عَمرو بن العاص
ما بالُ قصرِ الشمعِ لا يُضاءُ؟
هبَّ على مصباحه القضاءُ
لا فِتية الرومان في بُروجه
ولا غوانيهمْ على مروجهِ
ولا الليالي حوله أعراسُ
وفوقه وتحته أحراسُ
وما لبابليون من بَعد العجمْ
أمستْ رجامًا في نواحيه الأجمْ؟
لم تُغنِ عنه رفعةُ الأسوارِ
ولا جثومُ الأسد الأسوارِ١
وأين في أُفقيْهما٢ فسطاطُ
للنجم عن سُدَّتِه انحطاطُ
قد ألقيا إليه بالمَقالدِ
وخرجا من طارفٍ وتالدِ
سُرادقٌ ينفذُ حُكمُ ربِّهِ
من منبع النيل إلى مَصبِّهِ
أوى إلى أطنابه اليمامُ
لأنها الرحمةُ والغمامُ
وأمِنَ الأعزلُ فيه الشاكي
وحذر المشكوُّ صوت الشاكي
خفَّتْ به القبابُ والخيامُ
وسالمتْ ضاربَه الأيامُ
لم يبقَ من ذلك إلا مَسجِدُ
عالٍ على باع الخطوب مُنجِدُ٣
كالكعبة الرفيعةِ الدعامِ
ما حُجَّ إلا مرةً في العامِ
إن كان لم يَعلُ عُلوَّ الهيكلِ
وليس بالملوَّنِ المُشكَّلِ
لقد تردَّى حُلَلَ الجلالِ
بالبانيْين الحقِّ والحلالِ
أميرُ كلِّ هيكلٍ ومعْبدِ
فاتهما بالسؤدد المؤبَّدِ
نسَّى الديانات بمصر قَبلَهْ
ولا يزال للقلوب قِبْلَهْ
•••
إسلامُه وخالدًا في آنِ
حلَّ على الشِّرك به رُزْآنِ
السيف والرأي بيومٍ أجْمَعَا
واستأذنا على محمدٍ معا
فانقلب الحق بهذا فَرْدَدا٤
وعاد هذا بالهدى مُسدَّدا
بالفاتحيْن بُشِّر الإسلامُ
واستقبلت آمالَها الأعلامُ
كلاهما كان رِضى النبوَّهْ
لم تَشْكُ كَلَّهُ ولا نُبُوَّهْ٥
وبازُ مَن صادَ وسهمُ مَن رمى
من الهُداةِ الراشدين الكُرَما
ما ضرَّ عَمْرًا مُنضِجَ الهواجرِ
إن كان لم يَنصُرْ ولم يُهاجِرِ
كم هجرَ النومَ أبو محمدِ
واكتحل العِثْيَرَ بعد الإثْمَدِ
•••
عَمرُو القنا والرأي والجدودِ
رمى به الفاروقُ في الحدودِ
على فلسطينَ حَمَى الراياتِ
وحملَ الخيلَ على الغاياتِ
إذا المَضيقُ لم يجد مَضاءَ
للسيف، قام رأيُه فضاءَ
حتى حوى لعُمَرَ الإقليما
وحاز للإسلام أورشليما
فتحٌ تولَّى صَكَّه الإمام
وأُخِذَ الميثاقُ والزمامُ
يا صخرةَ الله اشهدي أن عُمَرْ
أبرُّ من نهى وأوْفَى مَن أمرْ
•••
سما إلى مصرَ بطَرْفٍ وطمَحْ
ولم يزل بعمَرٍ حتى سمحْ
وجَّهه فهبَّ والغزاةَ
كما أطار الصُّيَّد٦ البزاةَ
يطوى بهم طابخةَ الركائبِ
آكلة البعوث والكتائب٧
أنعاكِ أم أسقيك من بَيْدَاءَ؟
كانت دواءً أبدًا وداءَ
ماذا دهى مصرَ من الطواري
ولقيتْ من ذلك الجِوارِ
كم رعتِها بداهمٍ جرَّافِ
وآفةُ الجسم من الأطرافِ
وربَّ جلَّادٍ على جلَّادِ
سَلَّطتِ وَيْلَيْنِ على البلاد٨
كم عصفتْ منكِ السوافي الهوجُ
وهبَّتِ الحاصبةُ السيهوجُ٩
وكم بعثتِ بالمبشِّرَاتِ١٠
على موات الحق منشراتِ
وكنتِ إن أسلتِ رائدينا
طويتِ دِينًا ونشرت دينا
•••
شُرِّفتِ بالعذراءِ والمهاجِرِ١١
وبالخليل آيبًا بهاجَر
وسيق فيكِ يوسفٌ جليبا
فلقِيَ التمليكَ والتغليبا
ووطِئت بساطَك الأسباطُ
وانتظم الشملُ والاغتباطُ
وخُزتِ موسى جائِلًا وجائبا
يستقبلُ الآياتِ والعجائبا
ومُصبِحًا بقَفرةٍ ومَجهلِ
ومُمسيًا بربوةٍ ومَنهلِ
وطالِعًا مخارمَ الجبالِ
وقابسَ النور على الأقبالِ١٢
ترمين أرضَ النيل عن قوس الفَلَكْ
يومًا بشيطانٍ ويومًا بمَلكْ
تهدين نورًا تارةً ونارا
والطامس المنارِ والمنارا
حتى مشتْ كتيبةُ الحواري
عليك كالأنواءِ والأنوار١٣
وما النجومُ الزُّهْرُ حَفَّتْ
بالقمرْ
أروع من عَمرو على خيل عُمَرْ
ولا قنا الأسباطِ١٤ حول يُوشَعا
أعفَّ من قناهما وأخشعا
•••
كتيبةٌ قليلةُ العديدِ
كثيرة بدِينها الجديدِ
طوتْ إلى مصرَ القفارَ طيَّا
وركبتْ رياحَها مَطيَّا
فبلغ العُمْرانَ عمرٌو فرمى
بجمعه الروم حِيال الفَرَمَا١٥
تسلقوا حصونَها تَسَلَّقا
واقتحموا مارِدَها والأبلقا
واخترقوا التخومَ والحدودا
سبحان من يُداول الجدودا
ورووِدتْ بلبيسُ حتى أذعنتْ
ورُكبتْ بالمسلمين إذ عنتْ
ترجَّل الحماة عن حصونها
ونزل الأُباة عن مَصونها
وظلَّتِ الخيلُ تجوب الوادي
أندى على الريف من الفوادي
يسيرُ في رُخائها الملَّاح
ولا يحسُّ وطْأها الفلَّاح
حتى بدت منازل الرومانِ
ساهرةَ الخَطِّيِّ١٦ واليماني
في حضنِ حِصنِ أو ذَرَا لواءِ
بعيدَيِ المَصْعَدِ في الجِواءِ
فنزلوا سوادَ عينِ شمسِ
وِسادُهم رِحالُهم كأمسِ
وجثموا إلا عيونًا ساميهْ
تجسُّ حصنًا أو تجوس حاميهْ
فخرج الرومانُ للقتالِ
في جحفلٍ مدجَّجٍ مُختالِ
رحى الوغى بمثله تدور
وقطبها في قلبه «تِيدور»
ليس لَعمرٍو ما له من كثرهْ
وخوذةٍ وشِكَّةٍ ونثرهْ
فأقعد الغازي له الكمينا
وأخذ الشِّمالَ واليمِينا
يومٌ عليه بُنيتْ أيام
لأمَّةٍ جدودُها قيام
من يصطبْر للصدمة الأولى يَسُدْ
لا يصلح الفَلُّ١٧ ولو كانوا الأُسُدْ
بباب أليونَ تيودور اعتصمْ
فيمن وَهَى من الصفوف وانفصمْ
وجيء بالأمدادِ والسوادِ
من شحنةِ الروم وقِبطِ الوادي
وظن أن الحصنَ مُعجز العربْ
فما لهم غير النكوص مُضطَربْ
فإن أبوْا أدَّبهم بيومِ
ما بعده قائمةٌ للقومَ
فوردتْ كتيبة الزُّبيْرِ
وعُمَرٌ مصْدرُ كلِّ خيرِ
وظل بابليون وهو عاصِ
على الزبيْرِ وعلى ابن العاص
حتى تسوَّرَ الزبير سُورَه
واغترَّ في وُكُونها نُسورَه
مشى على ناقوسِه مكبِّرا
يا لكَ ناقوسًا أُحيلَ مِنبَرا
أوفَى على القوم فريعَ البرج
بفارسٍ له السماءُ سَرْجُ
صوتٌ هفا في الحصن بالعزائمِ
كنبْأَةٍ في جوف أيْكٍ نائمِ
فضاع رشد الروم والصوابُ
وفُتحتْ من نفسها الأبوابُ
تبارك الله وجلَّتِ العربْ
لم يثَنِهم جوٌّ ولم يَعُقْ سَرَبْ
من فتحِ بلبيسَ لِعينِ شمسِ
لا يُصبِحُ الضيغَمُ حيث يُمسِي
يبغي دمنهورَ بهم فجاءها
في مَدَد قد ملئوا أرْجاءَها
وإذا على آثاره خيل العربْ
وخيلُه من هربٍ إلى هربْ
بعد قتالٍ جال فيه الروم
وطاح أبطالهمو القروم
واندفعت خيل الإمام تعدو
يَقدمُها اليُمن ويحدو السعد
حتى بدا الثغر فودَّتْ قُبلهْ
كما اشتهى العبْسيُّ٢٠ ثغرَ عَبلَهْ
ورابطتْ فجرَّتِ الأرسانا
والتفتت تعاتب الفرسانا
وطيفَ بالثغرِ فلا ثنيَّهْ
إلا عليها رَصَد المنيَّهْ
فكيف لا يُودِي برشْدِ قيصرا
أو بصواب قومه أن تُحصَرا
أقامهمْ سقوطها وأقعدا
وزعموه فوق طاقة العِدا
•••
وكان في الإسكندرية الملا
أملكَ في سلطانهم وأكملا
جموعُهمْ في ساحها بلا عَدَدْ
والبحر يغدو ويروح بالمدَدْ
ومن أصاب البحرَ في سلطانِه
عدَّ جميعَ الأرض من أوطانِهِ
تقضَّتِ الأيام والشهور
والسيف في غير وغًى مشهور
يفترُّ عن لألائه فم الجُمَعْ
وتحتها للثغر خوفٌ وطمعْ
وربُّه يستنزل الرومانا
ويعرض الإصلاحَ والأمانا
حتى أُعينَ رَجُل الإمامِ
برَجل القياصر الهمامِ٢١
وفُتحت مدينة الإسكندرِ
صُلحًا وصفوًا ليس بالمُكدَّرِ
تأخَّر السيف وشارط الندى
يا غَبْن من يُشارط المُهنَّدا
فقيل راعى المسلمين الوالي
وكان في السرِّ لهم يُوالي
وقيل بل ذو مأربٍ أرادَا
بسُلطة الكنيسةِ انفرادا
وكان في فَروق سلطان البِيعَ
تعنوا له في سائر الأرض الشِّيَعْ
حكمٌ جفاه الاعتدال وقسا
إني أراهم ظلموا المُقوقَسا
لعله تبيَّن الحقائقا
وذاد عن مصرَ بلاءً حائقا
ووجد الرومان والقياصرا
لا يَملكون في البلاد ناصرا
يرونها العنف والاستكبارا
ولا تُحبُّ الأممُ الجبَّارا
مما مضى الدهر عليه والأُوَلْ
أن النجاحَ لفتِيَّات الدُّوَلْ
١
الوثَّاب.
٢
ضمير راجع لقصر الشمع وحصن بابليون.
٣
مرتفع.
٤
أي سيفًا ماضيًا.
٥
كَلَّ السيف: لم يقطع، ونبا عن الضربة: ارتد
عنها.
٦
جمع صائد، والبزاة: جمع باز.
٧
إشارة إلى الصحراء.
٨
أي: ربَّ غازٍ فاتح رميت على وادي النيل فجاءه
غازٍ آخر من الجيوش المغيرة يخرجه فكانا ويلين على
البلاد.
٩
السيهوج من الرياح الشديدة.
١٠
المبشرات الرياح الطيبة، إشارة على الذين
دخلوا مصر من الصحراء من الرسل والحواريين.
١١
عيسى إذ هو طفل.
١٢
المرتفعات من الأرض.
١٣
الأنواء الأزهار: والأنوار الأضواء.
١٤
الأسباط من اليهود كالقبائل من العرب.
١٥
موضع من الحدود كان محصَّنًا.
١٦
الرمح والسيف.
١٧
بقية الجيش المنهزم.
١٨
كل عظيم من الروم.
١٩
ركب العصا أي هرب، من المثل المشهور: فاز من
ركب العصا، والعصا فرسٌ لها قصة.
٢٠
عنترة المشهور، وعبلة حبيبته.
٢١
هو المقوقس عظيم القبط يوم ذاك.