الذكرى ذات نفع عميم
ليس في العالم أجمع نظام كامل، ولذلك قيل إن الديمقراطية هي أقل الأنظمة عيوبًا، فالديمقراطية هي أكثر الأنظمة إتاحة للحرية، وفي ظل الحرية تكثر الأخطاء، ونجد مَن يستغل الديمقراطية للسرقة والتحايُل على القانون والاستيلاء على الأموال بالباطل. وحين تخرج دولة ما من فترة دكتاتورية إلى فترة حرية تصبح هذه الجرائم بشعة المظهر أمام شعب لم يتعوَّد أن يسمع بمثلها في فترة الدكتاتورية. وينتهز أعداء الديمقراطية الفرصة فيجعلون هذه الجرائم وكأنها عجيبة من عجائب الزمن لا مثيل لها في الدول الأخرى ولا في التاريخ. والحقيقة أن هذه الجرائم تعرفها كل الدول الديمقراطية وتصدر أحكام القضاء مانعة رادعة، فتجعلها تتناقص مع الزمن حتى تصبح الحياة طبيعية.
ولم يحدث أن توقفت هذه الجرائم في أيِّ دولة، ولكن الذي يحدث أن تقل ويصبح شأنها شأن أي جريمة أخرى. ومن مظاهر الديمقراطية أن تكون الفرصة متاحة للجميع، فالديمقراطية تبيح لكل الناس أن يصبحوا أثرياء، ولهذا تدهش الدولة التي فرضت عليها الدكتاتورية حين تجد المال قد انفجر في شكل فاجر في أيدٍ لم تكن تعرفه إلا في صورة جنيهات ضئيلة تقيم الأود أو تكاد. وهؤلاء الأثرياء الجدد يتمثَّل الثراء عندهم في السيارة الفارهة وفي الطعام المرتفع السعر حتى ولو كانوا لا يسيغونه، وفي الملبس الفاخر حتى وإن غاب عنه الذوق. ويشهد الناس من شأن هؤلاء عجبًا، ولكن ما هي إلا سنوات قلائل حتى يتعوَّد الأثرياء الجدد على الثراء.
ويعرفوا أن قنوات الصرف الكريمة شيء آخَر تمامًا غير هذه السيارة، وذلك المأكل وهاته الملابس. ونحن اليوم نعيش فترة الانبهار بالانقلاب الذي أحدثته الديمقراطية في المجتمع. وينتهز الشيوعيون ودعاة القهر والانغلاق الفرصة، فتنهال أقلامهم وألسنتهم بألذع الشتائم على الانفتاح.
وهم طبعًا يدركون تمامًا أن هذا الانفتاح هو الذي أتاح لهم حرية التعبير العارمة التي يمارسونها، ويدركون أنهم في زمن الدكتاتورية كانوا يعدون أنفاسهم ويحبسون لهاثهم خشية أن يسمع الحاكم هذا اللهاث، فينزل بهم ما عرفوه كلَّ المعرفة من اعتداء على العرض والحياة والمال، وهذا طبعًا بعد أن أغلقت دونهم منافذ الحرية جميعًا.
هم يدركون هذا كلَّ الإدراك، ويدركون أنهم لو عادوا إلى الدكتاتورية فمصيرهم السجون التي احتوتهم حينًا كبيرًا من الدهر، ومآلهم النفي مُصفَّدين بالحديد إلى مجاهل الصحراء وفيافيها.
هم يدركون، ولكنهم يدركون أيضًا أن حاكم مصر اليوم رجل إذا قال فعل، وإذا وعد أنجز، وإذا واثق أوفى. وإذا عاهد صدق. وقد قال لا رجعة عن الديمقراطية، فما لهم إذَن ومذهبهم خسيس لا يستغلون الوعد الصادق، والعهد الوثيق، ويثيرون الدنيا، مهاجمين الانفتاح، وهم يعلمون كلَّ العلم أنهم حينئذٍ يهاجمون الحرية والديمقراطية. وما البأس عليهم فإنها هي الديمقراطية التي يريدون أن يهاجموها، وهي هي التي يبغضونها كلَّ البغض إذا هم كانوا الحاكمين، لكنهم يتغنون بها ويتناشدون بمآثرها إذا كانوا محكومين حتى يستمكنوا بها من الحُكم، ثم يقتلونها.
وهم حين يهاجمون الحرية يبحثون عن ألفاظ أخرى يهاجمونها بها، وهكذا اختاروا في مصر كلمة «الانفتاح» ليجعلوا منها سخريتهم، ويسدِّدوا إليها سهامهم، وقد يجاريهم في صدى أبواقهم المنتجون في السينما والكتَّاب الصغار في التليفزيون والمهازيل من أصحاب الأقلام الضائعة في الزحام، ويتعالى الضجيج ويزداد التصايح: تعالوا فانظروا ماذا صنع؟ ولو كان هؤلاء التابعون على أقل حظ من الذكاء لأدركوا أنهم أنفسهم يهاجمون أنفسهم، فالمنتجون بما يهاجمون يقفلون دون جيوبهم الثراء الذي انهمر عليهم، والكتاب بما يكتبون يغلقون دون أقلامهم الحرية التي تمرح فيها.
ولكنهم تبعوا وما فكَّروا، وقالوا وما تدبَّروا، وقلَّدوا وما عقلوا وصاحوا ولم يتذكروا، وإن الذكرى لذات نفع عميم لمَن كان ذا فهم لبيب. لو أنهم طرحوا أذهانهم إلى عهد الطغيان لوجدوا أن هذه السرقات كان يقوم بها الحكام وحدهم، ثم هي تتخفى في أثواب الرعب والفزع، فلا ينبس من يعرف أمرها بحرف عنها. وإذا سمع سامعٌ من شأنها همسةً نفضَ أذنه وغسلها خشيةَ أن يرى الزبانيةُ الباطشون على حوافي أذنه أثرًا ولو ضئيلًا مما سمعته هذه الآذان.
ولو أنهم طرحوا أمام أعينهم ذكريات الماضي لاستطاعوا اليوم … واليوم أمان وحرية … أن يصرخوا: أي داهية دهياء كانت تحيط بنا؟! وأين جواهر أسرة محمد علي؟ ما قصة الحقيبة المليئة بالذهب؟ كيف كانت العُملة الصعبة تُلقى ذات اليمين وذات اليسار على ماسحي الأحذية ومُقبِّلي الأعتاب؟ ما قصة سيارات النقل التي كانت تحمل تلال الفرو والسجاجيد؟ ما شأن القصور الباذخة التي أُنشِئَت في القاهرة والإسكندرية؟ ما حديث الثورة المضادة وما انسكب سيولًا من أجلها إلى بنوك سويسرا؟ هذا بعض ما تصنعه الدكتاتورية، وبعض ما يستره الطغيان، إنه يؤمِّم السرقة لنفسه أول ما يؤمِّم.
فاصرخوا اليوم ما شئتم أن تصرخوا في عداء الانفتاح فلا … لن نكون بعد اليوم للطغيان عبيدًا وإن رغمت منكم الأنوف؟!
والشيوعيون أقاموا من أنفسهم حرَّاسًا على القطاع العام، ولكنهم حرَّاس مُضحِكون لأن الدولة بكل أجهزتها لا تفكِّر مطلقًا في الاعتداء على القطاع العام، بل إن خبراء الاقتصاد من غير الشيوعيين يرون أن القطاع العام هو الركيزة الأساسية في اقتصاد مصر اليوم.
وكلُّ الدول ذات الاقتصاد الحر فيها قطاع عام، في أمريكا قطاع عام، وفي إنجلترا، وفي سويسرا، وفي فرنسا حتى قبل حكم ميتران.
فلا أحد يقف عدوًّا من القطاع العام إلا جهة واحدة هي التي تحاول أن تقضي عليه وتنسفه نسفًا، هذه الجهة هي القطاع العام ذاته، وإن الاحصائيات التي تقارن بين إنتاج القطاع العام الضخم وإنتاج القطاع الخاص الذي يُعتبَر ضئيلًا بالنسبة إليه لتدل دلالة قاطعة على أن القطاع العام يخرب القطاع العام بما لا يستطيع أن يصنعه به أي عدو شرس ذي أنياب وأضراس وسلاح. فإنتاج القطاع الخاص يكاد يماثل إنتاج القطاع العام، ولا صلاح لنا إلا بأن نعيد النظر في القوانين التي تحكم هذا الصرح الضخم في اقتصادنا، فلو اجتمع كل الخبراء الاقتصاديين في العالم لعجزوا أن يقيموا المنهار منه، إلا إذا كانت هناك قوانين عادلة تحكمه، فيها العقاب وفيها الثواب، وفيها العمالة على قَدْر العمل. أما إذا ظلَّ الأمر على ما هو عليه سائبًا بلا رقيب ولا حسيب، فلا أمل على الإطلاق.
لا أمل والعامل لا يعمل، وهو لن يعمل إلا إذا عرف أن العقاب سينزل به إذا أهمل، والثواب سيقدم إليه إذا أحسن عمله، ولا أمل والعمل الذي يستطيع أن يقوم به اثنان يُعيَّن له عشرات.
أما في الدولة الشيوعية فتصل عقوبة العامل المهمل إلى حدِّ الموت، مارَّةً بالنفي والفصل والتعذيب والسجن. وأما في الدول الرأسمالية فالفصل يقف بالمرصاد للعامل الذي لا يعمل. ونحن وحدنا وليس غيرنا الذين لا نعرف لنا نظامًا اقتصاديًّا واضح المعالم ذا نظرية معروفة الملامح. فلا نحن نأخذ بالنظام الاشتراكي، ولا نحن نأخذ بالنظام الحر، ولا نحن عرفنا النسب السليمة للمزج بين النظريتين. تلك النسب التي عرفتها إنجلترا والسويد ويوجوسلافيا والنمسا وبولندا.
هناك دول تتخلص من السيطرة على مرافق الدولة وها نحن أولاء تطالعنا الأنباء أن اليابان باعت مصلحة التليفونات للقطاع الخاص، وقد تم هذا البيع بالقطع بعد موافقة كل المنظمات السياسية والاقتصادية.
وهناك دول تتوسع في السيطرة على مرافق الدولة مثل فرنسا. وكل دولة في العالم تعرف النظام الذي يحقِّق لها أكبر قَدْر من الانتعاش معتمدة دائمًا على نظريات ثابتة لا تحتمل الجدل.
إن زمن صناعة النظريات الجديدة قد مضى، والدول اليوم تمارس تطبيق النظريات الثابتة التي مكَّن لها التاريخ أن تصبح نظرية إلا نحن، فإننا نحاول — وهيهات لنا أن ننجح — أن نخلق نظرية اقتصادية ما أنزل الله بها من سلطان، ويعلو ضجيج الشيوعيين ويسيطرون على وسائل الإعلام بما لهم من تجمُّع، فيتوه الحق والنظام الأصلح في ضجيج الغوغاء والشعارات الجوفاء.
ونحن نخشى أن نقدم على الخطوات الصحيحة حذرًا من الصيحات المغرضة الرعناء، ولكن الأمل تبدو بشائره، ومطالع النور تلوح في الأفق، فهل تُرى آنَ لنا أن ننتظر شروق الحق وغروب الباطل؟ وما لنا لا نرجو وقد قال سبحانه وتعالى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ صدق الله العظيم (سورة الرعد الآية ١٧).