الاشتراكية الثوروية
ماذا يبغي ماركس وأصدقاؤه إنجلس ولاسال وويتلنج وغيرهم المنادون بالجمهورية الاشتراكية، الموجدون بين الطبقات حربًا ما فتئت تُذكِّيها بلاغتهم النارية، والتي ستُفضي حتمًا إلى زلازل اجتماعية فظيعة؟ ما هي غايتهم من إلغاء فروق الوطنيات، ومحو حدود البلدان، وتكوين اتحاد العمَّال في جميع الأقطار؟
الاقتصاد دولابٌ تدور به آلة الحياة الاجتماعية بفروعها ومظاهرها المختلفة. وليس الاقتصاد هنا ليعني التوفير، ولكنهم يريدون به — حسب الاصطلاح الحديث — طريقة الإنتاج والتبادل. ينتج المرء ما يستطيع إنتاجه ليبدله بما يحتاج إليه من ضروري ويصبو إليه من كمالي؛ فيتمكن بعدئذٍ من الاستمرار على الإنتاج في نوع العمل الذي يُجيده. ولقد كان التبادل يحصل مباشرةً بلا وسيط في الجمعيات الأولى، غير أن تقدُّم الحضارة جعل المال من الأهمية بحيث أصبح واسطة التبادل الوحيدة التي يستحيل بدونها الحصول حتى على أهمِّ الضروريات، وتفنَّن الناس في حشده لا سيما عن طريق الصناعة التي ارتقت آلاتها ارتقاءً عظيمًا، واستولى أهل رأس المال على منابع الإنتاج فصاروا لا هَم لهم سوى سرعة الإنتاج والإنتاج بأبخس الأثمان لتزداد الثروة بالأرباح السريعة؛ وهذان الشرطان متوفران في استخدام الآلات؛ فغدَا العامل بذلك مرغمًا على قبول أحد اثنين: فإما الموت جوعًا لضيق اليد، وإما العمل بأقسى الشروط ليعيش عيشةً كلها كد وحرمان وظلام.
•••
لقد مرَّت الأمم والجماهير في قرون العبودية فلم يبق منها على الأرض غير آثار الملكية والأرستقراطية، حتى هبَّ الشعب في الثورة الفرنساوية يطالب بالمساواة مفاجئًا المستأثرين بالسيف والنار، وانبرى نابليون الديكتاتور يلقي بذور الثورة أينما حلَّ ويوسِّع من دوائر الحرية ما يسَّر انبساط شوكته. قبله لم يكن يحارب إلا الأشراف، ولم يكن يدخل البلاط إلا الأشراف، ولم يكن يُرشَّح للمناصب الرفيعة إلا الأشراف؛ فرفع الصِّغار من ذوي الكفاءة إلى أعلى الدرجات، وجعل من ذوي البسالة والمهارة الحربية مارشالية وقوَّادًا عظامًا، وخلق ألقاب الشرف للممتازين بمواهبهم الطبيعية؛ فشعرت الأمة — بما فيها طبقة العمَّال — بأن الحرية السياسية التي اعترف لها بها سنة ١٧٨٩ متحققة.
بَيْدَ أن النظام الديمقراطي قُصر على تعريف المساواة بين الطبقات والأفراد في الحقوق وأمام القضاء، ونادى بالحرية النظرية التي تُحرِّم الاستعباد النظامي على ما كانت تُجوِّزه القوانين في الماضي، ولكنَّه فاته أن هناك عبودية اقتصادية أشد هولًا من أية عبودية سياسية. وماذا عسى تنفع الحرية السياسية من ليس لديه ما يؤهِّله للتمتع بها؟ عبودية الأمس ضمنت له الغذاء والسكن والكساء، أما حرية اليوم فسلبته هذا الضمان ولم تُنله ما يحتاج إليه. وما كانت قيمة المرء الاجتماعية والسياسية إلا لتُوازيَ قيمته الاقتصادية؛ أي ما يملكه من مصادر الثروة؛ لأن الذي لا شيء عنده عبدٌ لمن عنده شيء، وهو يواصل العمل ساعات طويلة، ويُفني قواه في الكد والإجهاد، فلماذا يبقى عبدًا؟!
يبقى عبدًا لأن الحكومة اهتمَّت إلى اليوم بالإنتاج وأهملت التوزيع، وليس النقص في قلَّة الإنتاج فهو موفور، إلا أن سوء التوزيع يمنح قومًا فيُصبحون مواليَ، ويحرم قومًا فيُمسون عبيدًا؛ أولئك يتنعَّمون ولا يعملون، وهؤلاء يبذلون حياتهم في العمل بلا أمل ولا عزاء؛ لذلك أشهَرَ الاشتراكيون الحرب على جميع القوانين السارية ليُنيلوا الذين حرَّرتهم السياسة في ثورة الأمس الحرية الاقتصادية في ثورة اليوم، وذلك بالتوزيع على الجميع سواءً بسواء؛ فالتوزيع إذنْ قلبُ قلبِ النظام الاشتراكي، وغايةُ غايتِه. ولَمَّا كان توزيع نتاج العمل ذاته غير مفيد لمنتِجه في كل الأحوال، فقد جعلوا التبادل على قاعدةِ ما سمَّاه ماركس «الوقت الاجتماعي»؛ أي عدد الساعات المستهلَكة لإنجاز العمل، وحذفوا المال واسطة الاحتكار والاستغلال وعامل الطغيان الأكبر — على ما يرون — وقضوا على الثورات الفردية وما لها من مصارف، وشركات مالية، وصناديق توفير، وبورصات … إلخ، ليوحِّدوا الثروة في يد الحكومة أو المجتمع، وشعارهم هو هذا «لكلٍّ ما يخصُّه ولكلٍّ نتيجة عمله»، ولكنهم علموا أن مثل هذه المساعي لا تنجح في بلد واحد سوى نجاح وقتي، وأنه لا تلبث الحكومات الأخرى أن تزاحم الحكومة الاشتراكية في أسواق التجارة وتتألَّب عليها فتقضي على أنظمتها وتُطارد مؤيِّديها حتى الهلاك؛ ولهذا قرروا نشر دعوتها في جميع أنحاء المعمور لتتمَّ بها تلك الثورة الدولية الكبرى والانقلاب العام العظيم الذي تنبَّأ عنه كروبتكن الروسي منذ أكثر من ثلاثين عامًا، فقاموا ينادون باستقلال الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، وما هذا الاعتراف إلا تمهيد للاتحاد العالمي الشامل تحت راية الشيوعية المطلقة.
•••
بين الناس اليوم شعور قوي بأن اليهود هم الذين ابتدعوا الاشتراكية وما والاها؛ انتقامًا من الشعوب والأجناس والأديان التي حملت عليهم واضطهدتهم عشرين قرنًا لم يكن لهم فيها حرية ولا وطن ولا كيان، وسعيًا لنشر سلطانهم على العالم، فعملوا في تأسيس الإنترناسيونال التي سُمِّيت المؤتمر الدولي الأحمر، وأقاموا إزاءها في فيينا تحالف المموِّلين الذي دُعِيَ المؤتمر الدولي الذَّهبي — ذلك ليقبضوا على ناصيتَي القوة في المعمور: وفرة العدد ورأس المال. ويستشهد الناس على صدق شعورهم بأن كبار زعماء البلشفية من اليهود، كما أن كبار المموِّلين في العالم يهود يمدون البلشفية بالمساعدة السرية رغبةً في نشرها وبقصد ابتزاز المال أيضًا؛ لأن الثورة العامة مضاربة مالية وسياسية فيحاء تروِّج سوقها الصحافة العالمية بلهجات متناقضة — وزعماء الصحافة يهود كذلك.
فيدافع اليهود عن نفوسهم قائلين إن رئيس الشركة الصحافية الكبرى المستر أستون ليس يهوديًّا، وأن «شركة الأنباء البرقية الأمريكية» ليست إسرائيلية، وأن مستر هرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات ليس يهوديًّا، وأن اللورد نورثكليف قطب أقطاب الصحافة البريطانية ليس يهوديًّا، ومثله صاحبا «الشيكاغو تريبيون» وغيرهما كثيرون. وإذا كان هناك مموِّلون من اليهود فلماذا لا يُذْكر حيالهم روكفلر ومورغن وريان ودوبون وهنري فورد وويرهاوز، و١٥ ألفًا سواهم من الأمريكان أصحاب الملايين الذين ليسوا يهودًا؟ وإذا كان بعض زعماء البلشفية يهودًا، فألوف من صغار تُجار اليهود فقدوا أموالهم ولاقوا حتفهم في الثورة الروسية بعدما ذاقوا في عصر القيصرية من الإهانة والعذاب والتجرد من الحقوق السياسية والقضائية؛ فإنْ هم ثاروا فإنما فعلوا كمرتبة اجتماعية وليس كطائفة دينية، وإذا كان تروتسكي وسڤرولوف وغيرهما من البلشفيين يهودًا، فليس في لنين وتشيتشرين وكراسين وكلينين قطرة دم إسرائيلي. وأكثر قادة المنشفيك — أعداء البلشفيك الألداء — يهود، ومثلهم زعماء الديمقراطية الدستورية المنافسة حكومة السوفييت. وإن البلشفيين يكرهون اليهود لأنهم ينظرون إليهم كمحافظين على النظام الرأسمالي، وأن اليهود محبون للقانون وهم في البلاد اللاتينية — حيث تراعى الحرية الدينية — أقرب الناس إلى حفظ النظام وأشدهم تعلُّقًا بالعائلة والفردية والملكية.
ذكرتُ هذا الاتِّهام والدفاع لأنه نقطة ذات أهمية خاصة في هذا الاضطراب الشامل، ليس استجلاؤها بالممكن في الحاضر ولن يكشف أسرارَها إلا المستقبل.
•••
بينا كانت دول الحلفاء قائمةً في وجه دول الوسط تهتف باسم الديمقراطية والحرية، قال الكونت أوكوما — أحد كبار ساسة اليابان — إن المدنية الأوروبية التي يزعم الحلفاء الدفاع عنها آخذة في التهدُّم والانهيار تحت معاول الاشتراكية. نعم، العالم يرى اليوم انتهاء طورٍ وابتداء طورٍ آخر. وقد قامت الديمقراطية المتطرِّفة تكتسح الديمقراطية المعتدلة التي لم يَطُل عمرها أكثر من قرن واحد بعد قرون الملكية؛ لأن الأمم نضجت بسرعة في هذا العصر، ولا شك أن سرعة النضج ستتزايد في العصور المقبلة.
لا بد أنْ تزول حضارة اليوم كما زالت كل حضارة سبقتْها، ولا بد أن يُحوَّر النظام الحاضر كما حُوِّرَ كل نظام قبله. ها إن ظِل الاشتراكية يمتد فوق هذا الجيل ونجد آثارها حولنا أنَّى نظرنا ففكَّرنا. لقد انتشرت شركات التعاون في كل مكان حتى في أقاصي اليابان، وهبَّت الشعوب تتسابق في الإنتاج الصناعي وفي التهذيب الفكري جميعًا. واهتزَّت الأجناس لعاطفة الكرامة القومية؛ فعقد حتى زنوج أفريقيا مؤتمرًا في لندن لتقرير المطالبة بما تطالب به أرقى أمم الجنس الأبيض من سيادة قومية واستقلال. ولقد كثرت جيوش العمَّال العاطلين في الشرق والغرب، وتعدَّدت فتن الشيوعيين المهاجمين صرح الحضارة بفئوس الثورة والعصيان. ومهما جدَّ النظام الحالي في الترميم، فالبناء متداعٍ سيسقط في مستقبل قريب أو بعيد؛ لأن روح الاشتراكية انطلقت إلى أعماق النفوس واستقرت فيها منها المطامع والآمال.
يا للمطامع والآمال المتشابهة في قلب الإنسان! عند كل انقلاب وكل تحوُّل يأتينا النظريون بالإصلاحات المنمَّقة والدساتير المزركَشة مستشهدين بالعلم والفلسفة والتاريخ، وضامنين لنا بتنفيذ قوانينهم عصرًا ذهبيًّا يُدِرُّ على العباد لبنًا وعسلًا. ولكن هذا التاريخ وهذه الفلسفة وهذا العلم الذي يستهوون باسمه ألبابنا ويلطِّفون آلامنا، هو الذي ينقضُ وعودهم وينكرها. إن في «المادة التاريخية» التي يستند إليها ماركس وأصحابه أكبر مكذِّب لأماني الاشتراكية؛ لأنها إذا صدقت من حيث ظهور المرتبة الضرورية للاجتماع على المراتب الأخرى، فهي كذلك تثبت بلا إثبات وجود التغاير الملاصق للإنسانية في جميع تطوُّراتها.
إن تقسيم العمل ملازم لأنواع العمل ولدرجة عقول الناس ودرجة كفاءتهم، وهذا التقسيم المحتوم هو الذي يخلق المراتب المختلفة؛ لذلك كان هذا المذهب القائل بالمساواة أظلمَ ماحقٍ لها، وكان هذا المذهب الداعي إلى الإنصاف أشدَّ الطُّغاة طغيانًا. أترى المساواة في سبك العسجد والطين في قالب واحد؟ وهل الإنصاف في تجريد الغني ليُعطَى المعدم؟ وهل الحرية في توحيد العقل الكبير والقلب النبيل مع الفكر السخيف والنفس الزحَّافة؟ وهل يقوم حُسن التوزيع باستبدال صك بصك وعهد بعهد؟ وما هي لوائح «الوقت الاجتماعي» التي سيبدِّل كلٌّ بواسطتها نتيجة عمله؟ ما هي إلا شكل جديد من الأوراق المالية! ومَن هم أولئك الموزِّعون؟ أهُم ملائكة؟ فالملائكة سقطوا! أهُم آلهة لتضمن لنا نزاهتهم وعدالتهم؟ وإذا كانوا على ذلك الكمال، فكيف ينظرون إلى ماركوني — مثلًا — وإلى الخامل الذي يتطفَّل على الناس، بعين واحدة؟ ولو فعلوا فسوَّوْا بين النسر والضفدع، أفلا تكون هذه المساواة أعظم خيانة لأرقى صفات الإنسان، وأسخف ظلم لِمَا هو فخر الإنسانية وشرفها؟
يقولون إن الشيوعية لم تنجح في الروسيا لأن الشعب ليس على رُقي. التاريخ وراءكم أيها الفلاسفة الكلاميون، التاريخ القاسي والوراثة القاهرة. وهل الشعب فرد واحد ليرتقيَ كله على نمط واحد وفي درجة واحدة؟ ولماذا لم يتطوَّر على هذه الصورة في عصور الملكية وما تلاها؟ أَلِأَنَّهُ لم يتعلم؟ وهل كل من يتعلَّم يعلم؟ وهل كل من يدرس يحفظ؟ وهل كل من يحفظ يحسن التصرف بمحفوظاته وممتلكاته؟ إذنْ ماذا تفعلون بالفروق الشخصية؟ ماذا تفعلون بوجوه العقول ووجوه الاستعدادات، ووجوه الملكات التي لا تقلُّ اختلافًا عن وجوه الأجساد؟ لماذا لستم جميعًا مثل لنين وكروبتكن وماركس ولاسال، حتى أنتم الأذكياء المتعلمون المخلصون؟ وماذا تفعلون بالأجسام العليلة، أتساوون بينها وبين الصحيحة؟ وماذا تفعلون بالأعضاء البتراء، أتقولون إن الفردية شوهتها؟
إن أكبر ما تعاب به الاشتراكية المتطرِّفة هو نفخ الخامل والكسول والجبان، وإيهامهم أنهم في الدنيا الكلُّ في الكلِّ. تعاب بالقضاء على تلك المَكرُمات الإنسانية وتلك الصفات النبيلة؛ صفات القناعة والنزاهة والخضوع والرقة والتهيُّب أمام الأشياء العظيمة الجليلة التي هي أثمن إرث في متحف العصور، والمناداة بصلاح ما يناقضها. المخلصون من دعاة هذا المذهب ينسبون خمول الخامل وكسل الكسول وجبن الجبان إلى جهله وعدم توفُّر وسائل التقدُّم له لينهض من دركته الفكرية والأخلاقية. وقد يصح ذلك في بعض الأفراد، ولكن ماذا نقول في الذين هم على هذا الانحطاط المعنوي والحسي رغم علمهم أو توفُّر أسباب العلم لهم، ورغم وجاهتهم وعظمتهم الاجتماعية؟ إن الذل الأخلاقي موجود بين الملوك وجودَه بين الصعاليك، فما شأن المساواة في ذلك؟! نعم، إن عيوب الاجتماع كثيرة، نعم، إن الأوجاع الحالية مريرة، ولكن الدواء سيكون أمرَّ والإصلاح أوجع؛ لأنه سيَظلم كثيرين من الأبرياء ويقضي على جمال كثير. غير أني من الذين يثقون بالمستقبل أيًّا كانت أغلاط الحاضر؛ لأن التحوُّل رائد الكون.
الغد للاشتراكية بلا ريب، ولكنها ستُغلَب على أمرها بعد أن تُنيل الاجتماع ما تستطيع أن تأتيَ به من التعديل. الغد للاشتراكية، ولكنها لن تكون أوفى من الديمقراطية في تتميم عودها. الغد للاشتراكية، ولكن من بين الطبقات المتساوية بالمساواة الجديدة ستنهض فئة فتعلو وتطفو على الطبقات الأخرى، طبقة أرستقراطية المستقبل التي ستخلقها الكفاءة الشخصية وتقسيم العمل المحتَّم اليوم والأمس وفي الغد. الغد للاشتراكية، ولكن الفردية ستظل منتصبة قربها على الدوام. الغد للاشتراكية، ولكن ما بعد الغد لنظام آخر سوف ينبثق من قلب الاشتراكية التي هي مذهب إنساني؛ فهي بذلك خاضعة لطبيعة الإنسان تملأها الحسنات والسيئات ويستحيل فيها الكمال، إلا إذا بقي لها ذلك الكمال مثلًا أعلى تتبعه ويظلُّ هاربًا أمامها إلى منتهى الدهور.