كرامة ومال
هو رجل واسع الثراء، عميق الجهل، يُقال له في منطقته فلان بك. شاءت الظروف أن يكون مدينًا لنا نتيجة محاسبة — لا اقتراض بطبيعة الحال — بمبلغ مائتي جنيه، وكان المبلغ مستحقًّا لي ولإخوتي معي، فكان من المحتم أن أطالب به. وقد فعلت فراح يُراوغ ويُماطل ويُسوِّف ويؤجِّل حتى اضطُرِرتُ آخِرَ الأمر أن أقول له إنني سأقدِّم الكمبيالة للمحكمة، وكنت محاميًا في هذه الفترة من الزمان، وفهمَ البك بحُكم ممارسته للحياة معنى أن يقدم محامٍ كمبيالة للمحكمة. فإن الكمبيالة هي التي ستترافع، أما مرافعة المحامي فتكون بالصمت. وسارع البك قادمًا إليَّ وقد أيقن ألا سبيل له من التهرُّب الكامل، وبقي أن يماحك في المبلغ نفسه، وأخذتني الدهشة؛ فثروة الرجل باذخة، والمبلغ بالنسبة إليه على الأقل ضئيل لا يحتاج إلى هذه المماحكة، فاضطُرِرتُ آخِر الأمر إلى أن أقول له: «يا فلان بك، إن المال قد صُنع لنحفظ به كرامتنا بادئ ذي بدء». وإذا بالرجل يقول في بساطة وفي سليقة مواتية ودون أي تردد: «والله يا فلان إن مسألة الكرامة دي متلزمنيش … مش تحت خبر ملهاش لزوم عندي نهائي، الكرامة دي متعبة، وأنا مش ناقص تعب». ولست أدري مدى الذهول الذي أصابني إلا أنني واثق أنه كان ذهولًا مفجعًا؛ فقد وجدتني دون أن أحس أمزِّق الكمبيالة، وألقي بها في وجهه وأقول: «وأنا متلزمنيش فلوس من واحد زيك حتى ولو كانت حقي وحق إخواتي»، وصاح الرجل: «الله يخليك … الله يطول عمرك!»
وقام وخرج وهو في غاية السعادة أنه كسب المائتي جنيه، وخسر حياءه وماء وجهه، ولكن أكان ذا حياءٍ أو كان لوجهه ماء حتى يخسره؟ إنه لم يخسر شيئًا، فهو يعلن في بساطة أنه بلا كرامة، ومَن يعلن مثل هذا الإعلان لا يبقى له شيء يحافظ عليه إلا المال.
كانت هذه القصة في السنوات الأولى من الخمسينيات، وقد نسيتها فيما ينسى الإنسان، وإنما أذكرها كلما كرَّرَت الحياة أمام عيني تبجُّحًا أو سقوط الكرامة قريبًا مما أشهدنيه ذلك البك الثري. ولكني واثق أن الحياة لم تلقِ أمام عيني مثلًا له حتى كانت الأيام القليلة الماضية، وروى لي أحد الناشرين الشرفاء قصةً عن كاتب — كان يتعامل معه — أعادت إلى ذهني صورة تلك الجبلة التي بليت بمعاملتها منذ قرابة ثلاثين عامًا. قال الناشر إنه تعاقد مع الكاتب على نشر بعض كتبه، ودفع له مقدَّم العقد، وبدأ يطبع الكتب. ولكن الناشر فوجئ بأن الكاتب تعاقد على نفس الكتب مع ناشر آخَر في نفس الوقت، وقبض منه مقدَّم العقد، فقصد إلى الكاتب يسأله عن صحة ما بلغه، فأكَّد له الكاتب أن ما بلغه وقع فعلًا. أهذا يصح؟ وإذا بالكاتب التقدمي يقول له في هدوء وبساطة: عليك أن تعاملني على أني ابن … بلا قيم وأخلاق. ورُوِّع الناشر مما يسمع، وقال له: وأنا لا أعامل ابن … بلا قيم ولا أخلاق. وتركه وانصرف.
وهكذا وجدت في هذه القصة مهانة للإنسانية أعظم من تلك التي شهدتها من البك الثري، فإن الجهل قد يصلح مُبرِّرًا لهوان البك، ولكن ما المبرِّر للكاتب التقدُّمي المثقَّف وهو من ناحية الثراء موفور لا يحتاج إلى صبابة من مال، وإنما يرتكب هذا الذي يرتكبه؛ لأن نفسه لا ترى بأسًا أن يفعله.
وقد يجد الكاتب مَن يقول عنه مُدافِعًا إنه لا بأس عليه أن يكون بلا أخلاق ما دام يقدِّم فنًّا، وأن التاريخ ليذكر لنا كتَّابًا مثله وشعراء، ولكنهم قدَّموا فنًّا ما زال باقيًا على مرِّ العصور، وقد يذكر المُدافِع في هذا المضمار بودلير، وأوسكار، وأيلد، وأبا نواس، وغيرهم وغيرهم كثير، ولكن هذا الدفاع ينهار إذا ذكرنا العهد الذي كان يعيش فيه هؤلاء الكتَّاب، وما أصبح الكاتب يمثِّله اليوم. فلو أننا ألقينا نظرة على التاريخ لعرفنا الفارق البعيد بين مكانة الشاعر والفنان في ذلك الحين، وبين مكانته اليوم. فالشعراء في الأمة العربية كانوا يعيشون على جدوى الحكام والأثرياء، وكانوا يصطنعون المديح ليجدوا قوت يومهم وقوت عيالهم، فإذا لم يستجِب لهم الأمير، أو الثري، أو صاحب النفوذ، أوسعوه هجومًا وذمًّا، وحسبنا أن نذكر المتنبي وموقفه من كافور وغيره من حكام ذلك الزمان.
وفي فرنسا يكفي أن أذكر موقف الكونتيسة التي كانت تأوي لافونتين في بيتها ليجد ما يطعمه، ولكنها كانت تعيش تعتبره حلية تُباهي بوجودها في بيتها، كأنه قطعة أثاث نادرة أو تحفة فنية لا تزيد على صورة على الحائط أو علبة «نشوق» جميلة الصنع، حتى إنها سُئلت يومًا: مَن ستصحبين معك إلى مصيفك؟ فأجابت: لا أحد، كلبي ولافونتين.
وهكذا نزلت بالكاتب العبقري إلى مرتبة الكلاب.
وذلك عصر لم يكن الكُتَّاب فيه أصحاب فكر إلا من كان منهم قادرًا على مواجهة الحياة دون عون من صاحب ثراء أو صاحب سلطان.
أما العصر الحديث فقد رفع الكُتَّاب إلى مكانة سامقة في المجتمع، وأصبح المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون يدرُّون على الكُتَّاب في البلاد المتقدِّمة ما يجعلهم يعيشون عيشة رغدة وسعادة وبُلَهْنيَّة. أما في البلاد التي تماثل بلادنا فإن الكاتب يستطيع أن يكون مكفول الرزق في غير ثراءٍ، نعم، ولكن في غير حاجة أيضًا أن يبيع قلمه أو ضميره. ومهما يكُن الأمر فهو في غير حاجة أن يكون كما وصف ذلك الكاتب نفسه، بل إن كُتَّاب ذلك الزمان الذي كان الشعراء فيه يستجدون العيش، وكان الكُتَّاب فيه مقتنيات في قصور الأثرياء لم نسمع أن كاتبًا فيه أو شاعرًا وصف نفسه بهذا الذي يراه الكاتب الذي نروي قصته في نفسه. ولكن ما دام قد ارتأى أن هذه هي حقيقته فهو من هذه الناحية — ومن هذه الناحية فقط — أعلم الناس بنفسه، وإن كان في غير هذا أجهل الناس بنفسه، ما دام الأمر كذلك فإن لهذا الكاتب أن يصنع ما يشاء، فلا حساب عليه، وقديمًا قال الشاعر: