أغريب أنا إذَن
مصري أنا بكل نسمة هواء أنشقها، مصري أنا بكل لحظة من لحظات حياتي، مصري أنا وهي رغد وسعادة وهناء، ومصري أنا وهي مهزومة، ومصري أنا وهي منتصرة، ومصري أنا وهي تفدي الإسلام والعروبة بدمائها الذكية وبحر مالها، ومصري أنا وهي سلام، ومصري أنا وهي محتلة بالإمبراطورية أو محتلة بحالة البشرية وشراذم الدول ومطاريدها، ومصري أنا وهي تسترد أرضها جميعًا، ومصري أنا وهي مكبَّلة، ومصري أنا وهي حرة عزيزة كريمة، على ترابها لعبت، دمي كل نقطة فيه مصرية خالصة.
تعلَّمتُ في مدارسها، وعرفت قريتها من أبعد أعماق قريتها، وعرفت الشارع والحارة والعطفة والزقاق، ليس في مدنها مدينة لم أزُرها، زيارة عابرة أو زيارة متأنية. لم أغرب عن مصر في حياتي أكثر من شهر، فلغتي لغتها وتصرُّفي تصرُّف الخُلَّص من أبنائها، وإشارتي مطبوعة على جوار من إشارات أبنائها، لا أتصور أن إنسانًا ما يمكن أن يكون مصريًّا أكثر مما أنا مصري، لم أشعر في حياتي بغير نبضها، وما يعنيني في العالم مجد إلا مجدها.
أنا بعض من أنفاس الليل والنهار بين ربوعها، أنا ذرة من ترابها، أنا نقطة من نيلها، أنا ورقة من أشجارها، أنا نبتة من حقولها، أنا صدى الأذان في سمائها. فماذا حلَّ بي في هذه الأيام؟! لقد أصبحت — وأنا ذلك الرجل — أحس أني غريب في مصري هذه التي أنا منها نفحة، وهي مني كل أمي وكل أبي وكل زوجي وكل ابني وكل بنتي وكل بيتي، ولكني غريب فيها هذه الأيام. أترى هي غربة عن مصر أم غربة عن الزمن؟! أنا غريب … فعن أي المصدرين غربتي؟ أهي غربة عن بلدي أم غربة عن زمني؟ لكَمْ تمنيت أن تكون غربة عن الزمن، إذَن فيشكرني في غربتي كل أبناء جيلي في شتى أنحاء العالم. ولكن كم أنا أسيف حزين.
أنا غريب عن مصر هذه، ولست غريبًا عن الزمان، أنا أقدر وأقبل ولا أعجب لمجرى الحياة في شتى دول ومختلف أمصار، أنا عنها غريب بدمي وبمولدي وبنشأتي. ولكن ما يجري في مصر اليوم جعلني أحس في كثير من لحظات يومي أنني غريب، فأنا بين واحدة من اثنتين كلتاهما أشد مرارة من الأخرى؛ إما أن هذه ليست مصري التي ولدتني، وإما أنني أنا لم أعُد أنا الذي عهدت نفسي، أجلس أمام التليفزيون وأسمع كلامًا يقولون عنه شعرًا. وأنا رجل صناعتي في الأدب والشعر أعرفه منذ نطقت الكلام وحفظته ورويته وصنعته، ليس ما أسمع شعرًا ولا هو نثر. وكنت قد تعلمت في مدارس مصر أن الأدب هو البيان، والبيان أهم ما فيه هو الوضوح، لا بيان فيما أسمع ولا وضوح، إنه كلام لا أعرف كيف ركَّب صاحبه ألفاظه ليجعل منها جُملًا غير مفيدة، هل ما أشاهد وأسمع جملة مُركَّبة أو جريمة تُرتكب؟! ولكن التليفزيون المصري الذي يحمل لواء الدولة … الدولة المصرية يذيع هذا الكلام … فأنا إذَن غريب عن مصر، وأقرأ أخبار الناس، فأجد النبالة قد رحلت عنا، وأجد الطهارة أصبحت استثناء، وأصبحت السرقة وخيانة الأمانة والاختلاس والاعتداء على أموال الشعب هو الأصل … ليست هذه مصر!
لا شك أن لكل زمن لصوصه وناهبيه، ولكنهم كانوا هم الاستثناء، وكان الأصل هو الأمانة، فكيف انقلب الأمر كل هذا الانقلاب؟ كان الأمين على خزانة إذا مس منها حوكم، سواء أعاد ما اختلس أو لم يُعِده؛ لأن الجريمة تتم بمجرد تحويله المال الذي كان لديه أمانة إلى مال خاص له، ولأنني أعلم اليوم أن الجريمة تسقط إذا هو أعاد المال الذي اختلسه إلى الخزانة، والكارثة أن هذا يحدث بحكم مجرى العمل اليومي، وليس بحكم القانون الذي لم أكن أتصوَّر أن يحطمه في يوم من الأيام مجرى العمل اليومي؛ فأنا إذَن غريب عن مصر.
اقتصاد مصر يُدمر وتُنصب عليه الأيدي العابثة من كل جانب، والعمال لا يعملون، والإنتاج يتضاءل، والتبجُّح يتسيَّد، ولا عقوبة لمسيء، ولا مثوبة لمتقن. ويختلط الكسول الجامد الحس الوقح بالنشيط ذي الحياء، ويصبح كلاهما سواءً في المنح والعلاوات والترقيات؛ فأنا إذَن غريب عن مصر. المتعلِّمون أشد جهلًا من الأميين، والمنارة الكبرى من الأزهر الشريف أصبحت جامعة، مثل كل جامعات العالم، وهي التي كانت منفردة لا مثيل لها في العالم أو في التاريخ، ومن كرسيها الموصول بالعامود صنعت كرسيها الجامعات جميعًا، وتصدع حصن اللغة العربية وهدمت حصونها، وأصبحت لغة القرآن غريبة مثلي في بلد الأزهر الشريف وأحد الجامعات وعلمها الفرد، وأسمع في التليفزيون والإذاعة لغة غير التي أعرفها، لا هي العربية التي تعلمناها، ولا هي العامية التي نشأنا نسمعها، وإنما هي شيء آخَر حقير لا لون له ولا دلالة ولا مفهوم؛ فأنا إذَن غريب عن مصر. وأرى الأفلام … وويل لمصر من أفلامها: دعارة وخدر وسكر وانحدار، كل هذا بغير القصة التي تعودنا قراءتها ومشاهدتها على شاشات السينما، مصرية كانت الأفلام أو أجنبية، وأسمع أرقام الإيرادات وأجور الممثلين فأصيح وأصيح؛ فأنا إذَن غريب عن مصر. وأبحث عن مسارح الدولة فيقولون: إن الممثلين الكبار نزحوا إلى حيث المال الوفير في السينما والتليفزيون، وأسأل: وهل بدأ هؤلاء الممثلون كبارًا أم كانوا شبابًا شداة صنعوا مستقبلهم على خشبة المسرح، ثم انتقلوا إلى سماء النجوم وحضيض المال؟ فلماذا لا يعمل المسرح بالشباب الجديد المتخرِّج في المعاهد الفنية، والنصوص المصرية موجودة في تاريخ المسرح المصري وفي حديثه والنصوص العالمية لا تمتنع على أحد، يستطيعون أن يعرضوها مترجمة أو مُمصَّرة. لا أجد الجواب. وقد نشأتُ منذ أنا طفل لا يكاد يعي، أجد في مصر مسارح عددًا؛ فأنا إذَن غريب عن مصر، وأرى مسلسلات التليفزيون، أشاهد منها ما يُمثَّل في الريف، فأجد ريفًا غير الذي عُجِنَت في جنباته كل جارحة من جوارحي.
إنه ريف لا أعرفه ولا يعرفني … لا هو إلى الدلتا ينتسب، ولا هو إلى صلة بالصعيد يمتُّ، ريف يصنعه المؤلف وفق هواه ويحسب أنه إذا أقلب القاف جيمًا على لسان الممثِّل فقد صنع الريف، وإذا كانت الرواية في القاهرة فالهول الأخذ والزيف المشين، وكلنا يعرف القاهرة وما في بيوت القاهرة، إنها قاهرة أخرى غير تلك التي يرزؤنا بها المؤلفون في التليفزيون. فإذا تغاضينا عن التضليل في رسم مصر من ريفها إلى حضرها، وحاولنا أن نبحث عن لمحة من فن أو ومضة أصالة من الدراما، فسعْيُنا خائب، وبحثنا هباء، وقد رأينا أفلامًا مصرية غاية في الروعة، ورأينا مسرحًا مصريًّا غاية في الرفعة، والأصل في الفن أن يزداد على الأيام أصالة وشموخًا وتفرُّدًا. والأصل في الفنانين أن يزيدوا البناء الذي تركه لهم السابقون سموقًا وعلوًّا. ولكن للأسف هدموا البناء القديم وما أقاموا مكانه شيئًا. وما هكذا مصر … فأنا إذَن غريب. وأخرى لا تقل هولًا عما يحيط بنا أن عضو النيابة هو وكيل النائب العام، هو الرجل الذي أنابه الشعب ليحرك له الدعوى العمومية ضد كل مَن يعتدي على حق من حقوق أفراد الشعب، وهو من باب أولى المنوط به تحريك هذه الدعوى إذا اعتدى شخص ما على قيم هذا الشعب وتراثه وثقافته، فكيف إذَن يقيم وكيل من وكلاء النائب العام الدعوى على التراث الأدبي وهو جزء من تاريخ هذا الشعب؟!
إن وكلاء النائب العام محتم عليهم أن يعرفوا ما هو التراث الأدبي، ومحتم عليهم أن يكونوا على وعي بجانب كبير منه. ترى هل فكرت النيابة العامة في هذا التراث وفي عدد الأجيال الضخم الذي صاحب فيه هذا التراث الشعب المصري؟ ألم يفكِّر لحظة لماذا لم يقُم واحد من زملائه السابقين على مدى مئات السنين بتحريك الدعوى العمومية طوال هذه السنوات، أم يريد هو اليوم أن يصحِّح خطأً وقعت فيه أجيال النيابة المتعاقبة على مدى التاريخ، أم تراه يبتدع في وظيفة النيابة العمومية بدعة جديدة، فيصبح وكيل النائب العام الذي هو وكيل الشعب سلاحًا على الشعب بدلًا من أن يقوم بوظيفته الأصلية فيكون سلاحًا لصالح الشعب؟ أنا لا أدري!
فأنا إذَن غريب عن مصر. وأخرى أدهى من كل ذلك وأمَرُّ، أرى الشيوعيين قد طفوا على سطح الإعلام المصري في شتى نواحيه ومجالاته، وأوشكوا أن يصبغوا مصر المؤمنة الأصيلة بلون الدم! وقد عاشت مصر حياتها جميعًا وهي مصر الأزهر، حتى بعد أن أصبح الأزهر جامعة، وعاشت مصر من مشرق التاريخ دار الحضارة لا العدوان، والحب لا القهر، والإخاء لا التمزق. وإن تكن فترات قد مرَّت بها نضبَ فيها الحب وتسيَّد العدوان، فقليلًا ما كانت تمكث هذه الأوقات. وأنا من أكثر الناس علمًا أن الرئيس حسني مبارك رجل مؤمن عميق الإيمان، الديمقراطية مذهبه، الإسلام دينه، والحب ديدنه، والشرف رايته. إذَن فما هذا الذي يحدث في الإعلام المصري؟ أنا إذَن غريب عن مصر … وأستطيع أن أمضي في الحديث فلا أقف، ولكنني أحس خنجرًا يغوص في قلبي مع كل كلمة يخطها قلمي، فحسبي — وفوق الحسب — ما انغرس في فؤادي من خناجر … والله وحده هو الموئل، وما خاب!