لا بد للمد أن ينحسر
ماذا أصاب السينما المصرية؟ وأي شيطان هذا الذي سيطر على موضوعاتها ومؤلفيها ومخرجيها ومشاهديها في وقت معًا؟
كيف أصبحت المواخير والحانات في مصر هي تاريخ مصر؟
وكيف أصبح الداعرات والراقصات وبائعات الهوى والقوَّادون هم أعلام مصر الخفَّاقة وهم الساسة والأبطال وهم المجد والفخار؟
أيتصوَّر هؤلاء المؤلِّفون وأولئك المخرجون أن مصر ماخور كبير لا يمثِّله إلا هذه الحثالة التي تسحقها نعال مَن يتعاملون معها قبل أن تسحقها نعال الآخَرين.
إنني بما أشاهده اليوم من أفلام وما أراه من إعلانات سينمائية أعتبر أن الدعارة قد عادت إلى مصر عودة رسمية مظفرة، تحفُّ بها مواكب الطبل والزمر والدعاية والإعلان.
وقد كانت قبل أن تُلغى متخفية مستخزية، إذا ذكرَ أحدٌ أمرها ذكرَهُ همسًا في حياء.
ولكن الحياء سقط وأسفرت الدعارة عن وجهها المقيت في أفلام الكُتَّاب والمخرجين.
والعجيب في أمر هذه الأفلام أنها حين ترتئم المخطئات لا بد أن تجعل منهن ضحايا، وأنهن الطاهرات العفيفات البريئات التي أرغمهن الزمان على ممارسة المهنة الوبيلة، والأفلام بعد ذلك تدور كلها حول ظلم المجتمع لهاتيك الداعرات، وكأنهن ما ظلمن أنفسهن، ولا ارتكبن خطيئة، ولا اشتركن مع مَن اعتدى عليهن فيما صار إليه أمرهن.
والذي نعرفه أن الزنا لا يتم إلا بطرفين، والذي يعرفه الناس أن أحدًا لا يستطيع أن يصل إلى امرأة تأبى ذلك إلا أن يكون ذلك بحريتها الكاملة، وما شاهدتُ فيلمًا إلا وجدت التي يريدون أن يجعلوا منها ضحية كانت تستطيع ألا تكون ضحية في كل الظروف التي يفتعلونها افتعالًا، والتي يدبِّرها المؤلف في سذاجة بالغة التهافُت، وربما لا أستثني من ذلك إلا حالة التهديد والاغتصاب، وتلك حالات نادرة كل الندرة، والنادر لا يصلح أن يكون قاعدة إلا أن يتاجر به المنتجون والمؤلِّفون والمخرجون.
إنني أتصوَّر أن المنتجين والمُؤلِّفين والمخرجين الذين يقدِّمون هذه الأفلام قد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا تُجَّار خطيئة، وإذا كان تاجر الخطيئة يمارس تجارته مُتستِّرًا في همسٍ، فهم يمارسونها علانية يذيعون أنباء تجارتهم بكل وسائل الإعلان.
وإذا كان تاجر الخطيئة يمارس تجارته مع أفرادٍ فهم يمارسونها مع جماهير وشعوب.
وإذا كان تاجر الخطيئة ساقط الحياء وضيعًا فهم أشدُّ منه فُجرًا، وأنكأُ منه فحشًا، وأسقطُ حياءً، وأحطُّ وضاعة.
أيدري هؤلاء ماذا يصنعون بالفتيات وهم يعلنون عليهن ألا بأس عليك يا فتاة أن تخطئي، فإنك ستُعتبَرين حينئذٍ شهيدةً جارَ عليها الزمن، ولم تجُرْ هي على عِرضها وعِرض أبيها وأمها، وشرف إخوتها وأسرتها جميعًا. أيدري هؤلاء التجَّار ماذا يصنعون بتاريخ مصر وقد جعلوا معالمه الجغرافية المواخير والحانات وبيوت الدعارة، ومعالمه التاريخية الداعرات والقوَّادين والساقطين والفاشلين والمنحرفين والشذَّاذ والمهترئين من البشر؟
أيدري هؤلاء ماذا يصنعون بمصر اليوم وهم يقدِّمونها إلى العالم كله على هذه الصورة النتنة، وكأنها لم تلد من فتاة إلا الداعرة، ولا من رجل إلا القوَّاد والشاذ، فنحن إذَن لسنا أول دولة في العالم العربي تصبح فيه المرأة على هذا المستوى الرفيع السامق الذي نُشرِّف به أيَّ بلد في العالم نزوره.
إن المرأة عندنا شرف وعفة وملائكية وأمومة في بيتها، وهي في مجالات الأدب فخار ومجد، وفي ميادين العلوم رفعة واعتزاز لمصر جميعًا وللمصرين، بل للعرب، بل للإنسانية جمعاء.
ومصر في رجالها أعظم من أن نذكر فضلها، ولا سبيل أن نحيط بعظمتها وبغناها في رجالها. فإنَّ غِنى مصر الأول والحقيقي إنما هو بما تملكه من عظماء في كل ميدان، هي رائدة الثقافة العربية العلمية والأدبية والفنية على السواء.
وهي التي تصدِّر اليوم الكفاءات الشاهقة من علمائها إلى أعظم البلاد تحضُّرًا.
فلماذا يريدون أن يجعلوا مصر العالمية برجالها على هذه الصورة؟! أكلُّ هذا من أجل بضعة أموال يجمعونها؟! أوَليس هناك من سبيل آخَر لجمع هذه الأموال؟! أتراهم لو قدَّموا فنًّا لا دعارة فيه يخطئهم المال؟! أم هي نفوسهم وما ركبت عليه من حب الاتجار بالخطيئة؟! أم هانوا على أنفسهم وهانت عندهم كرامتهم فهم يصرخون على ملأ العالم أنهم تجَّار خطيئة ويفخرون بالخزي، ويعتزون بالذلة، ويباهون بالفجور؟!
إن هناك دولًا أوروبية ما زالت بها الدعارة رسمية، ونشاهد أفلامها، فإذَن هي رفيعة المستوى في موضوعها وفي فنها على السواء.
ومعروفٌ أن الفن هو كيف تقول، وإننا نرى أفلام هذه الدول إذا تعرضت لموضوع داعر فإن هذا يكون استثناءً نادرًا لا يكون سمة ولا يشكِّل موجة. ثم هم حين يفعلون يجعلون الداعر داعرًا، والشريف شريفًا، ولا يدافعون عن الخطيئة وكأنها هي سُنة الحياة.
فإذا كان هذا في بلادٍ ليس فيها ما في بلادنا من تقاليدَ شرقية، وتعاليمَ تقدِّس الحياة النقية والعرف ترى الشرف حياة والموت دون العِرض أسمى مراتب المجد. فكيف سوَّلَت لهؤلاء المنتجين والمؤلِّفين والمخرجين نفوسُهم أن يعصفوا في شراسة ضاربة بكل مقدَّساتنا وتقاليدنا وتعاليمنا وأعرافنا، إن أشدَّ الأقوام عداءً لمصر لا يستطيعون أن يُسيئوا إليها كما يسيء هؤلاء المصريون ببطاقاتهم … الشياطين الكافرون الفاسقون بحقيقتهم وانتمائهم.
وأنا لا أطالب الرقابة. فواضحٌ أنه لم تعُد هناك رقابة، فإن اسم أي فيلم من هذه الأسماء كان كفيلًا وحده بالرفض بادئ ذي بدء. وقد أحسن الوزير فعلًا حين منع فيلمَين، ولكن الأمر أفدح من مجرَّد فيلمَين. لقد أصبح الأمر ظاهرة، ولذلك فإني أطالب الجمهور أن يتيقَّظ لما يريد أن يصمه به هؤلاء الداعرون من إقبال على السقوط، وما يريدون أن يصموا به مصر من خزي.
ولكنني واثق أن كلَّ موجة إلى انحسار، وأن الجمهور إنْ أقبل على مثل هذا الهوان فترة فهو مرتدٌّ عنه من فوره. وفي البلاد التي يُسمَح فيها بالأفلام الداعرة أصبحت دُور السينما خالية من عرض هذه الأفلام، وانحسرت هناك الموجة؛ لأن الجمهور الذي أقبل سرعان ما أصابه القرف، وانصرف متعفِّفًا أن يرى الإنسان وهو ينقلب إلى حيوان.
فيا أيها المنتجون، ويا أيها المؤلِّفون، ويا أيها المخرجون، قريبًا ستعرفون إلى أيِّ مُنقلَب أنتم ساعون، ولن يُخلِف الله وعده.