الديمقراطية
استعرضْ ما شئتَ من فصول التاريخ الطبيعي تجدْ بين الحيوان والحيوان مصارعةً مطَّردةً، وبين النبات والنبات مقاتلةً سرِّيةً أو علنيةً بلا تباطؤ ولا مهادنة. ومثلها في تاريخ علم طبقات الأرض؛ فهنا الصخور والمعادن تتزايد وتتناقص، وهناك تراجعت الأمواج في محيطها فاستحالت أرضٌ غارت تحت تقلُّب الأواذيِّ مدينةً آهلةً. ومثلها في تاريخ الفلك حيث تتكوَّن عوالم وتزول عوالم. وليس التاريخ البشري ليختلف عن تلك التواريخ. غير أن الإنسان يمتاز على سائر الكائنات بالعقل والغريزة الاجتماعية؛ فهو يطبع كل ما يقتحم من خطر، ويُشهر من حرب، ويركب من هول بطابع هاتين الميزتين. ولَمَّا كان تنازع القوى الطبيعية ينتهي دوامًا بصعود الغالب وهبوط المغلوب كانت نُظم الإنسان ومبادئه وأحزابه أبدًا في ارتفاع وانخفاض.
لم يهتدِ زعماء الإصلاح إلى أنظمة سياسية غير الثلاثة التي ذكرها أرسطو، وهي: الملكية أو حكومة الفرد، والأرستقراطية أو حكومة الأماثل، والديمقراطية أو حكومة الشعب. ولئن دانت المدنية المتأخرة بالديمقراطية فإن جُلَّ المدنيات المتقدمة — إن لم يكن كلُّها — نما وترعرع ثُم توارى في حضن الملكية. أَلِأَنَّ الشعب الرازح تحت أثقال العبودية كان في غيابات جهله مدفونًا؟ أَلِأَنَّ تلك المدنيات شرقية، وشعوب المنطقة الحارَّة أقرب إلى الملكية لميلهم إلى عدم التفكر وتثاقلهم عن حمل المسئولية — كما يزعم المؤرخون؟ أَلِأَنَّ الأمة في دورها الابتدائي تحتاج إلى سيدٍ احتياجَ الطِّفل والقاصر إلى معلِّم ومرشد؟ ليس البتُّ بالأمر الميسور، وإنما ما يتحتَّم البتُّ فيه — بعد نظرة سريعة في المدنيات البعيدة — هو أن الشعوب لم تكن عقيمةً في ظِل الملكية بل أنتجت ما لا نزال نستفيد منه حتى في هذه العصور — عصور الإبداع المتواصل.
فمدنية مصر العظيمة تكوَّنت في عهد ستٍّ وعشرين أسرةً مالكةً يوم كان فرعون سيدًا مطلقًا يسنُّ القوانين ويُنفِّذها، ويسهر على الراحة والأمن، ويسعى في تنظيم البلاد وتجميلها، وإليه مرجع الأمور الدينية والمدنية جميعًا؛ فأسفرت تلك الحضارة السحيقة عمَّا ما زلنا نُعجب به ونستوحيه من بدائعَ هندسية، وفنون إدارية، وفلسفة روحانية.
أما الحضارة الكلدانية الآشورية، فكانت عظيمةً في هندستها عظمتَها في علمها؛ لأنها — مع تلك الأسوار الضخمة، والأبنية الفخمة، والحدائق المعلَّقة المحسوبة من العجائب السبع في القدم — جاءت بفنون الحرب وما يتبعها من تدريب الجيوش، وحفر الخنادق، وخدِّ الأراضي، واختراع مركبات الهجوم والدفاع، وأساليب التدمير النظامي، وإعدام الأسرى، ونقل المعدات والأسلحة؛ هذا من جهة، وكانت عاكفةً من جهة أخرى على التمرين العقلي، والبحث الفكري، فوضعت القواعد لعلوم الحساب والفلك، وأوجدت المكاييل والمقاييس والموازين الأولى، وميَّزت بين السيارات والثوابت، وأحصت كسوفات الشمس وخسوفات القمر، وعيَّنت دائرة البروج مُسمِّيَة كلًّا من علاماتها باسمها، ووقَّتت أجزاء السنة، واخترعت الساعة الشمسية، وهي التي وضعت أصول التنجيم، وكشف طوالع السعد والنحس، وتركيب التعازيم والتعاويذ والطلاسم والتمائم والحمائل وعقاقير الغرام.
أما اليهود فمعروف مجدهم الحربي في عهد داود ومجدهم التِّجاري في عهد سليمان، فضلًا عن أنهم حبوا العالم بكتاب التوراة الجليل.
وأحدث الفينيقيون فن سلك الأبحر وما يجرُّ إليه من استعمار، وتجارة دولية، وصناعة تمد تلك التجارة؛ فأنشَئُوا المصارف في الأنحاء المختلفة، وأذاعوا مع مدنيتهم مدنية كل بلاد يرودونها، ونشروا مع مصنوعاتهم الأبجدية التي اختزلوها من الهيروغليفية، وأساليب المعاملة المالية والاقتصادية، وعلم مسك الدفاتر.
ولَمَّا قام الفُرْس يبسطون شوكتهم على العالم الشرقي ويُخضِعون الشعوب المغلوبة لصولجان ملكهم، اقتبسوا عن الأقوام زبدة حضاراتهم فجمعوا بين الإدارة المصرية، والهندسية الآشورية، والعلوم الكلدانية، والبحرية الفينيقية متوسِّعين في التصرف والتكييف ليطبعوا تلك المدنية المختلطة بطابع فارسي. وقد بدأ بهم تأثير الآريين — وهم من أصل آري — في التاريخ المعروف، وأخص ما جاءوا به حكمة زرادشت القائلة بحرب بين عنصر الخير أرمزد، وعنصر الشرِّ أريهمان؛ حرب تبقى إلى منتهى الزمن حيث يتغلَّب عنصر الخير فيعم النور والحقيقة.
كذلك في الشرق الأقصى كالصين مثلًا حيث شُيِّد السُّور الأكبر قبل المسيح بأربعة قرون، وحُفرت الترعة الكبرى في القرن التالي ممَّا يدلُّ على تقدُّم الهندسة. وقد عرف أبناء مملكة «ابن السماء» علومًا وفنونًا جمَّةً كالكتابة ومبادئ علم الهيئة، واخترعوا الحك (البوصلة) والمطبعة والبارود، وتعالت جدران معابدهم في الفضاء، وكست الحرائرُ النفيسةُ الرجالَ منهم والنساءَ، وشربوا الشاي في فناجين الصيني الثمين أيام كان الغرب في همجية قصوى. وإذا أخذنا ببعض ما وصل إلينا من كتاب كنفوشيوس المدعو «تشو-كنج» علمنا أن مبادئهم الأخلاقية من عبادة الآلهة وحبِّ العائلة واحترام الموتى … إلخ، لا تقلُّ جمالًا عن أسمى المبادئ المعروفة لدينا.
وقد تأثَّرت اليابان في القرن الرابع ق.م بمدنيَّتَي الصين والهند، كما تأثَّرت أوروبا فيما بعد بمدنية اليونان واللاتين. وبعد كفاح عنيف بين المولى والأشراف، يشبه كفاح الأرستقراطية والملكية في القرون الوسطى، اعتنق ذلك الشعب الشرقي المتوقِّد مدنية الغرب الحديثة بأكملها، وصار — وهو القزم في عالم القياس — يخطو خطوات جبار في عالم التقدم والرُّقي.
كذلك كانت الملكية حسنة العائدة في القرون الوسطى مع شارلمان. وإذا ماشيناها إلى أيامنا مع بسمارك — وهو أكثر ملكية من الملك، كما يقولون — ومع الإمبراطور غليوم الثاني، وجدنا أن ألمانيا في عهد هذه القيصرية الحربية المطلقة جرت خلال نصف قرن شوطًا أجفلت له الدولُ قاطبةً.
على أن بُقع الظلام الواسعة تحاذي خيوط النور في تاريخ هاتيك المدنيات التي لم تكن تَحسب لحياة الفرد حسابًا، وإنما خلَّدت بعدها أسماء أشخاص اشتَرْوا عظمتهم بدماء الجماعات وجثث العبيد.
•••
ثُم حصحص بصيص الكرامة الإنسانية في بلاد اليونان التي تناولت قبس الحضارة من يد الفرس بعد أن تغلَّب ملتيادس على داريوس في مرج ماراثون، وأغرق ثمستوكليس أسطول العجم في خليج سلامين؛ فأنشأ اليونان يكرِّرون أصول تلك الحضارة ويُنَقُّونها ويُرتِّبونها ليجعلوها تُرضي الذوق منهم والعقل، وهم الفنانون والفلاسفة قبل كل شيء؛ فحبوا وطنهم في قرنين اثنين بصيغ جديدة في القانون والعلم والفن والفلسفة. وهناك أخذ الفرد يعرف حقوقه وواجباته، هناك أشرق فجر الديمقراطية ولم تكن الحروب المتتابعة لتُظلمه، ولا زحْف الرومان وظفرهم ليُلاشيَه، بل ظلَّت أثينا المغلوبة مهذبة العالم.
لم تقم في روما حكومة ديمقراطية محضة، ويرى بوليبيس المؤرِّخ اليوناني أن النظام الروماني كان مزيجًا بديعًا من الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. غير أن العنصر الديمقراطي كان كبير النفوذ راجح الشوكة بعد أن صارع الطبقات العليا فتساوت جميع المراتب في الخضوع لسيدٍ واحد هو قيصر. وكما كان العالم القديم شديد الإعجاب ببسالة الجيوش الرومانية، كذلك كان الإعجاب بالوحدة الإمبراطورية من الشدة بحيث بقيَتْ تلك الوحدة مثلًا أعلى تَنشُده الملوك في العصور التالية؛ فأقام شارلمان دولته على منوالها، وطمع نابليون في إعادتها إلى الوجود بعد كرِّ العصور.
شُطِرَت دولة الرومان في آخر القرن الرابع للمسيح شطرين: إمبراطورية الغرب وعاصمتها روما، وإمبراطورية الشرق وعاصمتها بيزنطة (الآستانة اليوم). ولم يَطُل حتى تدفَّقت الشعوب الآسيوية واشتركت مع شعوبٍ زحفت من أوروبا الشرقية والمتوسطة، فتبارى المغول والسلاف والجرمان في الإغارة على روما واكتساحها وإيساعها تخريبًا وتدميرًا زمنًا يناهز قرنًا، وطفقوا بعدئذٍ يقتبسون عادات الأمم المغلوبة وقوانينها، فألَّفوا منها نظامًا قام عليه فيما بعد التشريع الإقطاعي.
وتجاذبت السياسةَ في القرون الوسطى نزعتان: الوحدة الدولية أو المركزية، والتخصيص القومي أو اللامركزية. فمن قائل بإخضاع الشعوب وتوحيد قيادتها كالإمبراطورية الرومانية، ومن قائل بتوزيع القيادة وإطلاق كل أمة تنظر في أمورها وتُنمِّي مدنيَّتها وفقًا لمطالبها القومية وممكناتها الطبعية. فتغلَّبت النزعة الأولى بصيرورة شارلمان إمبراطورًا على الغرب، وهو الذي عهد إلى الأشراف بإدارة المقاطعات تحت مراقبة مفتِّشين اختصاصيين، على أن يكون إليه مرجع الأحكام جميعًا حتى في الأمور الدينية. وسادت بعد ذاك النزعةُ الأخرى يوم تقاسم الدولة أحفاده الثلاثة في معاهدة فردون (في منتصف القرن التاسع)، التي أوجدت كلًّا من ممالك فرنسا وألمانيا وإيطاليا ذات كيان سياسي مستقل. ثُم تناولها النظام الإقطاعي في القرن العاشر فظلَّت إلى القرن الثاني عشر عجاجة دويلات وإمارات ودوقيات وكونتيات لا عداد لها، وبين صاحب الأرض والرقيق تبادل حقوق وواجبات تتنوَّع بتنوُّع الأمزجة الشخصية والعادات المحلية. والمرجع النهائي إلى الملك الذي لم تقم فوق إرادته غير إرادة الله.
وكان حجر الزاوية في صرح تحرير الأمم الحديثة تلك البراءة الملكية التي نالها الإنجليز من ملكهم في مطلع القرن الثالث عشر، وقد منحتهم مبادئ الحرية الدستورية التي ستتكيَّف الأحوال منذ الآن فصاعدًا لتنشرها في جميع أقطار الغرب. من تلك الأحوال أن البرابرة عادوا إلى التفجُّر من مجاهلهم كما فعلوا منذ عشرة قرون فتدفَّقت سيولهم على الشرق والغرب، واكتسح التتر فيما اكتسحوه الدولة البيزنطية — تلك الدولة التي كان لجأ إليها أسمى عناصر الدولة الرومانية المقهورة وأجملها. ومن هذه الكارثة العالمية الكبرى، ومن اختلاط الشعوب وامتزاج المدنيات تكوَّنت حضارة جديدة ازدهرت على الأطلال والأنقاض كما تنبت الأزهار في ميادين القتال وعند زوايا القبور؛ ذاك أن البيزنطيين عادوا بكنوزهم الفكرية والفنية إلى إيطاليا فألقوا فيها شرارةً ما لبثت أن شبَّت نارًا امتدَّ منها اللهب في أنحاء الغرب؛ فخلقت فيه حياة جديدة وروحًا جديدًا — وذلك هو عهد الانبعاث أو النهضة.
انتعشت الفنون والآداب، واستنارت الأفكار، وتقدَّمت العلوم، واكتشف كولمبس القارة الأمريكية؛ فأدركت العقول من العالم صورةً غير التي رسخت فيها، والتفت الناس إلى كرامة الفرد وأهليَّته وأخذ الاجتماع الحديث يتمخَّض بمبادئ تُنافي مبادئ الاجتماع القديم. وشُفعت هذه وغيرها من عناصر «النهضة» بثورة دينية بدأت في ألمانيا بزعامة لوثر. وكانت تلك الثورة ابنة النهضة الفكرية وحليفتها إلا أنهما افترقا بعد حين، وتسرَّب الإصلاح الديني إلى حيث لم تصل النهضة الفكرية؛ فكثر أتباعه في ألمانيا وسويسرا وفرنسا واسكتلندا وإنجلترا. ولئن أنتج معارك دموية فظيعة، فقد ساعد في تحرير الفكر لأنه أطلقه من القيود الدهرية، وأظهر إمكان النقد للفلسفة الدينية؛ فسمت بذلك قيمة الإيمان نفسه؛ لأن إيمانًا يمتنُ ويرسخ بعد الامتحان بمحكِّ النقد العلمي خير من إيمانٍ يقوم على الجهل والوهم والتسليم. واختراع المطبعة وسهولة الطباعة يسَّرا إذاعة الآراء بين أهل البلد الواحد وشعوب البلاد الأخرى.
وبينا نظام الإقطاع يسود في ألمانيا وغيرها من بلاد الغرب، وبطرس الأكبر وخليفته كاترينا العظيمة يحوِّلان الروسيا من مملكة شرقية إلى إمبراطورية ذات صبغة غربية؛ إذا بسويسرا عاكفة على تحسين نظامها الجمهوري الذي ساعدها بعدئذٍ نابليون على التمتُّع به في أكمل حالاته. وإذا بإنجلترا تعدِّل دستورها وتخطو به خطوة جديدة في ربوع الحرية فلم تنجح في ثورة ١٦٤٨، ولكنَّها نجحت سنة ١٦٨٨ دون هدر قطرة دم واحدة. وانتهت المناقشات السياسية مع زعم الملكية بتناول حقوقها من الألوهية، وتفرَّغت الحكومة للشئون الخارجية فأقامت هذه الإمبراطورية التي لا مثيل لها في التاريخ المثبوت. وسارت في طليعة دول تنيرها بقبس دستورها، ومضى الفلاسفة والمصلحون يستقون من منهل حريتها. وإذا بفرنسا تفوز بالوحدة الوطنية في عهد لويس الرابع عشر، إلا أن الأهاليَ كانوا في استياء من انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام: قسم الإكليروس، وقسم الأشراف، وقسم غير الأشراف. في استياء لأن هناك جماعة تتمتع بجميع الامتيازات ولا تحمل مسئولية، بينما جماعة أخرى تُرهقها المسئولية، ويُضعفها الكدح المتتابع، وتُثقل كاهلها الضرائب. وليس يتساوى الجماعتان في غير الرضوخ لإرادة الملك.
لم تَطُل الحال، بل انبثق فجر آراء جديدة في التساهل والمساواة بفضل الفلاسفة والاقتصاديين والإنسكلوبيذيين، وظلَّت هذه الآراء كالشرارة تدنو من بارود السخط العام الذي دوَّى قاصفًا في الثورة الفرنسية فأُعلِنت «حقوق الإنسان» لإزالة ما بين البشر من حدود وفروق. أو تقرَّرت سراية القانون عليهم جميعًا من غير ما جور أو تحيُّز، ولهم أن يُقلِّدوا وظائف الحكم والتشريع والقضاء وفقًا للكفاءة منهم والمقدرة. فإذا صح أن فرنسا درست الحرية على إنجلترا، فإنها مع أمريكا أشبعت العالم بفكرة الحرية فتبعت الدول آثارها تدريجًا؛ لأن الديمقراطية، وكل نظام آخر يتغيَّر بتغيُّر طبيعة بلادٍ ينفذ فيها. ولقد جاهد الغرب حتى إنه بعد إعدام قيصر روسيا وانهيار عرش ألمانيا والنمسا، لم يبقَ في أنحائه ملكية مطلقة واحدة، وأن الديمقراطية عمَّت العالم المتمدِّن. وإن لم تكن البلاد جمهورية كأمريكا، فهي ممالك دستورية كإيطاليا وإسبانيا … إلخ. ولا يعلم إلا الله ما يختفي وراء تلك العروش المترنِّحة من دسائس البلشفية، وقنابل الفوضوية، ومدمِّرات الشيوعية.
•••
فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، وتسوية الحقوق والواجبات بين أفراده، فلا مناص مما يحمل الجماعة على المطالبة بهذه التسوية وذاك الحكم. فأيُّ محرِّك يا تُرى بعث على إلغاء الملكية والأرستقراطية وإحلال الدساتير الديمقراطية محلها؟ نعم، إن بين القوى الإنسانية ترابطًا متينًا، وائتلافًا تامًّا؛ بحيث إن التيقُّظ إذا بدا في قوَّة لا يلبث أن يمتدَّ فيتناول القوى جميعًا. على أن هذا لا ينفي أن لكل حركة باعثًا رئيسيًّا تتفرَّع منه بواعث جمَّة؛ ففي الماضي كان الجيش اليوناني يتألَّف من الأشراف الذين لم يكونوا يُنازلون العدوَّ إلا على الخيل أو في المركبات، وقد لاحظ أرسطو أن جيشًا يرجَّح فيه الفرسان لَجيش حكومة أرستقراطية. ولكنَّ الحروب المتزايدة في الداخل والخارج ثلَّمت صفوف الفرسان إزاء مهاجم عتي؛ فأُرغم الأشراف على تعزيز الجيش بفيالق المشاة من الشعب، وإمدادها بالسلاح والمعدات، وتدريبها على القتال والدفاع؛ فشعر هؤلاء بضرورتهم لحفظ كيان الوطن، وانبروا يبثُّون في البلاد الثورة والشقاق حتى ظفروا بالمساواة المدنية والسياسية. كذلك في روما التي لم يكن لها من شاغل سوى الفتح والاستعمار، وأشرافها يربَئُون بأنفسهم عن التجارة والصناعة والفلاحة وغيرها ممَّا أقبل عليه الشعب فأصبح صاحب الثروة. وترامي أطراف الإمبراطورية، واحتياجها الشديد إلى زيادة جيوشها البرية والبحرية أوجب ضمَّ الشعب إلى صفوف الفاتحين والمحاربين، ومنحه من الامتيازات ما لم يَطُل أن تمتَّعت به الأمة جميعًا؛ فصار لها مجلس نيابي يتكلم بصوتها، وانقسمت الإمبراطورية إلى حزبين: حزب الأشراف وحزب الشعب كما يوجد في عصرنا الرأسماليون والعمَّال. فكان إن استأثر مجلس الأشراف برأيٍ امتنع مجلس الشعب عن التصويت ورفَض مساعدته لتتميم الأعمال — وفي ذلك صورة للإضراب في هذا العصر. ولم يوفَّق بين الحزبين إلا بعد قرن ونصف قرن؛ إذ تنازل الأشراف عن الامتيازات السياسية أولًا والدينية بالتالي؛ لأن الوظائف الدينية كانت سياسية أيضًا.
اشتراك الشعب في الحرب هو إذنْ مصدر الديمقراطية القديمة. وأمَّا الحديثة فمصدرها اثنان متلازمان هما؛ أولًا: الاختراعات الآلية والاكتشافات العلمية، وثانيًا: تعميم المعرفة وسهولة التعليم. ففطن الذين كانوا بالأمس يذعنون غير متذمِّرين — وربَّما مسرورين شاكرين — فطنوا إلى أهمية عملهم في هذه الأساطيل الًّتي تمخر البحار وتُدني ما شسع من الأمصار، وتلك السكك الحديدية التي تشقُّ الأطواد وتطوي القفار وتطوِّق الكرة بنطاق مكين، وهاتيك الآلات البخارية والكهربائية والهوائية التي تفيض على العالم النضار وما يمثله من ثروة، وتحبو الناس بأسباب الرغد والهناء. وبينا الثروات الباهضة تقيم السدود بينها وبين الفقر المدقع إذا بالمعرفة تزيل الفروق وتقرِّب بين الطبقات؛ فتنبَّهت الأطماع العامة وأحدثت في النفوس غليانًا أثارها على التقاليد الموروثة، فنادى الجمهور بالديمقراطية ملخِّصًا مطالبه في بندَين جوهريَّين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي، وهما: أن الديمقراطية قائمة على أكثرية العدد التي يستمدُّ منها القانون قوته، وأنَّها تقضي بحذف الفروق الاجتماعية، أو على الأقل بتحويلها إلى أقلها ليتمكَّن جميع الأفراد من إنماء مواهبهم وإظهارها بلا ضغط أو مقاومة.
ولقد لمست موجة الديمقراطية شواطئ الشرق الأدنى، وأول من هتف بها في مصر لطفي بك السيد، يوم كان بعضهم يطلقون عليه مزاحًا لقب «الفيلسوف الديمقراطي». ولم تقف المسألة عند حد المزاح، بل هو لاقى من اعتناق الأفكار الحديثة مصائب واحتمل سخافات؛ منها أنَّه يوم كان مرشَّحًا لعضوية الجمعية التشريعية سنة ١٩١٤ حاربه أحد مزاحميه بما لو فهمه القوم لكان للطفي بك لا لخصمه حجَّة. قال الخصم: «يبقى نائب عنَّا ازَّاي؟ دا راجل ديمقراطي!» فأرعبت الناخبين هذه الكلمة الأعجمية وأوَّلوا معناها بأسوأ ما يتموهَّمون. بَيْدَ أن التغير ناموس الكون، ولم تمض خمسة أعوام حتى صار لمصر الفتاة حزب يدعى «الحزب الديمقراطي المصري» تنتسب إليه فئة من أرقى الشبَّان المتعلِّمين في أوروبا، العائدين من مدارسها العالية بمعتبر الشهادات ومحترم الألقاب. وهنا الوقائع التاريخية تقضي بالاعتراف أن اسم الديمقراطية جديد في هذه البلاد ولكنَّ معناها غير جديد؛ لأن الإسلام كان أبدًا ديمقراطيَّ المبادئ ديمقراطيَّ الأساليب. وهل من ديمقراطيةٍ أتم من أن نرى الملوك يتَّخذون لهم من الجواري زوجات شرعيَّات ويرفعونهنَّ إلى مراتب الملكات؟ أوَهل من ديمقراطيةٍ أوفى من أن يخرج من الطبقة الدنيا قوم يرتفعون بكفاءتهم الشخصية ورجاحة عقولهم فيحملون أعظم الألقاب ويقلَّدون أجلَّ المناصب؟ ولكن على مقربة من هذا التساهل والإنصاف تقوم أرستقراطية مزدوجة؛ لأن موقف الأجير المصري إزاء صاحب الأرض يكاد يكون — فضلًا عن موقف العامل المصري إزاء المموِّل — موقف الرقيق إزاء الشريف في نظام الإقطاع. وكانت الحال على ذلك في سوريا وفلسطين حتى الحرب العظمى. أمَّا في لبنان فالديمقراطية نافذة منذ أن حُوِّر النظام الأساسي في سنة الستين.
وليس هو الإسلام وحده، وإنما قالت بالمساواة قبله البوذية والنصرانية. على أن مؤسسي هذه الأديان جاءوا باستثناء واستدراك؛ إذ ذكر بوذا التناسخ، وأنَّ مِن البشر مَن هم (بذلك التناسخ) أكبر سنًّا، وأعظم فضلًا، وأوفر طهرًا. وقال السيِّد المسيح: «المدعوُّون كثيرون والمختارون قليلون.» وجاهر النبيُّ العربيُّ بأنَّ الله يهدي من يشاء. وكيف لا يرى هؤلاء المشرفون على أسرار النفوس فروق البشرية تفصل بين هؤلاء الذين تجمعهم جامعة الروح العليا؟! فجاءت السياسة تؤيد ما لم تفلح في توطيده الأديان ولا فازت بتثبيته حضارة اليونان والرومان.
وأمَّا الفرق بين الماضي والحاضر فهو أن الديمقراطية القديمة قامت على العبودية فظلَّت الطبقة السُّفلى مُسخَّرةً للأعمال الدنيا والخدمة، لتتفرغ الطبقات العليا للحكم والقضاء. كان الفرد ينتمي أبدًا إلى سيِّد أو قبيلة أو عشيرة (على ما نرى اليوم بين الأعراب أهل البادية وسكان الريف)، فيفاخر بقوله «نحن» كأن لا رأي له ولا قيمة في ذاته منفصلًا عن جماعته. على نقيض هذا العصر وفخر الفرد فيه أن يقول «أنا» وأن يكون قيِّمًا في نفسه، مجرَّدًا عن أيِّ أحد، وأيًّا كان حسبه ونسبه. الفرد اليوم يقوم مقام المجموع، وليست نقابات العمَّال وشركات التعاون لتُثبت غير ذلك. الواحد للكل، نعم، ولكن على شريطة أن يكون الكل للواحد. وهي ميزة تفرَّد بها هذا العصر ولم تُعهَد من قبل، ولئن قبلناها من غير دهشة فلأننا نحياها. أمَّا مؤرِّخو المستقبل فسيتَّخذونها محور أبحاثهم، ويرون فيها ما لا بدَّ أن تكونه: فاتحة عهد جديد.
•••
وبعد كل هذه الحرية وكل هذا التقدم، تُرى هل حصل الفرد على السعادة المنشودة؟ وهل تمَّ للمجموع السلام والهناء؟ هل جاءت الديمقراطية بكل ما يُنتظر منها؟
هناك ميزة تُلازم ميزة «الفردية» العصرية، وهي طلب التوسع والاستعباد على الطرز الحديث. مفهوم أن الأمم الكبيرة تقول برغبتها في إنهاض الأمم الصغيرة من جهلها وخمولها، وتسييرها وإياها جنبًا إلى جنب في موكب الحضارة العظيم. ولكنه مفهوم أيضًا أن هذا القول أسلوب من أساليب البيان السياسي، وأن تلك الأمم لا خلاص لها مع هذا التزاحم الدولي والأزمات الاقتصادية في غير استغلال المستعمرات وتصريف تجارتها فيها. وما استعدت ألمانيا نصف قرن وفاجأت — أو زعموا أنَّها فاجأت — أوروبا بالحرب الضروس إلا توصلًا إلى انتزاع ما يمكن انتزاعه من عدوٍّ حسبت اندحاره أمرًا واقعًا. ولكنَّ ألمانيا هي التي اندحرت ولو إلى حين، والشعوب المرجوُّ استغلالها واستنتاج أراضيها بدأت تتحرك وتأبى أن تُستعمر وتُستغل. دعْ عنك الخطر الأصفر الذي اكتسح الغرب مرَّتين في مطلع القرون الوسطى وفي آخرها، وطالما تخوَّفته أوروبا قبل الحرب الكبرى، وما زالت تخشى منه إغارة جديدة تجيء أشدَّ هولًا وأفتَكَ بطشًا.
هذه مظاهر الديمقراطية في الخارج، وما حال تلك الحكومات في داخلها؟ أي صنوف المساواة يسري بين مراتبها الاجتماعية وبين أفرادها؟ أزالت الفروق من بينها ولم يعد فيها صغير أو حقير؟ يُخيَّل إلينا أن أقرب الأمم إلى الديمقراطية هي الأمة الأمريكية لقلَّة ما وراءها من التقاليد؛ فهل حالت المساواة دون ما يقابِل به البيضُ السودَ من ازورار واحتقار؟ هل حالت الحرية والمساواة دون هدر الدماء والتشنيع والتفاضل؟ إن تلك القدرة الهائلة التي تغلي فيها جميع عناصر الدنيا ما زال يؤبهُ فيها لفروق الجنسية والثروة والذكاء والعلم والتربية، ما زال يؤبه لتلك الفروق بالفعل وإن نُفيت بالقول، بل ما زالت الانتقادات تملأ صحفهم، وتعدُّد الأحزاب يقسم مجالسهم، وقُرْبَ ثروتهم القارونية نرى العوز الأقصى والحرمان الوجيع. فإذا كانت الديمقراطية الدواء الناجع، فما هذا الذي نسمعه من صخب الشكاية والتهديد؟ ما هذه البراكين الفائرة ضمن أنظمة المساواة التي سُنَّت بدماء الأنام؟ وما بال موقف العمال إزاء أصحاب الأموال يشبه موقف الشعب إزاء الأرستقراطية في القرن الماضي؟
سُئِل صولون الشارع اليوناني يوم وضع أسس الديمقراطية: «أتظنُّ أنَّك أعطيت أهل أثينا أحسن نظام ممكن؟» فأجاب: «بل أعطيتهم أحسن نظام يوافقهم.» وقيل إنه لم يكن يطمع في نفوذ نظامه أكثر من مائة عام. وقال آخرون بل كان يتوقَّع تغييره بعد عشرة أعوام. ويُحسب صولون من حكماء اليونان السبعة، فلا عجب إذا هو لم يثق من دوام القانون لأنه يعلم — وهو الحكيم — أن طيبة الإنسان فردًا كان أو جماعةً، متبدِّلة متحوِّلة متكيِّفة مع الأحوال، وأن القوانين توضع للأفراد وليس الأفراد بموضوعة للقوانين.
وإزاء حركات الدول في داخلها وفي خارجها، إزاء حرب الأحزاب وسخط المراتب وتربُّص الطبقات، إزاء حاجة المدنية وإنتاجها وما تُفنيه من جديد وتُحييه من قديم، إزاء الفروق الجوهرية والكُره الطبعي وضرورة الحرب والمناضلة، يقف المفكر متأملًا، وإذ تتعالى إليه أصوات الهاتفين وضجيج الغاضبين، ترتسم في الفضاء أمامه صور الشارعين يكتبون الأنظمة، ويسنُّون القوانين متفائلين مستبشرين. فينظر إليهم صامتًا وفي نظره هذا السؤال الذي لا جواب عليه: «أين المساواة التي تدَّعون؟»