الثور المذءوب!
سعار أصابَ الرجل منذ البواكير الأولى من حياته، أنفق عمره يتعلم لغات غير لغته العربية، وله من الوقاحة ما يحاول به أن يكون أديبًا في اللغة العربية، وانتهت حياته أو أوشكت، ولكن المسكين فشل أن يكون بين قومه أديبًا، وفشل أن يكون في اللغات التي تعلمها وأتقنها شيئًا مذكورًا أو غير مذكور.
إنه ثور أصابه سعار الذئاب المفترسة، يُريد أن يحطِّم الحياة من حوله، ولكن لأنه ضئيل القَدْر، هيِّن الشأن، حقير النفس، وضيع الفكر، لم يحطِّم إلا نفسه.
همَّ أولَ ما همَّ باللغة والتراث العربي، وراح يحارب كلَّ ما هو أصيل في أدبنا وتراثنا، ونظره الكليل المنحرف مُصوَّب على أن اللغة العربية هي لغة القرآن، وهو يظنُّ بما ركبت عليه نفسه من اجتماع الثور والذئب أنه يستطيع أن يحطِّم اللغة ليبعد الناس عن القرآن وعن الدين، واستقبله فيما تكالب عليه الفشل الوبيل، وأحسَّ الناس بما في هجمته من سعار، فرفعوا المصاحف على الرءوس، وألجموه بما لا يُطيق، وانهالوا عليه رجمًا، فإذا الثور فيه والذئب جميعًا يتمخضان عن كلب أجرب يضع ذيله بين فخذَيه الخلفيتَين، ويسارع في تلصُّص المجرمين يعدو باحثًا عن مخبأ أمين يلعق فيه جربه وجراحه، ويصمت حتى يهدأ ما ثار من الناس، وحتى ينثني عنه الراجمون، وينساه الذين يقولون: لا إله إلا الله محمد سيد الخلق رسول الله.
فإذا هدأ الضجيج عاد الميدان مرة أخرى يحاول في غباء الثور وفي سعار الذئب أن يبحث عن قنصٍ آخَر بعد أن عزَّه أن يهاجم لغة القرآن، ورأى بِشَائه بصره ومريض بصريته أن يهاجم مَن يجلُّه المسلمون من عمالقة العلماء وأشراف الفقهاء، وراح يرمي عليهم سخائمه، ويختلق عنهم تهمًا لم يسمع أحد أنها يمكن أن ترقى إلى أعتابهم، ولكن ذنبهم الوحيد أن العرب المسلمين يذكرون أسماءهم في إجلال وإكبار وتقديس … وذنبهم الأكبر عنده أن كل الفقهاء الذين جاءوا بعدهم تتلمذوا عليهم أو على تلامذتهم، بل إن أعلام الوطنية والإخلاص القومي بأفكارهم إلى تعاليمهم، وهذه ذنوب عند الثور المذءوب لا غفران لها. فماذا عليه لو أنه صدم فيهم مشاعر الجماعة، وحاول أن يُزيل هذه الهالة عن أفذاذ لم يذكرهم التاريخ إلا بما يشرف الرجال ويرفع صيتهم على أحقاب الزمان.
ومرة أخرى تداولته الحجارة، وانهال عليه المسلمون والعرب والوطنيون بسهام الحق يردونه عن قوم يكنون لهم الاحترام والتوقير، ويلعنونه.
ويحاول الثور المذءوب أن يلجأ إلى حرية الرأي، وإلى أن كلَّ إنسان ينبغي أن يتمكَّن من إبداء رأيه مهما يكُن شأن هذا الرأي، وهو قول حق، ولكنه يستر عند هذا الرجل بالذات باطلًا فادحًا. فأولئك الذين يجرح مشاعرهم بهذه الوحشية، ويسبُّ لهم أعلام دينهم، لا يستطيعون أن يمنحوا أنفسهم الحرية في مهاجمة ما يقدِّسه هو وأمثاله من الذين يحاولون أن يحطِّموا المساجد وأشياخها على رءوس مرتاديها ومريديهم؛ لأن ديننا ينهانا أن نثير الفتن بين الناس، والفتنة عندنا أشد من القتل، بينما هي عند الثور المذءوب هدف حياة ونشيدة عمر، وهب نفسه لها لا يريم عنها ولا ينثني.
وبلغت به الوقاحة أن هاجم القرآن نفسه، وحاول أن يرد آياته إلى عصور سابقة عليه، وحاول أن يفسرها، وهو أبعد ما يكون عن دراسة أعماقها أو لغتها أو مفاهيمها أو أسباب نزولها.
والحرية هي كرامة الإنسان، ولكن مَن قال إن الحرية هي تحطيم الأديان وامتهان كرامة الجماعة، والاعتداء على مقدسات الشعوب وما آمنوا به؟!
فصلة الإنسان بربه صلة لا يعلمها إلا الإنسان نفسه وعالم الغيب والشهادة، والاعتداء على هذا الحرم تحطيم للحرية نفسها إلا أن تكون الفتنة هي بغية المعتدي، والوقيعة بين الأديان هي هدفه الذي يتغيَّاه ويرصد حياته لبلوغه، ومرة أخرى يفر الثور المذءوب كلبًا أجرب يلوي ذيله بين فخدَيه، ويتلمَّس مَخْبأً يرد عنه عاديات الهجوم.
ولكن هل من ينتهي … هيهات … إذا كان قد خاب فألُه، وحبط مسعاه مع الدين وجهًا لوجه، ومع فقهاء الدين بالإعلان، فما له لا يحاول أن يهاجم شعراء العربية وكتَّابها أجمعين، ويجعل من ذكراهم عفنًا، وحينئذٍ يقول: هذا رأيي، وما عليَّ من بأس أن أرفض كلَّ هذا الشعر وكلَّ الأدب، وهذا حقه لا شك في ذلك، ولكن كشأنه يستر به باطلًا حقيرًا.
فإن الناقض حين يرفض شاعرًا عملاقًا أو كاتبًا شامخًا يتعيَّن عليه أن يذكر عيوب هذا الشاعر أو ذلك الكاتب، وما الذي يدعوه إلى رفضه، ولماذا هو أكذوبة في أدبنا وإلا كان الرفض وليد أغراض أخرى، وخبيئات نفس مريضة ترمي برفض الشاعر أو الكاتب إلى رفض اللغة التي أكبرها هذا الشاعر أو ذلك الكاتب فأكبرته، والذي أكرمته ورفعها فرفعته.
إن الأفذاذ من شعراء الأمة وكتَّابها هم تاريخ أدبها، وهم الرايات الخفَّاقة التي تسافر عَبْر الأجيال، تحمل الخلود لبلادهم على مرِّ العصور، وتحمل أجيالهم على أعناق الزمن إلى سائر الأجيال.
وقد كان تشرشل الزعيم الإنجليزي على وعي عظيم بشأن الشعراء حين قال: لو لم يكن لبريطانيا فضل إلا أنها ولدت شكسبير لكان حسبها.
وما زال الفرنسيون يَتِيهون فخرًا بكورني وراسين وهيجو وبودلير، وبكتابها من أمثال: بلزاك ودوديه وأناتول فرانس وغيرهم، وما زالت ألمانيا ترفع علم جيته وزفايج وعظماء شعرائها خفَّاقًا على كل الأجيال، وكذلك تفعل كل الدول.
فما بال هذا الثور المذءوب يريد أن يُنكِّس أعلام العمالقة من شعرائنا وكتَّابنا، ويرفض أي شاعر أو كاتب لم يشهد هو ميلاده، ولم يعلن هو شاعريته، ويمنحه هو صك الوجود، إلا أن يكون متشبِّثًا بتحطيم لغتنا في وهمٍ منه كبير أنه يستطيع أن يُحطِّم بها ديننا وقرآننا؟! ولكن ربنا قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وهو طبعًا لا يُؤمن بما قال ربنا. ولكن ألا يؤمن بما تم فعلًا وبما يرى من أن القرآن بقي ألفًا وأربعمائة سنة ونيِّفًا لم يتغيَّر منه حرف واحد، ولكن على قلوبٍ أقفالها، وعلى البصائر منه مغاليقها. فليمكر ما شاء له المكر، فإنا — نحن المؤمنين — نعلم كلَّ العلم أن الله خير الماكرين.