رسالة عارف
إلى مي
وأنا أيضًا كالسيدة جليلة، تتبعتُ مقالاتك عن «المساواة»؛ فرأيتك تارةً تهيمين بين الانقلابات العمرانية، وطورًا تهُبِّين لتطلقي في أحد فروع الموضوع حُكمًا جزئيًّا لم يكن ليتوقَّع سواه قارئُ أول فصولك عن «الطبقات الاجتماعية»، بل لا يتوقَّع سواه ذو عينين تُبصران ولبٍّ يعقل.
خططتِ العنوان وأدرتِ الطرف فيما حولك فشاهدتِ تعدُّد الموجودات وتمايز الأنام فنقلتِ قسرًا تلك الصورة المتجدِّدة في البرية؛ صورة التطوُّر من أدنى الكائنات إلى أرقاها، وخضوع الوحدات الصغيرة للوحدات الكبيرة، ووجوب الفناء لاستمرار البقاء؛ وهو الغاية المُثلى التي تضمحلُّ في سبيلها الصور والآجال.
كذلك قرأتُ باهتمامٍ تدوين مناقشتنا الأخيرة منتظرًا منك الحكم النهائي. ولقد ذكرتِ أنك شكَّلتِ من قواك «هيئة محلَّفين»، ولكن نسيتِ أن مثل تلك الهيئة لا تُنهي القضايا على الوجه الذي اخترتِ، وإنما عليها أن تهيِّئ حُكمًا ما، للدَّائرة العليا نقضه أو إبرامه.
بَيْدَ أني أفهم أن الأبحاث التاريخية والمواقف الأدبية هي غير المحاكم والقضاء، وأفهم كلَّ الفهم معنى ابتهالك لليل والحياة. ولكَم ناديتُ الليل واستغثتُ بالحياة عند الْتباس المسالك واشتداد الخطوب! ولكَم أحبطني العِيُّ والقنوط عندما جاءت الوقائع تكذِّب ما أنا في حرارة إخلاصي عضَّدته وعزَّزته! فعقبَ فشلَ آمالي الشكُّ الأليم وصرتُ أودُّ سحق المخادعة والرياء سحقًا. أما التحمس الصادق فله مني مزيج اعتبار وشفقة؛ لذلك أقدِّر تحمُّس عوني وأشفق عليه جميعا — وإن حاولتُ إخفاء مشاعري وراء نبرات التهكُّم والمناوشة.
لقد تألَّم صديقي شديدًا، وكيف لا يتألَّم في محيطنا الأناني مَن كان له من عوني رقة العواطف ونبل الفكر وسمو الميول؟ غير أن ألمه ناقص؛ لأنه جاءه من فئة واحدة من الناس؛ فئة العظماء والأغنياء والأشراف. فتخيَّل أن الرذيلة تحصَّنت في القصور وأن الفضيلة استوطنت الأكواخ، وحسِب السعادة حيث الرغد، والتعاسة حيث الشظف، ولم يفهم الحرمان بغير معناه الظاهر؛ ومن هنا مبعث خطئه وتحمُّسه معًا.
وكنت في البدء مثله هو وجماعته؛ أرى الحاجة كلَّ الحاجة في فراغ اليد فأنادي بالمساعدة دون حساب، وأتمنَّى أن يكون لحمي للجائع قُوتًا ودمي للظامئ شرابًا، والخلل حولي كنت أظنه خللًا فيَّ فقط، وزعمت جميع النفوس من درجة واحدة فمضيت أجاهد لإعلائها إلى أوجٍ قطنته تلك النفوس القليلة التي وضعتها الحياة على طريقي فأثار النبل منها احترامي وإعجابي.
شببت فإذا بي مخطئ، وأن ما فيَّ من خلل مَنشَؤُه الطبيعة البشرية المتوازنة أجزاؤها نقصًا وكمالًا، ورأيت أن أنانيةً تسربلت بالحرير ليست بأطمع من أنانية ارتدت الأطمار، وأن كبرياءَ بدت في التشامخ والصمت والتألُّه ليست بأكرهَ من كبرياءَ توارت في التذلُّل والتوسُّل والنحيب. وتبيَّنتُ في كل مرتبة أثرةً وتحيزًا واستعدادًا قصيًّا للجور والطغيان، بل تبيَّنتُ ذلك في كل فرد من أفراد المرتبة الواحدة والأسرة الواحدة. وعلمت أن بعض العقول قفر، وبعض القلوب صخر، وبعض النفوس رموز حية لليأس والنكد، وبعض الصور البشرية انعكاس لتمثال الشقاء الدائم، وأدركت للحرمان معانيَ جمَّة.
لقد تيسَّرت معالجة العَوَز المادي فتنظَّمت الجمعيات الخيرية تطعم الجياع وتكسو العراة وتعلِّم أبناء الفقراء. وها جمعيات التعاون تحرر العامل من تحكُّم صاحب رأس المال — أعني أن الأدوار تبدَّلت وأن التحكم صار الآن للعامل. ولكنْ، أيُّ جمعية وأي شيوعية ترغم الطبيعة على بسط يدها إن منعت، وتغيير نظامها إن جارت؟ هاك زهرة نضرة في حقل الشوك والعليق، فما ذنبها؟ هاك شجرة فريدة وسط الصحراء، فلماذا تشقى؟ كلٌّ يرحم من قضى جوعًا، ولكنْ مَن ذا يرحم قلبًا جائعًا إلى الحب العظيم، وفكرًا له من يفهمه ويقدره، ونفسًا طُويت على الحنان وبذل الذات تترقَّب مجيء مَن تسعد بالتضحية لأجله فلا يجيء، كأن نهر الأعمار جرفه في تيار قديم؟ أيُّ تفطُّر لمن صانع فلم يُكافأ بغير التهجُّم ونكران الجميل؟ أيُّ تعاسة لمن لا يؤذي الناس متعمدًا فيُحرم الصحة مثلًا، أو النظر، أو النطق، أو يُسلب عزيزًا؟ وذاك الوالد الصالح الرصين، لماذا ابتُلي بولد مستهتر أبله؟ وذاك الثري المحسِن لماذا يُحرم هو وزوجته نسلًا قد يُحسنان تنشئته، بينا ذلك السافل الشرير يستعمل أسماء أبنائه آلةً للاحتيال وإرضاء الأهواء؟
هذه حرمانات قليلة من حرمانات عديدة خرساء لا اسم لها. ولقد قال بركليس زعيم الديمقراطية اليونانية: «عندنا لا يخجل أحد بفقره، وإنما يخجل إذا هو لم يكافح الفقر بالنشاط والعمل.» فإذا تيسَّرت معالجة الفقر — ولو معالجة نسبية — بالنشاط والعمل، فكيف تُعالَج حاجات أخرى ليس لموهبة أو صفة مهما شرفت وسمت أن تتغلب عليها؟ وما هذا النظام الذي يزعمون فيه الإنصاف والمساواة، وهو لا يتناول سوى الظاهر الممكن تعديله بلا سلب ولا فتك، في حين تظل جميع الحرمانات الأخرى تنشب في القلب أظافرها؟
قد تقولين الآن إن اليأس من شفاء المرض الواحد لا يبرِّر إهمال المرض الآخر، وهذا صحيح. وقد تقولين ما ينسبه إليَّ بعض أصحابي الاشتراكيين، وهو أني أرستقراطي النزعة وأن أحكامي العامة تقوم على اعتبارات خاصة. أمَّا أني أبني أحكامي على مشاهدات شخصية فأُسلِّم به، وأود أن أسأل كل ذي رأي، بل أود أن أسأل الذين سنُّوا الشرائع والأنظمة، وكوَّنوا الجمعيات والأحزاب، وأحدثوا الثورات والإصلاحات … أود أن أسألهم: هل يمكن الاقتناع بغير الاختبار الشخصي، وهل يكون اليقين يقينًا إن لم يُبْنَ على اقتناع فردي؟
وأمَّا أرستقراطيتي المزعومة فينقضها أني أكاد أرى رأي ذلك الكاتب الأمريكاني الذي أثبت بالأدلة التاريخية أن أكثر رؤساء الولايات المتحدة ورؤساء الجامعات في هاتيك البلاد، ومديري المصارف والشركات، وزعماء الأحزاب … أن أكثرهم ينتسبون إلى شارلمان ملك الفرنسيس. وأقول معه إن الشعوب المختلفة لو عادت مئات السنين إلى الوراء لوجدت جدودًا واحدةً وسلفًا واحدًا؛ فنكون جميعًا أبناء ملوك، وإن تاهت منَّا الأسماء خلال تشعُّب الأنساب. ومع تسليمي بصدق الوراثة على قياس خمسين في المائة تقريبًا، فإني أذكر كذلك الامتيازات الفردية التي لم تجعل الإمبراطور ماركس أوريليس أنطونيوس أعظم من أخيه في الرواقية والنبالة الأخلاقية العبد أبكتتس، وأذكر أن أمونيوس ساكاس مؤسس الأفلاطونية الجديدة — التي ربما كانت أكبر مدرسة فلسفية عرفهَا التاريخ — كان حمَّالًا، وأن فاراداي أحد أعاظم العلماء المكتشفين كان ابن معدمين وحصَّل قوته أعوامًا طويلة من بيع الصحف عاريَ القدمين في شوارع لندن … وهلمَّ جرًّا.
لقد تألَّمت في حياتي لأمور كثيرة ومن مختلِف المراتب، وتألَّمت من مجموع الوراثات المتجمعة فيَّ التي أُسميها «نفسي». وأعرف من جهةٍ ظلمَ المجتمع، وظلمَ الحياة من جهةٍ أخرى. وإني لمن الصائحين عاليًا بالثورة على كثير من الأنظمة والعادات والاصطلاحات كما أني من الصائحين عاليًا بوجوب الامتثال لأنظمة أخرى وقبول عادات واصطلاحات موافقة في تقديري. أعرف الحياة صالحة محسنة جميلة من الجانب الواحد، وخادعة غادرة قبيحة من الجانب الآخر. إلا أني «زرادشتي» من حيث إيماني بأن الغلبة النهائية للخير والصلاح والجمال. ولو أردت أن أعرِّف الحزب السياسي أو الاجتماعي الذي أنتمي إليه، لقلت إني أرستقراطي، ديمقراطي، اشتراكي سلمي، اشتراكي ثوروي، فوضوي، عدمي … إلى آخره. كل ذلك دفعة واحدة وبوقت واحد. وإذا خطر لكِ أن تضحكي ذكَّرتكِ برينان الذي كتب يومًا ائتوني بصفحة لأحد كتَّابنا فأُبرهن لكم أنه في السطور العشرة الأولى ذو نزعة تختلف عن نزعته في السطور العشرة التالية، كما تختلف هذه عن السطور الأخرى. وما ذلك إلا لأن جميع النزعات موجودة في كلٍّ منَّا وإن تغلَّبت إحداها على الأخريات. وهذا التغلُّب وحده هو الذي يَبرز منوَّعًا في مختلِف الأفراد فيسِم الواحدَ منَّا بوسمه، ويضع له العنوان الذي يُعرف به.
لو كنت ذا كلمة مسموعة بين حكومات العالم لجعلتها تُعرض عن اصطخاب الأحزاب التي خلق كلٌّ منها لنفسه بيانًا ذا ألفاظ يتمثَّل فيها قرع النواقس، ودويُّ المدافع، وخفوق الأعلام، وتنضيد الإعلانات، وحفر الخنادق، وحركات الهجوم والدفاع. كلهم يشكون الظلم وكلهم ظالمون، كلهم ينادون بسقوط الجاني وكلهم جانون، لكن أولئك الظالمين الجانين مظلومون أيضًا بحكم الوراثة والأحوال والقدَر؛ فهم لم يخلقوا أنفسهم مختارين، بل خلقتهم حوادث دهرية لم يكن لهم فيها يد ولها فيهم كل النفوذ. ولقد طال جهاد الإنسانية للتحرُّر من ظلم ما ورثت من غرائز غير مدركة، كما تطلب التحرُّر من طغيان الطبيعة واستبداد الأقوياء وبطش السلطات وسفالة الجبناء وحسد الخاملين؛ فصرنا اليوم في عصر الكلام الرنَّان تتلاطم فيه ألفاظ «الشرف والعظمة والحرية والاستقلال والمروءة والإحسان والتعاون»، وإنما هي ألفاظ فارغة قلَّما فكَّر مرسلوها في معانيها. كلنا نطالب ﺑ «حقوقنا» وليس منَّا المهتم بتأدية واجبات تُشرى بها الحقوق. ولعلَّنا حيال الثورة على رأس المال نحتاج إلى ثورة على الدعوى والغرور؛ ثورة حصيفة — إذا جاز نعت الثورة بالحصافة — تحدِّد الكفاءات، وتقسم العمل، وتعرِّف الواجبات، وتضع الناس في مراكزهم لا عن تحيُّز لامتيازات الوراثة ولا تملُّقًا للمال أو مراعاة لآراء الأكثرية، بل وفقًا للكفاءة الطبيعية الملزم المجتمع بإنمائها وتعهُّدها والاستفادة منها عند جميع أعضائه.
- أولًا: إيجاد مطاعم عمومية ومنازل للمبيت؛ فعارٌ على المدنية أن يموت فيها أفراد من الجوع والبرد، وعارٌ أشد أن يستعطوا قوتهم ويناموا على قارعة الطريق، أو أن يعمدوا إلى السرقة والنصب والتهجُّم على المثقلين بإعالة نفوسهم وإتمام أعمالهم العسيرة. ويجب ضبط النظام في تلك المطاعم لمنع الاحتيال؛ لأن الاستعطاء ليس دوامًا حاجة غذائية، بل كثيرًا ما يكون فطرة وغريزة.
- ثانيًا: منع التسوُّل بتاتًا؛ فالصَالحون للعمل يجب أن يعملوا للحصول على قوتهم. وأما الآخرون المرضى والعجزة وذوو العاهات الجسمية فيأوون إلى الملاجئ القائمة على نفقة الحكومة أو المجتمع.
- ثالثًا: جعْل التعليم الأوَّلي مجانيًّا، على أن لا يكون متماثلًا للجميع، بل يتعلَّم كلٌّ وفقًا لاستعداده ما يحتاج إليه وينفعه في عمله؛ فتاجر الأثاث لا يحتاج إلى النظريات الفلسفية، وصانع الأحذية لا يحتاج إلى الهندسة الزراعية، والمهندس لا يحتاج إلى قرض الشعر. وطبيعيٌّ أن لكلٍّ أن يتوسَّع بعدئذٍ فيما يميل إليه من المعارف الكمالية — على نفقته الخاصة.
- رابعًا: إيجاد مكاتب عمومية تُمتحَن فيها الكفاءات وتُوزَّع فيها الوظائف والأعمال حسب الاستعداد؛ فمن الظلم الفادح أن يطلب المرء عملًا به يُفيد ويستفيد فيرى جميع الأبواب مقفلة في وجهه؛ إذنْ لا يعود الكسالى يتذرَّعون بإحدى تلك الحجج المكذوبة «لا أجد عملًا».
- خامسًا: إيجاد معاهد كبيرة يأوي إليها من الأبناء من شاء أو من كان شقيًّا بين والدَيه فيضطرب بينهما فكره، أو تعتل صحته، أو ينغَّص عيشه أو — ما هو أخطر من هذه جميعًا — يفقد صفاته الحسنة وتتلاشى نزعاته الطيبة؛ فقد وُجد الطلاق بحق ليفصل بين المتزوجين الذين ليسوا على وفاق ويريحهم. ولكن كيف يعيش الابن الشقي بين أبوَيه؟ ولمن يشكو همَّه؟ وماذا يقول؟
- سادسًا: أن تكون عيادة الأطباء والصيدليات والمستشفيات والتمريض مجانية للجميع على نفقة الحكومة أو المجتمع؛ فمن العار أن يموت أناس لأنهم ليس عندهم أجرة الطبيب وثمن العلاج، أو نفقات العملية الجراحية والمستشفى. كذلك يكون نقل الموتى والدفن مجانيًّا ومتشابهًا للجميع؛ فإن الأُبَّهة في الجنازات لَمن الأمور المرسحية التي تشوِّه هيبة الموت. فما دام الناس متساوين في تسليم النَّفَس الأخير فليكن دفنهم مظهرًا للمساواة لا مجلى لفروق المراتب في تلك المركبات المنمَّرة «بريمو» و«سكوندو» و«ترسو».
- سابعًا: نفقات المرافعات والدفاع والقضايا المختلفة تكون على الحكومة أو المجتمع. وفي ذلك — فضلًا عن المنافع الجمَّة — رادع عن الرشوة في بلاد تُستعمل فيها الرشوة، ورادع لجشع بعض المحامين الواسعي الضمير.
- ثامنًا: أن يفرَّق في السجون بين المساجين حسب مراتبهم وأخلاقهم؛ فإن الثمرة الصالحة لا تُعدي الثمرة الفاسدة، ولكن فساد الثمرة الواحدة يمتد إلى مئات الأثمار الصالحة. ولما كان الغرض من السجن كف أذى الجاني عن المجتمع، كان من الظلم أن يكون السجن مفسدةً للجاني؛ فلا يجوز أن تمنع عنه الكتب والصحف وما يطلبه من وسائل التثقيف سواء في العلم والفن والمهنة. ويجب أن يشتريَ طعامه ولباسه بعمله في السجن شأنه في المجتمع، وألا يُحقَّر ويُذل، بل يكون هناك في خلوة فيها يشعر بأنه أخطأ دون أن يرى في النوع الإنساني بأسره عدوًّا وجلَّادًا، لئلَّا تنقلب قوى نفسه خوفًا وكرهًا، ومرارة ورغبة في الفتك والانتقام.
- تاسعًا: يقولون إن العضو الفاسد في المجتمع يُقْطَع. نعم، على شريطة أن يصيب
الطبيب في الحكم بالفساد، لا أن يعود يُبرَّأ المسكين بعد تنفيذ الإعدام
فيه كما وقع في بلاد كثيرة. ثُم فليجرَّد الإعدام من مظاهر القسوة التابعة
له، كإيقاظ المحكوم عليه من رقاده الأخير لأن ساعة التنفيذ دنت، وإلباسه
تلك البذلة القرمزية، وإحاطته بجميع تلك الأمور الرهيبة، وتلاوة الحكم عليه
في آخر لحظة من حياته فلا يرى حوله إلا وجوهًا صارمة، ولا يلمس إلا اليد
الفاتكة؛ كل ذلك لم ينفع إلى الآن في ردع أحد، لا سيما وأن تلك الرهبة لا
يراها سوى المحكوم عليه؛ فليكن الإعدام إذن بالكهرباء، أو بطريقة سريعة
جدًّا تقضي على الجاني بلحظة دون أن ينتظر وقوعها دقيقة بعد أخرى ويومًا
بعد يوم. هذا بعد إبلاغه الحكم بمدة كافية ليهيئ نفسه للموت، ولتعيد
المحكمة نظرها في القضية فتكون على ثقة من صلاحية الحكم.
أما المبالغ الضرورية للقيام بالنفقات المذكورة في الاقتراحات الأولى، فيؤتَى بها من ضرائب سنوية تفرضها الحكومة باعتبار الثروات. وكلٌّ يؤدي الضريبة راضيًا إذا ضمنت له ما قد يبذل المبالغ الطائلة عن الحاجة إليه.
لا أزعم أن فكري تمَّ نضوجه، بل أرجو أن يظلَّ قابلًا للرُّقي والتطور طول حياتي. ولكن لا أشك في أن هذه الإصلاحات ستتم في المجتمع عاجلًا أو آجلًا على وجهٍ ما؛ لأني شاعر بأن لا غنى عنها وأن إهمالها جُرم متجدد مع الأيام. المجتمع يُنيل الفرد حياة لم يطلبها هو؛ فعلى المجتمع إذنْ أن يهيئ للفرد إمكانية هذه الحياة حسيًّا واجتماعيًّا ومعنويًّا، ثم فليفتح له ميدان المسابقة لتبرز بها ملكاته ومواهبه. وأعتقد أن الإحسان إلى الناس لا يقوم بإعطائهم مالًا وقوتًا وأثوابًا يتمتَّعون بها بلا تعب فيحسبون الحصول عليها من حقوقهم، بل الإحسان إليهم هو في فتح عيونهم على المقدرة الكامنة فيهم، وتنبيههم إلى وجوب تبادل الحقوق والواجبات، وإفهامهم أن الذي لا يؤدِّي واجبًا فلا حقَّ له.
بين الأستاذ سامي الذي يُنكر السعادة، وصديقي عوني الذي يرى كل السعادة في حذف رأس المال ومحو الفروق بين المراتب، أقف أنا قائلًا بأن هناك سعادة ممكنة؛ فقد سعدتُ في حياتي أيامًّا وأسابيع، وكل الناس عرفوا طعم السعادة وطعم الشقاء. ولعلَّ السعادة والشقاء مزاجٌ أكثر منهما حالة نفسية؛ فمن البشر من خُلق سعيدًا أو تعسًا، كما أن منهم الباسم والعابس، الشره والقانع، البدين والهزيل، ولكن يتحتَّم أن يؤديَ المجتمع كلَّ ما يمكنه أن يؤديَه لأعضائه، وهو إلى الآن غير فاعل. المجتمع أيضًا يطالب بحقوق كثيرة ويؤدي واجبات قليلة. فلا غَرْوَ أن يحذوَ أعضاؤه حذوه.
ها أنا ذا وقعت فيما اتَّهمتُ الأحزاب به، وخلقتُ لي لغة مسهبة لأقول شيئًا قليلًا. ثُم ما منفعة اقتراحاتي — على أهميتها ولجاجتها — في هذا الزمن العصيب؟ إن الأرض لَترتجُّ تحت أقدامنا والهواء يحمل إلينا ما قد يكون لهيبًا ودخانًا لحريق سحيق. فالنظم الاجتماعية تتطوَّر ككل شيء حيوي — كما قلتِ في مقالاتكِ وكما هو الواقع — فلننتظر إذنْ ما هو كائن؛ لأني أرى الإنسانية الآن كالأفعى تُغيِّر ثوبها، أراها كالجوِّ يتعاقب فيه السكون والزوابع، الصفاء والغيوم، النجوم والأمطار. كفانا أن نرقُب سير الحوادث متكلين على نفوسنا، محدِّقين في وجه الحياة بلا وجل، مستعدِّين لتبيُّن الصلاح والحقيقة. ونحن أبدًا كالأرض أمنا التي تقبل البذور الصالحة ثُم ترسلها غلَّة وخيرًا، وإذا هوت عليها الأشجار اليابسة تجمَّدت في حضنها مادة للنار واللهيب. ولنكن أبدًا مطلقين هذا الهتاف الجامع بين الإخلاص والحيرة، بين الزفير والابتهال: ها أنا ذا وحدي أيها الليل، فعلِّمني ما يجب أن أعلم! ها أنا ذا مستعدُّ أيتها الحياة، فسيِّريني حيث يجب أن أسير!