الفصل التاسع
يتناقشون
-
الأشخاص:
- السيدة جليلة: معلمة مي في الماضي، فطنة، معتدلة الرأي.
- مي: تلميذة السيدة جليلة، وكاتبة مقالات «المساواة».
- بلانش وأنتوانت: فتاتان على أحدث طرز، رفيقتا مي في المدرسة، تتكلمان الفرنسوية دوامًا.
- عوني: نجل السيدة جليلة، اشتراكي متحمس، وذو قلب مخلص نبيل.
- عارف: أديب عرف الناس وتألم؛ فأدت به المعرفة إلى شيء من الجمود، ولكنه يُخفي وراء مظاهر القسوة والتهكم طبيعة حارَّة صادقة خيِّرة.
- الأستاذ سامي: عالم فيلسوف.
- سعيد بك: من الوجهاء، ورئيس جمعية خيرية.
- زكي أفندي: من المتأدبين، لا فكر له أو له فكر يحجبه اعتناق كل رأي عابر وامتداح جميع الناس على السواء.
-
الزمان والمكان: حوالي الساعة السابعة مساءً في ردهة الاستقبال بمنزل والدَي مي.
السيدة جليلة
(وقد دخلت منذ هنيهة مع ولدها عوني، تعدِّل جلوسها باحثة في
سرها عن كلمة تبدأ بها الحديث، شأن من يصل إلى مجلسٍ صمتَ فيه المتحادثون عند
مجيئه. والآخرون ينتظرون ببعض الارتباك وراء علامات التأدُّب ليستأنفوا الكلام.
فتبتسم السيدة جليلة لمي ثم تدير الطرف في الحاضرين وتقول)
:
كانت لهجتكم عند دخولي لهجة متناقشة ومجادلة، فأي المشاكل العالمية كنتم تحلون؟
(يبتسم الجميع الابتسامة الاجتماعية المناسبة
ويتململون).
مي
:
وصلتِ يا سيدتي عند احتياجي إلى دفاعكِ عني؛ لقد كان هؤلاء السادة يحاولون أن
يحلوا بإنصافٍ مشكلة التغاير والتفاضل التي لا تُحل، أما والظلم حليف العدل في
الإنسان فكانوا يمرنون ظلمهم عليَّ.
زكي أفندي
(مسرورًا باغتنام الفرصة ليتكلَّم)
:
أُشهد الله العظيم أنكِ أنتِ التي ربطْتِنا جميعًا.
السيدة جليلة
:
على ذكر التغاير والتفاضل أقول إني قرأتُ مقالاتكِ عن «المساواة» بمنتهى
الاهتمام، وأنتظر الباقي منها لأدرك النقطة المعينة في فكركِ، وقد هيأتِ من
الاستنتاج والاستدلال ما هيأتِ لإيصالنا إليها.
مي
:
النقطة المعينة؟ إذا دلَّ بحثي على أن لديَّ شيئًا معينًا أقوله فقد فشلتُ حتى في
التعبير عن رغبة ساقتني إلى معالجة هذا الموضوع الجموح.
سعيد بك
:
جاهرتِ في كلمة التمهيد باستعراض خلاصة ما تعلنه الطبيعة والتاريخ والعلم
لتستخرجي حكمًا مجردًا من غير ما تحيُّز ولا اندفاع. أليس في ذلك تعيين لنقطة
ما؟
مي
:
بل في ذلك إعلان رغبة ومعاهدة إخلاص، ولكن …
عوني
:
ولكن؟
مي
:
ولكن كم من رغبة نُبديها مخلصين ونحسبها معقولة مقبولة ثُم تمر الأيام فندرك
غرورًا تكوَّنت منه تلك الرغبة، وحماسة لا يشفع بها إلا ذلك الإخلاص! (تأمُّل قصير) كيف زعمتُ أن أستعرض خلاصة ما تعلنه
الطبيعة والعلم والتاريخ، وأيُّ إله أنا ليتبيَّن لي ذلك؟ (خَجْلَى) ولكني عوقبت بغروري نفسه؛ إذ إني بتوغلي في البحث تحدو بي
أبدًا تلك الرغبة الحارَّة، كنتُ أزداد شعورًا بأن ما أتلمَّسه من الخطوط التاريخية
والعلمية والاجتماعية لن يوصلني إلى شيء (ضاحكةً) سوى إلى تلقِّي رسائل التعنيف والتقريع من حضرات القرَّاء
الذين يريد كلٌّ منهم أن أذهب مذهبه وآخذ برأيه. (تعود
إلى التأمُّل) حسبتُني مقبلةً على موضوع لي أن أعالجه على ما أريد،
فإذا بالموضوع يعالجني قاذفًا بي من تيار إلى تيار، ومن حيرة إلى حيرة، ومن لُجَّة
إلى لُجَّة. وها أنا ذا أردِّد سؤالًا ألقيته على نفسي مرارًا خلال هذا البحث: أين
أنا الآن؟ أين أنا؟
عارف
:
أي إنك تتساءلين: أين المساواة؟ أين أعثر على خيال المساواة؟
مي
:
قد يكون هذا معنى سؤالي. قد وسَّعت دائرة البحث حتى ضاع فيها الخيال الذي أَنشده.
أو أن الدائرة التي أزعمها وسيعةً اختنق فيها الخيال لضيقها فحلَّق فوقي وفوقها
هازئًا فلم أعد أراه وأسمع صوته.
بلانش
(تتثاءب وتسأل رفيقها بالفرنساوية)
:
عن أي شيء يتكلمون؟
أنتوانت
:
عن الشيء الذي كانوا يتكلمون عنه عند مجيء السيدة جليلة.
عوني
(هادئًا في الظاهر، ولكن اهتمامه يبدو في نظره ولهجته)
:
أتريدين أن تلمحي خيال المساواة أيتها الآنسة؟ أتريدين أن تسمعي أصواتًا تناديها
بلجاجة؟ إذنْ أقفلي باب مكتبك وانسَيْ ما كتبتِ عنها وما يكتبون، ولا تكتفي بالنظر
إلى السابلة من وراء سجوف النوافذ؛ فما تلك الحياة الظاهرة إلا حاشية بعد صفحة
الحياة. اتركي كل ذلك وانزلي إلى ميدان الحياة السوداء حيث القلوب تدمى، والعيون
تدمع، والقوى تضيع جزافًا. امتزجي بذوي الأطمار البالية، جوعي مع الجائعين، احتاجي
مع المحتاجين، وأصغي إلى الشكاوى والتوسلات تنطلق من بين شفاه الفقراء والمرضى
والمحرومين انطلاق الدم من الكلوم البالغة. تفحَّصي عقولًا تطلب من المعرفة والنور
غذاءً ولكن البؤس أقفل في وجهها أبواب المدارس، وحرمها الكتب والفنون وجميع مشاهد
الجمال والرقي التي أوجدها الفكر الإنساني، (بشيء من
التحمُّس) وعندما ترين كل ما يتمتع به الكسالى الظالمون الذين احتكروا
الصحة والهناء والرخاء لنفوسهم، عندما ترين جهود العمَّال وذكاءهم ونبل أعمالهم في
الحرمان؛ إذن لا تسألين «أين أنا من المساواة؟» بل تعلمين أن الطبيعة خلقتكِ لتكوني
اشتراكية وعيَّنتكِ لتوقفي قواك في سبيل الإنسانية المرتفعة إلى عظمة المطالبة
بحقوقها.
عارف
(يصفق ضاحكًا)
:
أَعِدْ، أَعِدْ يا عزيزي عوني ليطول إعجابي بك! أؤكِّد لك أنك بموهبتك الخطابية
هذه المقرونة برأسك الذي يشبه بانحنائه رأس زعماء الباطنية في القرون الوسطى،
تستطيع أن تكون واعظًا دينيًّا مُفلِقًا يأتي بالخطب الرائعة في أتفه المواضيع
الممكنة.
عوني
(يخاطبه بمودَّة وإن ضُمِّنت لهجته لومًا)
:
أتُسمِّي موضوع البؤساء والمظلومين والمحرومين المطالبين بحقوقهم موضوعًا
تافهًا؟
عارف
(بشيء من التهكُّم)
:
ومن هم أولئك البؤساء والمظلومون والمحرومون الذين ما فتئتم تتاجرون باحتياجهم
المزعوم؟ من هم أولئك الذين تحاولون إقناعنا وإقناعهم بأنهم تعساء وأن لهم
حقوقًا؟
سعيد بك
:
سلني أنا أيها الفتى؛ فمركزي في الهيئة الاجتماعية، والوظيفة التي أشغلها في
جمعيتنا أرتْني ما لم يَرَهُ الآخرون. البؤساء والمظلومون والمحرومون هم المرضى
والعجزة الذين لا ملجأ لهم، هم الأرامل واليتامى الذين لا عائل لهم، هم الآباء
الذين فرغت أياديهم وبيوتهم ولا عمل منه يرتزقون، آه! لقد رأيت ما يَفطُر
القلوب!
عوني
(تزعجه هذه الأوصاف التي لا أثر فيها لسند الاشتراكية
الأعظم)
:
المحرومون هم خصوصًا الذين يعملون ليل نهار ليديروا حركة العالم، ويستغلوا موارد
الثروة، ويقيموا بهجة العمران فتتنعَّم طائفة المحتكرين والأنانيين على
حسابهم.
زكي أفندي
(يحبِّذ هذا الكلام كما يحبِّذ كل كلام)
:
صحيح، صحيح.
عارف
:
لقد سمعنا هذا مرارًا وتكرارًا، فهل من جديد؟
عوني
:
الحاجة واحدة لا تتغير، والفقر قديم لا تنوُّع فيه. البؤساء والمظلومون
والمحرومون هم البؤساء والمظلومون والمحرومون، أفهمتَ يا عزيزي؟
عارف
:
طبعًا فهمتُ، فهمتُ وقنعتُ! أنا الفاهم رغمًا عنه، (يضحك) أنا المقتنع رغمًا عنه، ومن ذا الذي لا يقنع بهذه الحجة
المفحمة؟ (ينقلب جادًّا فجأة) ولكن الحجة لا
تفلح في الإقناع، وإلا أقنعتكم أن تدَعوا الناس وشأنهم ولا تشجعوهم على الوقاحة
والتطاول يومًا بخطبٍ رثائية، وبحيل كاذبة مغلوطة يومًا.
سعيد بك
(ينظر إليه من أعالي ثقته بأنه رئيس جمعية تعول
المحتاجين)
:
يظهر يابْني — أدامك الله راتعًا في بحبوحة الهناء — أنك قضيت عمرك سعيدًا رغيد
العيش فلم تذُقْ أنانيتُك ذلَّ الحاجة والجهاد، كما أنك لم تبتهج بلذة الإحسان ومسح
دموع الحزين.
عارف
(تتجمع أفكاره على فكر واحد فيشتعل وجهه وتتألَّق عيناه)
:
وكيف عرفتَ ذلك يا سيدي؟ من يدريك أني لم يكن لي يومًا مثل سذاجتكم هذه — عفوًا
عن هذه الكلمة الجريئة! — من يدريكم أني ما تحجَّرت إلا لأن الناس استغلوا ليني حتى
أمحق، وعالجوا عطفي حتى الاستنزاف؟ إنكم باسم الإحسان تبتزُّون المال من الأقوياء
النشيطين كما تبتزُّونه من الكسالى المترفهين لتعطوا الذين لا حقَّ لهم به، فتنسون
أن في ذلك تملُّقًا للخمول وتحبيذًا للمذلَّة، وتنسون أن المرء إذا كان له من يعوله
مجانًا قلَّ اتكاله على نفسه وفرغ عقله إلا من الانحطاط والدعوى.
سعيد بك
(مشفقًا على الذين لا يفهمون)
:
لو كنتَ أبًا وكان ابنكَ عريانًا، لو كنتَ زوجًا وكانت امرأتك جائعة، لو كنتَ
ابنًا وكانت أمك مريضة وفقرك يَحُول دون الطبيب والدواء، ولو كنتَ فتاة وحيدة دون
أهل والدراهم حاجتها لتبتاع ضروريات العُرس؛ إذنْ لفهمتَ معنى إغاثة
الملهوفين.
عارف
(يُصغي إلى هذا الكلام بانتباه وكأنه يُولِّد فيه صورًا يتناقض
أثرها في نفسه، ثُم يرفع رأسه ببطء)
:
إني أنحني أمام الحاجة الصميمة ويأخذني الخشوع أمام الألم الصادق. ومن هذه الوجهة
أقدِّر أعمال الجمعيات الخيرية وأرى فيها تمهيدًا لجمعية مقبلة كبرى تحتضن الذين
يُلزَم المجتمع بإعالتهم، ولكن (يهبُّ فجأةً كأن سوطًا
ألهبه) ولكنَّ ما لا أحتمله هو أن الذين لا يخجلون دنَّسوا بحقارتهم
حتى معنى الألم العظيم، واتخذوا كلمات الاستعطاء وأسماء اليتامى والأطفال والجائعين
إعلانًا فعَّالًا لتموين الكسل والمعايب؛ صارت دعوى الجوع والعري مرسحًا من مراسح
التمثيل وأسلوبًا من أساليب النصب والمضاربة. لقد رأيتُ دموعًا كاذبة في العيون
المتوسِّلة، وسمعتُ المُحسَن إليه يلعن الكريم الذي أعطاه بلا حساب، وشهدتُ حوادث
الاحتيال تتتابع للضحك من البُلهاء والتطاول عليهم. رأيت ذلك ففهمت أن للمساعدة
المجانية أغلاطًا فادحة، وأن أعمال البرِّ كثيرًا ما تُنتِج شرًّا.
السيدة جليلة
(مُصادِقةً على ما في كلام عارف من الإصابة)
:
صدَقتَ يا عارف أفندي؛ فإن دعوى الحاجة كثيرًا ما جففت قلب الكريم فسدَّته حتى
أمام العوز الأكيد، ونكران الجميل من أفظع ما يُحتمل.
بلانش
(تهمس لأنتوانت بالفرنساوية)
:
عارف لطيف لا بأس به، أتعلمين؟
أنتوانت
:
لا بأس به لولا أن حذاءه كثير اللمعان؛ ليس من المعقول أن حذاءً يشع من تلقاء
نفسه على هذه الصورة. ومن عيوبه أنَّه يتكلم (محاوِلةً
اتقان اللفظ بتهكُّم أنيق) بلغة الحاء والخاء والعين.
عوني
:
مع تقديري لخدمات الجمعيات الخيرية أقول إننا في هذا العصر نأبى استماع كلمات
الإحسان والمحسنين. لقد ملَّ الناس فضل الناس كما ملَّ المتفضِّلون التفضُّل.
والإنسانية التي تبذل حياتها في سبيل الإنتاج لا تمدُّ يدها للاستعطاء؛ لأنها تعلم
أن المسئولية تُنيلها حقوقًا، وهي بتلك الحقوق تتذرَّع لتعمل على توطيد المساواة.
لقد ذكر عارف تمثيل الألم وتعمُّل الاحتياج، وما الدافع إليهما سوى هذا النظام الذي
يُسمِّن قومًا ويُهزِّل قومًا؛ فيعمد المحرومون إلى أية الوسائل ليتمتعوا. النظام
القائم مبعث الشرور وخالق الكذب والغش والتهجم. استبدِلْهُ بنظامٍ يسوِّي بين
الجميع تختفِ المعايب والمفاسد والمخازي التي لم يوجدها سواه.
عارف
:
ما سمعتك متكلمًا، يا صاحبي عوني، إلا رسخ اعتقادي بأنك وُلدت لتكون رئيس مدرسة
إكليريكية تهيئ المرسلين للوعظ والإرشاد … إذنْ كيف تفسِّر النصب والاحتيال من
الغني السِّرِّي؟ إن في النظام القائم لَعيوبًا جمَّة يتحتم إصلاحها. ولكني بينه
وبين الليمان العالمي الشامل الذي تعدنا به الاشتراكية متردِّد، ويكاد يكون ضلعي
معه. إن المساواة التي تطلبونها بجلجلة وضجيج موجودة في العالم، ولكن العقول
المتنوِّعَة لا تُدركها على نمط واحد، وهي الطبائع المختلفة التي تنبذها هنا
وتحضنها هناك. في مدرسة واحدة تتخرَّج أجيال الطلبة فينبري واحد منهم ينتقل اسمه
وفكره على جناح الدهور، ويظل مئات رفاقه بين التوسط والخمول متراوحين. هواء واحد
تنشره الطبيعة فيقضي على أناس ويُحيي أناسًا. قانون واحد يفسره من المحامين مئات
وألوف فيكون في يد الفذِّ براءة امرئ تألَّبت لاتهامه القرائن. عَوَزٌ واحد يعضُّ
الجماعة فيتشدَّد به العبقري ويسمو بينا الآخرون يظلون في هُوَّةِ المذلَّة
والشكوى. فرصة فريدة تسنح لأخوين فيستفيد بها الواحد ويفيد، ويهبط بها الآخر ويؤذي.
وتعودون بعد ذلك إلى المناداة بالمساواة؟ أمَا ذكرت في الحكايات القديمة كيف تملأ
الغرف التسع والخمسين الآلات المختلفة والأسلحة والأمتعة الثانوية، ولا يوجد الشيء
الجوهري إلا في الغرفة الستين؟ ذلك شأن الناس؛ إذ ليست جميع الأقفال لتُخفي كنوزًا
وإن أخفت أشياءَ لها أهميتها النسبية.
زكي أفندي
:
صحيح يا ناس، كلام جميل في محله!
عوني
:
ليست الاشتراكية مسئولة عن إيجاد النبوغ في الأفراد، ولكن غايتها تمكين كل فرد من
إنماء مواهبه الطبيعية إلى حدها الأقصى والتمتع بثمرة أتعابه على ما يحتاج. إن
شركات الاحتكار وطغيان رأس المال يرهق بني الإنسان، ومزاعم الدول وتكالُبها على
الاستعمار ضيَّق الحياة على السائد والمسود جميعًا، جاعلًا أبدًا أمام عيونهم شبح
الحرب الهائل. وهذا المرض الفعَّال لا يشفيه سوى عملية الاشتراكية التي تُلاشي
استغلال الأفراد والجماعات؛ فتتكاتف الدول والأجناس، وتظهر العبقريات الكامنة آتيةً
بمختلِف الاختراعات والاكتشافات في العلوم والفنون، وتستخرج من الأرض خيرات جديدة
لخير الجميع؛ فلا نعود نرى الأكواخ قرب القصور والموت جوعًا قرب البذخ والترف؛ إذ
ذاك ينفذ في العالم أجمع ذلك البند النظري الذي وضعته الثورة الفرنساوية: «خُلِق
الناس أحرارًا متساوين».
زكي أفندي
:
وهذا أيضًا كلام جميل يا ناس!
عارف
:
بل إذ ذاك يزيد التفاوت ظُهورًا … آه! ليتك يا صديقي تنفث فيَّ شيئًا من إيمانك
وقبولك لتلك المعاني المتعاكسة المتنافرة كشيء تقرَّر وقوعه. إن الثورة لم تُوجِد
نظرية المساواة؛ لأن المساواة كانت نافذة بين الأشراف الذين كانوا يعاملون بعضهم
بعضًا كأشباه متماثلين. ولكن ذلك البند أراد التسوية بين المراتب أمام القانون لا
غير، وقد ألحقوه باستدراك خطير إذ حرموا من تلك المساواة القانونية القُصَّر
والنساء والمجانين والمحكوم عليهم؛ فيكون المتساوون والحالة هذه أقلَّ من نصف
الأمة، فأين المساواة؟
عوني
:
وليس ذلك بالشيء القليل في دولة خرجت مباشرة من دور الملكية والأرستقراطية. وتلك
التسوية القانونية برهان جليل على أن المساواة حلٌّ للناس، وأن لأبناء الأجيال
الآتية أن يتناولوها بحقوقهم وينشروها قانونية واقتصادية واجتماعية بين إخوانهم
أجمعين.
عارف
:
والحرية! والعدل! ماذا تفعل بالحرية والعدل اللذَين هما من أقدس معاني الإنسانية؟
كيف تُسوِّي بين العظيم والحقير؟ بين العبقري الذي تقتله هذه المساواة والأبله الذي
تفسده، ألا تذكر كلمة سكينة قبل موتها: «إنني أفاخر بأن أموت شنقًا موت الرجال»؟
كذلك فهمت سكينة المساواة! وكم بين النساء والرجال من سكينة! وكم بين الناس من جانٍ
لا عن حاجة، بل لأن الجناية غريزة فيه! بل كم بين الفقراء من حكيم قنوع لا يطلب
أكثر من سترة الحال! إن جرمكم الأكبر أيها الاشتراكيون في تجاههم الطبيعة البشريةَ،
وحسبان الإنسانية محصورة في الطبقة العاملة. تحسبون أنفسكم منزَّهين عن وراثة بني
الإنسان وتريدون بتلك المساواة الآلية أن تضمنوا القُوت للجميع بكمية متعادلة
لتقتلوا ما هو فوق القُوت؛ لتقتلوا التفوُّق عن طريق المباراة التي كانت وستظلُّ
دوامًا الحاثَّ الأعظم. ألا إن السر في البذرة لا في الأرض التي تُحرَث وتُهيَّأ،
وذكاء الناس وقوَّتهم نارٌ كامنةٌ تحتاج إلى النضال، تحتاج إلى احتكاك الحديد
والصَّوَّان لتقدح شرارتها. وهل كانت تستطيع العمل ملايين الأيدي لولا العبقرية
الواحدة التي كشفت سرًّا من أسرار الطبيعة؟ فكيف تريدون أنْ تسوُّوا بين ذلك النور
الإلهي في فكر، وبين عمل يدٍ عملًا ميكانيكيًّا لا إجهاد للعقل فيه؟ بل كيف تزعمون
أن الرخاء يُنمِّي النبوغ بينا نرى ذوي النبوغ غالبًا من الفقراء والمعوزين؟
عوني
(يبتسم بطيئًا)
:
يُفكهني أنك تُناقض نفسك، وأنك أنت المعارض للاشتراكية من أعظم المعترفين
بضرورتها.
عارف
:
أنا أعارض الاشتراكية؟! إني من أول القائلين بإنصاف العمَّال ووجوب الإصلاح، وأن
للاشتراكية المعقولة دورًا لا بد أن تمثله، ولكني أقول باستحالة المساواة التي لا
ينتج عنها سوى الظلم والتهويش، وطعن الحرية طعنة جديدة. الناس في الحياة متساهمون،
ولكنهم غير متساوين في براعة التصرف بأسهمهم. والضغط إلى درجة معينة على القاصر
والجاهل والشرير خير للمضغوط عليه ولمحيطه جميعًا. أما الضغط على الرفيع الحر
الكبير فجناية عليه وعلى محيطه. في العالم اليوم آلام وفواجع لا تُطاق وستؤاسَى على
وجه ما، ولكني أقول إن الاشتراكية لن تنجح أكثر من النظم السابقة؛ لأنها نُسخة
جديدة منها كما أن جميع المعاجم الجديدة نُسخ عن المعاجم القديمة. لن تنجح أكثر من
النظم السابقة وستأتينا بويلات مستحدثة. ومما ينذر بتلك الويلات اختلاف زعماء
الاشتراكية فيما بينهم؛ لأنه أيًّا كانت النُّظم والهيئات الحاكمة فما يجب الالتفات
إليه في تنظيم المجتمع هو الفروق القائمة بين الناس، لا وجوه التشابه بينهم. وهل
يصير الصغار أقلَّ صغرًا إذ انكمش الكبار إلى مستواهم؟
عوني
:
نحن لا ننكر أن بين الناس فروقًا وأن كلًّا من الناس مُيسَّر لعملٍ ما، ولكننا
نريد أن نقلل من جور الطبيعة ونُسهِّل الحياة للجميع، نريد إصلاح ظلم الصُّدف جهد
المستطاع، نريد معالجة الأمراض البشرية ما أمكن، ونريد إدخال الجميع ميادين الرقي
والنور لتنال الإنسانية سعادة ما فتئت تجري وراءها منذ فجر التاريخ.
عارف
(يبتسم مشفقًا)
:
ما أقربَ تحوُّلَ الأرض إلى سماء عند الإصغاء إلى إخواننا الاشتراكيين! وما أسهلَ
حذفَ المرض والانفعال والموت! قل لي يا عوني، هل تُلاشون من قلب الإنسان الشوق
الملهب إلى الحبِّ والكره القتَّال المدمِّر الذي لا حدَّ له؟
بلانش
(لأنتوانت بالفرنساوية)
:
ماذا يقول عن الحبِّ؟ أفٍّ، ما أطولَ هذه الجلسة!
عارف
(متممًا دون أن يسمع كلام بلانش)
:
وهل تُلاشون لذة الحرب، والشغف بالحرب، وفنون الحرب في مظاهرها المختلفة؟ أتقتلون
الأمل؟ أتقتلون القنوط؟ أتفعلون كل ذلك لتأتونا بسعادتكم الموعودة؟ وهل من سعادة
بعد محق جميع تلك العناصر المكوِّنة كلية السعادة …؟
مي
(مخاطبةً الفيلسوف المُصغي إلى هذه المناقشة باهتمام وسكون
تام)
:
لماذا لا تُسمعنا صوتك يا أستاذ؟ لماذا لا تُفضي إلينا ببعض ما يُفيضه الوحي عليك
في خلواتك؟ (يبتسم الفيلسوف ابتسامة مبهمة صغيرة. مي تطلب
بإلحاح) قل لنا رأيك! اذكر لنا الطريق التي على الإنسانية أن تسير
فيها لتفوز بالسعادة المنشودة.
الأستاذ سامي
(يبتسم ابتسامة كلُّها عطف)
:
البحث عن السعادة! ربما كان هذا ضلال الإنسانية الأكبر.
مي
:
وكيف ذلك؟ إنك تسلبنا أملًا جميلًا يا أستاذ!
الأستاذ سامي
:
إن للإنسان حقًّا في البحث عن الأمر المستحبِّ لا سيما إذا كان واسطة لنموِّه،
ولكن التاريخ يُرينا أن الإنسانية إلى اليوم مريضة؛ مريضة بأطماعها وأشواقها
وحاجتها وطبيعتها، ومرضها هو الحياة بعينها؛ فتتقلَّب على فراش المرض بتغيُّر النظم
وتبديلها حاسبة بنومها على هذا الجانب الراحة والطمأنينة — أو السعادة إذا شئتم —
فلا تلبث دقائقَ أو أعوامًا حتى تشعر بالتعب كالأول، فتتقلَّب على الجانب الآخر؛ أي
إنها إنما تغيِّر النظام، وهي لكذلك إلى الأبد.
زكي أفندي
(معجبًا دهِشًا)
:
كلام الأستاذ أستاذ الكلام! (باسطًا ذراعيه
بافتتان) دام فضلك ينبوعًا نستقي منه يا أستاذ! (تدق يده بكتف أنتوانت التي تتبعَّد مستاءة) آه،
بردون مدموازل! كيف بدرت منِّي هذه الإساءة؟! ما أجملَ هذا الثوبَ وما أدقَّ
ذوقَكِ! (تحدث حركة بين الحاضرين فيتململون
للنهوض).
أنتوانت
(متثائبةً)
:
حقًّا، إن من الرجال من هم بلا لطف، كأنهم لا يشعرون بوجود السيدات والفتيات
معهم. لن أزور مي بعد هذه المرة إلا يوم تكون وحدها، أو يوم يكون المجتمعون أقلَّ
ثقلًا وغطرفة! (تنظر بدلال إلى تطريز
ثوبها).
بلانش
(ضاحكةً)
:
مع أن زكي أفندي امتدح جمال ثوبك وحسن ذوقك!
أنتوانت
(متأفِّفةً)
:
هذا لا أريد منه إطراءً ولا ثناءً. (بتأفُّف مُزج بشيء
من الدلع) لقد قرَّرتُ في سرِّي ألا أتزوج إلا رجلًا ذكيًّا، حتى إذا
شاء أن يمتدحني فعل ببلاغة، وإذا أراد أن يذمني ذمَّ بكياسة وأناقة.
بلانش
(وقد نهضت كما نهض الجميع للانصراف واشتبك الحديث بينهم. تضحك
من كلام أنتوانت)
:
ولكن لا تستطيعين أن تقولي إن هؤلاء الرجال الثلاثة غير أذكياء! فلو خُيِّرتِ
بينهم فمن تختارين؟ الفيلسوف بأسرار عينيه وابتسامته المتمنِّعة؟
أنتوانت
:
كلَّا! هذا قدِّيس، لا أريد أكثر من أن أُشعل أمامه شمعة وأضع طاقة أزهار.
بلانش
:
إذًا عوني؟ أو الآخر؟
أنتوانت
:
عوني؟! هذا الذي يريد أن أن يوزِّع ما عند الواحد على جميع الناس، كما يقولون؟
تأمَّلي حالي إذا هجم يومًا على ثيابي وحلاي ليُفرِّقها على نساءٍ لم يتعبنَ
بابتياعها! تأمَّلي حالي إذا تبرَّع بثوبي الأزرق؛ ثوب الرقص … لا لا! هذا لا
أريده.
بلانش
:
بقيَ الآخر!
أنتوانت
:
هذا يقوم حذاؤه اللمَّاع بيني وبينه سدًّا منيعًا! كيف لا أهزأ برجل صغير القدمين
إلى هذا الحد؟
(تضحكان ويمتزج صوتاهما بالأصوات الأخرى.)
عارف
(متمِّمًا حديثه مع الفيلسوف)
:
إن كلامك لَيُعبِّر عن كثير من أفكاري يا أستاذ، وأعتقد أن اختلاف الكائنات الحية
وتغايُرها شرط أساسي لكل نمو وكل كمال نسبي. وما هو تنزاع البقاء — ذلك المصدر
الفيَّاض للتنوُّع والثروة الحيوية — ما هو إن لم يكن في تطوُّره إثباتًا مستمرًّا
للاختلاف والتفاوت؟ وظهور الفرد الموهوب تحريض للنوع بأسره وحثٌّ سريع لجوج.
(يختفي صوته وراء جلبة التحيات.)
السيدة جليلة
(مودِّعةً مي)
:
إلى الملتقى يابْنتي. مهما احتدم الجدال فمثل هذه الاجتماعات يشحذ القرائح، وأحسن
ما يوحيه إلينا كاتب أو محدِّث هو أن ننتهيَ من الإصغاء أو المطالعة وفي نفسنا
استفهام جديد. لقد سُررتُ بهذا الاجتماع كثيرًا!
أنتوانت
(إلى بلانش بالفرنساوية دوامًا)
:
هيَّا بنا مع السيدة جليلة.
عوني
(مودِّعًا)
:
شكرًا أيتها الآنسة، واسمحي لي أن أردِّد التعبير عن ثقتي بأنكِ منضمَّة إلى
صفوفنا بحكم فطرتك ونزعتك الفكرية. بي اقتناع بأن السعادة النسبية ممكنة لبني
الإنسان، لا سيما وأن فكرة الارتقاء والسعادة وليدة العصور المتأخرة بعد أن تعاونت
الأديان والفلسفات على إقناع الإنسان أنه دودة صغيرة تتمرَّغ في التراب أمام وجه
الخالق … والثورة أبدع مظهر من مظاهر الاستياء، وشرف المرء قائم في الاستياء من
الرث البائد والبحث عما يَفضُله. شرف الإنسان قائم بإنصاف الآخرين كما يُنصف نفسه.
والنفوس الكبيرة قلقة أبدًا لا تُرضيها غير اللانهاية.
عارف
(يدفعه بكوعه دفعة خفيفة)
:
وهكذا تبدأ بالوعظ والإرشاد وتنتهي بالوعظ والإرشاد! الحياة بحر يا صاح، تتدافع
فيها الأمواج واللجج والأنظمة والثورات، وإذا استُبقيَت أنظمة أكثر من سواها فلأنها
أنفع للنَّاس وأصلح، ولكن السعادة ليست غايتها ولا الكمال كعبتها! ما غاية
الإنسانية إلا الإنسانية، وما كعبة الحياة إلا الحياة. أليس الأمر كذلك يا
أستاذ؟
الأستاذ سامي
(بصوته الهادئ)
:
كما تدور الأحقاب تدور الأنظمة، والبقاء للذي لا يموت ولا يتغيَّر (يخرج ووراءه زكي أفندي يمتدح كلَّ واحد
بدوره).
مي
(تودِّع الزائرين وتعود إلى الغرفة الخالية حيث تتراجع أصداء
الأصوات التي تكلمت هناك منذ حين. وبعد إطفاء الأنوار تخرج إلى الشرفة تحت القبة
المدلَهِمَّة، تسند رأسها إلى الحائط وتفكر صامتة ثُم تبسط يديها نحو الفضاء، نحو
خيالات الأشجار، نحو أشعة النجوم، نحو هدير الأصوات وهدوء السكوت، وتقول بلهجة
المبتهل)
:
ها أنا ذا وحدي أيها الليل فأفهِمْني ما عليَّ أنْ أُدرك! ها أنا ذا مستعدة أيتها
الحياة، فسيِّريني حيث يجب أن أسير!
السِّتار