المنافق الشجاع
شجاع غاية الشجاعة، جبان أشد الجبن … يزأر كالأسد الأغلب الكاسر. ويموء كالقط الرعديد الذليل … وله لكل حالة ملبس، ولكل موقف وجه، ولكل قوم مظهر، ولكل جلسة نغمة.
يمدح غاية المديح، فيبلغ من النفاق أحطَّ النفاق وأرخصه، حتى إذا خلا بمَن يأمن شره، ويثق أنه لن يمخض به الأرض، أو يمزِّق منه الأوصال هاجم في شراسة، وعدا على كرام الناس في وقاحةِ مَن لا حياءَ عنده. وفي سعارِ مَن لا عِرض له.
رأيته مع صديقٍ لي أجِلُّه وأحترمه. وهذا الصديق لا يقبل الضيم، قادرٌ دائمًا على أن يرد العدوان بمثله إن لم يكن بأشد. رأيت المنافق الشجاع أمامه كقط ذليل يسوق له المديح وابلًا بغير حدود، ويتزلف له في خسة وضراعة، يوشك أن ينحني على يدَيه يُقبِّلها ظهرًا لبطن، ورأيت الصديق الذي أجِلُّه يخجل من المديح، ويتواضع ويبحث عن شيء من الألفاظ تردُّ عنه عادية هذا المديح، وكان الرجل الكريم يعلم أن رأي المنافق يبتعثه الرعب ويعلنه النفاق، حتى أذِنَ الله وانفضت الجلسة، ثم لم تمضِ إلا أيام قلائل وجمعَتْني والمنافق دعوةٌ لم يكن فيها ذلك الذي أوسعه نفاقًا منذ أقل من أسبوع. وكانت الدعوة تضمُّ السيدات والرجال، وكانت جلستي قريبة من المنافق، وقدَّم صاحب الدعوة المدعوِّين بعضهم إلى بعض، وكان بين السيدات سيدة نجهل أن اسمها اسم الأسرة الذي يحمله الصديق الذي كان موضع التكريم والإجلال من المنافق الشجاع، وما هي إلا لحظة حتى وجدته يسأل السيدة: ألكِ قرابة بفلان؟
فقالت السيدة في تواضُع: إنه أخي.
وإذا المنافق الشجاع يقول دون أن يمسك لسانه بعض الحياء من وجودي، أو بعض الأدب المفروض في الحديث إلى السيدات: إنه أسخف إنسان عرفتُه.
وإذا السيدة تقول وقد وقفَتْ عن مجلسها: إنه أخي، وإني أحبه كلَّ الحب، ولا أسمح لأحد أن يتحدَّث عنه في غيابه، وتستطيع أن تقول رأيك فيه له هو إن أردت، أما أنا فاسمح لي أن أنصرف عن مجلسٍ يُذكَر فيه اسم أخي بهذا الأسلوب.
وانصرفت السيدة عن مجلسنا في أدبٍ، ودون أن يرتفع لها صوت أو يعلو منها حسٌّ، وقد كان المنافق الشجاع يعلم أن السيدة لن تسمح لنفسها أن تفعل أكثر مما فعلت، فهو يعلم من طول ما عاشر الحياة كيف يتصرَّف الكرام.
أما أنا فلم أطِقْ صمتًا وسألته: قل لي أيها الرجل، أليس الشخص المقصود هو نفسه الذي رأيتك منذ أيام قلائل تسكب عليه غدقًا من المديح أوشكت أن تغرقه به؟! ولكن للمنافقين فلسفة خاصة، ربما كانت فلسفة حقيرة مهينة، ولكنها ترضيهم عن أنفسهم وتهبُ لهم الأمن والطمأنينة … فإذا يقول لي: وماذا كنت تريدني أن أقول له؟ لو أنني قلت رأيي الحقيقي لما أمِنتُ أن يضربني ضربة قد تودي بحياتي؟!
ومرةً أخرى لم أطِقْ صمتًا: كنت تستطيع ألا تُكيل له المديح أو الذم، وأنت تعلم أنه يعرف رأيك الحقيقي فيه؛ لأنك تعلم أن رأيه فيك شرٌّ من رأيك فيه. أما وقد نافقتَ ما نافقتَ وعلى مشهدٍ مني فكنت تستطيع على الأقل ألا تقول لأخته ما قلتَه الآن حتى لا أزدادُ احتقارًا لك.
– ولكن رأيك لا يعنيني!
– ذلك لأنني لا أضرب الناس، وإن كنتُ أعتقد الآن أن هذه قاعدة ينبغي أن أخرج عليها من حين إلى آخَر. وعلى كلِّ حالٍ ما شأن أخته التي لم ترَها إلا اليوم حتى تجرحها في أخيها وهو غائب؟!
– أريد أن أقول رأيي.
– فإذا بلغه؟
– واضحٌ أنها سيدة فاضلة، ولن تنقل إلى أخيها ما سمعته مني حتى لا تجرحه، فالفُضليات من السيدات لا يحببن أن ينقلن إلى الناس إلا ما يسعد الناس. فما بالك وهو أخوها الذي تحبه؟! لا شكَّ أنها لن تُخبره حتى لا تُغضبه.
– وحسبتَ أنت الحسبة في لحظات، وأعلنتَ رأيك في هذه الخسة. إذَن فاعلم أني ناقل هذا الحديث إلى صاحبه.
– لو كنتُ أعرف أنك ممَّن ينقلون الحديث ما قلتُ الذي قلت.
– اسمع، الحقيقة أنني كنت أحتقرك احتقارًا شديدًا، حتى لقد كنتُ أحسب أنه ليس هناك من سبيلٍ إلى مزيد لهذا الاحتقار … ولكنني أهنئك؛ فقد بلغت من المهانة مكانة لا يبلغها إلا أنت، وأهنئك؛ فقد نجحت أن تجعل احتقاري لك يزداد أضعافًا مضاعفة، أهنئك.
– شكرًا.
ليس الصديق الذي كان موضوع المديح والهجوم نكرةً في الناس، ولا هيِّن الشأن، بل هو رجل بعيد الصيت، واسع الشهرة، له شأن عظماء الرجال الكثيرين الذين يحبُّونه حبًّا عميقًا صادقًا. وله أيضًا الأعداء الذين يبغضونه أشدَّ البغض. ومَن لا يغيض له ولا رأي له، وهو صاحب رأي، وهو يعلنه في غير مداراة ولا تحايُل، وإنما هو يصدِّع به أعداءه في علن الكرام، وفي صدق أصحاب الرسالات لم يكن عجيبًا إذَن أن ينتقل إليه هذا الحوار جميعًا من شخص آخَر آثر الصمت في الدعوة التي جرى فيها الحديث، ولم يعلن أنه يعرف الشخص موضوع الحديث.
لقيت الصديق الذي أجِلُّه وسألني، فتأبيتُ أن أقُصَّ عليه شيئًا مما حدث، وعرف هو أنني أداور بالحديث لا أنفي ولا أثبت، فأدرك صحة ما بلغه، فهو يعلم أنني لا أريد أن أكذب، وهو يعلم أنني أربأ بنفسي عن النميمة والإيقاع بين الناس. فلست بهذا، فإذا الرجل يقول في كبرياء: أنا لا أشكرك، فمثلك أتوقَّع عنده ما قلت. أما هذا المسكين الذي تريد أن تستر عليه فاعلم أنه مفضوح بما ينشره على الناس. وأنا لا أغضب من أي إنسان يسبني في غيبتي، فحسبي شرفًا أن أمثال هؤلاء يخشونني ولا يجرءون على مهاجمتي إلا حين أكون بغير مشهد، وحين يكونون بعيدين عن حضرتي.
وقلت في صدق: وهذا ما أتوقعه عندك، وهكذا يكون شأن الكرام.