لا عجب
تَنازعني — وأنا أمسك القلم — مذهبان أحدهما يغريني بالكتابة والآخَر يقصيني عنها، ولكلٍّ من المذهبين منطقه ورأيه وحُجته، فأما الأول فيرى أنني كتبت عن الأستاذ هيكل وهو قائم حي، فلا داعي هناك أن أكتب عنه، وقد انتحر بشهوة الشهرة والتكبُّر، وأصبح قتيلًا عدمًا لا وجود له. وأما الآخَر فيرى أن هناك أشياء تحتاج إلى تذكير الناس بها حتى لا يعجبوا مما بلغه الأستاذ هيكل وأمثاله من حضيض؛ فقد كان طريقهم الذي اختاروه لأنفسهم مؤدِّيًا بطبيعته إلى هذه النهاية التي لا نهاية غيرها، فهو طريق لا يتفرع ولا يزدوج، وإنما هو طريق واحد إلى نهاية واحدة، لا نهاية غيرها، واستقرَّ بي الأمر إلى ما ترى، ورحت أتساءل ولم يطُل بي التساؤل: كيف وقع الأستاذ هيكل في هذا المأزق؟ صحيح أن الشخصية العامة لا ينطبق عليها ما ينطبق على سائر الناس من وجوب ستر العيوب على الموتى، فلا نذكر إلا محاسنهم … وصحيح أن التاريخ مزَّق الأستار عن العظماء، فذكر كلَّ ما يدور في حياتهم الخاصة من خير ومن شر، فلم يترك من خفاياهم خافية إلا ذكرها، ولكن المؤرخين حين صنعوا ذلك لم يكونوا معاصرين لهؤلاء العظماء، ولم يكتب أحد منهم عن هؤلاء الأشخاص في الفترة المتصلة بحياتهم إلا نقدًا أو مدحًا لأعمالهم العامة، أما التنقيب في شئونهم فلم يأتِ إلا بعد فترة طويلة من حياتهم، كأن الذين عاصروهم قد ماتوا أثناءها، وكان أبناؤهم قد أصبحوا أيضًا في ذمة التاريخ. أما في الزمن المعاصر لهؤلاء العظماء فما أحسب أن أحدًا صنع هذا دون أن يجد من الرأي العام استنكارًا ورفضًا واحتقارًا. وأذكر بعد وفاة الرئيس الأسبق أن تناوله مصري في الكويت بصورة بشعة، وكتب عن أهله وذويه بقلم عنيف، وكانت الحكومة الكويتية لا تحب الرئيس الأسبق، ولكنها رفضت هذا الذي كُتب، وأمرت المصري أن يرحل عنها في مدى أربع وعشرين ساعة من ظهور مقالته.
ومهما يكُن رأينا في الأستاذ هيكل فإننا لا نستطيع أن نجحد أنه إمامٌ علَّامة في فن النفاق، خبير لا يشق له غبار في ميدان الملق. ويكفيه ما ذكره هو في كتابه عن زعيمه حين كلفه أن يبحث له أمرًا وينهي إليه رأيه فيه، فلم يجد ما يقوله لزعيمه إلا جملته الخالدة في سجل الهوان: إنك أنت الزعيم الملهم، فاستلهم وحيك، واصنع ما يشير عليك به.
فكيف أخفق هذا الإخفاق هذه المرة وسقط هذا السقوط، وفتح على نفسه وعلى زعيمه بابًا لو ولجنا منه إليهما لزكمت منا الأنوف، ولكن ما كان لنا أن ندخل بابًا مثل هذا عفةً منا وبُعدًا عن المهاوي التي سار إليها الأستاذ هيكل بطبيعةٍ مواتية وسليقة غير مُبصِرة، ولكن حقيرة.
وبعد فالسادات راية خفَّاقة في سماء مصر والعالم العربي بل والعالم أجمع إلى أبد الآبدين؛ فقد صنع الحرب وهو مَن هيأ لجيش مصر الفرصة العبقرية التي يستردون كرامتهم فيها التي أهدرها الحُكم السابق على حُكم السادات في رمال سيناء وعلى هضاب التاريخ، وهو الذي أفاد من هذا النصر الفريد في حياة العرب الحديثة، فشق الخطوب والأهوال إلى سيناء، وكانت حياته هي الثمن، وكذلك أفذاذ التاريخ يقدمون حياتهم رخيصة هيِّنة في سبيل وطنهم وشعوبهم، والسادات من قبل نصره الحربي انتصر على نفسه، فلم يقبل أن يظل ممسكًا بأرواح الناس يصرفها كيف يشاء وكأنه شيطان مُسلَّط على بني قومه، فهو الذي أطلق الحريات في ١٥ مايو، وأصبح المصري — الذي كان قبل السادات مرعوبًا على حياتِه وعِرضِه ومالِه وكرامتِه — مطمئنًّا إلى الحياة، أمن سربه، وهدأ مضطربه، وقرَّ ثائر خوفه، يتطلَّع إلى الغد في أمل، وينام ليله في أمان، ويسعى في مناكبها في طمأنينة، في وجهه إشراق، وعلى فمه ابتسامة، وفي قلبه إيمان، وبهذا انتصر الجيش وقد تعلَّق بأسباب السماء، وأصبح الجنود البواسل الكرام يحسون أنهم عن أوطانهم يدافعون، وليس عن مطامع رئيسهم وآماله أن يصبح زعيمًا للعالم … أي عالم … أفريقيًّا كان هذا العالم أو عربيًّا.
وقد كان هيكل هو سوط سيده، وكان مُكبِّر الصوت الذي يُعلن عقوباته البعيدة عن كل عدل أو منطق، والبعيدة طبعًا عن أيِّ رحمة أو إنسانية؛ فالرحمة والإنسانية والمحبة مراتب فوق مرتبة العدل أو المنطق.
وكان هيكل هو اليأس القاتل، وجيشنا الباسل يُعِدُّ نفسه لمعركة العصر الحديث، حتى لقد أغرت كتاباته بعض الكتاب منا — الذين كانوا يظنون أنه مُطَّلِعٌ على بواطن الأمور — أن يكتبوا بيانهم يقولون للرئيس السادات: ما دامت الحرب بعيدة المنال فأعطِنا حريتنا، ولم نكُن نعلم — وأنَّى لنا أن نعلم — أن الحرب قابَ قوسَين أو أدنى، والكاتب الذي ظللنا السنوات الطوال نبحث عن مصائرنا في ضباب صراحته قد أعلن أن دون الحرب أهوال لا يقوى عليها إلا الجن والشياطين، ونسي أن الله الذي خلق الجن العاصي خلق الجن الصالح المؤمن، فكان جيشنا منهم، وصاح: الله أكبر، وكان النصر الذي لم نكن نحن أصحاب البيان نتوقعه، فحين شهدناه لم نكابر ولم نجادل في الحق الذي لا شك فيه، واعترفنا جميعًا بعظمة السادات، لم يتخلف منا أحد، ولا حتى المأفون والمخدور الغارق في خمره ومورفينه.
فالأستاذ هيكل كان دائمًا الزغرودة والأغنية السعيدة الهانئة والأهزوجة الفرحانة الطروب في أحزاننا وأهوالنا وآلامنا ومآتمنا.
وكان البوم المشئوم، والغراب الناعق، وزعيم النائحات في أفراحنا الحقيقية التي تتمثل في عودة حريتنا، وفي انتصار جيشنا، وفي إفشاء السلام على ربوعنا وعودة سيناء إلى أرضنا وهي ملتقى كلام الله بنبيه موسى، ومراح يوسف الصديق، ومأمن مريم وعيسى، ومسرى سيدنا محمد ﷺ إلى المسجد الأقصى، وهي من بعد ومن قبل التاريخ أرض مصر. أترى أن مثل هذا يمكن أن يثير العجب فيما يفعل أو يقول؟ هيهات!