لا بد لها من وقود
كريم هو الله، رءوف بعباده، شفوق بما رحمة منه، استطاع الإنسان عَبْر العصور وعلى مرِّ الدهور أن يتحمَّل آلامه، وأن يصبِّر نفسه على البلاء. تتداول عليه أيام النحس والسعود (والنحس من بعد سعود شر أنواع البلاء)، فإذا هو صابر صادق، وتصدق عليه الآيات الكريمات كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (سورة الدخان).
ويذهب هؤلاء إلى الجحيم أو يغفر لهم ربهم فيوفيهم جزاءهم، فإنه سبحانه هو العدل المطلق، ولهذا فاليأس من رحمة الله لا يدخل أبناءهم، ولا يمسهم قنوط، ويسعون في الحياة سعيهم، منهم مَن يتبع الطريق الأقوم، ومنهم مَن يحيد، وجميعهم على شوك الحياة صابر. لقد خلق الله هذا الإنسان من قوة لا تماثلها قوة، ومن ضعف لا يُدانيه ضعف. هو قوي حين تتصل أسبابه بالرحاب القدسي، وحين يتجه بروحه إلى الملكوت الأعلى فإنه حينئذ يصبح وقد عجزت مغريات الأرض جميعًا أن تلحق به … قد تترجَّح خطاه في أول الطريق، وقد تراوحه من متع الدنيا أقسام تتخلج لها نفسه بين إقدام وإحجام حتى إذا سيطر على نوازعه وتملك أمره وزجر الدنيا ازدجرت، وأصبح هو أقوى ما عرفت البشرية … إنه الإنسان الذي حمل الأمانة بيده أن يختار المتعة العاجلة، واللذة العابرة، والنساء، والمال، وكل ما يقدِّمه الشيطان من إغراء، أو يخوض في غير هذا ينظر إلى الآفاق العليا من السماء، وتصبح هذه الدنيا جميعًا بكل ما يحكمه الشيطان فيها هباءة لا قيمة لها، الإنسان سيدها وجبارها.
وهو هو نفسه عبد الله الخاضع له، أخبت إليه، وسجد مع الساجدين، وسبح باسمه واجدًا في عبوديته تسيُّده، وفي خضوعه جبروته، وفي إصابةِ كرامته عزته، وفي سجوده مجده وكبرياءه.
وذلك الإنسان بلغ ما بلغ بإيمان داخلي هو واحد من النَّجْدَين الذي هداه الله، وطريق من طريقين، وهو الطائر الذي في عنقه أن يختار حرًّا في اختياره بين لذة سريعة في الدنيا وبين متعة خالدة في الآخرة، ومتعة الدنيا حاضرة ماثلة يشهدها بكل حواسه يراها بعينَيه ويشمها ويسمعها ويلمسها، ومتعة الآخرة إيمان في النفس لا يزيد على مجرد شعور لم يرَه ولم يشمه ولم يسمعه ولم يلمسه، وإنما أدركه بقلبه. ثم أمعن فيه بعقله، وملأت كلمات الله أقطار الدنيا حوله حين يقول سبحانه عز من قائل: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، فإذا الإنسان المؤمن يصبح هذا العملاق السيد الجبار الخاضع.
هذا التسيد وهذه العبودية وذلك التجبُّر وذلك الخضوع هو مصدر سعادة لا يعرفها إلا مَن كان مثله. وبهذه السعادة يقطع الإنسان طريقه الوعر الخشن بين أنياب البشر الحادة وبين أضراس الدنيا الفاتكة، تغريه بكل فتنتها أو تذله بكل ظلمها، ويظل هو ذلك السيد العابد عازفًا عن فتنة الدنيا ومتكبِّرًا على إذلالها، فلا تملك إلا أن تنحسر عنه هي خاضعةً ذليلة.
يعمل فلا يعمل إلا فيما يشرف، ويسعى فلا يسعى إلا في النور.
والناس أغلبهم لا يحبون الشرف ولا يحبون النور.
فقد أوهنتهم الدنيا أن يقاوموها، وأذلَّهم سلطانها أن يخضعوها.
هؤلاء المساكين من الناس هم الفئة الغالبة، ضعاف، لا لأنهم لم يتسيدوا الدنيا ويتغلبوا على أنفسهم، فإن هذا أمر شاقٌّ عسير لا يطيقه إلا مَن كان عاتي القوة فذًّا عملاقًا.
أما هم فمساكين؛ لأنهم حينما يلقون بأنفسهم إلى أضراس الدنيا تظل تمخضهم بين نحس وسعود، وبين مرتفع وحضيض، وتمضغهم فتفقد نفوسهم احترامها لأنفسهم، ويصبحون دون أن يشعروا في دفاع الهول الوبيل، وأي هول يلقاه إنسان شر من احتقاره لنفسه وبغضه لها واستصغاره لشأنها. هذا الإنسان الحقير هو شر عدو للإنسان الذي تمكن من الدنيا، وحرمها من أن تتمكن منه.
وقد يكون الإنسان الضعيف مالكًا لمال لا يحصيه عددًا، ولسلطان ليس له أمد، وقد يكون الإنسان القوي مقترًا عليه في الرزق، وليس له من السلطان نصيب. ولكن وبعزة الله وقدرته يصبح الغني الباذخُ الغِنى أمام هذا الفقير حشرة أو أقل شأنًا. ويصبح ذو السلطان الشاهق العريض أمام مَن اختار سلطان الله متسوِّلًا يستجدي منه قبسة هيِّنة مما يسعد به من راحة ضمير، وهدوء خاطر واطمئنان حياة وثقة بالنفس، ولا يستمدها إلا من ذلك الإيمان وتلك الثقة بالله الواحد القهار.
وتصبح الدنيا عند ذي المال والسلطان هي حياته الواحدة، فهو يعلم أنه لو فقدها فالجحيم مثواه في الناحية الأخرى، فهو أحرص ما يكون على هذه الدنيا، والدنيا لا تذل أحدًا قَدْر ما تذل حريصًا عليها، فقد يزول ماله ويدمر عليه سلطانه وتصدق عليه الآيات الكريمة من سورة «الدخان»، ولكنه يظل متشبِّثًا بالحياة وإن كان فيها يتسول المطعم، أو كان فيها ذليلًا عبدًا للبشر، ولما يلقونه إليه من فتات، ويحاول أن ينسى ولا يستطيع أن ينسى قوله سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (سورة الانشقاق)، فهو يخشى هذا اللقاء، فهو لم يعُد له في حياته شيئًا … كان في فم الدنيا الجائعة، أكلَتْه، وكان يُخيَّل إليه أنه يأكلها، وامتصته وكان يتوهم أنه امتصها، حتى إذا أفاق إلى نفسه استبانت له الحقيقة، لم يبقَ منه إلا ما يصلح للحريق.
مسكين هذا الإنسان؛ حمل الأمانة وما كان كفئًا لها، والذي خلقه يعلم ضعفه، بل لا يعلمه إلا هو، وهو سبحانه يمهِّد بالغفران طريق الخاطئين، ويغرس بالرحمة سبيل الضائعين، ولا يرفض في رحاب رضوانه إلا المشركين الذين يجادلون فيه عن جهالة، ويصدون عن وحدانيته بإلحادهم وعن ملكوته بكفرهم، أولئك هم التائهون حقًّا، وأولئك هم وقودها … وأنه لا بد لها من وقود.