ويل للصِّغار من الصَّغار!
كم أرثي للصغار حين يتولون مناصب الكبار، أو كبار المناصب، فإنهم يُمسون في حالٍ تدعو إلى البكاء والإشفاق والأسى؛ فلا هم أصبحوا بمناصبهم كبارًا، ولا هم ظلوا فيما كانوا يؤدونه يتخفى صغارهم في ظلال الجهل بهم، وبُعدهم عن أماكن الصدارة هناك؛ حيث تتضح معالمهم جميعًا، ويضحي صغارهم معلنًا على ملأ الناس لا تتوارى منه خافية.
وصَلُوا إلى أماكنهم بكلِّ ما تأباه الكرامة، وما يتعفَّف أصحاب الكبرياء عن إتيانه، نافقوا فأوغلوا في النفاق، وجعلوا رءوسهم موطئًا للنعال، وقدموا من الخدمات ما يتأبى عن تقديمه كل مَن يملك بقيةً مِن إباء أو مسكة من إنسانية الإنسان.
وحين يصلون إلى ما سعوا إليه تبدأ بهم وبمَن يعاونهم الكارثة الكبرى، فهم يشعرون أن الكرسي الذي يجلسون إليه كله حراب، هي حراب الحق إذا اغتصب تنبت من تلقاء نفسها بسِرٍّ لا يدريه إلا الحق سبحانه وتعالى، فإنه هو العدل وهو الكبرياء وهو القيوم على عباده لا يبدل القول عنده وما هو بظلَّام للعبيد.
وحين تنبت هذه الحراب يصبح الجالس على الكرسي موضع شفقة من معاونيه، لا موضع احترام، وتصبح صورته مليئة ببثور الجروح المتخفلة عن الكرامة التي انتزعها من سحنته، وماء الحياء الذي أنضبه من وجهه، فينظر إليه العاملون معه نظرة احتقار تخترق رأسه، وإن صاحبها حديث فيه مديح أو فيه مهادنة، وقد يستطيع الناس الذين لا يحترفون النفاق أن يتحكموا في ألفاظهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في الشعاع الصادر من عيونهم. وكثيرًا ما يكون هذا الشعاع سليطًا جارحًا عنيفًا يجعل المديح الذي ينطق به صاحبه شرًّا من الذم الصريح، وأفدح وقعًا من السب الجهير.
مساكين هؤلاء الذين يجلسون إلى كراسي بلغوها بهذا النفاق؛ فهم لا يطالعون هذا الهزء، وتلك السخرية، وذلك الاحتقار من سائر الناس فحسب، وإلا لهان الأمر بعض الهون، ولكنهم يطالعون هذا الهزء وتلك السخرية وذلك الاحتقار من أنفسهم، يواجهونها في صباح ومساء، وفي يقظة ونوم، وفي إفاقة وغيبوبة … فإذا استطاعوا أن يتواروا عن الناس محتمين بكرسيهم، فكيف لهم أن يتواروا عن أنفسهم؟ وبماذا يحمون أنفسهم من أنفسهم؟
مساكين أولئك الذي يجلسون إلى كراسي بلغوها بهذا النفاق، فإن قراراتهم دائمًا مضطربة مثل اضطراب جلستهم على كراسيهم، فالكرسي واسع كبير، والجالس عليه ضئيل هزيل، فهو فيه موجود بلا وجود، كائن غير كائن، مقيم ونازح، حاضر وغائب، تائه في الكرسي، مضيع في منصبه.
وإن كان قراره يمسُّ أمورًا جسامًا فويل لهذه الأمور من قراره، فهو لا ينظر في شأنها بعين الباحث عن المصلحة العامة، ولا يستعين بأهل الرأي أو العلم أو الخبرة، فهو — لأنه صغير — يعتقد أن الرأي الأمثل هو رأيه، والعلم الأوفى هو علمه، والخبرة في جميع مناحي الحياة جمعت بعضها بعضًا لتتركز في كيانه. وهو يعتقد — وبئس ما يعتقد — أن ما فاته من المدارسة والدراسة والخبرة يعوِّضه هو بالاتهام والفهلوة، أليس قد استطاع بهما أن يصل إلى كرسيه حين نكص صاحب الرأي وصاحب العلم وصاحب الخبرة؟!
مساكين أولئك الذين يجلسون على كراسي بلغوها بهذا النفاق، فإنهم يدأبون في كراسيهم على مهاجمة الكبار الذين لا بد من وجودهم في كلِّ منحى من مناحي الحياة، وإنه لأمر محتوم أن يكون من بين العاملين مع الصغار كبار توافروا على عملهم أو فنِّهم، ونأوا بذواتهم عن مواطن الأحذية وعن مواقع النفاق، والصغير مهما يكن مُغيَّب العقل، إلا إنه يعرف ما لدى الكبير من موهبة ومن علم ومن تمرُّس، فهو ينشب فيه أسنانه الحادة، يحاول جهده أن يمزقه، ولكن المسكين لا يعلم أن الكبير يظل كبيرًا، وأن لحم الكبير مُرٌّ، وأن قناته لا تنكسر، وأن أسنان الصغير مهما يكن ذا كرسي وسلطان لا بد أن تتساقط جميعًا جذاذًا مسحوقة مطحونة دون أن تصيب من الكبير جرحًا أو تخدش منه إصبعًا.
مساكين أولئك الذين يجلسون إلى كراسي بلغوها بالنفاق … فهم يحاولون أن يرضوا كلَّ الصغار، ولكن الصغير لا يرضى، ومحاولة الإرضاء على حساب الحق تُغضب الجميع، ولا ترضي أحدًا، فهم بمحاولة الإرضاء هذه يثيرون على أنفسهم أحقاد الصغار أمثالهم، ولأحقاد الصغار على الصغار نيران لاهبة، وضراوة سفاحة وشرسة ذات سعار وضرام، فإذا تسامى الكبار أن ينالوا من الصغار بألسنتهم أو بأفعالهم فإن الصغار لا يتسامون عن الصغار ولا عن الصغائر. وهكذا يسقط الصغير عن كرسيه بالصغار كما بلغه بالنفاق، وهو شر أنواع الصغار.
مساكين أولئك الذين يجلسون إلى كراسي بلغوها بالنفاق، فإن الذي يرخص كلمته مداهنًا متذلِّلًا منافقًا، يرخص ضميره لصًّا وسارقًا ومُختلِسًا، وإذا كان رب البيت بالدفِّ ضاربًا فشيمة المهازيل من أهل بيته كلهم الرقص، فهو حين يختلس يصدر قرارًا إداريًّا بإباحة السرقة لمَن يريد أن يسرق، فإن لم يساعد اللص أن يلص مال المرفق الذي يعمل به، فهو — بلا شك — يستر عليه، وإذا أرخى الرئيس على المرءوس الإغضاء فسدَ الأمر وصار فوضى، وأصبحت المرافق مباءات عفن، وأصبح مال المجموع نهبًا لأفرادٍ لا يقف بهم الطمع عند غاية، ولا ينتهي بهم الجشع إلى أمد.
ويلٌ لدولة يتولى فيها الصغار مناصب الكبار، أو كبار المناصب، فإن الفساد يفشو كنارٍ في هشيم، ولا ينجو منه إلا صاحب العزم الشديد والإيمان العميق بالله وبالقيم وبالمثل الرفيعة، وكم هو عسير أن يعصم الشريف نفسه إذا تكالبت حوله زمر المسعورين النَّهابين الآكلين السحت، والعابثين بكل ما هو نقي رفيع في الحياة. إنهم لن يحموا الشريف بينهم، فهم قاتلوه، أو هم على أحسن تقدير مبعدوه عن مسبعتهم ومراحِ نهبهم ومسارح عبثهم. وما دام الجالس في الكرسي الكبير صغيرًا، فكل شيء إذَن مباحٌ.
وبعدُ، فقد أوشك قولي على نهاية، وما أحب أن أضع القلم، وأترك مَن يقرأ هذا الكلام في ظلام بائس وفي عتمة أسيفة محزنة، فإن رئيس الدولة اليوم رجل كبير ورجل شريف، وفي وجوده ضياء أمل؛ لأنه هو الرأس في هذا البلد، وحين يصلح الرأس يمكن أن تنصلح الأعضاء جميعًا، ولكن الشر لا ينحسم في يومٍ وليلةٍ، والهدم يقع في لحظة، والبناء يقوم في وقت مديد يصل إلى سنوات.
فما لنا لا ندعو له وهو بالدعاء خليق أن يسدِّد الله خطاه، ويضيء له طريق النزاهة الذي اختاره لنفسه، والذي لا شك أنه لا يرضى بغيره لمَن يعملون معه ويعينونه على مسئوليته، وإنها لمسئولية فادحة لا يطيق حملها إلا المؤمنون.