القارعة
في شارع من أكبر شوارع الزمالك رجل في الحلقة الخامسة من عمره يقف في جدية واضحة يُشير للسيارات لتسير، أو يُشير لها أن تقف، وعلى مبعدة خطوات منه يقف شرطي المرور، ولكنه لا يحفل به ولا يكترث به، وكأنه غير موجود.
والرجل مقتنع كلَّ الاقتناع أنه لولاه لتوقفت حركة المرور في الشارع، وهو واثق أنها إذا توقفت في الشارع توقفت في القاهرة كلها، وأحسب أنه على يقين أن هذه الحركة إذا توقفت توقف العالم عن الدوران، وكفَّت الحياة عن الحياة.
وتنظر إليه فتُدرك أنه مقتنع غاية الاقتناع أنه لولا يده التي يُشير بها للسيارات أن تسير ما سارت، وأن هذه السيارات بسَيْرها تسير الأيام جميعًا. وأحسده؛ فقد اطمأن إلى أهمية وظيفته في الحياة، وارتاح إلى طمأنينته، غيرَ حافلٍ شأنَ الناس جميعًا، اقتنعوا بالحقيقة الثابتة في يقينه أم لم يقتنعوا.
وما قيمة رأي الناس ما دام هو واثقًا من حقيقة العمل الخطير الذي يقوم به. وأحسب أنه لو كان على إلمامه بالشعر لوضع لافتة فوق رأسه تحمل بيت المتنبي الخالد يردُّ بها على نظرات الراجلين والراكبين على السواء، ويتحدى بها علامات الاستغراب التي ترتسم على وجوه البشرية في الشارع الذي يحرِّك منه الكون جميعًا:
أما الرجل فواضح المعالم، والحقيقة من أمره لا شك فيها ولا اختلاف حولها؛ لأنه يعرض أمر نفسه على الناس أجمعين، وكلهم واثق من حقيقته، وبعضهم يشفق عليه وتأخذه به تلك اللمسة السماوية التي أودع الله منها قبسًا في ضمائر بعض الناس. فإذا قُدِّر لك أن تقف بعض الحين تراقبه لرأيت ثَمَّ يدًا تمتد إليه من حين إلى آخَر تمنحه همسة من رحمة متمثِّلة في مبلغ من المال، الله وحده يعلم مقداره.
ويأخذ هو ما تمنحه له السماء في كبرياء صاحب الحق، يتسلَّم حقه، ويرفع يده بتحية فيها إباء، ويستأنف عمله من إدارة حركة الكون.
هذا رجل — فيما أقدِّر — مرَّت به ألوانٌ من تقلُّبات الحياة، وخاضَ غمرات الأمواج حتى وجد شاطئه في مكانه هذا، والتمس عنده مأمنه من الحياة، فأمن واستقرَّ. والتقط اللاهث من أنفاسه المفزعة، وتصالح مع الحياة، ووثق أنها تصالحت معه، فهو لا يسيءُ إلى أحد، ولا يعبأ بمَن يحاول أن يسيء إليه، وإنما ينصرف عنه انصراف الكبار عن لهو الصغار.
تُرى كم في حياة الناس من أمثال هذا الرجل ولا يعرف الناس عنهم شيئًا؟! تسترهم الحجرات، ويتخفون وراء غلالات رقيقة من عِلم ساذج استطاعوا بها أن يستخفوا عقول الكبار، ويجعلوهم يتوهمون أنهم أصحاب ثقافة، أو أصحاب علم، أو أصحاب دراية، وهم من هذا جميعًا أبرياء. وحين يتزاوج الغرور من الضائعين بالجهل ممَّن يملكون تقسيم الوظائف يثب إلى الكراسي أمثال هذا الرجل الواقف في شارع من شوارع القاهرة.
أما هو فمجرَّد من السلطان مقصيٌّ عن إصدار الأوامر، وأما هم فبيدهم أدوات يملكون بها أن يصدروا الأوامر، أو يصدروا الأحكام في شئون الحياة. وفي الميدان الذي أعمل فيه أرى رأي العين مَن يحسب نفسه أديبًا لم تجُد بمثله الأزمان في قديمها وحديثها، وأراه رأي العين شأنه شأن المسكين الذي يظن أنه يدير الكون من شارعٍ في القاهرة يظن أنه لولاه ما وُجِد الأدب العربي كله.
والأدب ميدان قاسٍ عنيف لا يقبل الهزل، ولا يعترف بالدجل، ولا بد للأديب من إنتاج، ولا بد أن يكون هذا الإنتاج منفردًا حتى يبدأ الأدب في تقويم هذا الأديب، وإلقاء النظر إليه، والحكم عليه إن كان يستحق أن يكون أديبًا أو لا يستحق.
أما هؤلاء الذين اطمأنوا إلى مكانتهم الأدبية فأنا أعرف بينهم مَن ليس له إنتاج على الإطلاق، وأعرف منهم مَن له قصة قصيرة، أو بعض أقاصيص لا تزيد على أربع أو خمس.
ولكن هؤلاء الأصدقاء يملكون أن يرموا بهم إلى كراسي مناصب، فإذا هم في وقاحة، أو إن شئت الكلمة الدقيقة فقل في فجور، يُطلِقون أحكامهم الجامعة المانعة على الجبال الرواسي والقمم الشامخات، ولا يحاول واحد منهم أن يسأل نفسه: ماذا قدمتُ أنا حتى أحكم على الآخَرين؟! ولكن النفس مولعة بخداع نفسها، وهذا السؤال لا يرِدُ على تفكيره … وهل هو صاحب تفكير حتى يرِدَ عليه سؤال؟
لقد حكم وحكمه نهائي بلا حيثيات، وبلا معارضة ولا استئناف؛ لأنه مثل الرجل الذي يحرِّك الكون، ولا يحفل بشأن الناس، وليس يعنيه أن يقولوا عنه: فاجرٌ يدَّعي لنفسه ما ليس له، ويضع ذاته في المكان الوحيد الذي ينبغي له أن يختفي منه.
أما الرجل الذي يحرِّك المرور والكون فقد استمدَّ وظيفته من طغيان الأيام عليه، ومن قسوة الزمان على مجرى حياته، ومن عنف المقادير بإنسانيته.
أما هؤلاء الآخَرون فقد خادعوا أنفسهم، ووجدوا من المهازيل من يقبل أن يكون مخدوعًا، فتصدوا للحكم على الناس، ووجدوا كلامهم يُجمع ويُطبع ويُنشر على الناس.
أيُّ زمان قدَّر الرحمن أن نعيش فيه حتى نرى ما نراه؟ فنشهد الطَّيب الأخرس، والعالم الجاهل، والأديب بلا أدب له، والشاعر ولم يقُل شعرًا، والناقد دون قراءة ما ينقده، وإذا تركنا الأدب وألقينا نظرة إلى شتَّى مناحي الحياة وجدنا كثيرًا من مناطق النفوذ يسودها الظلام القاتم حين كان ينبغي لها أن تكون حافلة بالنور، وإذا أنت حملت مصباحًا وألقيت النظر على شاغليها لوجدتهم جميعًا من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم في مناصب قد تصلح لأي إنسان إلا لهم، والجريمة ليست جريمتهم وحدهم، وإنما هي جريمة فيها شركاء عديدون. والشريك في القانون يعاقب بعقوبة الفاعل الأصلي، أما الشريك في هذه الجرائم فهو في الحقيقة الفاعل الأصلي، والعقاب واقع عليه أولًا، ثم هو واقع على مَن ولَّاهم ما لا يستحقون من رأي الناس، ثم هو واقع عليهم وعلى غيرهم من الاضطراب والمهازل والفوضى التي تسود مواقعهم، وتسخر منهم كل سخرية، وتحقر شأنهم كلَّ احتقار … ويومئذٍ تكون القارعة وما أدراك ما القارعة … إن أمه لا شك يومئذٍ هاوية، وما أدراك ما هيَ؟
اللهم يا ذا الرحمة والعدل، ويا مالك الميزان حين ينعدم الميزان، إليك وحدك نضرع، وبك وحدك نستجير … سبحانك.