أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
أما الإمام فالأغر الهادي
حامي عرينِ الحق والجهاد
أصلُ النبي المجتبَى وفرعُهُ
ودينُه من بعده وشَرعُهُ
وصفحتاهُ مقبِلًا ومدبرا
وفي الوغا وحين يرقى المنبرا
يدنوا إلى ينبوعِه بيانا
ويلتقي بحراهما أحيانا
الحجر الأول في البناء
وأقرب الصحبِ بلا استثناءِ
وأزهدُ الناس وفي الدنيا يدُه
وأخشع العالم وهو سيده
وجامعُ الآيات وهي شتَّى
وسُدَّةُ القضاءِ بابُ الإفتا
والسَّهِدُ الآوي إلى أشواقِه
إذا الظلامُ مدَّ من رواقه
بحرُ الهوى والقوم رُكْبُ السُّفنِ
كم من شِراعٍ دون عِبْرَيْهِ فَنِي
يا ليت شعري والأمور تَخفى
والفكرُ في هذا الطريق يحفَى
ما ساءَ هذا الناس من عَليِّ
وحاد بالناصرِ والوليِّ
وغرَّ بالليث الذئابَ العاويهْ
وسهَّل الغابَ على مُعاويهْ
قيل دم الشيخ الضعيفِ المُسلَمِ٣
يطلبه الله وكلُّ مسلمِ
تركُ الإمامِ قاتِلَ الإمامِ
أخلَّ بالهيْبة للزمامِ
وقيل بل أدلَّ بالمكانهْ
ولو تصوَّرَ الخشوعُ كانهْ
والزهوُ أحيانًا من المعاني
إن سال من معاطف الشُّجْعان
وقيل في سياسة الطباعِ
وفي المداراة، قصيرُ الباع
لو صانع الإمامُ أو تأنَّى
ما بلغ الشاميُّ ما تمنَّى٤
وقيل عِلمٌ ما له انتهاء
لم يَجرِ فيه الرأيُ والدهاءُ
في ثقةٍ بمن به لا يوثَقُ
ولا يدوم عهدُه والمَوْثِقُ
وقيل أخفى للثلاثة الحسدْ٧
وكادتِ الجيفةُ تأكلُ الأسد
لا بل هو المنازعُ التوَّاقُ
طِلبتُه الأعباءُ والأطواقُ
سما إليها بعيونِ الفضلِ
وحنَّتِ الحسناءُ تحت العَضْلِ٨
من كان في منزله الرفيعِ
يدرِ مكانَ مِنبَرِ الشفيعِ
وطالما استأخرَ غيرَ فاحمِ
ولاذَ بالحياءِ لم يُزاحمِ
يا جبلًا تأْبى الجِبالُ ما حَملْ
ماذا رَمت عليك ربَّةُ الجمل٩
أثأرُ عثمانَ الذي شجاها
أم غُصةٌ لم يُنتزَعْ شَجاها
قضيةٌ مِن دمه تبنيها
هبَّتْ لها واستنفرتْ بنيها١٠
ذلك فتقٌ لم يكن بالبال
كيدُ النساءِ مُوهِنُ الجبال
وإن أُمَّ المؤمنين لامرأهْ
وإن تَكُ الطاهرة المبرَّأهْ
أَخرجها من كِنِّها وسِنِّها
ما لم يُزِلْ طولُ المدى من ضِغنها
وشرُّ من عَداكَ من تقيه
ومُلقِيَ السلاح تلتقيه١١
جهزها طلحةٌ والزُّبيْرُ
ثلاثةٌ فيهم هدًى وخير
صاحبةُ الهادي وصاحبَاهُ
فكيف يمضون لما يأباه؟
يا ليت شعري هل تعدَّوْا وبغَوْا١٢
أم دمَ ذي النورين بالحق بَغَوْا؟
جاءَت إلى العراق بالبنينا
قاضين حق الأم محسنينا
فانصدعتْ طائفتين البصرهْ
فريقُ خَذْلٍ وفريقُ نُصْرَهْ
أو ذادةُ البَيعةِ والذمامِ
وقادةُ الفتنة والزمام١٣
وانتهكَ الحيُّ دماءَ الحيِّ
من أجل ميْت غابر وحيِّ
يرجو لصَدعِ المؤمنين رأْبا
وأمُّهم تدفَعُه وتأبى
وعجِزَ الرأيُ وأعيا الحلمُ
وخُطبتْ بالمُرْهَفاتِ السِّلمُ
من كل يومٍ سافكِ الدماءِ
تعوذ منه الأرضُ بالسماءِ
ظل الخِطامُ من يدٍ إلى يدِ١٨
كالتاج للأَصْيَدِ بعد الأَصْيَدِ
مستلَما توهَى الغيوثُ دونَهْ
وبالدماءِ أنهُرًا يفدونه
حتى أراد الله إمساك الدم
في كرمٍ لسيفه المقدَّم
وظفرتْ ألويةُ الإمام
وألقتِ البصرةُ بالزمام
فرُدَّتِ الأم إلى مقرِّها
مبالَغًا في نقِلها وبِرِّها
وظلَّلت مَن حلَّ أرضَ الملحمهْ
من الفريقين سماءُ المرحمهْ
هلْكى بكى البيت عليهمْ والحرَمْ
الموتُ دون العهدِ غايةُ الكرمْ
•••
يا يوم صفِّين بمن قضاكا
هل أنصف الجمعان إذ خَضَاكا
فيك انتهى بالفتنةِ التراقي
واصطدم الشآمُ بالعراق
ونفدتْ بقيةٌ من صَحْبِ
تلقتِ الطعنَ يصدرٍ رَحْبِ
بنو الظُّبَى، أبوَّةُ الأسنَّهْ
آلُ الكتاب أولياءُ السُّنَّهْ
لقد وْفَى «بدرٌ» لهم أهلَّهْ
وخُنْتَهُمْ مَشيخَةً أجلهْ١٩
لو في بناء المجد ذلك الدمُ!
بل عمدوا لما بَنَوْا فَهدَموا
فيا مجالًا قصرَ الأعنَّهْ
ومدَّ في اشتجارِها الأسنَّهْ
ترجرجتْ بالفئتين أرضهُ
وضاق عنهم طولُهُ وعرضُهُ
ووقع الأنجاد بالأنجاد
وخرَّ «عمارٌ» من النِّجادِ٢٠
ما كان ضرَّ نُصَرَاءَ٢١ البيعهْ
لو صبَروا على الوغى سُويعهْ
بينا بنُودهم هي العوالي
والنصرُ حولَ البيض والعوالي
غادرهُم بسحره معاويهْ
كأنهم أعجازُ نخلِ خاويهْ
ألقى القنا وشرَّع المصاحفا
يَنْشُدُ بالله الخميس الزاحفا٢٢
فلا تسلْ عن فشلِ العزائمِ
ولم يزل طليعة الهزائمِ
انقطع النَّظمُ والانقيادُ
وحكمتْ في الشُّكُمِ الجياد
وافتيتَ في الرأي على الأعيان
وهُدِّدَ الإمامُ بالعصيانِ
ما كان في قبوله التحكيما
على علو رأيه، حكيما
لا يُرفعُ المُصحفُ كالدُّفوفِ
والسِّلمُ لا تُذكَرُ في الصفوف
ورأيه في الأشعريِّ أعجبُ
لله فيه قدَرٌ مُحجَّبُ٢٣
أين أبو موسى وأين عَمْرو؟
لا يستوي مجرِّب وغمْرُ٢٤
أمَن دها قيصرَ والمقوقسَا
كمَن على مصحفه تقوَّسا؟
قام فردَّ الرجليْن ونزل
وقام عمرو فأقرَّ وعزل
أبى عليًّا وارتضى معاويهْ
ونقَض المِنبرُ عَقد الزاويهْ
أصاب قَرنًا لا تُرامُ شمسُهُ
أعيا على الأقرانِ دهرًا لمسهُ
بالمرهَفِ المسموم فِيما قد ذُكِرْ
وكلُّ شيءٍ قَتَلَ، الماضي
الذَّكِرْ
يا شُؤمَ سيفٍ قطَع الصلاةَ
واغترَّ ليثَ الغابة المِصْلاتا٢٧
ولم يكُ ابنُ ملجمٍ صُعلوكا
بل غاليًا يقتحِمُ الملوكا
وضاريًا في دمه العُدوانُ
لم يَخلُ من أمثاله أوانُ
وقال قومٌ ذاك مُسلِمٌ نقِمْ
حكومةَ القرآنِ فهو منتقِمْ
قولٌ غدَا عند النُّهَى مفروضا
لو صح راح العالمون فُوضَى
الرأيُ للأمةِ في الوُلاةِ
وليس للغِضابِ والغُلاةِ
وقتلُكَ الإنسانَ غِيلةً شَنِعْ
الجبنُ أن تَقْتُلَ مَن لا يمتنعْ
النفسُ لله وللنظامِ
والدمُ إحْدَى الحُرَمِ٢٨ العِظام
فكيف بالبغْيِ على عَليِّ
الراشدِ المقرَّبِ الوليِّ؟
•••
ما لكَ والناسَ أبا ترابِ!
ليس الذئابُ لك بالأتراب
هم طردوا الكليمَ٢٩ كل مَطرَدِ
وأتعبوا عَصاه بالتمرُّدِ
وزُيِّنَ العِجلُ لهم لمَّا ذهبْ
وافتتَنوا بالسامَريِّ والذهبْ
وبابن مريمٍ٣٠ وشَوْا ونمُّوا
واحتشدوا لصَلبهِ وهمُّوا
وأخرجوا محمدًا من أرضه
وسَرحتْ ألسُنهُم في عِرضه
وغيَّبوا المسوِّيَ الفاروقا٣١
وخيرَ شمسَيْهم لهم شروقا
وهبَّ منهم من لحقِّكَ اختلسْ
وفَجَعوك بالصلاة في الغلسْ
وأشرقوا الحسينَ بالدماءِ٣٤
ملوَّحًا بين عيون الماءِ
فاسمُ سموَّ الزاهدِ الحواري
في درجات القرْبِ والجوارِ
إن زال مُلكُ الأرضِ عنك من ملكْ
يا طولَ مُلكٍ في السماءِ تمَّ لك!
١
العمران: أبو بكر وعمر.
٢
القمران: الحسن والحسين.
٣
عثمان.
٤
الشامي: معاوية.
٥
أمحضت له النصح إذا أخلصته.
٦
القُحُم: الأمور العظام الشاقة، والمداحض:
المزالق لا تَثبت عليها الأقدام.
٧
الثلاثة: الصِّدِّيق وعمر وعثمان.
٨
العضل: حبس المرأة عن الزواج.
٩
عائشة أم المؤمنين.
١٠
قضية من دمه؛ أي دم عثمان.
١١
أي شر من ظلمك من تلتقيه وأنت ملقي السلاح لا
تشهره في وجهه ومن لا ترى بدًّا من تجنُّب
إيذائه.
١٢
يقول: إن عائشة وطلحة والزبير جاروا وظلموا
بخروجهم على عليٍّ.
١٣
أي زمام الجمل الذي كانت تركبه عائشة.
١٤
في الأسد: جيش علي، وأبو تراب كنيته.
١٥
متون: ظهور، والضُّمَّر جمع ضامر، والضُّمْر
الهزال، وهو ممدوح في الخيل، والعِراب الخيل الكرام
الخالصة من الهُجنة.
١٦
اسم الجمل الذي كانت تركبه عائشة.
١٧
تذمر الخيل: تحثُّها.
١٨
الخطام: خطام الجمل.
١٩
خانهم يوم صفين وهم شيوخ أجلَّة، ووفى بدر لهم
وهم شباب أهلَّة.
٢٠
هو عمار بن ياسر، وقد خرَّ وهو يقاتل.
٢١
نصراء البيعة: أصحاب علي.
٢٢
الجيش الهاجم.
٢٣
هو أبو موسى الأشعري.
٢٤
الغمر: غير المجرِّب.
٢٥
أي يا زيد الخيل.
٢٦
هو عبد ا لرحمن بن ملجم المرادي، كان من أهل
مصر، وهو الذي قتل علي بن أبي طالب؛ فقد اجتمع ملجم
هذا، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي في
مكة مع آخرين من الخوارج سنة أربعين، وتحادثوا في
أمر الناس وفيما هم فيه من الحروب والفتن والشحناء،
فتعاهد الثلاثة على أن يكْفوا الناس عليًّا،
ومعاوية، وعمرو بن العاص، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم
عليًّا، ثم أقسموا بالله ألا يرجع أحد منهم عن صاحبه
الذي توجَّه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا
أسيافهم فغمسوها في السم وذهب كل إلى غرضه، ومضى ابن
ملجم حتى أتى الكوفة فالتقى فيها بجماعة من تيم
الرباب — قَتل منهم عليٌّ يوم النهر عشرة — وفيهم
امرأة يقال لها قطامِ — قتل عليٌّ أباها وأخاها يوم
النهر أيضًا — بارعة في الجمال، فلما رآها أذهلته
فخطبها، فقالت له: لا أتزوجك حتى تُشفيني، فقال وما
يُشفيكِ؟ قالت: ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقالت:
عليٌّ، قال: هو لك مهرٌ، أما علي فلم أرَكِ ذكرتِه
لي وأنتِ تريدينني! قالت: بل ألتمس غرَّته، فإن أصبت
شفيت نفسك ونفسي ويهنئك العيش معي، وإن قُتلت فما
عند الله خير وأبقى، فقال لها: والله ما جئت هذا
المصر إلا لذلك. ثم اختارت له مساعدًا من قومها
واختار هو مساعد آخر، فلما كانت ليلة الجمعة ١٥ من
رمضان ترصَّدوا له، حتى خرج يريد صلاة الصبح فضربه
ابن ملجم في قرنه بالسيف وهو ينادي: «الحكم لله لا
لك يا علي ولا لأصحابك.»
٢٧
الماضي في الأمور، واغترَّه: أتاه على
غِرَّة.
٢٨
أي النفس لله وللشرائع يحكمان فيها.
٢٩
موسى عليه السلام.
٣٠
هو السيد المسيح.
٣١
هو عمر بن الخطاب.
٣٢
عثمان بن عفان.
٣٣
القرآن.
٣٤
هو الحسين بن علي، وقد قُتل ظمآن في
كربلاء.