العبودية والرق
من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض: تجعل الأكمة الجرداء قُرب البحر الزاخر، وخضرة الخمائل وخصب الواحات وراء رمال الصحاري وقحط القفار. حيال الذروة الأرستقراطية يزيِّنها تاج الملكية تحفر البطاح لسيل العبودية الجرَّاف؛ حيث تتزيَّف السجايا وتتلاشى المَكْرُمات. ما أقامت ارتفاعًا إلا أوسعتْ تخومه تجويفًا، وما جادت بنابهٍ إلا بلتْ بمعتوه، ولا سلَّمتْ بوليد إلا ودَّعتْ بصريع.
ألا إنما الحياة غنية بالمال والذكاء والكرم والصلاح والحب والجمال والفخار. على أن في كفتها الأخرى ما يعادل الأولى من شقاء وفقر وخمول وقبح وكُره وانحطاط. كأنَّها مرغمة على حفظ النظام في توازنها؛ إذا هي أسرفت في نقطة، تعقَّبت الإسراف بالاقتصاد فيما يحاذيها؛ فحيث يمتد الرخاء تنتشر التعاسة، وحيث يكثر الخير يقلُّ، وحيث يتغلَّب قوم يندحر قوم. هنا القصور والصروح والأواوين، وهناك الأكواخ والخصاص والزرائب. حتى الصحة ذاتها قتل متتابع، وكأنَّ نفس الطفل البريء معملُ هلاكٍ يفتك بمكروبات لو انتشرت في جماعة لأودت بهم.
تُرى هل امتداد الكون المهيع مسافةٌ محدودةٌ إن نحن رأيناها لا تُحدُّ فلقصر النظر، وقواه كمية معدودة إن نحن زعمناها لا تُعَدُّ فلضيق الإدراك؟ هذا سؤال يُخرجنا من الاجتماع والتاريخ لتُدخلنا محاولة الجواب عنه في الفلسفة واللاهوت، وما نحن منه إلا في دائرة تبتدئ عندها الأبحاث حيث تنتهي.
•••
كتاب «مانو» هو أحد كتب الهند المقدَّسة وقد حوى شرح مذهب البراهمة وتاريخ مدنية الآريين منذ نشأتها، فجاء فيه أن أصل العبيد سبعة: أسير الحرب، ومعدم رضخ لمن يكفل معاشه، وابن العبدة المولود في بيت المولى، والفرد مُهدًى هديةً أو مبيعًا بيعًا، والمنتقل بالإرث من الوالد إلى الولد، والمستعبَد عقوبةً على جناية ارتكبها، والمستعبَد لعجزه عن تأدية دَين أو ضريبة أو غرامة. وسواء ألمَّ هذا الإحصاء بكل الأصول أو أغفل بعضها، فالعبودية قديمة كالحرب، والحرب من خواصِّ الخليقة. لقد حاذت طبقة العبيد طبقة الأحرار منذ فجر العمران، وكأنها في تلك المحاذاة تقول:
وكيف «يلتقي» اثنان يمتلك أحدهما الآخر امتلاكًا لا يقصر على تضييق الحرية الشخصية شأن الرجل مع المرأة والمؤدِّب مع التلميذ، وإنما هو حذفها ليصير العبد آلة خضوع وعمل، تُحصَى من متاع المالك مع المواشي وما شاكلها.
مأساة دهرية يتألَّم لذكرها القلب الشفيق، بَيْدَ أن المؤرخ المفكر يراها فجرًا محصحصًا في ليل الهمجية، وأول بادرة من بوادر الرفق من حيث إدراك وجوب الاحتفاظ بحياة المغلوب والحرص عليها. هي دليل التقدم وإن نسبها هربرت سبنسر إلى الشبع بتقريره أن أول العبيد هم أسرى الحرب، وقد جرت العادة بأن يأكلهم الغالب في ولائم النصر. وأنه عندما كثر عددهم أُجِّل قتل بعضهم للتلذذ بلحمانهم المشوية في وليمة آتية ليصير النصر الواحد نصرَين؛ فاستخدموهم خلال هذه الفترة فانتبهوا للحال إلى أن حياة الأسير أنفع للغالب من موته.
وعلى كلٍّ، فإن الإبقاء على الأسرى يظل كبير الأهمية لإثباته أن النوع — حتى في تلك الهمجية القصوى — ذو نظرة صائبة وإرادة قوية تمكِّنه من ممارسة الإپيقورية قبل ولادة أسلاف إپيقورس، فيضحِّي اللذة الصغيرة للحصول على لذَّة أعظم … وأهميته الكبرى في إيجاد العبودية وهي الفارق الأول للدرجات الاجتماعية، والمرتبة الأولى لتقسيم العمل الذي قامت عليه دعائم الحضارة. فلولا إناطة الأعمال الدنيا بأولئك القوم ما تفرَّغ المحارب لبسط سلطانه، ولا أبدع أعوانه ما تستلزمه فنون الحرب وتؤدِّي إليه من عمل زراعي وصناعي واقتصادي وسياسي. ولولا ذلك التقسيم وهذا الإبداع ما ظهرت الحقوق والواجبات، ولا كانت النُّظم، ولا توصَّل البشر إلى تخزين قوَّة وحذق يستحيل وجود مثلهما عند العشائر الأولى.
لقد عرفت العبودية شعوبُ الشِّرق قاطبةً من الهند والصين إلى مصر ففينيقية فآشور، فالفرس الذين ضموا تحت لوائهم أمم آسيا الغربية؛ فاختبروا جميع صنوف العبودية في الحقول والمنازل والإيوانات، منذ أيام بابل إلى عهد اليونان. وحالة العبيد متماثلة في كل مكان يتصرَّف السيد بهم بيعًا وحياةً وتعذيبًا وموتًا، إنما يختلف هذا التصرف باختلاف فطرة الشعوب واستعدادها؛ فبينا حالتهم في الهند على أسوأ ما يكون، إذا بهم في الصين على هناءٍ نسبيٍّ لا يُنظر إليهم كأشياء أو آلات، بل كأناس يحميهم القانون جاعلًا حياتهم في مأمن من الخطر وأعضاءهم سالمة من التشويه. وليس في تاريخهم ثورة واحدة على تجمُّع مئات الألوف منهم حتى اضطُرت الحكومة غير مرة إلى إعتاقهم بالجملة، طغمة بعد طغمة، لتفسح مكانًا للمستجدِّين من أسرى الحروب والجناة، والعصاة الثائرين على الحكم الأعلى. ومع أنهم ملك الأمة المشاع فهم يعيشون في العائلة كوضيع أفرادها، ولكل عبد أن يُعتَق بعد سنِّ السبعين، ولكنَّ كثيرين كانوا يأبَوْن الحرية لتعلُّقهم بمواليهم. أمَّا في منشوريا فلم يُستعملوا إلا للزينة والأُبَّهة في الأعياد القومية والاحتفالات الرسمية. ثُم تدرَّجت العبودية إلى الرقِّ بالعمل الحر؛ فكان التطور الاجتماعي في الصين غير متخلِّف عنه في الغرب.
أتصدِّق أن اليهود «شعب الله الخاص» كانوا يمتلكون بعضهم بعضًا؟ إن الشريعة تبيح لهم استعباد أخيهم اليهودي ستة أعوام، أمَّا غير اليهودي فعبدٌ حتى الموت. ولا يُفهَم ما ورد في إنجيل يوحنا قولهم للمسيح «نحن لم نستعبد لأحد قط.» وهم خاضعون يومذاك للاحتلال الروماني، وقد بيعوا في أسواق أورشليم، واستبعد سلمنصر عشرة أسباط منهم، وظل سبطان آخران في قيود أهل بابل سبعين عامًا. وقد جاهروا في كتاباتهم بأنهم استُعبدوا سبع مرات في أرض الميعاد. ومن يجهل بيع عيسو بكوريته ليعقوب بأكلة عدس، أي بيع كل حقوقه وقبول العبودية لذراريه؟ ولكنَّ العرب الذين ينتسبون إلى عيسو كادوا يمحون بسيادتهم وعظمتهم هفوة السلف الجائع. وقد باع بنو يعقوب أخاهم يوسف للتجار وباعه هؤلاء في مصر فخدمها في السنين الجوائح، وجُرَّ إليها ذووه فانتهى بهم الأمر إلى الرق. ولم يكن ليُطلقَ سراحهم لولا الضربات العشر الذائعة الصِّيت. على أن العبودية عندهم أخفُّ منها عند غيرهم. ترى بين العبد والمولى تبادل الأمانة والرعاية فيحفظان السبت سويًّا، وللعبد أن يتزوَّج ويُنشئ عائلته وحريته ميسورة بالمال. إن قَتَلَه مولاه يُقتل، وإن جرحه أعتقه، فإذا انقضت السنة السادسة ورفض أن يتحرَّر قُدِّم إلى قضاة الشعب فثقبوا أذنه عند باب سيده. ولقد كان ثقب الآذان رمزًا للعبودية عند شعوب كثيرة. أفتعجبْنَ بعد هذا يا سيداتي، إذا أنا أذريت ما يشعُّ في آذانكنَّ من فرائد الدُّرِّ والجوهر وما تهدَّل منها من الحجار الكريمة وغير الكريمة، لأُحدِّق في ذلك الثقب الذي يشوِّه أذني أنا الأخرى، وإن كفيته عار الأقراط؟ إني لأتأمله عندكنَّ وألمسه فيَّ مبتسمةً خجلي.
•••
حمل الفينيقيون نظام العبودية مع ما حملوه من الأنظمة والعادات إلى اليونان فجرى هؤلاء عليه، وكان العبيد عندهم أنواعًا: نساءً لخدمة البيت، ورجالًا للفلاحة والزراعة وخدمة الجيش وسائر الأعمال الخشنة، وصبيةً متأنِّقين يكرمون الضيوف ويُعدُّون المركبات ويرافقون ابن مولاهم في تنزُّهه وجولانه، ويشاطرونه دروسه وألعابه، كأنَّهم المماليك الصغار في بعض البيوت الشرقية. عوملوا برفق فأحبُّوا مواليَهم، إن غاب أحدهم يومًا تألَّموا لفراقه وانتظروه باكين، وإن عاد أقبلوا يلثمون يديه ووجهه فرحين، وإذا اكتسبوا ثقته بحسن سلوكهم ورجاحة عقلهم أطلق يدهم في ماله وشئونه وأنالهم عنده مكانة. قد يكون سبب ذلك أن اليونان كانوا يقدِّرون الأعمال اليدوية، حتى إن هوميرس ذكر العمال على مقربة من الأبطال، وقال إن الحدادين والمهندسين والنجارين كانوا يُدعون مع الأطباء والعرافين والشعراء إلى ضيافة الملوك. وكان أبناء الأسيرات أحرارًا، مثل تويسر المولودة من أسيرة؛ لم يكن من فرق بينه وبين أخيه أجاكس (المولود من حرَّة) ابن تلامون ملك أجين. ولا عجب والملوك والملكات كل يوم عرضة للأسر والاستعباد. مقدورٌ لم ينجُ منه ولا الآلهة؛ إذ إن البشر أسروا أبولون ونبطون وڤولكان ومارس، فامتثل هؤلاء الآلهة وخدموا صامتين حتى رفقتْ بهم يد القدر.
أمَّا الإسبارطيون فطبعوا العبودية بطابع شدَّتهم. العبيد هنا ملك الجمهور يلبسون جلود الحيوانات، ويُسخَّرون لباهظ الأعمال بصرامة عسكرية، ويُسكَرون إلى درجة العربدة وفَقْد الشعور ليرى الأحرار كم يحطُّ الشراب من قدر الشارب فيُعرضون عن الخمر ويأنفونها. نحن تُضحكنا حكاية جحا الذي أرسل ابنه يستقي ماءً فأوصاه أن لا يكسر الجرَّة في الطريق وضربه ضربًا مبرحًا، فاعترض الجار لأن الولد عوقب قبل أن يغادر البيت وقبل أن يرتكب الذنب، فأجاب جحا: «وما نفْع الضرب بعد كسر الجرَّة؟» كذلك اعتاد أهل إسبارطة ضرب العبيد ضربًا عامًّا لا لإثم جَنَوْا، وإنما ليذكروا دوامًا أنهم عبيد أقلُّ ما يتهدَّدهم السياط. ويحظر عليهم حتى القوة البدنية فيَقتلون القويَّ منهم، أو يؤدِّي مولاه ضريبة لأنه لم يوقِف نموَّه. وكثرة الانتصارات والفتوحات مورد عبودية متدفِّق كان يضاعف عددهم على عدد الموالي سبعًا أحيانًا؛ فيُفتَك بهم بأساليب مختلفة تخلُّصًا من شرِّهم. وروى ثوسديدس — أعظم مؤرِّخي اليونان — أن المواليَ سألوا عبيدهم مرَّة عن الألفين الأشد بينهم بأسًا والأقوى شكيمةً ليعتقوهم، فقام العبيد بانتخاب ذَيْنِكَ الألفين، وتناولهم السادة فزاروا بهم الهياكل ثُم اختفَوْا ولم يَعُدْ يظهر لهم من أثر.
وكم من تحالف للعبيد مع أعداء إسبارطة! وكم من ثورة جعلت السادة في خطر مقيم! وقد تلظلظوا مرَّة وكان تهديدهم مخيفًا فاضطُر الأحرار إلى طلب الهدنة والمساومة مع الزعيم دريماكس، ثُم عادوا فاغتالوه بعد عقد الاتفاق؛ فاستأنف الثوار هياجهم وأقاموا له مذبحًا جعلوا عليه هذه الكلمات «إلى البطل المحسن». ويقال إن هيكل أفسس يعود تشييده إلى اتفاق — عقب ثورة — بين الموالي والعبيد. بَيْدَ أن تلك القلاقل والاضطرابات وتدخُّل العبيد في جميع الأعمال بالتدريج قضت على الجمهوريات اليونانية وهيَّأت البلاد للفتح الروماني.
وما كان أشبه حالتهم عند الرومان بها عند الإسبارطيين فعمدوا إلى العصيان والحروب، وكادت حرب إسبارطقس تؤدِّي إلى خراب روما لولا قتل العبد الزعيم الذي قضى مجدفًا على اسم روما الممقوتة.
جاء دور التحرير تحت تأثير الفلاسفة، فأخذ العبيد يتعاطون جميع أعمال التجارة وتيسَّرت لهم المناصب السياسية؛ فارتفع بعضهم ارتفاعًا عظيمًا مثل نارشيسس مستشار الإمبراطور كلوديس الذي حرَّض على قتل الإمبراطورة مسالينا. واشتُهر آخرون بالشعر والفلسفة مثل ترانتسيوس الشاعر الهزلي، والشاعر هوراتسيو، وإبكتتس الفيلسوف الرواقي وغيرهم. وكانت كلما عَلَتْ مكانة العبيد هبطت الدرجات العليا؛ إذ إن أولئك لم يكونوا يطلبون المساواة للمساواة وإنما يرمون إليها ليصيروا هم سادةً ويُمسي الموالي لهم عبيدًا.
والمدهش في كل هذا أن الفلاسفة لم يقبِّحوا العبودية ولم ينكروها، بل أقرُّوها مع أن منهم من ذاق مرارتها كديوجنس الكلبي، وإبكتتس السابق ذكره، وأفلاطون الذي ظلَّ أسيرًا في مصر وصقلية حتى فداه أحد أصدقائه. وكل ما امتاز به أفلاطون هذا أنه لم يضرب عبدَه بيده؛ لأن الفلسفة والشعر رقَّقا منه النفس ولطَّفا الشعور فحملاه على أن يُوكِل إلى سواه تنفيذ العقوبة في مملوكه!
•••
يوصلنا هبوط روما إلى مطلع القرون الوسطى التي تكيَّفت خلالها الطبقة السفلى تكيُّفًا خاصًّا. لم تُلغَ العبودية، بل بالعكس بقيت منتشرةً في البلدان المختلفة ولها في ليون بفرنسا، وفي روما بإيطاليا، أسواق عامرة بالتجارة الآدمية من السود والبيض. ومرَّت العصور، فاكتشف كولمبس القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر، ولم يُهمَل هذا المرفق التِّجاري بل كانت له أهميته، ونظَّم بعدئذٍ الإسبان والبرتغاليون المتاجرة ببني الإنسان تنظيمًا دقيقًا بين العالمين.
قضت الثورة على الاسترقاق الذي كان أُلغي قبلئذٍ في إنجلترا، وظل يُحذَف في دولة بعد دولة، وفي مستعمرة تلو مستعمرة إبَّان القرن المنصرم. واستفادت أمريكا بدروس العالم القديم واختبارها الشخصي، فألغته الولايات المتحدة سنة ١٨٦٥ والبرازيل سنة ١٨٨٨. وهتف الكتَّاب والخطباء أن لطخة العار غُسلت عن جبهة الإنسانية بفضل الثورة الفرنساوية وهِمة مفكِّري إنجلترا.
يُخيَّل إلينا — نحن أبناء اليوم — أن امتلاك الإنسان للإنسان من خصائص الزمن الخرافي، مع أننا نعلم أن النفوس كانت تُحصى في عقود البيع بلبنان مع الغنم والخيل وآلات الفلاحة منذ عهد قريب، وأنَّ دولة المماليك المؤلَّفة من عبيد الأمس ارتفعت إلى أوج الحكم فكان لها جيش من العبيد الغرباء، ثُم جاء نابليون الشرق محمد علي باشا فغلبها على أمرها، ونظَّم جيشًا كبيرًا منه فرقة أو فرق بأكملها من السود النوبيين، وكادت المتاجرة بزنوج أفريقيا تشوِّه جيلنا، وهي من أفظع أنواع الاستعباد؛ إذ لا أسر، ولا دين، ولا جريمة تبرِّرها، وما هي غير اقتناص البشر للبشر طمعًا بالمال، لولا أن مطاردتها واكتساحها من أشرف ما تفاخر به بريطانيا العظمى.
تُرى، ألم يكن للنصرانية والإسلام من أثر في القلوب لتحملها على الرحمة والعطف؟ لا شك في تأثير الدين أيًّا كان، وإذا أُحصيت العوامل الكبرى كان الدين في مقدمتها لتكييف النُّفوس. وقد انتقى السيد المسيح تلاميذه من الخاملين ومضى ينادي بالمساواة والغفران وحب الأعداء؛ لأن الجميع أبناء الله يدعون. وعزَّز مذهبه العظيم بمثله في حياته الطاهرة، وصار النصارى يردِّدون هذا النداء الجميل في الصلوات والاحتفالات؛ ففعل فعله وملأ القلوب أملًا وتعزيةً. على أن الدين المسيحي أقرب إلى النظريات، وعلى نقيضه الإسلام؛ فإنه نظري وعملي معًا؛ وجد العبودية عند شعوب سبقتْه فاقتبلها ولكنه لطَّفها أيَّما تلطيف، وعلى مقربة من تعاليمه العالية ونصائحه الحكيمة أوصى باليتيم والضَّعيف والرقيق، وكان الطائع الأول النبيَّ العربيَّ ذاته الذي بكى عبدَه الميِّت كما يبكي الكريم صديقًا عزيزًا؛ فكانت حالة العبد في دين محمَّد من أحسن حالات أمثاله. أمَّا الإعتاق والدعوة إليه فمِن أمجد صفحات تاريخ الإسلام.
يرمز المصوِّرون إلى العبودية برسم رجل بائس رُسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير المرأة رمزًا. الرجل عبدٌ مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والمرأة إن هي أبدت ميلًا إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والتحرير من العادات المتحجِّرة نُظِر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا؛ ذلك لأنهم اعتادوا استبعادها ليس بالجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللُّطف والتدليل والتّحبُّب. وإلَّا فماذا تعني هذه الحليُّ وهذه الجواهر؟ بل ماذا يعني تغنِّي الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء المسكينات يتهن دلالًا أن يَكُنَّ محبوبات لجمالهنَّ، ولو تَفكَّرن قليلًا لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لجميع قواهنَّ، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدَّم إليهنَّ رجل بامتداح حُسنهنَّ وحده ليرفُضنَه زوجًا. وهؤلاء هنَّ اللائي بعد أن يُشترَيْنَ بالمال والحلي والتملُّق — وقد عنى سكوتهنَّ قبول نير العبودية والرِّضَى عنه — ينبرين فجأةً مطالباتٍ بحقوقهنَّ منادياتٍ بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوارٌ دار حوله، فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عنِّي. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الحليِّ حتى عشقتها، إن هي لم تُثقل حركتهنَّ لغرضٍ ما وضعن مكانها ما يشير إليها لغير سبب.
تشكون من زواج هذا العصر وتستصغرون الذي يتزوَّج البائنة ويقبل صاحبتها معها، بدلًا من أن يتزوَّج المرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدِّي فيه الرجل مهرًا؟ إذا شاء شراء المرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟ الزواج عقد اجتماعي يأتي فيه الشريكان برأس مال حسي ومعنوي: المال والكفاءة الشخصية؛ فالمال يجعل المرأة مثيلة الرجل، والكفاءة الشخصية تؤهِّلها لأنْ تكون زوجةً معتبرةً وإما محبوبةً. تزعمون — أنتم النظريين المتطرفين — أن صفاتها تكفي لإسعاد رجل نشيط يتَّكل على جدِّه واجتهاده! ألا فادخلوا هيكل أسرار العائلة وقِفوا على ما هناك من نكد وويلات أصلها فقر عائلة المرأة! لا أنكر أن الكفاءة الشخصية تفوق المال أهميةً، وأن المال لا يدوم إلا حيث تكون الكفاءة، ولكن أواثقون أنتم من أن كل امرأة تنصف زوجها ولا تختلس نتاج جهوده أو بعضه؟ أبيُّ النفس يخاف أن تستعبده المرأة الغنية، فهل هو للفقيرة أقلُّ استعبادًا؟ وعلى كلٍّ، فعبيد اليوم كعبيد الأمس ليس أمامهم للتحرير من سبيل غير ذَيْنِكَ السبيلين القديمين: المال والكفاءة الشخصية.
•••
هذه هي الخطوط الكبرى في خريطة العبودية التاريخية، فرغتُ من تعدادها بانشراحِ مَن نفذ من تحت جبل ووقف يتمتَّع بمحاسن الرياض.
لقد اتفقوا على أن العبودية كانت وانقضت، وأظنُّني كتبتُ منذ هنيهة أن عصرنا يفخر بإلغاء متاجرة الإنسان بالإنسان، وقد استجمعت فكري للمرَّة الأخيرة قبل أن أُلقيَ بالقلم جانبًا فتململتْ في حافظتي جميع معاني الأسى، ورأيت أشباح الذل متجمهرةً في رحاب خيالي، كشَّرت عن أنيابها تهدَّدني، ومدَّت بمخالبها نحوي لتفترسني، جيش عرمرم من أرواح العبودية والرق أخذ يُصفِّق بأجنحته السوداء صارخًا: «نحن أحياء نتألم فكيف تذكرين الموتى وتنسيننا؟» فدنوت من جماعة وقلت: «من أنتم؟» فصاحوا: «نحن نزلاء الليمانات وضحايا الأشغال الشاقَّة، أحجار الصوان تحني ظهورنا، وأزيز السياط يمزق أجسامنا، ما نحن إلا عبيد إسبارطة.» قلت: «وكيف يكفي الاجتماع أبناءه شرَّكم؟ لقد سرتم في وسطه فكانت الجرائم منكم بعداد الخطوات.» فتنهَّدوا وقالوا — وتنهُّدهم وكلامهم مقذوفات براكين: «ما نحن إلا عبيد إسبارطة.»
وسِرتُ نحو جمع آخر انحنى يشتغل والعَرَق يقطر من ذرات وجهه فصرخ: «نحن الشعوب المغلوبة، وما غرامة الحرب إلا رقُّ القرون الوسطى.» فقلت: «وهل من وسيلة أخرى ليستعيض الظافرون عمَّا خسروه من مال ورجال؟» فهزُّوا أكتافهم وانحنَوْا على الأرض متظلِّمين: «ما هذا إلا رقُّ القرون الوسطى.»
وتحوَّلتُ إلى جهة أخرى، وإلى أخرى وإلى أخرى، وأنَّى توجَّهت لاقيت أقوامًا ينبعث من صدورها التظلم والعويل، وتخيم فوقها الأجنحة السوداء. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، مثرون ومعدومون، عبيد الوراثة، وعبيد العاهات، وعبيد الأمراض، وعبيد الجهل، وعبيد الأوهام، وعبيد الطمع، وعبيد الحاجة، وعبيد الحياء الإنساني، وعبيد الغرور، وعبيد الكذب، وعبيد الحسد، وعبيد الأهل، وعبيد الأبناء، وعبيد الغرباء؛ يزحفون جميعًا من كل ناحية كالجحافل الجرَّارة، وهدير شكواهم كهدير العُباب المتلاطم؛ فصرخت جزعًا: «من أنتم، من أنتم؟» والعبيد — جميع العبيد، عبيد الماضي والحاضر والمستقبل — أجابوا كجوق رهيب: «نحن العبودية الدائمة!» قلت: «كلَّا، كلَّا! لقد أُلغيت العبودية وأنتم أحرار، ارفعوا أيديَكم لا سلاسل فيها! حرِّكوا أقدامكم لا قيود تُثقلها!» فقالوا: «السلاسل والقيود أقل رموز العبودية هولًا، القيود في دمائنا وأهلنا وأوطاننا، القيود في رغباتنا وحاجاتنا، القيود في بشريَّتنا.» فصرخت بملء صوتي: «أقول لكم أنتم أحرار ولا عبودية في القرن العشرين!» فقالوا: «إذا مُحيت من العبودية صورةٌ رُسمت أخرى؛ لأن أصل العبودية باقٍ على كرِّ الدهور، نحن العبودية الدائمة، نحن أودية الحياة المجوَّفة عند أقدام الرواسي.»
واختفت الجماهير في لحظة فوجدتُني مقلِّبة صحائف هذا الفصل، وقد وقفتُ أقرأ كلمات الاستهلال «من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض … ما أقامت ارتفاعًا إلا أوسعتْ تخومه تجويفًا …»