جاهلية جديدة
حين جاء الإسلام كان المجتمع العالمي كله يقوم الأساس فيه على القوة المادية الباطشة، فالسيد هو مَن يملك السلاح والمال والعبيد، وكانت هذه الأعمدة للسيادة واضحة كل الوضوح في المجتمع القبلي الكائن في جزيرة العرب، فالبطش بالإنسان هو المظهر الأول للسيادة، وكثرة العبيد والمال هي المعالم التي ترفع الإنسان بين قومه، والانحلال الخلقي وانعدام القيم وفوضى الأمور هي السمات الأساسية التي تقوم عليها شئون الجماعة، وعبادة الفرد هي العبادة. وما كانت الأصنام حبيبة إليهم إلا لأنها كانت تنأى بالإنسان عن التفكير، وتجعل المجتمع يقبل ما يرزح فيه من تعبُّد للأفراد. فما كانت الأصنام إلا أقنعة لهؤلاء السادة حتى يعبد الناس الأصنام في ظاهر الأمر، بينما هم في الحقيقة يعبدون السادة الذين يحمون هذه الأصنام ويدافعون عنها بأرواحهم.
والشعر الجاهلي مليء بالأمثلة التي تؤيد هذا المذهب الذي يؤكد أن الفرد الغاشم كان هو الحاكم المطلق؛ السيد الذي لا يُرَد له أمر، واسمع معي عمرو بن كلثوم في معلقته:
وهذا المعنى تكرَّر في كل الشعر الجاهلي الذي نظمه شعراؤهم في الفخر.
وتلك عجيبة من العجائب. فما الذي يجعل الجبابر يسجدون للرضيع الذي لم يصنع بيدَيه شرفًا ولا قدَّم لمجتمعه فضلًا، إلا أن يكون الجبابر خائفين من قومه ذوي البطش والجبروت … وربما قيل إن هذا الشعر كان تفاخرًا كاذبًا، ولا يدل على واقع الأمر. وهذا القول حق ولكن يظل هذا الشعر مع ذلك يمثِّل ما يهفو إليه أبناء المجتمع الذين ينطق الشعراء بلسانهم من جعل الناس، وعلى رأسهم الجبابر، ساجدين لقومهم مرتعدين منهم خائفين مرعوبين من سطوهم.
وكان من مظاهر السطوة كثرة المال، وما كان المجتمع يعني في قليل أو كثير من أين يحصل صاحب المال على ماله، وهكذا كان السادة يشترون الإماء ويجعلون منهم تجارة، ويبيعون المتعة لمَن يشتريها، ممارسين بذلك أحقر ما يمارسه إنسان في مفاهيم الفترة التي أعقبت ظهور الإسلام، وكان الأثرياء السادة لا يرون أيَّ بأس أن يكونوا قطَّاع طريق يسرقون المال بالقوة ممَّن لا قوة له ولا حول، ويعود قاطع الطريق بعد أن يرتكب جريمته ليصبح بكل وقاحة سيدًا في قومه، يخرُّ له الجبابرة ساجدين. وكانت المرأة متاعًا لا أكثر، حتى أننا نجد الدكتور هيكل في مقدمة كتابه الخالد «حياة محمد» يقول: إن المرأة في عصر من عصور الجاهلية لم تكن زوجة لفرد، وإنما كانت زوجة للقبيلة كلها، وما كان على الذي يريد أن ينفرد بها إلا أن يغرس عصاه خارج خيمتها فيعرف أفراد القبيلة أنَّ واحدًا منهم في خلوة معها، ويرتد عن الخيمة بما فيها، ولا أقول مَن فيها؛ فقد كان الذين بداخلها في تقديرنا نحن حيوانات، وما كانوا آدميين.
وتتم الخيانة إذا خلا بالمرأة واحد من غير أفراد القبيلة. ويقول الدكتور هيكل إنه حدث مرة أن اجتمعت القبيلة جميعًا أمام خيمة امرأة لها، فلم يجدوا أحدًا منهم غائبًا، فاقتحموا الخيمة، واكتشفوا أن امرأتهم تخونهم، فقتلوها هي ومَن معها، وهكذا كان المجتمع متحلِّلًا منهارًا أبشع ما يكون التحلُّل والانهيار، وظهر الدين الجديد يصيح «لا إله إلا الله … الله أكبر». إذَن، فالأفراد ليسوا آلهة، وإذَن لن يعبد الناس أفرادًا من الناس، وإذَن لا سادة هناك ولا عبيد، وإذَن سيستلب الدين الجديد كل مظاهر السيادة التي يرتع في نعمائها السادة الذين يتاجرون في المتعة، والذين يغتصبون أموال الناس وكراماتهم إفكًا وبهتانًا وعنوة بلا حق لهم، فقد كان الحق غريبًا في دنياهم، يكاد لا يجد له مأوى إلا عند قلة نادرة هي التي سارعت إلى الإسلام أول مَن سارع، وإذَن فلا تجارة في أجساد البشر، ولا كسب من بيع المتعة، وإذَن فلا اعتداء على أموال الناس، ولا عدوان على كرامتهم ولا على مقدراتهم. ويوغل الإسلام في تحطيم سلطانهم، فيسوِّي بين الرجل والمرأة في الحقوق، ويجعل الذمة المالية للمرأة منفصلة عن الذمة المالية للرجل، ويحدد حقوقها في تفصيل لم تعهده البشرية من قبل. إذَن، فالعتاة المستكبرون لن يستطيعوا حتى أن يمسوا أموال زوجاتهم. ما هذا الدين؟! ومن أين جاءهم ليقضي على كل ما يَلِغون فيه من دماء البشر؟!
ويزداد الدين وضوحًا وتتوالى آياته أنَّ فَضْل الإنسان على الإنسان لا يكون إلا بتقوى الله والإخلاص في عبادته وحده لا شريك له، والتصدُّر في عبادته وحده لا شريك له، والتصدُّر في المجتمع يكون بالعطاء لا بالأخذ أو النهب، والعطاء لا يكون بالمال فحسب، وإنما بالنفس وبالمعاملة وبالتحية. ويقول عمر بن الخطاب — رضي الله عنه وأرضاه — لوالٍ له، هو أبو موسى الأشعري: «أسِّ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك». ويرنُّ هذا الخطاب في سَمْع الأجيال حتى يصبح في زماننا الأخير واحدًا من أسس القوانين العالمية، وما له لا يكون وقد حرص فيه أمير المؤمنين أن يحاسب القاضي أو الوالي نفسه في تامة وجهه، وفي الجهة التي يتسمتها هذا الوجه، فلا يقبل على شخص ويُعرض عن آخَر؟! يا لهوان المجتمع الجاهلي إذَن! ويا لضيعته! إن الإسلام قد قلب كلَّ الموازين، وسحق كلَّ العرف الذي كان سائدًا، كما قلب الأصنام وسحقها. إن هذا الدين صنع ذلك جميعه في فترةٍ من أقسى فترات التاريخ على الإنسان، سواء كان هذا الإنسان في الجزيرة يحيا، أم كان يعيش في مكان من أطراف المعمورة، بل لعلَّ الأمر كان أشد وأنكى في فارسَ وبلاد الروم، وهما الإمبراطوريتان اللتان كانتا على قمة عالم ذلك الزمان، ولذلك لم يكن عجيبًا أن ينهار سلطانهما أمام مبادئ الإسلام البالغة السموق.
ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟! أما الإسلام فقد اشتد عوده، وأصبح يكتسب مع مرور الزمان قوة وعنفوانًا، ويتجدَّد جديدُه بالانتشار وبمقارنته بجميع النظم الأخرى التي تحكم المجتمعات، ولكن … ويا لهول لكن! هنا عاد كثير من المسلمين إلى الجاهلية الأولى، وعاد الاتجار بالمتعة يتسيَّد مجتمعات كثيرة، وأوشك تاجر المتعة أن يُعلن عن بضاعته في وسائل الإعلام الحديثة التي تنطلق الكلمة فيها، فإذا هي تتردَّد في أسماع العالم أجمع، وسقط الحياء عن هؤلاء التجار، ويوشك بعضهم أن يُباهي بتجارته.
وعاد المال إلى التحكُّم في المجتمعات الإسلامية، فهو السيد الذي لا سيد غيره، وأصبح القوي هو الذي يأخذ لا الذي يعطي، وأصبح الرفيع المقام هو الذي ينهب، لا الذي يعدل.
وتفجَّرَت الذرَّة، فإذا السلاح هو أداة المال في التحكُّم وفي وضع الأمم في منازلها التي يختارها لها المال بمعونة من السلاح، وحاربت الدولة المسلمة الدولة المسلمة، وفشا في الدول العربية سرطان حاكم لا يسمع عن حرب إلا زج بنفسه فيها، يعيِّن من يحلو له أن يعيِّنه، بلا فكر أو تدبُّر أو نظر إلى صوالح دولته أو جماهيريته، كما شاء أن يسمِّيها في جنونٍ أخرقَ مُضحكٍ مُبكٍ في آنٍ معًا.
وانقسمت جماعات الفدائيين على بعضها البعض، وحارب الأخ أخاه، وكلاهما نبتُ قضيةٍ واحدة، وهبَ حياته لها، ثم عدل عن ذلك، وسفح دماء نفسه من أجل وهم، وبلا مبدأ جلي، ولا سبب فيه لمحة من منطق.
لقد عاد مسلمون كثيرون إلى جاهلية أخرى جديدة هي أسوأ من الجاهلية القديمة، وأعظم رزءًا من كلِّ ما واجهته المجتمعات الإسلامية على مرِّ العصور.
ولكن الإسلام أقوى، وهو قادر أن يردَّ الغاوين إلى رشادٍ، والصابئين إلى مستقيم الصراط، والله غالب على أمره إلى أبد الآبدين.