من طوايا الحياة
ماذا أصاب قومي في مصر؟ أين الأيام الخضر؟ وأين عصير الحياة العذب؟ وأين ذلك الإشراق المضيء؟ وأين انطلاق الحديث ينتقل مرحًا من قلب إلى قلب، ومن صديق إلى صديق، ومن ابن إلى أبيه ومن أب إلى ابنه، ومن أخ إلى أخيه، بل أين المودة بين الزوج والزوجة، وأين بينهما الذكريات والآمال؟ حتى الحب الجديد أصبح لا يولد حرًّا كما كان حرًّا، ولا هو اليوم يعرف ذلك الاندفاع المتدفِّق لا يعوق دفاعه عائق ولا يجرؤ مانع أن يمسك عنانه. أين هو هادرًا صاخبًا. وأين هو جدول من غير سلسل المجرى، لؤلؤي المياه. يجري في ضفتَيه لأنه حب وكفى.
يا لشقاء الحب في وطني اليوم! الضفتان اليوم مال جامد حقير مسعور، وبحث عن مسكن بعد أن نضبت المساكن في بلدي. لا هدير للحب اليوم، بل هو معتقل في حبالٍ شديدةِ الأسر من التفكير المذعور من هول الغد، الفتى يبحث عن فتاة تكون ذات مال أو ذات عمل. ولم يعد الغني يبحث عن هواه وحبه في شريكة الحياة التي يريد الله أن تكون له في غَدِه سكينة لا مسكنًا ومودة لا منفعة.
أصبح يريدها الفتى ذات شقة لا ذات عاطفة وذات مال لا ذات رقة. ماذا صنعت بكِ الأيام يا بلدي؟ أين أنسام النيل وكانت رخاءً وسماحة؟ أين انطلاق الريف هناءةً وجمالًا؟! ما للريف اليوم قد كشر عن أنياب المال. وزمجر عن صوت العصر العنيف الصارم. كان الريف يماشي الأيام صفاءً ونعومة. فأصبح يقضم الأيام قضم الوحوش ويكسرها ويحطِّمها، فلا الناي يعزف في ريفنا، ولا الآذان تصغى إلى شدو الكروان والبلبل والعصفور، ولا النديم في ريفنا يعرف ندماء، ولا حلقات السمر في أمسيات الحقول تتحلَّق تضيئها ألسنة اللهب من نار كنار إبراهيم، فهي برد ودفء، وهي سلام لا يحرق، وإنما يشيع في نفوس البشرية حوله طمأنينة وهناء وقدسية الأطناب إلا من وسادها وحب الله والناس وجميع المخلوقات عمادها وأركانها.
ماذا صنع بك الحقد يا ريفنا؟ أين أريجك المعطار؟ وأين أديمك المسماح؟ وأين أجواؤك التي ما عرفَت إلا الحب والنقاء والسعادة والصفاء؟ ماذا صنع الأمس باليوم؟! استطاع الحقد الآخذ الوبيل أن يعصف بجمالك هذا كله يا مصر.
ماذا صنع الأمس باليوم؟ وكيف استطاعت السخائم السود القاتمة أن تسحب الغيوم والسحائب الكشرة وتثبتها على أقطار بلدي وفي أنحاء سمائها التي كانت صافية مؤرجة بالعطر النقي والهواء الشريف. ماذا صنع الأمس باليوم؟! كيف استطاعت الكراهية والبغضاء الحقود أن تبدِّد أنوال الحب في نفوس المصريين، وقد كانت من قبلُ تنسج الهوى والتعاطف والرضا والكبرياء في غير صلف، والعزة في غير تعجرُف، والأمانة في غير افتعال، والترفُّع عن الدنايا، والبُعد عن الصغار، والعزوف عن الآثام في طبيعة مواتية وفي سجية نقية بيضاء.
أين أيام كان الابن يذوب طربًا إذا سمع صوت أبيه، وتسجح نفسه إذا سمع دعاء أمه؟ أين أيام كان الأخ للأخ عونًا، والأخت لأخيها ابتسامة هوى موصول لا تشوبه على الأيام شائبة؟! هل استطاعت سنوات الحقد العجفاء القاتمة السوداء أن تشق الابن عن أبيه وتنأى بالفتى عن دعاء أمه، وتجعل الأخ عدوًّا لدودًا، والأخت لأخيها ناهبة للميراث الذي كان إليه سيئول؟
أضعيف هو الحب؟ أم قوي هو الحقد؟ أم إن الأمر أدهى من ذلك وأمَرُّ؟!
أترى الخير والستر انسحبا من طوايا الحياة، ومن وشائج القربى ومن ثنيات الصداقة، فانكشف الوادي الأخضر الفسيح بالرضا عن غابة حمقاء مسعورة، رعاياها ذئاب بشرية، يأكل بعضها لحوم بعض في غير رحمة ولا شفقة؟ ومن أين وطيوف الإنسانية قد رحلت هي أيضًا مع سماحة الخير ومع كرامات الستر الحبيبة؟
لقد دخل الخوف بلدي في السنين العجاف، والخوف سريع مجتاح حين يدخل بلدًا، ثم هو عند الارتحال متلكئ وبطيء … ثقيل الخُطى، والأمر بعد ذلك ليس ميسورًا، فهو كلما همَّ بالخروج من بلدي اجتاحها عاصف يعيد الخوف إلى الفرائص والذعر إلى النفوس، وهكذا استقرَّ الخوف في السنوات الأخيرة يطفئ شموع الأمن، ويحطِّم أركان السكينة.
تمثَّلَ يومًا في قرارات اقتصادية خرقاء دمَّرَت الاقتصاد بعد أن كان يوشك أن يستقر. وكان علاج هذه القرارات بطيئًا، فازداد الأمر سوءًا. وما زال الخوف يظل اقتصادنا حتى اليوم. المال المصري يخشى الخروج إلى النشاط، والمال الأجنبي يخشى الدخول إلى مصر، والمصريون في الخارج حبسوا أموالهم في البلاد التي يعملون بها بعد أن كانت تنثال في رضًا وطمأنينة إلى المصارف المصرية، وتمثَّلَ الذعر في الأصوات الناعقة من الشيوعيين نشروها في كل مكان من أركان الإعلام فهم في الصحف القومية لهم صفحات ومقالات وصولات وجولات، هم في التليفزيون يوشكون أن يستولوا على الأركان الأدبية فيه، لم تفلت منهم إلا الأحاديث الدينية، وهم في الإذاعة يمرحون ويسرحون لهم برامج ثابتة، ولهم في كل حين حديث أو لقاء، والأجهزة جميعها حريصة على أن تسترضيهم حتى لأعلم أن بعض الأحاديث التي تناقش نظريتهم منعتها الإذاعة أن تخرج على الهواء، وليس انتشار الشيوعيين بالأمر الهين، فالأضرار الناتجة عنه أخطر مما يتصور المسئولون، فإنهم بصيحاتهم هذه لا يخيفون المؤمنين. فنحن واثقون من أن الشعب المصري لن يلتفت إليهم ولن يأبه بهم. ولكن الخوف كلَّ الخوف أن تخيف أصواتهم رءوس الأموال في خارج مصر سواء كانت مصرية أو أجنبية. فليس في العالم شيء أكثر جبنًا وحذرًا من المال. وهيهات لمالٍ يأتي إلى دولة يعلو فيها صوت الشيوعيين.
وهكذا يزداد الخوف تمكُّنًا في ربوع مصر، ويأبى أن ينقشع، ويتحدث الناس بصوت جهوري مرتفع، فالناس في بلادي لم تعُد تهمس، وليس خوفهم اليوم من الحاكم، فرئيسنا اليوم أعظم الرؤساء سماحةً وبعدًا عن العنف والجبروت، وإنما الناس تخاف من الأيام ومما يأتي به الغد.
ويزداد الخوف رسوخًا في نفوس الناس، ثم يقوى ويشتد فيما يراه أخيرًا من ظهور وجوه كانت اختفت يوم اختفى عنا عهد الطغيان والاعتداء على الأعراض والحريات والأنفس والأموال، فقد علت باخرة أصوات الفئة الباغية، وعاد إلى النعيق على نخل بلدي غربان الخراب والهزيمة الماحقة في كل الحروب تضيف على القمة الخائبة منها ٦٧ علامة لا يمحوها الزمن لعواقب الفساد والسرقات والاعتداء على إنسانية الإنسان وتحطيم الحرمات التي أمر الله أن يراعيها الحاكم في الرعية. عاد عواء الذئاب فأهاج جميع مكامن الخوف في نفوس المصريين. ويقول كاهنهم الأكبر للناس إنه بغيره لن يكون قرارٌ ما حكيمًا. وكأنه ما كفاه ما شارك فيه من قرارات كانت كلها خرابًا ما زالت مصر تعاني منه حتى يومنا هذا، وستظل تعاني منه لسنوات أخرى قادمة … الله وحده يعلم عددها. هذه الجوقة التي تمثِّل السرقات بادئة من مجوهرات أسرة محمد علي إلى آخِر مَن صودرت أمواله، أو وضع تحت الحراسة والتي تمثل الهزائم المتوالية بدءًا من ٥٦، مرورًا بحرب اليمن، إلى انفصال سوريا، إلى ٦٧، عادت إلى الظهور مع عازفها الأول، ولا يجد الناس مفزعًا إلا القرآن الكريم أمنهم عند الكريهة، ومفازتهم عند الذعر، وجنتهم عند الملمات.
ويذكرون أن هذا العهد جميعه لم يكن يؤمن بالله ولا باليوم الآخِر، وأنه ليس ممَّن قال عنهم الله سبحانه وتعالى «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)»، وهم واثقون من كفر العهد ورجاله، ليس مما فعل العهد ورجاله بالبشر فحسب، وإنما بنص ما جاء صراحة في كتب كاتب العهد وكاهنه الأكبر. ويستجيب القرآن الكريم لفزع الناس، وكيف لا يستجيب لهم الله وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟! وتأتي الآية (١١٨) من سورة آل عمران يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ صدق الله العظيم. والناس تعلم أن القائمين على الأمر اليوم من هؤلاء الذين يعقلون، وأن رئيسنا من هؤلاء الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
وتتجمَّع هذه المشاعر جميعًا وتصخب في نفوس الشعب، ثم تنفجر فئة باغية جاهلة حمقاء تحرق أمن مصر وآمالها في جنون أرعن مأفون، وتبحث مصر عن السبب أو الدافع، فإذا هي تجده في جيوب الخونة المخابيل متمثِّلًا في مبالغ متشابهة ذات أرقام متتالية تصيح بأعلى صوت لها أن أعداء مصر في الخارج قد أعطَوا أوامرهم لأعداء مصر في الداخل، وشفعوا الأوامر بالأموال، واستغل هؤلاء وهؤلاء حرَّاس أمتنا والأمناء على الطمأنينة في بلادنا، واستغلوا جهلهم ولا أقول فقرهم وغباءهم، ولا أقول ضيقهم، وصنعوا منهم قذائف حرقت أول ما حرقت أمن مصر والثقة التي تمكنت أن تشيعها في نفوس العالم حولها.
وترفض مصر أن تصدق ما رفعوه من سبب لعدوانهم، فلو كان ما أعلنوه ذا صلة بأي نوع من الصدق لكان من الطبيعي أن تكون وسيلتهم — وهم رجال الأمن المُجنَّدون — متمثِّلة في شكوى يقدِّمونها أو تظلُّم يحمله عنهم قوَّادهم، أو أي سبيل آخَر يتفق مع الخلق. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما أذهلتهم الأموال التي تسرَّبَت إليهم في خفية عن مصر، وأصبحوا قنابل تحرق مصر، مصرهم التي رضعوا لبانها وتفيَّئوا ظلها، والتي لا ملجأ لهم إلا حقولها ومغانيها، ولا مشرب لهم إلا نيلها إن تكن سنة قد زيدت على تجنيدهم وهم بها ضائقون، فإلى أين يريدون أن يتجهوا إذا لم تزد إن لم يتجهوا إلى مصر التي يحرقون؟! لا، ليس زيادة سنة — صحيحًا كان أمرها أو كان إشاعة — بالسبب الذي تقبله مصر، إنما هو الخيانة والرشوة، ومصر تتساءل اليوم: إن كان الذين قبلوا الرشوة جهلاء حمقى فأين كان رؤساؤهم؟ وهو سؤال ضخم وكل إجابة عنه محزنة تمزِّق النفس حسرة وألمًا وذهولًا فاجعًا مدمِّرًا. والعجيب العجيب وفي نفس الوقت العظيم العظيم أن شعب مصر الذي يتحمل ما يتحمل من عناءٍ هو الذي يقمع الخونة، ويصدهم، ويرفض في إجماع منقطع النظير إجرامهم. إن هذا الشعب الطيب هو النبت الصالح الذي يخرج من الأرض الطيبة، وإن أرض مصر العريقة عراقة الزمن لا يمكن أن تنبت إلا هذا الشعب النبيل وصدق الشاعر: