ولا حتى جاهلية
كانت الجاهلية ضربًا موبقًا من الحياة. كانت مجتمع الإنسان المنسحق، حتى هو بضاعة تُباع وتُشترى، ثم هو بعد أن يصبح عبدًا يصير شيئًا لصاحبه أن يصنع به ما يشاء بما في ذلك القتل. وكانت الجاهلية مجتمع الانحلال الخلقي حتى لكان سادة العرب يتاجرون في الأعراض تحت الرايات الحُمر تخفق بانهيار الشرف وضياع الحياء وغيبة النخوة وسقوط الكرامة.
وكانت الجاهلية مجتمع الرجل، فله أن يتزوج ما شاء من الناس بغير حدود، إلى جانب الجواري يتسرَّاهُنَّ، فإذا كنت سمعت عن امرأة ذات قيمة في الجاهلية فقد استمدَّت قيمتها من شخصيتها هي لا من حقوقها الاجتماعية، وحين جاء زواج الأربعة كان تحديدًا وإباحة، فقد كان العددُ مُطلَقًا بلا حدود.
وكانت الجاهلية مجتمع السيف والقتل وقوة الحيوان، فلا يعيش في أنحائها إلا صاحب القوة والسلطان المستمد من السلاح، فردًا كان هذا القوي، أم قبيلة، أم جماعة من القبائل.
وجاء الإسلام فاندكَّت هذه الأركان جميعًا.
فلا عبيد ولا سادة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ صدق الله العظيم (سورة الحجرات: الآية ١٣)، وهذه الآية وحدها من شأنها أن تكون بركانًا يقضي قضاءً ماحِقًا على مجتمع السادة والعبيد، أيكون أكرمهم أتقاهم؟ لا أغناهم ولا أقواهم ولا أكثرهم جاهًا وعددًا وجبروتًا وطغيانًا؟ فتلك إذَن هي الطامة الكبرى، وتلك هي نهاية زمان وبداية زمان. فلا عجب إذَن أن يفعل الطغاة العرب ما فعلوا.
وجاء الإسلام: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا صدق الله العظيم (الإسراء: ٣٢).
إذَن فقد ضاع أيضًا ذلك المصدر الضخم من مصادر المال، ونُكِّست الرايات الحمر، وأصبحت هباءة عدمًا تحرم باعة الأعراض والشرف من تجارتهم الدنسة، وتنضب ينابيع المال التي كانت تنسكب عليهم من هاته الخيام المنكرة الذميمة.
وجاء الإسلام فإذا هو يرفع نور السلام على العالمين لهم دار السلام (النساء ٩٤)، ويقول تعالى في سورة يونس: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ، ويقول في سورة الحشر: هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، ويقول في سورة الفرقان: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا، وفي سورة الواقعة: إِلَّا قِيلًا سَلَامًا؛ فهو دين السلام إذَن، فلا عدوان، ولا اعتزاز بالسيف على غير حق، ولا إغارة على الآمنين.
وحين رفعَ الإسلام السيف رفعه من أجل السلام، واستتب به السلام، فلم يفتح دولة إلا ما كان يتوقع منها أن تهدِّد الآمنين من شعوبه، ولم يُرغم فردًا على الإسلام، وإنما هو سلام سلام، ومَن يرغب في اعتناقه عن اقتناع وإقبال، فأهلًا، ومَن يبتغي البقاء على دينه فآمِنٌ هو مطمئن، وسلام عليه سلام.
واندثرت الجاهلية وزالت معالمها، ولم يبقَ من آثارها إلا ما يرضاه الإسلام، وعلى المدى التاريخي لم يكن هناك عهد كله شرور، فلا بد أن تكون هناك إشعاعات من نور في دامس الظلام، فما بعجيبٍ أن يبقى من الجاهلية النجدة، والشجاعة، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، ورعاية الجار، وإكرام مَن غلت بهم السن، ومرَّت الأجيال، فأين نحن اليوم من الإسلام ومما بقي من أخلاق سجاحة وإن كانت إلى الجاهلية تنتسب؟!
الظلام يلف العالم الإسلامي أجمع، فلا ضياء من الإسلام ينير سماءه، ولا بصيص من شرف يومض بين جنباته القتل والدمار والسرقة والانتهاب والبغي والعدوان والهول المبيد والفرقة والتنابذ والشقاق والتناحُر، والمسلم يقتل مسلمًا، والجميع يقتلون الحق والإشراق والسلام والإيمان.
الدول تتخذ من الدول عبيدًا، وبعد أن كانت العبودية لأفراد أصبحت العبودية لجماعات بأسرها، ولأوطان بأكملها، وانظر إلى أفغانستان وإلى دول المسلمين صامتة راضية، وانظر إلى سوريا وما تصنعه بلبنان، وإلى لبنان وما تصنعه جماعات منها مسلمة بجماعات منها مسلمة، وانظر إلى تلك الداهية الدهياء في العراق وإيران، وهذا النكبة النكباء المسماة القذافي.
أين هذا من الإسلام بل وأين هذا من الجاهلية؟ ويل للعالم، أهو يتقدَّم أم يرجع القهقرى إلى أحطِّ عهودِ الإنسانية وأشدها وبالًا وأتعسها حالًا.
أيثب الإنسان إلى القمر بعلمه، وينحدر إلى القرود بخَلقه؟!
كيف يتحطَّم المنطق ويتهشم بهذه الصورة البشعة؟!
وما كان أغنانا عن القمر إذا كنا لا نستطيع أن نحافظ على الأرض. وإذا نظرنا إلى مجتمعنا هذا المصري الذي نعيش فيه طالعَتْنا الدواهي الآخذات.
لقد تحطَّم في مصر الكثير الكثير مما كانت تعتز به مصر، والمسلم ينسى إسلامه ويسرق ويرتشي ويثير الفتنة، ولا يرعى الله ويعبد المال، وكأنه سيصحبه معه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. أو المسلم يُغالي في دينه ويبالغ مبالغة مُفتعَلة مُصطنَعة، ناسيًا قوله تعالى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ (النساء: ١٧١)، وقوله مرةً أخرى في الآية ٧٧ من سورة المائدة قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ يريدون أن يتخذوا الدين وسيلة إلى سلطان الدنيا، بئس ما يبيتون، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو سبحانه يدري أن بعضهم، بل بعض زعمائهم، مُنغمِسون في الغيِّ إلى الأذقان لا يتورَّعون عن الموبقات ما ثقُل منها وما هو أقرب ما يكون إلى الكفر يتظاهرون بالورع، وهم فيما يظنونه خفاءً يرتكبون الكبائر لا يعفون عن أغفلها شأنًا وأحطها قدرًا.
وأين الجاهلية بما أجاز الإسلام من بعض أخلاقها؟ أين النجدة والشجاعة وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج ورعاية الجار وإكرام الكبار؟! وأين لغة القرآن وأين لغة العرب؟!
أما النجدة فأغلب الظن أن كثيرًا من القرَّاء لن يعرف معناها وهو يقرؤها، وأين الشجاعة وقد أصبح النفاق هو سمة العصر، فلا تسمع كلمة حق إلا من النادرين القلة الذين لا يزالون يعتبرون أن الكلمة عَرضٌ وشرف.
وأين إغاثة الملهوف وأنت تجد الموظَّف يأبى أن يؤدِّي وظيفته الطبيعية إلا إذا أصاب ما لا يجوز له من مالٍ ويسمِّيه إكرامية، وهو عند الحق رشوة. وهل لمرتشٍ أن يغيث ملهوفًا؟ كيف؟ شرف وخسة لا يجتمعان، كما لا تجتمع الأمانة مع السرقة أبدًا.
وأصبحت رعاية الجار عدوانًا على أمن بيته بالأصوات الصارخة من أدوات الإعلام، أو من أبواق السيارات، هذا إذا لم يتمثَّل العدوان في تشابُك بالأيدي أو الألسنة.
وما دمنا لا نرعى شأن الجار اللصيق، فما بعجيبٍ أن نسكت عمَّا يحدث لإخواننا في الإسلام في بلغاريا والإسلام قربي ونسب! فما بالنا لم نرَ دولةً من دول الإسلام حرَّكَت ساكنًا لنصرة إخوتها في الإسلام، ولو بقَطْع العلاقات مع بلغاريا.
لقد كان العرب سبَّاقين إلى قطع العلاقات مع زعيمتهم مصر؛ لأنها استردَّت أرضها؛ لأنها وقَّعَت معاهدة كامب ديفيد التي يلهثون اليوم جميعًا إلى معاهدة قريبة منها، فتنقطع أنفاسهم، وتنغلق دونهم الطرائق، وتُسَدُّ أمامهم المسالك.
وحين يقعد بهم العجز لا يجدون مُتنفَّسًا لغيظهم إلا سب مصر وكامب ديفيد، فِعلَ الثعلب الذي لم يصل إلى العنب فراح يصبُّ على العناقيد جامَّ غضبته.
أيقطعون العلاقات مع مصر لأنها انتصرت لهم ورفعت ذكرهم في العالمين وأسعار بترولهم في دنيا المال، وجعلت أنوار الإسلام تتلألأ في أنحاء العالم أجمع؟ ويبقون على صِلاتهم وعلاقتهم مع روسيا وهي تدكُّ المسلمين في أفغانستان، ومع بلغاريا وهي تنكِّل بالمسلمين المسالمين في ربوعها؟!
أمِثل هؤلاء تُنشَد عندهم رعاية الجار؟! أليست مصر جارًا لهم وأُمًّا لثقافتهم ومصدرًا لعلمهم وفنهم ومجدهم في أنحاء العالم المُتمَدْيِن كله؟! مصر الأزهر، مصر المآذن، يقطع المسلمون علاقاتهم بها ويبقون على علاقاتهم مع الذين يُبيدون المسلمين في أفغانستان وينكِّلون بالمسلمين في بلغاريا؟
لا ورب الكعبة … ولا والحرمَين … ولا إسلام في هذا، ولا حتى جاهلية الإخاء والنجدة.
واليوم نحن في أعقاب عيدٍ إسلامي، نصطنع الفرحة على وجوهنا ونتبادل المعايدة أممًا وأفرادًا، وأصيح مع المتنبي:
فإن تكن عُدت بقدمَيك فلا فرحة لنا فيك، وإن كنت عُدت لأمر تجديد، فلنقل البيت القديم: