الله خير الماكرين
توالت الخطابات إليَّ تُبارك ما كتبته عن الشيوعية والشيوعيين … تحمد لي ما أذعته عن استيلائهم على وجه الإعلام المصري … وإنه لشعور طيب أن يشعر الكاتب أن ما كتبه إنما هو تعبير عن مشاعر قومه، وأن كتابة خطاب تدل في ذاتها على التحمُّس والإصرار أن يُبلِغ القارئ رأيه إلى كاتبه.
ولكن أهم ما جاء في هذه الخطابات التي نشرت منها خطابًا واحدًا أن مصر أطلقت بما كتبت آهة كانت مكبوتة في جنبات شعبها، فقد رأوا سنوات الستينيات تعود بوجهها الكئيب البشع المليء بالبثور وبالرعب وبالجبروت وبالطغيان واستعباد الإنسان وتحطيم كل المعاني الرفيعة في الحياة.
وأنا حين أكتب ما أكتب لا أرهب الشيوعيين ولا أقول ولا أحفل ولا يعنيني أمرهم أقلَّ عناية. وإنما خشيتي أن يصبح وجه مصر أمام الداخل رعبًا، وينصَبَّ على الشعب الذي عانى ما عانى من ألوان الخسف رهب أن يعود الخسف إليه، ويصبح الإنسان المصري مرة أخرى يتلفت حواليه قبل أن يلتقط شهيقًا أو يخرج زفيرًا.
وأخشى — وتلك خشية وقعَت حقيقة — أن يمتنع أبناء مصر الذين كانوا قد آمنوا لبلادهم واطمأنوا إلى مصائر أموالهم فيها عن إرسال أموالهم إلى مصارف مصر كما كانوا يرسلون … وكيف يأمنون أن يرسلوا هذه الأموال من الاضطراب الاقتصادي الذي وقع بمصر والذي باركه الشيوعيون وأحاطوه بألوان التهليل التي يجيدونها كلَّ الإجادة؟ حتى إذا انحسر الاضطراب اليوم وبدأ الاقتصاد المصري يعود إلى شيء من الطمأنينة ظلَّت أبواق الشيوعيين التي تملأ الصحف القومية والتي تسد أقطار التليفزيون وميكروفونات الإذاعة تثير الذعر والخوف في نفوس المصريين في الخارج، وتزجرهم أن يرسلوا أموالهم، فهم في بعدهم لن يعرفوا أن هذه الأصوات ما هي إلا عويل الشيوعيين وصراخهم مجتمعًا، فيبدو كأنه صادر عن الكثرة، وهو في الحقيقة يمثل هذا الحزب الذي تقدَّم إلى الانتخابات، فلم ينَل مقعدًا واحدًا في مجلس شعب أو مجلس شورى … والذين يعيشون في خارج مصر يقرءون الصحف، وبعضهم يسمع الإذاعة، وبعض منهم يشاهد التليفزيون. وهم يعرفون أحوال بلادهم من هذه الوسائل، فهم حين يقرءون الصحف فيجدون الصوت الشيوعي هو أعلاها نغمة، ويجدون الشيوعيين يطلون عليهم بوحشية من كل الصحف، وحين يسمعون الإذاعة فيجدون التمثيليات كثيرًا ما تنبعث عن الفكر الشيوعي المادي الدكتاتوري، وإذا رأوا التليفزيون، وشاهدوا التمثيليات التي أصبحت لا عمل لها إلا مهاجمة الحرية الاقتصادية، والدعوة الصريحة حينًا والمتكرِّرة أحيانًا إلى عهد الانغلاق والكبت والحبس والستار الحديدي، وهم يشاهدون تمثيلية تمجِّد باقتصاد مصر … ولن يكون ذلك والشيوعيون هم أئمة الإعلام المصري، فإن هؤلاء لا أمل لهم إلا خراب مصر … ساء ما يأملون، وكرِهَ الله ما يبيتون، وإنه سبحانه لماكرٌ بهم، فمحيط بما عليه يتآمرون، والله خير الماكرين.
هزيمة ٥٦ التي نال بها اليهود شرم الشيخ، ولا تذكر شيئًا عن نصر ٧٣ الذي رد إلى العرب — كلَّ العرب — كرامتهم، والتي قدَّم فيها الجيش المصري بعون الله القدير المتعالِ معجزة بعد أن انتهت عصور المعجزات، والتي دبَّر لها وقدَّر وأمر بها الزعيم الخالد على مدى الزمان أنور السادات، حين يشاهدون هذا يحبسون أموالهم عن أن تشارك في الاقتصاد المصري بعد أن كانوا سعداء غاية السعادة أن أموالهم أصبحت من العمد الأساسية في خير مصر، وفي سعيها أن تزيح ما تركه عهد القحط والخراب والمخابرات والاعتداء على الأموال العامة والخاصة، وعلى الأعراض العامة والخاصة أيضًا.
فالذي يصنعه الشيوعيون في الإعلام المصري ليس مجرَّد أصوات، إنما هو وجه مصر يخشاه مَن بداخلها، ويتصرف مَن بخارجها على أساسه.
فليس الأمر مجرَّد مقالة أو تمثيلية، فلو كان هذا كل ما ينتج عن صراخهم لهانَ الأمر، ولما استحقَّ منا أي تعليق.
فمصر لن تكون شيوعية أبدًا. مصر ذات الآلاف من السنوات هي مهد الإيمان، عرفت التوحيد أول مَن عرف، وكل معابد الفراعنة صروح لإيمان مصر بالسماء، وكل كنائس مصر صروح لإيمان الأقباط بالله والمسيح، وعشرات الألوف من المآذن في أرجاء مصر من أقصاها إلى أقصاها حصون شامخة شمَّاء تدمِّر الشيوعية، وتمزِّق أعلامها، وتمحق أفكارها، وتقضي على تدبيرها الخبيث.
فما أنا بخائف من هؤلاء المهازيل على مستقبل مصر في عقيدتها ودينها وديمقراطيتها، وإنما أنا أخشى أن تكون أصواتهم هذه تخريبًا لاقتصاد مصر في وقت لا تحتمل فيه مصر أي مساس باقتصادها.
أخشى أن يداخل المشروعات — التي أصبحت أساسًا في الاقتصاد المصري — نوع من القلق، فتقبض يدها عن التوسُّع والسعي إلى التقدُّم الفني والعلمي. ولا أمل لاقتصاد مصر في التقدُّم العلمي، والأخذ بآخِر ما وصلت إليه المباحث الجديدة المتطوِّرة في جميع فروع الحياة.
أخشى أن تهرب أموال تفكر في الدخول، وأخشى أن يشيع عن مصر أنها عادت دارًا لا يأمن فيها المال، ولا يطمئن في ربوعها المستثمرون.
وليعلم الجميع أن المستثمر إذا لم يربح فهو لن يقدِّم ماله، فقد يتبرَّع شخص بملايين الجنيهات، ولكن نفس الشخص لا يضيع مائة جنيه في مشروع صناعي أو تجاري لا يدرُّ عليه ربحًا.
ولست أدري لماذا تعمل كل التمثيليات في التليفزيون على ذم الربح، وأنه جريمة قتل، والمسلمون منهم وغير المسلمين يعلمون أن الربح في التجارة عمل مشروع تباركه جميع الأديان بلا استثناء.
من حق التمثيليات، بل من واجبها أن تهاجم الجشع … أن ترفض الغش … أن تمحق التحايل … أن تشجب المنصب.
ولكن من واجبنا أيضًا أن نبارك الرزق الحلال … من واجب الإعلام — بل واجبه الأول وقبل أيِّ شيء آخَر — أن يبث في نفوس العالم وفي نفوس المصريين الثقة بمصر.