أعزك الله يا عزة
جاء في الأخبار تحت عنوان «طفلة تنقذ ثلاثين مواطنًا من الموت» الخبر التالي أسوقه كما ورد: «كتب — محمد رجب: أنقذت طفلة في الثامنة من عمرها ثلاثين مواطنًا ومواطنة من الموت … دخلت الطفلة عزة محفوظ مكتب العقيد أمين بهجت، مأمور قسم الجيزة، وأبلغته بأن المنزل المجاور لمنزلها خلف مبنى القسم على وشك الانهيار، وأنها سمعت والدها ووالدتها يتحدثان عن سماع أصوات غريبة تنبعث من جدرانه التي تهتز، وقالت إن والديها قرَّرا عدم إبلاغ الشرطة خوفًا من سكان المنزل … انتقل المأمور والضابط للمكان، وحينما تأكَّدا من صدق الطفلة … قرَّرا إخلاء المنزل فورًا من سكانه … وبعد دقائق من الإخلاء انهار المنزل وبدأ التحقيق.
كانت الطفلة ترتجف وهي تدخل من باب القسم … لاحظَ المأمور أن نظراتها يملؤها الفزع … اتجه إليها … سألها عمَّا تبحث … قالت له إن صديقتها الطفلة تسكن بهذا المنزل الذي سمعت من والدتها أنه سينهار بين لحظة وأخرى، وأنها تخشى على صديقتها من الموت، وتخشى أن يعلم والداها بحضورها للقسم … تردَّدَ المأمور في تصديق الطفلة، وأمام إلحاحها وبكائها المستمر اصطحبها ومعه المقدمان ماجد الباز وعمر الفرماوي رئيس المباحث … وتبين أن المنزل متصدِّع الجدران ومائل قليلًا، فقرَّروا إخلاءه فورًا … وبعد دقائق انهار المنزل، وتبيَّنَ من المعاينة المبدئية أن أسقُف المنزل من خشب النخيل.»
وإلى هنا ينتهي الخبر تقريبًا … وأنتِ يا عزة لا تدرين أية سعادة غامرة أدخلتِها إلى قلوبنا، فقد رأيتُ فيكِ أملًا من بعد يأس قاتم خيَّم على حياتنا … فأنتِ يا بنية استطعتِ بعملك الذي صنعتِه عن فطرة أن تصبحي ابتسامةً مُشرِقةً على قوم طالَ بهم الزمن وهي تحسُّ المرارة والأسى.
إن عزة لم تلتقِ بالشرطة من قبلُ … وواضح من الخبر أنها كانت خائفة هالعة مرتعشة من الإقدام على هذه المخاطرة التي لا تدري إلى أيِّ مصير تقودها.
زادها خوفًا وهلعًا ذلك الحديث البعيد كل البُعد عن الانتماء الإنساني والذي بلغ مسامعها من أمها وأبيها.
وإن كان الخبر لم يأتِ من الحديث إلا بعجالة سريعة، إلا أنه من المؤكَّد أن الحديث كان مستفيضًا متطاولًا. وما له لا يكون … زوجان في بيتهما والأحداث التي يمكن أن تكون مادة تسلية قليلة نادرة، وها هي ذي فرصة متاحة للحديث الوافر. تكلَّما عن الناس الذين يقطنون بالمنزل، والشروخ التي داهمت المنزل، ومتى داهمته، وكيف سكتوا عنها، والوالدان يرفضان أن يبلِّغا عن المنزل المتهالك، ويطمئنان ضميرَهما أنهما إنما يصنعان ذلك حتى لا يغضبا سكان المنزل من أصدقائهما … إذَن فالأبوان الكريمان يخافان أن يغضبا قومًا، ولا يخافان أن يقتلاهم أجمعين. ولا شك أن الأبوَين في حديثهما تخوَّفَا أن يذهبا إلى القسم حتى لا يشغلا وقتهما ويضيِّعا يومًا بأكمله في الإبلاغ ومصاحبة الشرطة إلى المنزل.
إن الأبوَين من ذلك الجيل الذي نشأ في الأيام الداكنة من تاريخ مصر، والتي جعلت الناس يشعرون أن مصر غريبة عن المصريين وهم عنها غرباء، يوم قال الحاكم إنَّ شأني أنا وشأنكم أن تقبلوا رشوتي بالخبز الرخيص والتعليم المجاني في جميع مراحله، وأن تهملوا في مصانعكم ووظائفكم ما طاب لكم الإهمال، ولن يمسكم أحد بسوء، بل ولكم أيضًا أن تكون نسبة الجهلاء من فلاحين وعمال خمسين في المائة، ويشتركوا في التشريع للبلاد وما للناس، وقد كان التشريع يصدر من الحاكم المنفرد، ويمرُّ بالمجلس النيابي لإقراره، وليس لمناقشته.
جيل ساومه الحاكم، واشترى منه حقوق المواطن الإنسان، ودفع له الثمن تخريبًا للوطن وتدميرًا لكرامة مصر واقتصادها.
إنه جيل تعوَّد ألا يكون صاحب رأي في أيِّ شيء يخرج عن نوع طعامه في بيته، وفي بيته فقط، جيل بعيد كلَّ البُعد عن الحياة العامة وما يضطرب فيها، وما يمس شئون الناس من ناسهم الذين يحيون من ماء نيلهم، ويأكلون من أرض مصرهم. شاه زمنًا!
والقاطنون في البيت ماذا نحن قائلون لهم؟ أنلومهم أنهم لم يبلغوا عن الحال الذي صار إليه بيتهم؟ من السهل أن نلوم، وليكن. أترانا كنا نصنع غير ما صنعوا؟ أسرات بأكملها يضمها بيت متهالك، إن تركوه فهم نهب للتشريد والضياع في تيه العالم أجمع … إن سكان هذه البيوت جميعًا أحياء وأمواتًا ضحايا القانون الذي أصدره الطاغية في الستينيات لتخريب العلاقة بين ملَّاك البيوت وسكانها، وجعْل الملَّاك يتوقفون منذ صدوره عن البناء توقُّفًا تامًّا، وها هي ذي النتيجة اليوم … مقاتل جماعية لسكان البيوت المتهالكة، أو تشريد لمَن تركوا المنازل المتصدِّعة، وضياع كامل للشباب الذي يريد أن يبدأ حياته ويكوِّن أسرة … هذا الضياع الذي أدى إلى وحشية بعض الأبناء لتخلص لهم بيوت والديهم.
أما عزة ابنة الأمل وبنت الأرض الحرة والهواء النقي فقد غالبت كل هذا، وذهبت وحدها إلى القسم ترتجف، ولكنها تغلَّبَت على خوفها لتنقذ صديقتها في البيت المجاور، فأنقذت معها سكان البيت أجمعين. أنتِ يا عزة تشعرين أن الصداقة تستحق ما تعرَّضتِ له من خوف وحرج، وأنتِ يا عزة تشعرين أنكِ تنتمين إلى الناس حولك الذين هم وطنك، وأنتِ يا عزة ضربت المثل الرفيع لكل المصريين، فلو أن الوزراء اتخذوا قراراتهم بنفس الجرأة التي اتخذت بها قرارك لصلح حال الاقتصاد المصري، واستقام المعوج من الأمر. فنحن الدولة الوحيدة في العالم التي تعرف أمراضها، وتعرف دواءها، ولكنها لا تحاول أن تستخدم الدواء لتقضي على المرض. ما زلنا نصر على مجانية التعليم الوهمية ونحن نعرف الخراب المحيق بمصر وبالتعليم من هذا الداء، وما زلنا نصر على أن تكون نسبة العمال والفلاحين خمسين في المائة، ونحن نعلم أننا بهذا نخرب التشريع المصري والكرامة المصرية بقانون لا مثيل له في العالم أجمع، ونحن نصرُّ أن ينال الدعم الأغنياء مهما يتفاقم حجم غناهم. ونحن مُصِرُّون ألا يعمل العامل، ثم يظل في عمله.
ولو أن أعضاء مجلس الشعب يا عزة أدركوا أنهم مسئولون عن مصر جميعًا وليس عن ناخبيهم وأقاربهم فقط، ولو أنهم فعلوا مثلكِ فقدَّموا الصالح العام على الصالح الخاص؛ لكان حال مصر غير هذا الحال. ولو أن الموظفين أدركوا أنهم ينبغي أن يتقنوا عملهم مهما يكُن أجرهم ضئيلًا، وأن القيام بالواجب في ذاته قيمة عُليا أدركتِها أنتِ يا عزة؛ لأصبح وجه مصر جديرًا بتاريخها العريض.
ولو أن كل فرد في مصر يا عزة أحسَّ أنه مسئول عن أخيه كما أحسستِ أنتِ أنكِ مسئولة عن صديقتكِ لاستطعنا يا عزة أن نعلو فوق المِحَن، ونسمو فوق الأزمات، وليغير الله ما بنا لأننا غيرنا ما بأنفسنا.
وبعدُ يا عزة ربما كنت فيما أقول حالمًا في وادي الآمال، لكنكِ أنتِ — يا بُنيتي — قد فتحتِ لي الباب إلى هذا الوادي، وما دامت مصر قد أنبتتكِ فما لي لا أرجو أن يكون جيلكِ كله مثلكِ؟! فإنْ صحَّ هذا الرجاء فإن لنا — نحن المتفائلين — أن نتوقَّع لجيلكِ هذا أن تكون أيامه كلها إشراقًا. وما لي يا بنيتي ألا أرجو؟! فإن لكل ليل صباحًا، وقد كنتِ أنتِ تباشير هذا الصباح!