كان الله في عون التاريخ
شرفت بعضوية مجلس الشورى منذ إنشائه، ولا أذكر أنني كتبت شيئًا أُعلِّق به على موضوع تحدثت فيه داخل المجلس، ولكنني في هذه المرة مُرغَم أن أختط لنفسي خطةً تخالف ما جريت عليه حتى اليوم، فقد بدأ النقاش بحديث من الزميل الكريم نظمي بطرس تناول فيه أحزاب ما قبل الثورة بهجوم قاسٍ عنيف، وكان هجومه جائحًا لم يتحسب فيه استثناء، ولم يفصل مفرقًا بين عهدٍ أو فترة وفترة، ورأيت فيما سمعت ظلمًا تأباه النفس، وجورًا لا يقبل الصمت، فطلبت الكلمة للتعليق وقلت ما معناه: إن تناول الأحزاب قبل الثورة لا يجوز أن يكون بهذه الصورة في مجلس له احترامه وتوقيره عند الناس، وإن أحزاب ما قبل الثورة هي وليدة ثورة تُعتبر من أكرم ثورات التاريخ، وإننا نكبر الحرية التي نعيش فيها اليوم؛ لأننا عرفنا الحرية قبل الثورة، ورجوت الزملاء الأعضاء أن يراعوا المسئولية التي نحملها على أكتافنا حين نتكلم في المجلس الذي يحظى بين الناس بكل إجلال وتوقير.
وحدث أن خرجت من الجلسة لبعض شأني غير متوقِّع أن يكون هذا الذي قلت موضع نقاش أو تعليق من أحد، فوجئت باسمي يتردَّد بين ردهات المجلس في ناقل الصوت الذي يُذيع الجلسة في حجرات المجلس، فأطفأت سيجارتي وسارعت إلى القاعة لأجد الأستاذ موسى صبري يُكمل كلمته التي لم أسمع أولها، وطلبت الكلمة لأردَّ على ما سمعت منها، ورددت ولا أحب أن أُعيد ما قلت، فمضبطة الجلسة كفيلة بذلك، ثم فوجئت يوم الخميس بخطاب من الأستاذ سعد فخري عبد النور منشور بجريدة الأخبار، وبتعليق مفصَّل من الأستاذ موسى صبري وجدت أنه أصبح من الحتم عليَّ أن أفصل ما أجملت حتى أزيح عنه اللبس الذي عراه نتيجة الإيجاز والإشارة دون الشرح والإضافة.
فواقع الأمر أنني حين تحدثت عما قبل ثورة ٥٢ لم أقصد ما سبقها مباشرة، وإنما قصدت فترة من الزمن توغل في أعماق التاريخ حتى تصل إلى أحداث ثورة ١٩ الخالدة.
فالذي لا شك فيه أن الديمقراطية في هذه الفترة كانت موجودة وجودًا فيه بعض النقص، وكيف لدولة يحتلها محتل بجيشه وسلطاته، وله فيها الناب والظفر والكلمة الأخيرة أن تتمتع بديمقراطية كاملة.
وقد كان الشعب المصري حين ثار ثورته في سنة ١٩١٩ ويحاول أن يُزيح المحتل كله، ولكن المحتل كان يُزحزح أقدامه في تثاقل وفي بطء مقيت، وهو يملك القوة الغاشمة التي لا تقف أمامها قوة، فلم يكن عجبًا أن يقبل الشعب المصري كلَّ بابٍ أو نافذةٍ تصل بينه وبين الحرية الكاملة التي يقاتل من أجلها، ويسعى لها سعيها وهو مؤمن بها كلَّ الإيمان، وحصلت مصر على تصريح ٢٨ فبراير، ونتج عنه دستور ٢٣، وكان هذا أكبر خطوة نالتها مصر في طريق الحرية، وقد وضع الدستور جماعة من أكبر فقهاء القانون، واعتبر العالم الدستور المصري من أعظم الدساتير العالمية، ولكن لا بد لنا أن نذكر أن هذا الدستور قد وُضع في ظل الاحتلال.
ولذلك نجد فيه مادة لا يمكن أن يقبلها شعب حر على الإطلاق، وهي المادة التي تعطي الملك الحق في إقالة الوزارة إذا وقع الخلاف بينهما، وهي مادة جعلت الدستور متناقضًا مع نفسه كلَّ التناقض، فكيف ينص في مادة منه على أن الملك يملك ولا يحكم، ثم يعطيه في نفس الدستور حتى الإقالة، إلا أن يكون المحتلُّ بجبروته قد فرض هذه المادة فرضًا حتى يظل الأمر في يده فإن حق الإقالة ما دام في يد الملك، ومادام الملك يُدين في بقائه للمحتل وحده، فالأمر إذَن أولًا وأخيرًا في يد الإنجليز المحتلين، وما أحسب أن حزب الوفد انتفع بشيء في حياته جميعًا قَدْر النفع الذي أفاده من هذه المادة، فإن رئيس الوزراء الوفدي لم يقدِّم استقالة إلا مرة واحدة على طول الحياة النيابية في مصر، أما في المرَّات الأخرى، فلم يكن يخرج من الوزارة إلا وقد أقاله الملك، وكان الوفد يحكم ويرتكب ما يرتكب من أخطاء، ويبدأ الشعب في معرفته على حقيقته من تقريب للأصهار واستثناءات وتجاهُل لمواد الدستور، ثم تأتي الإقالة من الملك، فتغسل عن الوفد جميع أخطائه وتعيده إلى شبابه الأول، ويعود أغلب الشعب إلى الالتفاف حوله.
وهكذا أصبح الأمر كما قال الدكتور هيكل باشا: إن الديمقراطية هيهات لها أن تصبح كاملة في مصر وفي مصرَ احتلالٌ وملِك يخضع للاحتلال.
وفي ظِل الاحتلال كان الخلاف بين الأحزاب اختلافًا حول تصرُّفات وأشخاص، ولم يكن اختلافًا حول مبادئ؛ فمبادئ الأحزاب جميعًا كانت تُوشك أن تكون متطابقة، وكانت المادة الأولى فيها جلاء الجيوش الإنجليزية عن مصر.
ولنَعْبر الآن من الحديث العام إلى الحديث عن الوفد منذ جاء على أسِنَّة الحِراب في فبراير سنة ٤٢ الإنجليزية، إلى أن أُقيل في ٨ أكتوبر سنة ١٩٤٤، ثم حين عاد في سنة ١٩٥٠، ولست أفكِّر أن أتحدَّث عنه حديثًا مُفصَّلًا، فإن المجال لا يحتمل هذا، ولكنني أكتفي بأن أذكر الذين عاصروا هذه الفترة بالاعتقالات التي قام بها الوفد لعلي ماهر باشا وغيره لحساب الإنجليز، وإسقاط عضوية مجلس النواب عن مكرم عبيد باشا واعتقاله لحساب حزب الوفد، واختلطت مصالح الاحتلال بمصالح الوزارة الوفدية، ولم تتعارض، وكانت الحجة عند المحتل أنه مُشتبِك في حربٍ عالمية، ولكن الوفد لم تكن له حجة، وأُقيل الوفد في سنة ١٩٤٤، ثم عاد بأغلبية ساحقة في سنة ٥٠.
ألم أقُل لك إن الإقالة كانت تُطهِّره أمام الشَّعب تطهيرًا. وحين عاد حزم أمره أن يُمالئ الملِك بكل الوسائل، وسمعنا عن النحاس باشا حين لم يكن له مطلب في الحياة إلا أن يقبِّل يد الملك الطاهرة، وقد كانت في ذلك الحين أشد ما تكون تلوُّثًا. وإن لم تكن هذه الواقعة صحيحة فقد سمعنا في أمرها تشكيكًا، فالذي لا شكَّ فيه ذلك التصريح الذي أدلى به النحاس باشا حين سُئل عن شأن من شئون الحكم، وكان الملِك في ذلك الحين في كابري فقال: «إن كابري قِبلة يجب أن نتجه إليها جميعًا»، وهكذا جعل الملِك قِبلة وكعبة.
وصنع الوفد ما صنع بأعضاء مجلس الشيوخ من القمم الشامخة، وطردهم وغيَّر المضبطة، ولو أنني لا ألومه كلَّ اللوم على تغيير المضبطة هذا، فما دام الإنجليز هم الذين أمروا، فإنه لا يملك إلا الخضوع.
ولكن مهما يكُن الأمر فإن الإنسان لم يكُن في هذا العهد بكلِّ سوءاته هالِعًا على يومه وغده، وكانت العقوبة القصوى هي الاعتقال، وكان هذا جميعه في ظِل ملِك فاسد، وجيش شرس أجنبي محتل … ولهذا كان الطبيعي أن يفرح الناس بقيام ثورة ٢٣ التي أعلنت أنها تقوم للمحافظة على الدستور.
ثم … ويل لنا من ثم … أُلغِيَ الدستور جميعًا، فكان شأننا شأن مَن استعان بطبيب لينقذ مريضًا، فإذا الطبيب يُطلق الرصاص على المريض.
وخرج الإنجليز. وكنا نظن أننا سنحتمي في ظِل حُكَّامنا، وقد أصبحوا لأول مرة في تاريخنا من أبناء مصر، دماؤنا دماؤهم، وعِرضنا عِرضهم، فإذا مصر تصبح وهي حرة من المحتل رعشة خوف، ولوثة مذعور، فالعِرض مُباح، والدم مُهدَر، وكل قيمة في الحياة مُحطَّمة مُحترِقة، فهي هشيم، وجفَّ ماء الحياة، وزاغت الأبصار وارتعدت الفرائص — كل الفرائص — وحدث ما حدث، ونزل بنا من الكوارث ما نزل؛ حتى جاء المغفور له صاحب الأيدي الناصعة على تاريخ مصر أنور السادات، فردَّ إلى النفوس الطمأنينة، وإلى الوطن والعرب الكرامة، وتوَّج حياته بالسلام.
ونحن اليوم في حُكم حسني مبارك نحقِّق من الآمال ما هفَوْنا إليه حين تخلَّصْنا من الملِك الفاسد ومن المحتل الغاشم. وما صبونا إليه من حريةٍ لا مثيل لها.
فالمقارنة التي عقدتُها إذَن في مجلس الشورى كانت بين ما كان قبل ٥٢ وما بعدها من حُكم الطغيان.
وقد عرفت أن الأستاذ موسى صبري قال فيما قال: إنني ارتجفتُ غضبًا. علم الله يا أخي موسى أن رجفتي كانت لك لا عليك، ومالي لا أرتجف وقد كانت الجرائد حتى في حُكم الوفد الذي أدينه اليوم تطلع كلَّ يوم مليئة بالهجوم السافر على رئيس الوفد ووزارته، وعلى الملِك في بعض الأحيان، في حين نُفيتَ أنت من الصحافة جميعًا؛ لأنك تجرَّأتَ فكتبتَ نقدًا لمذيعةٍ في التليفزيون. وهذا بعضٌ ضئيلٌ من كلٍّ فظيع مريع سفاح.
إن التاريخ الذي نذكره اليوم لم يصبح بعدُ تاريخًا، وإنما هو واقع عشناه، واصطلينا ناره، ونعمنا فيه من حسنات، فإذا كنا نختلف فيه اليوم فإلى أي مصير هو صائر حين يصبح سماعًا لا عيانًا، وذكرى لا واقعًا؟ كان الله في عون التاريخ!