخطرة المنسوبة إليهن، إلا أن هذه الحقبة لم تحُدَّ من فعالية هذه الوسيلة الريجالية، طالما وأن الخطر المتوهم شرَّع عملية الاحتفاظ بهيكل سلطة قوية.

وإذا حدث وأخفقت عمليات التحريف والإجراءات التصحيحية مع المنحرفين المهمِّين، فإن وضع من هم في السلطة سوف يغدو ضعيفًا، أو بعبارة أخرى: يسود طابع كاليبتي. وهذا هو عين ما يحدث في المواقف التي ينجح فيها أشخاص أو جماعات من ذوي المكانة الاجتماعية المتواضعة في اتهام أصحاب المكانة العالية والسلطة بالانحراف، ونرى هذا بعينه وعلى نحو نموذجي عند الكشف عن الفساد أو عن إساءة استخدام السلطة. وإذا نجح أشخاص من ذوي مكانة متوسطة في اتهام شخص ما من المكانة نفسها بالانحراف، فإن النتيجة قد تكون إعادة توزيع السلطة والموارد دون أن يحدث بالضرورة إضفاءٌ لطابع ريجالي أو كاليبتي.

ويمثل الإبلاغ عن المنحرفين ساحة معركة؛ حيث يدور القتال بين من يحددون معنى الانحراف وبين المتهمين بالانحراف، أو بين القاهرين والمقهورين، ومن أجل اختبار القوة بين قوى إضفاء الطابع الريجالي أو الطابع الكاليبتي. وتتوقف نتيجة هذا الصراع السجالي العنيف على ثبات المجال الأخلاقي الرمزي الذي يحدد معنى الانحراف.

وغالبًا ما تنزع جماعة مقهورة إلى الثورة، وربما إلى إضفاء طابع كاليبتي على المجتمع، ولكن شريطة أن يكون بإمكانها كشف آليات القهر، وإذا نجحت السلطة في إظهار المجال الأخلاقي الرمزي الذي يبرر شرعية القهر في صورة عقيدة دينية أو أيديولوجية أو علم متفق عليه ومقبول من الجميع، فإن رد فعل المقهورين في غالب الأحوال سوف يكون ذا توجه معاكس تمامًا. إن المرء الذي يشعر أن حريته في العمل مقيدة، ولكنه عاجز عن أن يجد كبش فداء يحمِّله تبعة ما يعانيه من إحباطات، سوف يميل إلى توجيه إحباطاته إلى الداخل ويلوم نفسه، سوف يشعر بعدم الأمان والعجز وفِقدان الحيلة؛ ومن ثم يلتمس عن وعي أو عن غير وعي زعيمًا قويًّا قادرًا على حل المشكلات التي يئس من حلها هو نفسُه. إنه بعبارة أخرى سوف يطور أو يستحدث شخصية متسلطة. وإن مثل هذا الشخص ربما يميل، على الرغم مما في هذا من المفارقة وتناقض، إلى الانضمام إلى القوى الريجالية؛ ومن ثم يدعم ويساند القوى ذاتها التي قادته إلى حالة القهر التي يعانيها هو شخصيًّا. ولا تكون الثورة الكاليبتية ممكنة إلا إذا نجحت الجماعة المقهورة معًا في فَهم المجال الأخلاقي الرمزي الذي يشرع قهرهم، والتغلغل في داخله وإبداله بجديد غيره.

(٢) تعريف الواقع في ضوء مصطلحات العلم

لم يعد بإمكان الدين الآن أن يبرر القمع التعسفي للانحراف في المجتمع الديمقراطي الحديث، الذي أضحت فيه حرية العقيدة الدينية حقًّا إنسانيًّا مقبولًا بوجه عام، ولكن ثمة مجالًا أخلاقيًّا، رمزيًّا أيضًا، له هذه المكانة الآن؛ وهو العلم. إن ما كان يوصَم في الماضي بأنه خطيئة بات يُنظر إليه الآن باعتباره مرضًا، وهذا هو ما نسميه تطبيبًا؛ أي معالجة طبية للانحراف. ووجد التحريف أساسًا له في علم الطب الذي أصبح أيديولوجية جماعية غير مسموح بانتقادها إلا من جانب الخبراء وحدهم. وهؤلاء الخبراء هم الأطباء والأطباء النفسيون الذين يجدون مبرر وجودهم في الأيديولوجية ذاتها التي يؤمنون بها وسوف يدافعون عنها دائمًا. ويمارس علماء الطب عن غير قصد قهرًا ضد المنحرفين؛ إذ يزعمون أن علة الانحراف نجدها في الفرد وليس في المجتمع، وهذا افتراض له ما يبرره في حالات دون غيرها. ويتجلى هذا الضرب من الضبط الاجتماعي في حالات التشخيص الطبي النفسي، وفي العلاج السلوكي والعلاج المعرفي cognition therapy (إرشاك وروزنفيلد Erchak & Rosenfeld، ١٩٨٩م؛ فوكو، ١٩٧٦م و١٩٨٠م).

وثمة مبحث علمي آخر يشرع القهر في المجتمع الحديث، وهو علم الاقتصاد. إن ملايين الفقراء والمشردين والعاطلين عاجزون عن عمل أي شيء مجدٍ لعلاج حالة البؤس والتعاسة التي يعانون منها؛ لأنها توصف بأنها القوانين الطبيعية للاقتصاد. وحقق كارل ماركس بعض النجاح إذ حاول الاعتراض على هذا الإطار وإبداله بسواه: الاقتصاد الماركسي، ولكن لسوء الحظ فإن هذا الاقتصاد الجديد أو الأيديولوجيا الجديدة آلت في نهاية المطاف إلى أن تكون طريقًا يفضي إلى مزيد من القهر والفقر؛ شأن الاقتصاد الرأسمالي التقليدي.

(٣) صناعة الأسطورة

إن أي خطاب أو قصة هما موضوع للانتخاب. إن قصةً ما يمكن أن تكون موضوع تصديق أو شك، ويمكن أن يجري تداولها أو أن يطويها النسيان. ونجد قصصًا معينة تتصف بخاصية تجعلها قابلة للتصديق وإعادة التشكيل وللتداول؛ نظرًا لأنها تستهوي مشاعر قوية في النفس الإنسانية، إنها تستثير كوامننا. ويقال إن مثل هذه القصة تحيا بذاتها، أو لنقل بعبارة أخرى: ثمة قصص معينة لها درجة عالية من الصلاحية تجعلها مستقلة بذاتها إلى حد كبير عن صدق المحتوى.

وخير مثال هنا الأساطير المهاجرة والتي تحمل اسمًا مضللًا شاعت به، وهو أساطير الحضر. وخضع انتشار هذه الأساطير الحديثة لدراسة وبحث جادَّين، وعاشت بعض هذه الأساطير عقودًا طويلة تتداولها الألسنة، وانتشرت عبر مسافات واسعة. وقد نجد في حالات كثيرة الأسطورةً نفسها في أوروبا وفي الولايات المتحدة، ويكون من المستحيل عادةً تتبُّعُ أصول نشأتها (كلينتبرج Klintberg، ١٩٨٦م؛ بريدنيك Brednich، ١٩٩٣م). ودرس العديد من علماء الفولكلور وعلماء النفس الاجتماعيين وأصحاب نظرية الميماتِ الوظائفَ النفسية لتلك الأساطير ذات القدرة على الانتشار (دنديس Dundes، ١٩٧١م؛ موللين Mullen، ١٩٧٢م؛ كلينتبرج، ١٩٨٣م؛ وجروس، ١٩٩٦م). ونلحظ أن قصصًا كثيرة لها جاذبية نفسية معينة؛ إذ تستهوي مشاعر الثأر أو تفكير التمني. وثمة قصص أخرى هي تعبير عن الخوف أو الانحيازات. مثال ذلك كثير من الأساطير عن أكل لحم الجرذان أو أكل لحم الكلاب أو غير ذلك من عناصر تَعافُها النفس، والتي تزخر بها مطاعم الوجبات السريعة الصينية أو الإيطالية. وتحكي بعض أساطير الحضر عن أخطار تتهدد أطفالًا أو ضحايا عاجزين لا حول لهم ولا قوة؛ ومن ثم تستثير فينا غرائز الدفاع عن النفس؛ مثال ذلك قصص عن أشرار عشية عيد القديسين يعطون الأطفال حلوى مسمومة وثمرات تفاح أخفوا بداخلها أمواس حلاقة. والملاحظ أنه على الرغم من كل المبالغات أو مجافاة الحقيقة، فإن هذه الحكايات تحظى بتصديق واسع النطاق ويعاد سردها مراتٍ ومرات؛ لأنها تستثير فينا غرائز الدفاع عن النفس، وتوقظ مشاعر الخوف من احتمال وقوع كوارث لو اتجه الأطفال إلى غرباء ليلة عيد جميع القديسين.
وإن الكثير من حكايات «البُبَع وأمِّنا الغولة» لا تستثير الخوف في نفوسنا فقط، بل إنها تفيد أيضًا كنماذج للمماثلة السلبية؛ بمعنى أنها أمثلة لما لا ينبغي أن نكون عليه أو نماثله. وإن أكثر الأفكار شيوعًا في هذه الحكايات البشعة هي القسوة والقتل وأكل لحوم البشر والانحراف الجنسي وعبادة الشيطان. وكثيرًا ما تُعرض المرأة أو الطفل في صورة ضحايا فاقدي الحيلة والقوة، ويحدث أحيانًا أن تجتمع كل هذه الأفكار والرؤى في أسطورة واحدة؛ مثال ذلك تلك الأسطورة المبتدعة حديثًا وتحكي عن وجود عبادات سرية للشياطين الذين يمارسون سلوكيات جنسية منحرفة مع أطفال، ثم يقتلونهم أو يأكلونهم؛ ضمن طقوس غريبة شاذة. وعلى الرغم من لامعقولية هذه الأساطير، فضلًا عن افتقارها لأي شواهد مادية، إلا أن الملاحظ أن هذه الأسطورة الموروثة عن العصور الوسطى أخذت رداءً عصريًّا حديثًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتشرت من هناك إلى نيوزيلاندا وإلى بلدان أوروبية كثيرة، وترتبت عليها نتائجُ دامية أصابت المتهمين بها، مثلما أصاب جميع ضحايا المزعومين (ناثان وسنيديكر Nathan & Snedeker، ١٩٩٥م؛ بست Best، ١٩٩٠م؛ وجنكنز Jenkins، ١٩٩٢م؛ جوديير-سميث Goodyear-Smith، ١٩٩٣م؛ وهنتر Hunter، ١٩٩٨م).

وإن مثل هذه النتائج النفسية تُكسب الأساطير المهاجرة درجة عالية من الصلاحية الثقافية مثل الميل لتصديقها وإعادة روايتها وتداولها، وطبيعي أن هذه الصلاحية النفسية مستقلة عن كون الأسطورة صادقة أم زائفة، إلا في حالات نادرة يكون فيها البرهان المقنع للتأكيد أو للتكذيب ميسورًا.

ويصدُق الشيء نفسه على الشائعات التي يمكن تقسيمها إلى فئات مختلفة حسب وظائفها النفسية (روسنو Rosnow، وفاين، ١٩٧٦م).
  • (١)

    الأمل الكاذب أو تحقيق رغبة؛ وهي الشائعات التي تعبر عن آمال لدى الناس.

  • (٢)

    شائعات الشبح التي تعكس مخاوف وقلق الناس.

  • (٣)

    شائعات دق الإسفين أو العدوانية، وهي التي تعبر عن انحيازات ضد جماعات أخرى فرعية من السكان.

وغالبًا ما يعمِد الباحثون المعاصرون إلى وصف الآليات النفسية التي تجعل الناس يحكون ويصدِّقون قصصًا بعينها دون سواها، هذا على الرغم من أنهم لا يستخدمون نظرية الانتخاب الثقافي نظرًا لأن هذا الإطار (الباراديم paradigm) تعتبره العلوم الاجتماعية الآن طرازًا باليًا. ولكن منذ عقود قليلة مضت، وقتما كانت النزعة التطورية الجديدة لا تزال على قيد الحياة، تم نشر دراسة سوسيولوجية عن الشائعة معتمدة أساسًا وصراحةً على نظرية الانتخاب (شيبوتاني Shibutani، ١٩٦٦م).١ ووجد شيبوتاني أن الشائعات تنشأ في حالة أزمة معرفية أو عندما لا يتفق المعروض من المعلومات عن الوقائع مع الطلب المنشود، وهنا تقترح بعض العناصر الاجتماعية المختلفة تفسيرها للحالة وفقًا لتوجهاتهم ومصالحهم الشخصية. ويحدث انتخاب بين الأفكار المقترحة خلال العملية الآنية للاتصال الجماعي إلى أن تحظى صيغة معيارية قبولًا عامًّا. ويجري انتخاب الأفكار حسب مدى استساغتها؛ تأسيسًا على ملاءمتها لافتراضات مشتركة. ويمكن لفكرة ما أن تحظى بقبول أوسع نطاقًا إذا ما كانت تخفف من حالة التوتر، أو تبرر انفعالات غير مقبولة أو تجعل العالم مفهومًا أكثر؛ ومن ثم تقلل من حالة التنافر المعرفي.

وإذا كان الطلب على الأخبار والمعلومات غير متحقق ومفرطًا مبالغًا فيما ينشده، هنا تزداد حدة الاستثارة الجمعية وتتحول إلى موقف تصاغ فيها الشائعات وتتواصل بين الناس عبر قابلية الإيحاء لديهم، وتُخلق تلقائيًّا قنواتٌ معلوماتية. وفي مثل هذا الموقف من الاستثارة الجماعية الحادة يصبح الناس أكثر استجابةً للعدوى المزاجية والسلوكية، وتتحول معايير الحكم مؤقتًا، ويصبح بالإمكان التفكير جديًّا في مقترحات غريبة في طبيعتها عن المعتقدات المعتمدة، وتنتهك المعايير المألوفة للمصداقية (شيبوتاني، ١٩٦٦م).

والعلماء — كما ألمحنا سابقًا — ليسوا أيضًا بُرآء من التأثر بالبدع الناتجة عن الانتخاب الثقافي، إنهم ليسوا في منعة إزاء الآليات النفسية التي تجعل الناس تصدق وتردد حكايات بعينها، وخير مثال هنا أسطورة أكل لحوم البشر. إن الاعتقاد بأن الشعوب البدائية اعتادت أن تتخذ من لحوم بعضها بعضًا طعامًا تتغذى عليه؛ يقودنا إلى درجة عالية من الإثارة النفسية؛ حتى إن هذه الأسطورة ظلت تحكى ويتداولها الناس على مدى قرون حتى بات يصدقها أكثر العلماء شهرةً، على الرغم من أننا لم نجد عالمًا واحدًا من علماء الأنثروبولوجيا أو الإثنوجرافيا شاهَد عملية أكل لحوم البشر المزعومة. ويمكن أن نتتبع الغالبية العظمى من الحكايات عن أكل لحوم البشر لنجد بداياتها في تخييلات ذات طابع شيطاني اختلقها الناس لتشويه سمعة عدوهم، ومن أمثال هذه التخييلات الاتهاماتُ بممارسة السحر وغيرها، وغالبًا ما كانت هذه الاتهامات يستخدمها أصحابها لتبرير الحرب أو العبودية أو الاستعمار (أرينز Arens، ١٩٧٩م).٢
كذلك فإن قصص الرعب التي تحكي عن منحرفين معادين للمجتمع ربما تكون لها وظيفة اجتماعية غير كونها وسيلة للتأثير من خلال المخاوف الشخصية. وأكثر الانحرافات وضوحًا هي تلك التي يعتبرها النظام الاجتماعي الرسمي خطرًا يتهدده. ويسمى الكفاح الجمعي المنظم ضد هذه الانحرافات الذعر المعنوي moral panic (إس. كوهين، ١٩٧٢م) أو مطاردة السحرة witch-hunt (برجسين Bergesen، ١٩٧٧م و١٩٧٨م).

(٤) مطاردة السحرة والذعر المعنوي

مطاردة السحرة يمكن تعريفها بأنها اضطهاد منظم لجماعة (حقيقية أو متوهمة) يزعم المجتمع أن لها قدراتٍ ضارةً به وخطرة عليه. وهؤلاء «السحرة» هم في أغلب الحالات من أبناء المجتمع الذين يضطهدهم؛ أي هم أعداء داخليون. وغالبًا ما تُختلق الأساطير بكثافة عن السحرة وخصائصهم وأنشطتهم، ونذكر كنموذج لمطاردة السحرة أن المجتمع غالبًا ما ينظر إلى السحرة بأنهم عناصر شديدو الخطر؛ حتى إن المجتمع يُسقط المبادئ العامة للعدالة وقواعد الالتزام بالبيِّنة والدليل؛ من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع. وثمة حالات لمطاردة السحرة أقل تطرفًا تسمى حالات الذعر المعنوي، والتي تعني رد فعل جمعي شديد الضراوة والانفعالية ضد جرائم أو انحرافات معينة يتصورها المجتمع. وغالبًا ما يكون لوسائل الإعلام الجماهيرية دور حاسم في خلق حالة الذعر المعنوية بإثارة العواطف والانفعالات، بينما تخضع مطاردة السحرة عادةً لسيطرة وتحكُّم الزعماء السياسيين والدينيين.

ويحتاج المجتمع إلى أن تنزل به كارثة من الجرائم الخطرة لكي يشرع في مطاردة السحرة أو ليعاني حالة ذعر أخلاقي، ويختلق المجتمع في أغلب الحالات المنحرفين. ومن المعروف أن ظهور عدو مشترك يحفز المجتمع إلى التضامن، وأنه في حالة غياب مثل هذا العدو فإن المجتمع قد يخلق التضامن عن طريق افتراض وجود انحراف. ويستخدم المجتمع كِباشَ الفداء أهدافًا للعدوان الجمعي الذي يخلق تضامنًا اجتماعيًّا (إيبل إيبسفيلت Eible-Eibesfeldt، ١٩٧١م). وقد يكون الأمر مخططًا ولكنه في أغلب الحالات يبرُز عفويًّا. وثمة طرق ثلاثة يمكن أن يختلق بها مجتمع ما منحرفين:
  • (١)

    مدى المبالغة في اتساع نطاق وخطر مشكلة انحراف قائمة، أو احتدام البحث عن منحرفين.

  • (٢)

    اختلاق منحرفين جدد عن طريق تحريك حدود ومعالم مظهر السلوك السوي المستقيم.

  • (٣)

    أن يكون الانحراف تخييلًا بالكامل.

ويمكن أن نضرب مثالًا عن الفئة الأولى باضطهاد الشيوعيين في الولايات المتحدة الأمريكية على يد السيناتور ماكارثي خلال الخمسينيات (سيكوينمان Schoeneman، ١٩٧٥م).
ومثال لظاهرة لم تكن موضع اهتمام أو نظر في السابق ثم أعيد تعريفها بأنها ظاهرة منحرفة وضارة؛ وهي الحرب ضد الاستمناء في العصر الفيكتوري (أوسيل Ussel، ١٩٧٠م). والفئة الثالثة، وهي الانحرافات المتخيلة بالكامل، نجد خير مثال لها في اضطهاد السحرة في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر (ابن يهودا، ١٩٨٠م).

والملاحظ أن الدراسات الأنثروبولوجية عن السحر والعرافة تركَّزت أول الأمر على الثقافات البدائية التي شاعت فيها اتهامات بأعمال السحر الأسود. ويمكن القول بأن مثل هذه الاتهامات كانت لها وظائف متباينة؛ إذ حينما تريد جماعة ما أن تعزز تضامنها الداخلي يمكن أن تحقق ما تنشُده عن طريق اتهام أشخاص (غالبًا غير محددين) من خارج الجماعة بالإضرار بالجماعة باستخدامهم السحر ضدها. وإذا ما كان الاتهام موجهًا إلى أشخاص من داخل الجماعة بارتكاب أعمال السحر، فإن الهدف ربما يكون التحكم في المنحرفين ودعم الحدود الأخلاقية أو إعادة تحديدها، أو ربما يكون الاتهام أداة وذريعة في حرب دائرة بين فِرق متنافسة، أو محاولة لإعادة تحديد معالم التراتبية الهرمية في المجتمع (دوجلاس إم، ١٩٧٠م).

وقد لا يكون من الحكمة الانتقال إلى التعميم من هذه الحالات المفردة عن الاتهامات بالسحر، وتطبيقها على عمليات مطاردة واسعة ومنظمة للسحرة؛ على نحو ما رأينا في مجتمعات أكبر. إن الاتهامات المفردة غالبًا ما تكون تعبيرات عن نزاعات اجتماعية يومية أو عن محاولات لتفسير سوء طالع أشخاص أفراد، هذا بينما المطاردات المنظمة للسحرة كثيرًا ما تمثل ظواهر ممتدة لفترات طويلة، وتشتمل على عدد كبير من الناس، وغالبًا ما تشتمل على بلد بأكمله (سكوينمان، ١٩٧٥م). وسوف أركز دراستي على مطاردات السحرة وحالات الذعر المعنوي المكثفة أو المنظمة؛ نظرًا لأهميتها الخاصة في نظرية الانتخاب الثقافي.

وأكبر حملة مطاردة للسحرة في التاريخ — والتي منها جاء اسم الظاهرة — هي تلك التي حدثت في أوروبا في أواخر العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث؛ إذ ظهرت طوائف جديدة عديدة خلال القرنين العاشر والحادي عشر ترفض الجمود العقائدي وطغيان الكنيسة الكاثوليكية الرسمية. ورأت الكنيسة في هذا تهديدًا لسلطانها، ونشأت محاكم التفتيش بغيةَ الدفاع عن الكنيسة واستئصال العصاة، وتمت الإطاحة الكاملة بالهراطقة مع حلول القرن الثالث عشر، غير أن سلطان الكنيسة كان لا يزال تتهدده انتفاضات اجتماعية كبيرة وقعت خلال هذه الفترة، واحتاجت الكنيسة إلى كباش فداء جدد لكي تفسر الأزمة الاجتماعية، وتضفي مشروعية على سلطانها. لذلك كانت التربة صالحة لتصور وجود طائفة من السحرة يعبدون الشيطان، وهم سبب كل أنواع الشرور. وتعرَّض الأشخاص المتهمون بارتكاب أعمال السحر للتعذيب إلى أن اعترفوا وأُجبروا على الإدلاء بمعلومات عن سحرة آخرين؛ ضمانًا لاطراد العملية، ويصف ابن يهودا (١٩٨٠م) الطقوس المزعومة التي قيل إن السحرة شاركوا فيها، ويرى أنها صورة مرآة معكوسة لطقوس الكنيسة. إن السحرة هنا نماذج مطابقة سلبية للمتزمتين؛ باعتبارها نموذجًا لما يجب ألا يكون. وأبرزت محاكم السحرة بحدَّة ما يسمى الإيمان الخالص الصادق؛ وذلك بأنْ قدمت النقيض في صورة شيطانية.

ويمكن النظر إلى مطاردة السحرة كرد فعل سلبي إزاء التغيرات الاجتماعية الموضوعية التي حدثت خلال الفترة قبيل وأوائل النهضة؛ ذلك أن زيادة التحضر والصناعة والتجارة وما ترتب على ذلك من تخصص وتقسيم للعمل، كل هذا عزز نفوذ الطبقة الوسطى الجديدة، وخلق هياكل اقتصادية وسياسية جديدة كانت مستقلة عن سيطرة وتوجيه الكهنوت. وهددت هذه التغيرات بإضعاف سلطة الكنيسة وخلق صورة جديدة عن العالم الذي لم يعُدْ يهيمن عليه رجال اللاهوت؛ ومن ثم كانت مطاردات السحرة محاولة لمناهضة هذه التغيرات وإعادة تأسيس السلطة التقليدية للكنيسة (ابن يهودا، ١٩٨٠م).

وينظر عالم النفس توماس سكوينمان Thomas Schoeneman (١٩٧٥م) إلى رد الفعل هذا باعتباره تجديدًا نكوصيًّا. ويمثل نموذجه تطويرًا جديدًا لعلم الاجتماع عند أنطوني والاس Anthony Wallace؛ إذ يمكن أن تحدث التغيرات الاجتماعية إما نتيجة تكيف تدريجي (تحرك عمليات التوازن) أو نتيجة إعادة إحياء Revitalization، والذي يعني حسب هذه النظرية وقوع تحول مفاجئ نتيجة جهد واعٍ. وتحدث هذه العملية الأخيرة كرد فعل لأزمة ثقافية. وعادةً ما يتجه رد الفعل إزاء أزمة ثقافية إما إلى الخلف، في محاولة لإعادة تثبيت أركان نظام سابق، وإما في اتجاه إحداث تحول أكثر راديكاليةً حسب رؤية الناس، ويفضي إلى ابتكار نظام جديد. ويفسر سكوينمان ظاهرة مطاردة السحرة على أنها رد فعل محافظ إزاء أزمة ثقافية، ومحاولة لإعادة تثبيت هياكل السلطة التي كانت قائمة في السابق؛ ومن ثم تكون مطاردة السحرة عملية إبقاء دائم للذات. وتؤدي مطاردة السحرة إلى أن يصبح الضغط النفسي والأزمة الاقتصادية في وضع أسوأ وأسوأ؛ حيث تجري في الوقت نفسه عملية قوامها الصراع من أجل الحفاظ على ذات الهياكل التي تسببت في الأزمة. وينشأ إيمان بالشياطين، وهو عقيدة تجعل السحرة هم المسئولين عن الأزمة، وتجعل بالإمكان تحديد المزيد من السحرة دائمًا، والحصول على اعترافات قسرية بالإكراه تؤكد عقيدة الإيمان بالشياطين ذاتها.

ولا يجرؤ أحد على انتقاد مطاردة السحرة؛ لأن هذا سيجعلهم عُرضة لاتهامهم بأنهم سحرة. ويمكن أن يطول أمد مطاردة السحرة لزمن طويل جدًّا بسبب هذه النتائج التي تفضي إلى تضخم العملية ذاتيًّا. وعلى الرغم من حقيقة أن مطاردة السحرة تفضي إلى تفاقم وتضخم الأزمة الاجتماعية على المدى الطويل، إلا أن لها بعض المزايا المباشرة الثقافية والنفسية. إنها عمل موضوعي وواضح في زمن يسوده الشك والخوف، إنها تسمح للناس بإمكانية الإيمان بأن مأساتهم نتاج خطأ شخص ما آخر وليس خطأهم هم، وتهيئ متنفسًا للغضب والعدوان والشعور بالذنب، وهي أمور تراكمية على مدى فترة الأزمة الثقافية. ولا تنتهي مطاردة السحرة إلا حين تتوازن حالات الغثيان المتراكمة التي تسببت فيها مع هذه المزايا النفسية المباشرة. ويتلو هذا تحول راديكالي في نظرة السكان إلى العالم؛ أي تحوُّل في النموذج الإرشادي الذي يستلهمونه القدرةَ على بناء هيكل اجتماعي جديد (سكوينمان، ١٩٧٥م).

ويفسر برجسين (١٩٧٨م) مطاردة السحرة السياسية وكذا الدينية على أنها طقوس سحرية، ويرى أن تقسيم الناس بين منحرف وسويٍّ موازٍ للتقسيم بين المقدس والدنس. ولحَظ أن الأفعال التي قيل إنها خطر على المجتمع وتهيئ فرصة لاضطهاد المذنب هي أفعال مبتذلة ومن طبيعة الأفعال اليومية. وإن أيديولوجيا مطاردة السحرة تجعل الغرض المفارق المتعالي حالًّا في الحياة اليومية؛ إذ تعزو معنًى متعاليًا للأفعال اليومية العادية المبتذلة، ويتحول الهدف السياسي أو الديني الأسمى إلى هدف حالٍّ في الحياة اليومية، ويتحقق هذا بجعل نقيضه الرمزي بناءً طقسيًّا مرتكزًا على ظواهر يومية. ويمكن للمجتمع أن يحدد ويبني ذاته كعنصر فاعل متَّحد بهذه الطريقة. وتغدو التساؤلات عن الذنب وعن العدالة غير ذات صلة بالموضوع في هذا السياق؛ نظرًا لأن الاتهامات الموجهة إلى السحرة ليست من طبيعة هذا العالم الذي تعيش فيه؛ ومن ثم فإن كل من يُتهم بممارسة السحر ليست لديه سوى فرصة ضئيلة للدفاع. ويذكر برجسين عددًا من الأمثلة لمطاردات السحرة لأسباب سياسية، من بين هذه الأمثلة حملات التطهير أثناء الثورة الثقافية في الصين، والنظام الإرهابي أثناء الثورة الفرنسية، والمحاكمات المظهرية أيام ستالين، والاضطهاد المكارثي للشيوعيين في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي اتساق مع هذه النظرية يجد برجسين أن مطاردات السحرة شاعت أكثر ما شاعت في دول الحزب الواحد؛ حيث الأيديولوجية ضاربة بجذورها في الحياة اليومية (برجسين، ١٩٧٧م؛ ١٩٧٨م).

وتُستخدم مطاردة السحرة كوسيلة للسلطة في سياقين مختلفين: الحفاظ على أيديولوجية قائمة، أو خلق أيديولوجية جديدة. وتعتبر محاكمات السحرة في عصر النهضة الأوروبية وكذا المكارثية مثالين على الفئة الأولى؛ إذ حينما يتآكل وينهار الأساس الأيديولوجي للمجتمع ويكون الهيكل الاجتماعي الرسمي القديم مهددًا ومعرضًا للخطر؛ نتيجة بداية عملية إضفاء طابع كاليبتي، هنا يمكن للحكام القائمين على السلطة — وبسبب حاجتهم إلى وسيلة أكثر فعالية — أن يحاولوا الحفاظ على الوضع القائم عن طريق توحيد السكان في حرب مشتركة ضد عدو وهمي. ويؤدي افتقاد العدو إلى الكلبتة (إضفاء الطابع الكاليبتي)، وتفترض السلطة وجود هذا العدو الوهمي حتى يمكنها مناهضة هذه العملية والتصدي لها والحفاظ على هيكل السلطة الريجالية.

ونجد من ناحية أخرى أن مطاردة السحرة مستخدَمة أيضًا من أجل نشر أيديولوجية جديدة. ويحدث هذا على نحو نموذجي أثناء وعقب ثورة ما؛ حيث يجري إبدال أيديولوجية قديمة بأخرى جديدة، وحيث يعتمد نجاح الثورة على رغبة الناس في التحول إلى الأيديولوجية الجديدة في أقصر وقت ممكن.

(٥) دور وسائل الإعلام (الميديا) الجماهيري

غالبًا ما يكون لوسائل الإعلام الإخبارية دور مهم في خلق حالات الذعر المعنوية، وقدم ستانلي كوهين في دراسة رائدة له عن هذه الظاهرة وصفًا لمثال من بريطانيا؛ حيث كان للصحافة دور حاسم في خلق حالة ذعر معنوي بشأن جماعة من الشباب تسمى المودس Mods (أي الحداثيين) والروكرز (الهزازين). ولم تَقنَع الصحافة في هذه الحالة بخلق حالة الذعر المعنوي، بل كان لها أيضًا دور رئيسي في صوغ فئات «المودس» و«الروكرز» التي بدأ الشباب يصنف نفسه على هديها ويتطابق معها. وخلقت الصحف جوًّا من الإثارة حين بالغت عمدًا في السلوك العنيف للشباب وإسباغ هوية شخصية مميزة لهم. وأدت هذه الموجة من الذعر المعنوي إلى عمليات اعتقال جماعية وإلى إساءة كبرى من السلطات في ممارستها للقوة، وتم في الوقت نفسه تعبئةُ الرأي العام للمطالبة بمنح الشرطة المزيدَ من السلطات، والمطالبة بالمزيد من التحكم والمزيد من العقوبات القاسية الرادعة (كوهين إس، ١٩٧٢م). وهذا هو رد الفعل النموذجي إزاء موجة من الذعر المعنوي، والسبب في أنها تُفضي إلى نتيجة ذات طابع ريجالي قوي.

وربما كان الحافز وراء مبالغات الصحافة حافزًا اقتصاديًّا لا سياسيًّا، وربما كانت المنافسة الاقتصادية بين وسائل الإعلام الجديدة قوة انتخابية قوية في هذه العملية (انظر: الباب ٩). وربما كان الحافز الرئيسي اقتصاديًّا، ولكن النتيجة سياسية إلى حد كبير: المزيد من التحكم، والمزيد من استخدام القوة ضد الشباب، أو بعبارة أخرى: المزيد من التسلط والهيمنة؛ أي غلبة الطابع الريجالي. بيد أننا نخطئ إذا زعمنا أن سبب الذعر المعنوي كان اقتصاديًّا فقط؛ ذلك لأن أي ذعر معنوي لا تخلقه ميديا الأخبار فحسب، بل يخلقه القراء أيضًا. والملاحظ أن الذعر المعنوي لا يحدث ما لم يكن هناك رد فعل انفعالي قوي من جانب القراء. وما كان لرد الفعل الانفعالي هذا أن يحدث ما لم يكن هناك مسبَّقًا خوف شائع من احتمال انحراف الشباب ورغبة في المزيد من التحكم في الشباب؛ لذلك ثمة ما يبرر افتراض أن الصحف استثمرت خوفًا قائمًا من قبل في نفوس الناس من احتمالات انحراف الشباب.

وثمة عناصر أخرى يمكن أن تكون لها مصلحة في خلق حالات الذعر المعنوي، ومن هؤلاء الشرطة والزعماء السياسيون، وجماعات المصالح السياسية والدينية، وأيضًا دعاة عقيدة الشيطان الذين يزعمون بأنهم خبراء في اكتشاف الانحراف والسيطرة عليه.

(٦) موضوعات حملات مطاردة السحرة

قد يبدو أن مَنْ أو ما تهاجمه حملاتُ مطاردة السحرة أو الذعر المعنوي إنما تَحدَّد على نحو عشوائي. ولكن ليست جميع أنواع الانحرافات ملائمةً لتكون أهدافًا لحالة من الذعر المعنوي.

واضح أن لا بد وأن يكون شيئًا يستثير أكثر كوامن النفس حساسيةً، ويستثير مشاعر الهلع في نفوس العامة، مثل الأخطار الخارقة للطبيعة أو الجريمة أو أخطار تتهدد الأطفال، أو انحرافات جنسية، أو أمراض وبائية، أو طعام مسمم. وغالبًا ما يُسهم في تأجج الذعر المعنوي نزاعٌ نفسي قائم أو تنافر معرفي يتهدد الوضع المعنوي القائم.

والهدف المفضل لأي ذعر معنوي هو عدو سهل لا يثور خلافٌ بشأن إدانته، وموارده للدفاع عن نفسه محدودة؛ مثال ذلك أن المجرمين المشتبه فيهم المتحفظ عليهم تكاد تنعدم أية إمكانية لديهم للدفاع عن أنفسهم ضد اتهامات تنشرها ميديا الأخبار، مهما كانت درجة المبالغة في هذه الاتهامات. ويجري تحديد ظاهرة الانحراف بعبارات فضفاضة غير مميَّزة المعالم، على نحو يجعل دائمًا بإمكان الذعر المعنوي العثور على نقاط جديدة للاتهام والهجوم إذا ما حدث وأخفق الأسلوب السابق.

ويجد الذعر المعنوي أو مطاردة السحرة دعمًا من خلال اختلاق أساطير على نطاق واسع. وغالبًا ما ينبري «الخبراء» الذين يردعون الناس بعقائد شيطانية محكمة، ويطالبون بالمزيد من الموارد لمحاربة الشر (بما في ذلك المزيد من الأموال لأنفسهم). بيد أن الأساطير أعجز من أن تعيش طويلًا إذا كان تفنيدها أمرًا يسيرًا؛ لذلك فإن أكثر الأساطير استمرارًا وأطولها حياةً هي تلك التي تتعلق بظواهر خافية أو ظواهر يستحيل على الناس ملاحظتها؛ مثل تسميم الطعام أو الجريمة المنظمة. ويمثل الدين، كما هو واضح، أرضًا خصبة تمامًا لحالات الذعر المعنوي؛ نظرًا لأن جميع الأديان تشتمل على تصورات عن ظواهر غير مرئية، كما وأن هذه الظواهر يصعب تفنيدها.

ولكن مع اطراد حركة العلمنة في الأزمنة الحديثة، وجدت حملات مطاردة السحرة أهدافًا جديدة؛ من بينها الانحرافات السياسية، وسوء استعمال العقاقير، والجريمة المنظمة، والسلوك الجنسي. وحظيت الجرائم الجنسية بوجه خاص على اهتمام متزايد في حالات الذعر المعنوي مؤخرًا؛ نظرًا لأن السلوك الجنسي مجال يغلب عليه الخفاء والسرية عن أعين العامة، ونظرًا لارتباطه بمشاعر ومحارم لاعقلانية قوية. ومع هذا لا يزال الخوف من عقيدة عبادة الشيطان حيًّا حتى الآن، حتى داخل المجتمع الصناعي الحديث (بروملي Bromley، ١٩٩١م). كذلك فإن عقيدة الإيمان بأن مرتكبي الجرائم الجنسية على علاقة بالشيطان لا تزال حيةً مثلما كانت في العصور الوسطى.
علاوةً على هذا، فإن نظرية التحليل النفسي عن الكبت هيأت إمكانية للعقيدة القائلة بأن الأطفال ربما تعرضوا لعمليات تعذيب مروع على أيدي أفراد ذوي نزعات شيطانية ومجرمين جنسيين، حتى وإن لم تحتفظ الذاكرة بأدنى فكرة عن تلك الأحداث. ويزعم المؤمنون بالشياطين أن الذكريات المقموعة عن هذه الأحداث الوحشية يمكن استعادتها بتقنيات العلاج بالإيحاء أو بالتنويم المغناطيسي (لوتو Lotto، ١٩٩٤م؛ لوفتوس وكيتشمان Loftus and Ketchman، ١٩٩٤م). ولكن مثل هذا الذعر المعنوي يتسم بقوة سيطرة مميزة؛ لأنه يستثير العديد من أكثر الكوامن النفسية حساسية: الجنس والخطر والدين وحماية الطفل.
١  نظرًا لأن التفكير التطوري لم يكن شائعًا ومقبولًا آنذاك في العلوم الاجتماعية، فقد وجد شيبوتاني أن من الضروري إزاء هذا الوضع أن يدافع في كتابه عن نفسه صراحةً ضد الانتقاد المحتمل.
٢  إن فضح أرينز لزيف أسطورة أكل لحوم البشر لا يزال موضع خلاف؛ حتى إن كثيرين من علماء الأنثروبولوجيا يُحجِمون عن تغيير نظرتهم القديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤