فلا دنيا ولا آخرة
أليست الخيانة والطغيان والمجازر والحروب والاعتداء على الحياة وتمزيق البشرية كلها كانت وليدة الطمع والجشع ورغبة الإنسان اللاهبة المحرقة أن يحصل على المال والسلطان، وكلما بلغ منهما إلى مكان تطلَّع إلى المكان الذي يعلوه، فالإنسان جشِع بطبعه، وقلَّ منهم القنوع، ومَن أدرى بالإنسان من بارئه وهو سبحانه يقول: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ … وليس هناك حدٌّ لجشع المال، فالأرقام لا تنتهي، وما دام المال قد أصبح غاية لا وسيلة عند مخلوقٍ ما فويل لهذا المخلوق من نفسه؛ فهو لا يبحث عن المال ليردَّ عن نفسه وبَنيه غائلة الحاجة، وإنما هو يستزيد من المال لذات المال، وحينئذٍ لن يقف به اللهج والجهد عند أمدٍ ينتهي إليه.
وليس هناك حدٌّ لجشع السلطة؛ فكلما بلغ الإنسان الكنود منها قدرًا راح يبحث عن سلطة جديدة وهو لا يريدها لإصلاح شأن مَن تسلطنَ عليهم، وإنما يبحث عنها لتحقيق ذاته، فإن لم يصل بالطريق المشروع — وهو لن يصل به فالطريق المشروع لا يُعطي السلطة المُطلَقة لأحدٍ أبدًا — خان، وإنْ خان الأقربين، وقتل، وإنْ قتل الشعوب، وطغى وتجبَّر وألغى الضمير من حياته، فأصبح شرًّا من الحيوان.
فالحيوان لا يقتل إلا حين يجوع، يريد أن يسد جوعه، أو حين يخاف، يريد أن يأمن. أما السلطان الطاغية فهو يقطع الرءوس ليجعل منها سُلَّمًا إلى سلطانه، أو يقطعها إذا كانت تفكِّر وهو لا يسمح لأحد غيره أن يفكِّر، أو هو يقطعها لأنه يخشاها، حتى وإن كانت خشيته مجرَّد وَهْم لا يؤِّيده برهان، ولا يقوم عليه دليل، فالخوف في أغلب أمره لا منطق له، والسلطان الخائف ذئب مسعور.
والعجب العجيب أن الإنسان يصنع هذا جميعه وهو على ثقةٍ لا مجالَ فيها لشكٍّ أنه ميت لا محالة، وهو على ثقة أيضًا أنه عندما يموت لن يصحب معه مالًا ولا سلطانًا، بل هو سيصحب معه — لا شك — ما ارتكب من آثام وجرائم في سبيل هذا المال وذلك السلطان. وكلما ازداد ماله زادت آثامه، وكلما طغى سلطانه تزاحمت جرائمه.
وفي الناحية الأخرى من الحياة لن يكون في حاجة إلى المال، بل إن ماله سيكون وبالًا عليه، فتُكوى به جباههم وجنوبهم، ويشقون به شقاءً جسيمًا، فلا هو استمتع بالمال في الدنيا واعتصر منه ما يعتصره منه أولئك الذين يرون في المال وسيلة لا غاية، طريقًا لا هدفًا، ولا هو جعل منه مفازة في آخرة كريمة؛ فتصدَّق به وأحسَّ تلك المتعة الفريدة التي يحسها المحسن حتى لأحسب أن الله بهذا الإحساس قد وهب له كلَّ المكافأة التي وعده بها، ولا هو ظفر بالآخرة، بل إنه واجدٌ هناك ماله ينتظره ليكون عليه نارًا لاهبة يكتوي بها.
أما صاحب السلطان فهو ملاقٍ وبالًا أشدَّ وعذابًا أنكى؛ فقد خاض بسلطانه، وفي سبيل سلطان جديد، بحورًا من دماء، وأهوالًا من أرواح، وداسَ بقدمَيه كرامات ناس وأمنهم وطمأنينتهم، واعتدى على معنى كلمة الإنسان الذي كرَّمَه الله وفضَّله على العالمين.
وقد يقول قائل: ويحك قد ابتعدت عن المنطق، وافترضت أن جامع المال الملهوج أو صاحب السلطان المسعور يؤمن بجنة أو نار، أو يفكِّر في الله الواحد القهار الذي لا يدوم إلا وجهه.
وإني واثق أن مثل هؤلاء لا يفكِّرون في الله، فإن فكَّروا فبفكر وإلحاد وإنكار، وهكذا يكون من الطبيعي رأيهم أنه لا آخرة هناك، وأنه لا بعث ولا نشور، وأنه لا يخلقنا إلا الطبيعة، ولا يبلينا إلا الزمن، ولا يميتنا إلا الدهر، وأن الإنسان ما هو إلا عدَم وإلى عدَم.
وحينئذٍ يصبح أمرهم أكثر إثارة للدهشة والعجب. إذا كان الأمر كذلك — وما هو بذلك — ففيمَ حرصه على جمع المال؟! وفيمَ سعاره في ارتقاء السلطان؟!
الحقيقة أنه لا منطق مع هؤلاء، وإنما هو جنون يتسلَّط عليهم، فيختلط الأمر عليهم لاختلاط العقل فيهم. ولكن لله في خلقه شئون، فبقدر هذا الجنون الذي يتسلَّط عليهم، ويُغشي أبصارهم عن نهاية الإنسان نجد عقولهم غاية الذكاء والنشاط عند جمع المال أو السعي إلى السلطان. فإنهم حينئذٍ يتكشَّفون عن ذكاء نادر، وحِدة بادرة، وتوقُّد ذهن يجعل كثيرًا من الناس يُعجب بهم. ولو كان هؤلاء المُعجَبون على ذرَّة ضئيلة من نفاذٍ إلى الأغوار، وعدم انخداع بالمظاهر، لأشفقوا عليهم كلَّ الإشفاق، ولرثوا لحالهم غاية الرثاء، فإن الفرد منهم إنسان في شكله، بعيد كلَّ البُعد عن الإنسانية: في مخبره، وفي داخله، وفي تصرُّفه، وفي مشاعره؛ فهو بلا عاطفة على الإطلاق لا يعرف الحب لأحد حتى ولا لبنيه. وقد تسأل: كيف وحُبُّ البنين غريزة أودعَها الله في الآباء؟ ولكن بربك لا تعجل في الحكم، فمَن قال لك إن الله سوَّى هؤلاء الجشعين للمال والسلطان على ما سوَّى سائر الناس أنهم سرطانات بشرية خلقها الله سبحانه ليعرف الناس أنه سبحانه قادر على أن يشكِّل الناس ألوانًا شتَّى وأصنافًا متفاوتة، وأنه قادر أن يرتفع ببعضٍ منهم إلى مرتبةٍ هي خيرٌ من الملائكية، وينزل بقوم آخَرين إلى منزلة هي أسفل من الحشرية، بَلْهَ الحيوانية.
إنهم مخلوقات شاذة، نفوسهم مُسلَّطة على نفوسهم، والويل كل الويل لهم من ذواتهم، والويل كل الويل لهم من ذوي قرباهم، مَن كان بهم على معرفة، ولا أقول صداقة؛ لأنهم لا يعرفون الصداقة إلا لمنفعة، وما هكذا تكون.
إنهم لا يعرفون نبض القلب بالشفقة أو بالعاطفة، ومَن لا يعرف الحب فلن يجد أحدًا يحبه، ومَن لا يعرف الشفقة يصبح عند الناس كتلة صمَّاء من صخر مشوَّه لا معنى له، ولا فائدة من وجوده، ومَن لا عاطفة له ذميم عند الناس، مقبوح الاسم والسمعة، مرفوض من الناس، لا يستطيعون أن يعيشوا بغير حُبٍّ وجمال، ونبضِ عواطف ورقةِ مشاعر.
هؤلاء الجامعون للمال أو للسلطان هم أكثر الناس بغضًا عند أقربائهم، وكلما توثقت وشائج القربى ازدادت دوافع الكراهية. وهكذا فأبناؤهم هم أشد الناس كرهًا لهم. أتُراكَ الآن رثيت لهم كما أرثي؟
لا الدنيا أصابوا ولا الآخرة، ولا هم استمتعوا بمالهم؛ فقد أذلَّهم جمعُه عن المتعة به، ولا بسلطانهم؛ فقد أرعبهم ذلك السلطان وسعار البحث عن الجديد منه أن ينعموا بأبهة السلطان ومباهجه وهم في الآخرة شرابهم الغِسْلين، ومهادهم النار، وبئس المهاد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.