قصة لم أصنعها
ألتقي به في عرض البحر الأبيض المتوسط مراتٍ قليلة كلَّ عام، فمواعيد نزوله إلى البحر لا تتفق مع مواعيدي إلا في أيام قلائل. ونتجاذب أطراف الحديث ونحن طافيان على سطح الماء بحركة هيِّنة من الذراعَين والساقين، ونترك لأمواج البحر أن توجه مكاننا حيثما يطيب لها أن تتجه.
ويجري الحديث بيننا هادئًا ليِّنًا هنيًّا كأمواج بحيرة أو كأمواج الخليج الهادي الذي نلتقي فيه. لا نقاش بيننا، وإنما قصص صنعتها بناء الحياة على مدار العام، أو صنعناها نحن في الحياة، والعام أيام طوال، ولقاؤنا ساعات قصار تتزاحم الأنباء فيه بغير تحاشد ولا مواثبة، وإنما القصة تُفضي إلى القصة، والنبأ يسلم إلى النبأ، وقد نفتتح الحديث بكلمة قرأناها لصحفي في الصباح، أو لكاتب نشرها منذ قريب، وقد تُذكِّرنا الكلمة بقصة حدثت في نهر العام ونرويها، ومنذ أيام قلائل طلعت علينا صحيفة بكلمة لصحفي دأب على أن يدافع عن فترة بعينها وعن أسرة بذاتها، والتزم بهذا الدفاع يسارع إليه، سواء دعا إلى ذلك داعٍ أو لم يدع، وإنما هي مهمة وضعها هو على كتفيه. ولا أظن أنه اختار هذه المهمة طواعيةً واختيارًا، فقد ارتبط اسمه هو وما نال من وظائف في دنيا الصحافة المصرية وغير المصرية بتلك الفترة وبناسها وبمَن ينتسب إليها. فالدفاع دفاع عن نفسه وعن المديح الذي كان يكيله بغير حساب لهذا الزمن ولأعلامه وأقزامه على السواء. وأخونا الصحفي يحسب أنه بما يدافع اليوم إنما يدفع عن نفسه تهمة النفاق، ويعلم الله أنه أوقع نفسه في منطقة من الرمال المتحركة الخائنة التي تبتلع الإنسان كلما حاول أن يتخلَّص منها، ويزداد الابتلاع كلما ازدادت محاولة التخلُّص عنفًا وإصرارًا.
وقال صديق البحر وهو يربت الأمواج بيدَيه:
هل قرأت؟
قلت: نعم قرأت.
قال: إذَن أستطيع أن أروي لك ما حدث لي في هذا المضمار.
قلت: وهل لنا عمل إلا الرواية منك والاستماع مني، أو الرواية مني والاستماع منك.
قال: عشت عمري أعجب بالعمَّال وهم يبنون.
قلت: هذا طبيعي، فأسرتك كلها عملها البناء أبًا عن جد.
قال: وهكذا أصبحت مهندسًا، وأنا مساهم في شركة مقاولات.
قلت: وهذا أيضًا طبيعي.
قال: عرفنا في الشركة التي أساهم فيها أن هناك عملية إنشائية طرحتها شركة أمريكية تكلفتها تتراوح بين أربعة ملايين وخمسة ملايين من الجنيهات، وتقدمنا لنقوم بالعملية، وتقدمت معنا شركات أخرى، منها شركات أفراد، ومنها شركات من جملة أفراد. وبعد الفحص جاءت شركتي الأولى بين الشركات الأخرى، ولكنني لم أسارع بقبول العملية، فقد كان من بين الشروط واحد يقضي بأن أقدِّم للشركة خطاب ضمان بعشرةٍ في المائة من قيمة العملية. وخطابًا آخر بخمسة في المائة من قيمة العملية أيضًا. ورأيت أن هذا سيكلفنا مبلغًا ضخمًا من المال لا أحتمله. فذهبت إلى الشركة الأمريكية ورجوتها أن تعفينا من بعض هذه المبالغ الضخمة، ولكن الشركة رفضت قائلة إن هذا من قانون الشركة، ولا يمكن أن يغيروا قانون الشركة.
وبناءً عليه، رفضوا العطاء الذي تقدمت به وقبلوا العطاء التالي:
أتعرف من صاحب العطاء التالي؟
قلت: ومن أين لي أن أعرف وأنا لم أعرف كلمة المقاولة إلا مما درسته بكلية الحقوق.
قال: إنه من فلان.
وذكر اسمًا، لا أستطيع أن أذكره، فالحديث بيننا في البحر، ولا دليل معه يقدمه لي، ولا دليل عندي أقدمه للقارئ، وهذا كلام إذا لم نشفع فيه الأسماء بالمستندات نكن ظالمين لأنفسنا، ولذلك اخترت كلمة «قصة» عنوانًا لهذا الكلام؛ لأن القصة قد تصدق، وقد تكون تأليفًا وخيالًا.
مع أنني واثق كلَّ الثقة من محدِّثي الذي أعرفه منذ قرابة عشر سنوات لم أجرب عليه إلا الصدق والأمانة والشرف، ثم أنا رجل خالطت الحياة وعركتني، وعرفت من أخلاق الناس ما ينبغي أن يعرف مَن عاش حياتي ومَن صناعته في الحياة كتابة الرواية والمقاولات والقصص، وهذه صناعة إن لم تكن فيها واسع الخبرة بالناس وبالحياة فلا أمل لك على الإطلاق أن تقدم إلى الناس شيئًا يستحق الذكر، فالكاتب يقدِّم الناس إلى الناس، وإذا هم أحسوا أنك لا تعرفهم حق المعرفة انصرفوا عنك كلَّ منصرف.
فصاحبي صادق لا شك في صدقه، ولكن الذي أخشاه ألا تصدِّقه أنت، فمن الخير له ألا أذكر اسمه، ومن الخير لي ألا أذكر أنا الاسم الذي ذكره، فهو اسم لا يجهله أحد في العالم لا في مصر وحدها بما ينتسب إليهم من أقوام، وبما ذاع عنهم من أحاديث ملأت الدنيا جميعًا في يوم من الأيام.
إن الاسم الذي ذكره اسم فتى صغير ليس من المفروض أن يكون على أي قدر من الثراء، فطبيعة ما سمعناه عنه تقتضي أن يكون مستورًا لا مليونيرًا، ولو سألناه أو سألنا المدافعين عنه من أين لانهالوا علينا بالأجوبة، ولكن المؤكَّد الذي لا شك فيه أن أحدًا لن يصدِّق حرفًا من أجوبتهم.
وإذا شاء محقِّق صحفي أن يتصل بي ويسألني عن صاحب الرواية التي سمعتها في مياه البحر وعن صاحب الاسم الذي ذكره فأنا على استعداد أن أذكره بشرط واحد؛ أن يتعهد المحقِّق الصحفي بتحري النبأ وتتبعه، وليس في الأمر سرٌّ يخفى ولا سرقة فتُستر، إنما هو عطاء شريف في عملية مقاولة تُقدَّم من فتى في أول حياته العملية، ففاز بها، وكل الذي نبحث عنه هو «من أين؟»، فلا داعي هناك للإخفاء أو التستُّر، سيجد المحقِّق الصحفي الطريق أمامه مفتوحًا على مصراعيه ميسورًا لسالكيه، مرحِّبًا بمَن يسير فيه، وأكمل محدِّثي في الماء الحديث فقال:
تقدَّم هذا الشخص الأسطورة إلى الشركة وقال لها: إذا كان الأول لم يستطع أن يُقدم خطابات ضمان بخمس عشرة في المائة من قيمة المقاولة، فها أنا ذا أقدم إليكم خطابات ضمان بثلاثين في المائة من العملية. ورسا العطاء عليه بطبيعة الحال.
وللقصة بقية لا تخلو من طرافة؛ فقد جمعت مناسبة من مناسبات الأفراح بين أخت محدثي ووالدة الشاب الأسطورة، فإذا الأم تقول للأخت — فلان بك (محدِّثي) يدخل في عطاء مع ابني فلان (الأسطورة)، وهل ابني قده؟! إن ابني عصفورة صغيرة لا تحتمل ثروة فلان بك (محدِّثي).
وتنتهي القصة وأتساءل: إذا كان وهو عصفورة قدَّم ثلاثين في المائة في حين أن المطلوب خمس عشرة، فماذا هو صانعٌ حين يصبح نسرًا؟!
قصة أقدِّمها إليك تقرؤها في هذا الحر اللافح، وهذا القيظ الشديد، وكل رجائي ألا تزيد وطأة الحر عليك، وألا تجعل القيظ غيظًا. وقاك الله من الحر والغيظ جميعًا إنه سميع مجيب.