ومن الهدم بناء
في قديم الزمان منذ ألف عام ونيِّف قال المتنبي:
والعجيب أن هذه المُضحِكات تزداد على الأيام ارتفاعًا، وتزداد دواعي البكاء فيها شدةً وشناعة.
ارتفع قوم بغير ضمير بعمائرهم … وسارعوا فباعوها حتى يتحمَّل غيرهم البلاء كلَّه متمثِّلًا في ما لهم أول الأمر، ثم مُتمثِّلًا في حياتهم جميعًا. وكان من الطبيعي أن تصرخ مصر، ويعلو منها الضجيج أنَّ بين أبنائها أقوامًا تُجرِّد إلى هذا الحدِّ من الإنسانية، بل وتجرِّد أيضًا من بُعد النظر؛ لأن أدوات البناء من أسمنت وحديد لا تقبل الرشوة، وتأبي أن تسكت على ما يرتكبون ولا بدَّ لها أن تعلن احتجاجها، ليس على الورق، وإنما هو انهيار وقضاء على أرواح وعلى مستقبل أقوام لا تفرق حين تقتل بين شخص وآخَر، وإنما هي تقتل الجميع في غير عقل ولا رحمة … ولماذا ترحم قوم أقبلوا على شراء هذه الشقق دون أن يتحقَّقوا من أن البناء قام فيها على أسس هندسية سليمة، ورخصت ببنائه الجهات المتخصِّصة في إعطاء الترخيصات … وحين يُعلن الأسمنت والحديد رفضه سيصبح المُلَّاك ومهندسوهم جميعًا مسئولين … وهكذا تخلى عنهم بُعد النظر أيضًا.
وحين أصبح انهيار العمارات ظاهرة … وحين أصبح لا يقتل مَن يقتل فقط من أفراد، وإنما تعدَّى ذلك إلى سُمعة مصر التي تحتاج إليها لتعيد الطمأنينة المُمزَّقة التي ورثتها عن أيام القهر … تصدَّت السلطات لهذه الظاهرة، وصدر القانون بهدم كلِّ بناءٍ قام بغير إذن.
وبدأت الجهات التنفيذية تُمارس في تطبيق القانون … فإذا بأقلام مصرية ويمسك بها آدميون من بني الإنسان تصيح بالذين يطبِّقون القانون أن ما يفعلونه ظلم وطغيان … وأن الهدم لا يستغرق إلا لحظات، في حين يحتاج البناء إلى سنوات … وقد نسوا أن الذي حدث ليس هدمًا وإنما هو بناء … هم يهدمون بضعة طوابق ويبنون هيبة دولة بأكملها.
ما هذا الهراء أيها الآدميون؟! أيبقى البناء حتى ولو أدَّى إلى قتل مَن فيه؟! أيبقى البناء لتنهار في كل يوم عمارة على ساكنيها وعلى سُمعة مصر وكرامتها؟!
أتبقى العمارات لتتحدَّى القانون وتجعل منه أضحوكة … إنَّ بلدًا لا يُحترم فيه القانون بلد جدير بأن يُمحى من الوجود … وإن شعبًا يعيش في بلد بلا قانون شعب مُشرَّد تائه يأكل الناسُ فيه بعضهم بعضًا، والشريعة بينهم السلاح والتقرُّب من ذوي السلطان، ويومذاك يصبح الفرد في هلع وفي حيرة مهلكة بلا حماية.
فالقانون وحده هو الحماية … وإن الإبقاء على العمارات التي ارتفعت بغير إذن قتل للقانون وقتل لهيبة الحق، وهيبة الدولة، وحين تصبح الدولة بلا هيبة تسقط الحياة جميعًا، ولا تستحق أن تُعاش.
إن الذي أقام هذه العمارات أقامها على باطل، فهي باطل، ولا بد أن يسحق الحقُّ والقانونُ كلَّ ما هو باطلٌ … وإن قومًا سكنوا هذه العمارات هم واحد من اثنين: إما جاهل لم يحاول أن يعرف كيف أُقيمَت هذه العمارات، وهكذا يصبح مُغفَّلًا والقانون لا يحمي المُغفَّل … وإما مُغامِر قامرَ بحياته وبماله راجيًا أن تُغضي الحكومة عنه عينًا إذا سكت عنه الأسمنت والحديد ولم ينهارا عليه وعلى أسرته، وعلى المغامر أن يقبل كلَّ ما ينتج عن مغامرته.
والدفاع عن هؤلاء من مُلَّاك إلى مشترين من مُلَّاك أو مستأجرين جريمة أضخم من جريمة المالك الغشَّاش السفَّاح؛ لأن الدفاع عنهم دفاعٌ عن تمزيق القوانين، وعن قتل الناس، وعن القضاء على سُمعة مصر وكرامة القانون وهيبة الدولة.
وهاتان عمارتان قد سقطتا في يوم واحد في الإسكندرية والقاهرة … وتزداد الكارثة في كل يوم هولًا واتساعًا … ونسمع — وويل لأرواح الناس مما نسمع — أن التنفيذ قد أوقف في بعض العمارات حتى تحكم المحكمة … تُرى هل الأسمنت والحديد عندهما خبر بالانتظار حتى تحكم المحاكم وهي التي تغص بالمتقاضين؟ وهيهات أن تفرغ قبل وقت لا يعلم أحد مداه إلا الله سبحانه في علياء سمائه.
وإذا كان الأسمنت والحديد قد بلغهما هذا الذي قيل فهل يستطيع أحد أن يسألهما إن كانا ينتويان الانتظار أم سينقضَّان على السكان بغير إذن من المحكمة أو من أي جهة أخرى؟
ولقد يتصور بعض الناس أن يجرم المجرمون القتلة من أجل مزيد من المال، وإن كان الذين يرتكبونه تمزيقًا لكل معاني الإنسانية.
ولكن كيف نتصوَّر أنْ يدافع عن هذا أصحاب أقلامٍ يريدون أن يقيموا من أنفسهم زعماء … علم الله أن زعامتهم لن تكون إلا وبالًا عليهم؛ لأنهم يتركون عملًا تقوم به الدولة إلا هاجموه في شراسة، حتى حين تحافظ الدولة على هيبتها وهيبة القانون في وقت معًا.
وليس مقبولًا أن يُقال إن أزمة المساكن اليوم تدعو إلى التهاون في تطبيق القانون؛ فنظرةٌ واحدة إلى هذه العمارات التي خالفَتْ تجعلنا ندرك فورًا أنها لغير الذين يعانون من أزمة السكن، وإنما هي للأثرياءِ الفاحشِ ثراؤهم، وأغلبهم يريد أن يحسِّن بها مسكنه أو يتاجر فيها … فأغلب هذه العمارات إن لم تكن جميعها من السكن الفاخر وليس فيها ما بُني ليواجه أزمة الشعب في المساكن … ومحاولة اللجوء إلى هذه الحجة رفعٌ لشعارات على الهواء تعوَّد هؤلاء الكُتَّاب أن يرفعوها كلما وجدوا إلى ذلك من سبيل.
حتى وإن كان هذا على حساب مصر … نعم وإن … حتى وإن كان على حساب القانون … نعم وإن … حتى وإن كان على حساب هيبة الدولة … نعم وإن!