الفصل الأول
السرطان الجوراسي
أثناء عبوري لامتداد جاف ومنعزل من الطريق السريع المعروف باسم الديناصور الماسي
لما قبل
التاريخ،
١⋆٢ حاولت أن أتخيل الشكل الذي كان عليه غرب ولاية كولورادو، وهو قِفارٌ بريَّة من
الهضاب والوديان الضيقة المغطَّاة بنباتات المريمية، قبل ١٥٠ مليون سنة، أيْ في أواخر
العصر
الجوراسي
Late Jurassic. كانت أمريكا الشمالية في سبيلها
إلى الانفصال عن أوروبا وآسيا، حيث كانت القارات الثلاث تشكِّل، مجتمِعةً، قارةً بُدائيةً
عملاقةً تُسمَّى لوراسيا
Laurasia. كانت تلك الكتلة الهائلة
من الأرض، والتي كانت أكثر تسطحًا مما هي عليه اليوم، تنحرف إلى الشمال بمعدَّل بضعة
سنتيمترات في السنة، وكانت تمرُّ كسفينة عبر مياهٍ ما سيطلق عليه علماء الجغرافيا لاحقًا
اسم مدار السرطان
Tropic of Cancer. كانت مدينة دنفر
Denver، التي ترتفع اليوم عن الأرض بقدْر مِيلٍ واحد،
توجد قريبًا من مستوى سطح البحر وتقع بعيدًا إلى الجنوب بقدْر بُعد جزر البهاما اليوم.
وعلى
الرغم من أن المناخ كان جافًّا إلى حدٍّ ما، فإن شبكات من الجداول التي تربط البحيرات
الضحلة والمستنقعات كانت تغطي جزءًا من الأرض، كما كان الغطاء النباتي مزدهرًا. لم تكُن
هناك أعشاب أو زهور، فلم تكُن هذه قد تطورت بعد، بل مجرد مزيج غريب من أشجار الصنوبريات
الممتزجة مع أشجار الجنكة الصينية
ginkgos، والسراخس
الشجرية، والسيكاسيات
cycads، ونباتات ذنب الفرس
horsetails. كانت أعشاش النمل الأبيض العملاقة
٣ ترتفع حتى ثلاثين قدمًا. وعبر هذا العالم الشبيه بروايات الدكتور
سوس،
٤⋆ كانت تصول وتجول كائناتٌ مثل الستيغوصورس
Stegosaurus، والألوصورس
Allosaurus، والبراكيوصورس
Brachiosaurus، والباروصورس
Barosaurus، والسيزموصورس
Seismosaurus، والتي كانت عظامها مدفونةً على عمق سحيق
أسفل مني، وأنا أشقُّ طريقي من مدينة غراند جنكشن
Grand
Junction إلى بلدة تُسمَّى ديناصور.
كان بوسع المرء أن يلمح أحيانًا نتوءاتٍ صخريةً من الماضي الجوراسي، التي انكشفت
بفعل
التعرية، أو حركة الرفع الزلزالي، أو بفعل شقِّ الطرق من قِبَل إدارة الطرق السريعة،
والتي
بدت كأشرطة ملوَّنة من الترسبات التي تشكِّل كنزًا أحفوريًّا يُسمَّى تشكيل موريسون
Morrison Formation. كنت أعرف ما أبحث عنه من الصور
الفوتوغرافية: طبقات متداعية من الرواسب المحمرَّة، أو الرمادية، أو البنفسجية، والمخضرَّة
أحيانًا، وهي حطام جيولوجي تراكم على مدى نحو ٧ ملايين سنة.
وإلى الجنوب مباشرةً من بلدة فرويتا
Fruita الواقعة على
نهر كولورادو، تجوَّلت على القدمَين إلى أعلى تلِّ ديناصور هِل
٥ حيث توقفتُ برهةً لالتقاط قليل من أحجار موريسون الطينية الأرجوانية اللون التي
سقطت بالقُرب من ممرِّ المُشاة. وأثناء تقليبها بين أصابعي، تفتَّتت مثل كعكة العجين
الجافة. وعلى الجانب الآخر من التل، وصلت إلى ممرِّ رأسي
shaft تمكَّن عنده، في العام ١٩٠١م، اختصاصيٌّ بعلم
الأحافير يُدعى إلمر ريغز
Riggs من استخراج ٦ أطنان من
العظام التي تعود إلى مخلوق الأباتوصورس
Apatosaurus (وهو
الاسم الصحيح لما يطلق عليه معظمنا اسم البرونتوصورس
Brontosaurus). وعندما كان على قيد الحياة ومرتويًا
بشكل كامل، لا بدَّ أن هذا الزاحف البالغ طوله ٧٠ قدمًا قد بلغ من الوزن ٣٠ طنًّا. غطَّى
ريغز العظام في المصيص لحمايتها، ونقلها عبر ولاية كولورادو على متن قارب مسطَّح القاع،
ومن
ثَم شحنها بالقطار إلى متحف فيلد
Field Museum في شيكاغو،
حيث تمَّت إعادة تجميعها وعرضها على الجمهور.
وبعد أن شقَقْتُ طريقي شمالًا إلى بلدة ديناصور (التي لا يزيد عدد سكانها على ٣٣٩
نسمة)،
حيث تتقاطع جادة برونتوصورس مع طريق ستيغوصورس السريع، وقفتُ عند مكان مرتفع وشاهدت أشرطة
موريسون في أحد الوديان وهي تتحول إلى اللون الأحمر مع غروب الشمس. وعند مسافة أبعد قليلًا
إلى الغرب، على طول نهر غرين ريفر Green River عند الروافد
الغربية لجبل ديناصور التذكاري الوطني، رأيت أكثر النماذج جمالًا، وهو جُرفٌ من الصخور
الرمادية المخضرَّة التي تنحسر إلى اللون البنفسجي قبل أن تتراجع إلى البني. كانت هذه
في
الواقع، كما أخبرتني المرأة التي التقيتها في مقر إدارة المتنزه، تُشبه آيس كريم (بوظة)
نابولي الذائبة.
وفي مكانٍ ما في هذه المنطقة، تم اكتشاف إحدى عظام الديناصور، والتي تُظهر ما يمكن
أن
يمثل أقدم حالة معروفة من السرطان. وبعد موت هذا الديناصور، سواء بفعل الوَرَم أو لأيِّ
سبب
آخر، التهمَت الحيوانات المفترسة أعضاءه أو تحلَّلت هذه بسرعة. لكن الهيكل العظمي — أو
على
الأقل جزء منه — انطمر تحت الأرض تدريجيًّا بفعل التراب والرمال التي نثرَتها الرياح.
وفي
وقتٍ لاحق، كان يتدفق على الحطام بُحيرة متوسعة أو جدول متعرِّج، وكانت الساحة ممهدة
لحدوث
التحفُّر fossilization. استُبدلت المعادن المتضمَّنة في
العظام ببطء، جزيئًا جزيئًا، بالمعادن الذائبة في المياه؛ وبالتالي فقد امتلأت التجاويف
الصغيرة وتحجَّرت. وبعد عصور عديدة، كانت الديناصورات قد انقرضت منذ مدَّة طويلة، واكتسى
العالم الذي عاشت فيه بالبُحيرات والصحاري والمحيطات، لكن هذه العظمة المتحجرة، المغطَّاة
بالصخور الرسوبية، قد حُفظت وظلَّت باقيةً عبر الزمن.
كان هذا حدثًا نادرًا، إذ تفتَّت معظم العظام قبل أن تتحفَّر. وكذلك فإن ذلك الجزء
منها
الذي بقي لفترة طويلة بما يكفي للتحفُّر، قد ظلَّ مدفونًا باستثناء حفنة ضئيلة. أمَّا
العيِّنة، التي تُعرف الآن باسم
CM 72656، والمحفوظة في
متحف كارنيغي للتاريخ الطبيعي في بيتسبرغ، فكانت ضمن تلك الفئة الناجية. وسواء تم نبشها
بفعل نهر متسارع أو كشفها بفعل القُوى التكتونية
tectonic
forces، فقد وصلت بطريقة أو بأخرى إلى سطح عالمنا، حيث اكتُشفت بعد ١٥٠
مليون سنة من موت الحيوان، من قِبَل هاوٍ مغمور لجمع الصخور. أُجريَ مقطع عرضي للعيِّنة
بمنشار للصخور، ومن ثَم صُقلت. وبعد تقلُّبها عبر عدد غير معلوم من الأيدي البشرية، وجدت
الأحفورة طريقها إلى متجر للصخور بولاية كولورادو حيث التقطتها عينا طبيب
٦ يعرف أنه ينظر إلى حالةٍ لسرطان العظام عندما يرى واحدةً منها.
كان اسمه ريموند ج. بونج
Bunge، أستاذ المسالك البولية في
كلية الطب بجامعة ولاية أيوا. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، اتصل بونج هاتفيًّا بقسم
الجيولوجيا في الكلية لسؤالهم عمَّا إذا كان من الممكن أن يأتي شخص من قِبَلهم لتقييم
بعض
العيِّنات النادرة في مجموعته. شقَّت مكالمته طريقها عبر مقسم الهواتف إلى براين فيتزكه
Witzke، الذي قاد في يوم خريفي بارد دراجتَه إلى منزل
الطبيب الذي عرض عليه قطعةً جذابة، يبلغ سُمكها خمس بوصات،
٧ من عظام الديناصور المتمعدنة. وعند النظر إليها من الأمام، كانت قياسات
الأحفورة ٦٫٥ في ٩٫٥ بوصات، واستقرَّ بداخل لُبِّها نتوء، والذي تبلور الآن، كان قد تضخَّم
حتى وصل إلى الجزء الخارجي من العظم. اشتبه بونج في الساركومة العظمية
osteosarcoma، فقد شاهد الضرر الذي يمكن للسرطان إلحاقه
بالهياكل العظمية البشرية، وخصوصًا في الأطفال. كان الوَرَم البيضاوي الشكل، والذي يبلغ
في
الحجم كرةً لينةً
softball٨⋆ مسحوقةً قليلًا، قد تحوَّل على مدى آلاف السنين إلى
ضرب من العقيق
agate.
كانت الشظية من الصِّغَر بحيث لم يتمكن فيتزكه من تحديد نوع العظم أو نوع الديناصور،
لكنه
كان قادرًا على وضع تشخيص جيولوجي: كان اللون البنِّي المحمرُّ والمركز العقيقي
agatized دليلَين على أن العيِّنة جاءت من تشكيل
موريسون. تذكر بونج أنه اشترى هدايا تذكاريةً من مكانٍ ما غرب كولورادو، كانت القِطَع
المصقولة من العظام المتحفِّرة للديناصورات من القِطَع المفضَّلة لدى جامعي الصخور، لكنه
لم
يستطع تذكُّر الموقع على وجه الدقة؛ وبالتالي أعطى الصخرة إلى عالم بالجيولوجيا، وطلب
منه
الحصول على رأيٍ من خبراء.
ولانشغاله بأمور أخرى، فقد ظلَّت الأُحفورة قابعةً وشِبهَ منسيةٍ فوق خزانة الملفَّات
في
مكتب فيتزكه، حتى اليوم الذي أرسلها فيه إلى بروس روتشيلد
Rothschild، وهو اختصاصيُّ الروماتيزم في مركز شمال شرق
ولاية أوهايو لالتهاب المفاصل، والذي وسَّع نطاق ممارسته لتشمل أمراض العظام في
الديناصورات. لم يكُن قد سبق له رؤية مثال أوضح أو أقدم لسرطانٍ يرجع إلى عصور ما قبل
التاريخ. وقد تمثلت خطوته التالية في تحديد النوع الدقيق من السرطان الذي أصاب
العيِّنة.
وكما اتضح لاحقًا، فلم يكُن الوَرَم يُظهر الهوامش غير المحدَّدة أو الشكل الطبقي
الشبيه
بقشرة البصلة
٩ للساركومة العظمية، وهو نوع السرطان الذي اشتبه فيه بونج، أو المميزة لوَرَم
خبيث آخر يُعرف باسم ساركومة يوينغ
Ewing’s sarcoma. كان
روتشيلد أيضًا واثقًا من صواب استبعاد الوَرَم النقوي
myeloma، وهو سرطان الخلايا البلازمية الذي يترك العظام
المصابة بمظهر «مخْروم». كانت حقيقةَ أن الوَرَم، وهو يشقُّ طريقه إلى الخارج، قد ترك
قشرةً
رقيقةً من العظم على حالها، هي سبب استبعاد الوَرَم النقوي المتعدِّد، وهو وَرَم غازي
أكثر
عدوانية. من شأن كل الأمراض التي تصيب الهيكل العظمي أن يترك علامةً مميزة، وبالتالي
قام
روتشيلد باستبعاد الاحتمالات الممكنة، واحدًا تلو الآخر: «الحفر السطحية المنفردة
والمتلاقية لابيضاض الدم
leukaemia»، و«المظهر المتمدد،
والشبيه بفقاعات الصابون للكيسات العظمية الأمدمية»
١٠⋆ و«التكلسات المشاشية الفُشارية المميزة للأورام الأروميَّة الغضروفية
chondroblastomas»، و«مظهر الزجاج المصنفَر المميِّز
لخلل التنسُّج الليفي
fibrous dysplasia».
أمَّا بالنسبة إلى شخص غير متخصِّص يقرأ ملاحظات روتشيلد، فإن المصطلحات الطبية
المستخدَمة قد تقع في مكانٍ ما بين كونها شفافةً ومبهمة، فهي كلماتٌ لا يكتسب المرء ألفةً
كئيبةً معها إلا عندما يسعى جاهدًا إلى فهم سبب الانقطاع المفاجئ للسرطان. أمَّا الأمر
الذي
كان واضحًا منذ البداية، فهو الثقة التي يمكن لمتخصِّص في العلم الغامض لباثولوجية
الديناصورات من التوصل إلى التشخيص المحتمل لوَرَم يبلغ من العمر ١٥٠ مليون سنة. واصل
روتشيلد ملاحظاته، فاستبعد «الآفات ذات الحواف المتصلبة التي يسبِّبها النقرس
gout»، و«مناطق الارتشاف المميزة للسُّل
tuberculosis»، و«الملامح التصلبية للآفات الصمغية لداء
اللولبيات
treponemal disease». الكيسات العظمية الأحادية
الغرفة، الأورام الغضروفية الباطنة
enchondromas، أورام
بانيات العظم
osteoblastomas، الأورام الليفية الغضروفية
المختلطة،
١١⋆ الوَرَم العظمي العظماني
osteoid osteoma،
الوَرَم الحبيبي اليوزيني
eosinophilic granuloma. مَن كان
ليعرف أن أمورًا بهذا السوء قد تحدث داخل ما يبدو كقطعة من العظام الصلبة؟ لم يكُن أيٌّ
من
هذه الأمراض يبدو كتشخيصٍ محتمَل. ومن منظور روتشيلد، كانت هذه الآفة تحمل علامات السرطان
النقيلي — من أشدِّ الأنواع فتكًا — وهو سرطان نشأ من خلايا في أماكن أخرى من جسم
الديناصور، والتي ارتحلت لتأسيس مستعمرة جديدة لها في الهيكل العظمي.
كانت هناك إشارات متناثرة في المجلات الطبية إلى أورام عظمية أخرى
١٢ في الديناصورات، الأورام العظمية
osteomas (وهي
كُتَل من خلايا العظام الفائقة النشاط، والتي تتجاوز حدودها الشرعية)، والأورام الوعائية
hemangiomas (وهي انصبابات شاذة للأوعية الدموية، والتي
يمكن أن تتشكل ضمن النسيج الإسفنجي بداخل العظام). ومثل السرطان، فهذه الأورام الحميدة
هي
ضربٌ من الوَرَم
neoplasm (من اليونانية بمعنى «النمو
الجديد») وهي خلايا تعلَّمت خداع وسائل دفاع الجسم ومن ثم تُظهر إرادةً خاصةً بها. تتضاعف
خلايا الوَرَم الحميد ببطء نسبي، كما أنها لا تمتلك القدرة على غزو الأنسجة المحيطة بها
أو
على الانتقال، بيدَ أنها ليست غير ضارة بالضرورة. يمكن للوَرَم الحميد أحيانًا أن تضغط
بشكل
خطير على عضو أو وعاء دموي، أو أن يفرز هرموناتٍ مدمرة. وكذلك فإن بعضها قد تصبح سرطانية،
لكن هذه نادرة بما فيه الكفاية. لكن مشاهدة الأورام الخبيثة في الديناصورات تمثل حالاتٍ
نادرةً للغاية. لفترة من الوقت، اعتقد الباحثون أن الوَرَم الشبيه بالقرنبيط في القائم
الأمامي لديناصور من نوع الألوصورس
Allosaurus هو ساركومة
غضروفية، بيدَ أنه الفحص الدقيق، قرر روتشيلد أنه كان مجرد كسر ملتئم تعرَّض للعدوى.
كانت
أحفورة بونج هي الشيء الحقيقي. وفي ورقة بحثية مقتضَبة مؤلَّفة من خمسمائة كلمة، كتبها
مع
فيتزكه وزميل آخر له ونُشرت في مجلة «ذا لانسيت»
The Lancet
في العام ١٩٩٩م، توصَّل إلى استنتاج جريء: «من شأن هذه المشاهدة تمديد التعرف
١٣ على أصول السرطان النقيلي على الأقلِّ إلى منتصف العصر الوسيط
mid-Mesozoic (عصر الديناصورات)، وهو أقدم مثال معروف
في السجل الأحفوري.»
لقد سمعت لأول مرة بأحفورة ريموند بونج في وقت سابق من ذلك الصيف، عندما بدأت أشقُّ
طريقي
عبر الأدبيات المتوفرة عن علم السرطان. ثمة شيءٌ جذابٌ على نحو رائع بخصوص الطريقة التي
يمكن بها لخلية منفردة أن تفرَّ من القطيع وتبدأ في التضاعُف، مكوِّنةً شيئًا غريبًا
بداخل
الإنسان، مثل عضو جديد ينبت فجأةً في المكان الخطأ، أو — وهو الأمر الأكثر بشاعة — جنين
معيب مشوَّه. إن الأورام المسخية، وهي أورام نادرة تنشأ من الخلايا الجنسية الضالة
١٤ التي تؤدي إلى البويضات والحيوانات المنوية، قد تحتوي على بقايا من الشعر،
والعضلات، والجلد، والأسنان والعظام. ويُشتقُّ اسمُها
[
teratomas] من اللفظة اليونانية
teras بمعنى «وحش». لقد أُصيبت امرأة يابانية شابَّة
بكيسة مبيضية
ovarian cyst تحتوي على رأس، وجذع، وأطراف،
وأعضاء، وعين صقلوبية
cyclopean eye. غير أن هذه الحالات
نادرة للغاية. تتطور الأورام في الغالبية الساحقة منها وفقًا لخطة مرتجلة خاصة بها، بيدَ
أن
أكثرها خطورةً تكتسب القدرة على الانتقال. وبمجرد أن تقوم بترسيخ نفسها في المحيط القريب
منها، أيْ في المعدة أو القولون أو الرحم، فهي تواصل مسيرتها، أيْ تنتقل
metastasize، إلى أماكن جديدة. وبالتالي، فإن السرطان
الذي يبدأ في غُدة البروستاتة
prostate قد يستقر في نهاية
المطاف في الرئتين أو العمود الفقري. لم يكُن هناك أيُّ سبب يدعو للاعتقاد بأن السرطان
لم
يحدث في الديناصورات؛ ولكن بالنظر إلى النسبة الضئيلة من البقايا الأحفورية التي حصل
البشر
على فرصة لدراستها، فإن مصادفة مثال فعلي عليها كانت تبدو أشبه بالمعجزة.
لنتدبَّر حجم الحقل المعني؛ من النُّصب التذكاري الوطني للديناصورات في ولايتَي يوتا
وكولورادو، يمتدُّ تشكيل موريسون شمالًا إلى ولايات وايومنغ وأيداهو ومونتانا وساوث ونورث
داكوتا، وإلى جنوب كندا، وينتشر شرقًا إلى ولايتَي نبراسكا وكنساس، وجنوبًا إلى الشريطَين
الممتدَّين من ولايتَي تكساس وأوكلاهوما، وصولًا إلى ولايتَي نيو مكسيكو وأريزونا. وهو
يغطي
ما يقرب من نصف مليون ميل مربع. لم يؤدِّ تآكُل التربة وعمليات الحفر، سواء كانت طبيعية
أو
من صنع الإنسان، إلا إلى تحزيز الحواف، الذي يوفر بالكاد عيناتٍ من تراكم عظام الديناصورات
الذي تم على مدى سبعة ملايين سنة، والتي تنطوي فقط على تلك التي اتفق وأن صارت متحفِّرة.
ولولا عينا ريموند بونج الثاقبتان، لضاع أقدم دليل ملموس على السرطان في عصور ما قبل
التاريخ. كم عدد الحالات الأخرى التي انسحقت بداخل تلك الطبقات القاتمة؟ ومن بين العظام
التي اكتُشفت، كم عدد الأورام الخبيثة التي جرى إغفالُها؟ لم يكُن علماء الأحافير يبحثون
عن
السرطان أصلًا، كما أن قليلين منهم كانوا سيتعرفون عليه إذا رأوه، وكذلك فإن الأورام
الوحيدة التي كانت لديهم فرصة لاكتشافها لا بدَّ أنها تلك التي شقَّت طريقها إلى خارج
سطح
العظام، أو التي كشفها كسر عشوائي أو قَطع غير مقصود من منشار صاقل الأحجار.
من بين أكثر الأسئلة مراوَغةً حول الأورام السرطانية هو: ما مقدار السرطانات السرمدية
والحتمية، أي التي تنشأ عفويًّا داخل الجسم، وما مقدار تلك الناتجة عن التلوث، والكيماويات
الصناعية، والأجهزة الأخرى التي صنعها الإنسان؟ من شأن الحصول على تقديرات أولية عن تواتر
السرطان في العهود السابقة أن يوفر أدلة مُهمَّة، لكن ذلك لن يتأتَّى إلا في وجود عيِّنة
أكبر من البيانات. وبسبب اشتعال حماسه بفعل وَرَم بونج الأحفوري، بدأ روتشيلد في البحث
عن
المزيد.
وباستخدام منظار تألقي
fluoroscope محمول،
١٥ بدأ شقَّ طريقِه بإجراء فحوصه الشعاعية عبر متاحف أمريكا الشمالية. في البشر،
تنتهي السرطانات التي تنتشر إلى الهيكل العظمي في الغالب في العمود الفقري، لذلك فقد
ركَّز
روتشيلد على الفقرات
vertebrae. وبحلول الوقت الذي انتهى
فيه من فحص ١٠٣١٢ فقرةً من حوالي سبعمائة ديناصور من مقتنيات المتحف الأمريكي للتاريخ
الطبيعي في نيويورك، ومتحف كارنيغي في بيتسبرغ، ومتحف فيلد في شيكاغو، وغيرها من المؤسَّسات
في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا، وهو ما يمثل كل عيِّنة توجَد إلى الشمال من الحدود
المكسيكية، والتي أمكنه أن يضع عليها يدَيه. فحص روتشيلد فقراتٍ سائبة، وباستخدام السلالم
وجهاز جمع الكرز، فحص الفقرات المرتفعة لهياكل عظمية كاملة (توجد صورة له وهو يرتدي قميصًا
يحمل صورة ديناصور،
١٦ ويميل إلى الخلف داخل القفص الصدري لأحد حيوانات التيرانوصورس ريكس
Tyrannosaurus rex). أمَّا العظام التي ظهرت غير طبيعية
تحت الأشعة السينية فقد فُحصت على نحوٍ أدقَّ باستخدام المسح بالأشعة المقطعية.
وفي نهاية المطاف، حصل على ثمرة اجتهاده؛ فقد وجد وَرَمًا خبيثًا عظميًّا آخر، وكان
بوسعه
هذه المرة التعرف على الضحية: إدمونتوصورس
Edmontosaurus؛
وهو كائن هائل الحجم له خطم يشبه منقار البطة (اسم الفصيلة هو الهادروصورات
Hadrosauridae)، والذي عاش في نهاية العصر الطباشيري
Cretaceous، الذي تبع العصر الجوراسي مباشرةً، عندما
بدأت الديناصورات في الانقراض. كانت الهادروصورات الأخرى مصابةً أيضًا بأورام في العظام،
والتي كانت جميعها حميدة؛ وَرَم بانيات العظم، ووَرَم ليفي
صلد،
١٧⋆ وستة وعشرين وَرَمًا وعائيًّا، غير أنه لم تكُن هناك أية أورام بين الوحوش
الأخرى، وهو الأمر الذي ربما مثَّل أكبر مفاجأة. وعلى الرغم من أن فقرات الهادروصورات
مثَّلت أقلَّ من ثُلث كومة العظام، المؤلَّفة من نحو ٢٨٠٠ عيِّنة من أقلَّ من مائة ديناصور،
فقد كانت هي مصدر جميع الأورام. أمَّا ما يقرب من ٧٤٠٠ فقرة التي لم تكُن لهادورصورات،
والتي تعود إلى دينوصورات الأباتوصورس
Apatosaurus،
والباروصورس
Barosaurus، والألوصورس، وغيرها، فلم تُظهر
وجود أيِّ أورام، سواء كانت خبيثة أو حميدة.
كان هذا الشذوذ من النوع الذي يواجهه اختصاصيُّو وبائيات السرطان البشري على الدوام.
لماذا يُصاب بعضُ الناس بعدد من السرطانات أكبر من غيرهم؟ ربما وقعت بعض التحولات التطورية
التي تركت الهادورصورس باستعداد وراثي للإصابة بالأورام، أو ربما كان السبب راجعًا إلى
الاستقلاب. قد تكون هذه الديناصورات، كما تكهَّن روتشيلد، ذات دماء أكثر حرارة
١٨ من الديناصورات الأخرى. تسير العمليات الاستقلابية في ذوات الدم الحار بوتيرة
أسرع، فهي تستهلك الطاقة للحفاظ على درجة حرارة الجسم، وقد يؤدي ذلك إلى تسريع تراكم
التلف
الخلوي الذي يؤدي إلى الخباثة.
وربما أن الاختلاف لم يكُن متوطنًا ولا بيئيًّا، بل أمر متعلق بما كان الهادورصورس
يأكله.
تنخرط النباتات ضمن النظام البيئي في حرب كيماوية لا نهاية لها، حيث تصنع مبيدات الأعشاب
والمبيدات الحشرية لمحاربة الآفات. وبعض هذه المواد الكيميائية يسبب الطفرات؛ أيْ إنها
تغيِّر الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسجين (الدنا:
DNA).
إن السلائل المعاصرة لنباتات السيكاسيات
cycads الشبيهة
بالسراخس التي نمَت خلال الدهر الوسيط تُنتِج سمومًا يمكنها تحريض أورام الكبد والكلى
في
فئران المختبَر. لكنْ لماذا تناول الهادورصورس قدْرًا من السيكاسيات أكبر مما كان يتناوله
الأباتوصورس، على سبيل المثال؟ ثمة مصدر آخر محتمَل للمسرطنات
carcinogens، وهي إبر أشجار الصنوبر، والتي اكتُشفت في
بطون بضع «مومياوات» للإدمونتوصورس،
١٩ والتي دُفنت بقاياها في ظلِّ ظروف بيئية مواتية، بحيث تحولت إلى حفريات بدلًا
من أن تتعفن. غير أن ذلك لم يكُن يمثل ما يكفي من الأدلة لمواصلة البحث.
كانت هناك ملامح غريبة أخرى يتعيَّن تفسيرُها؛ فعندما حدثت أورام الهادورصورسات،
لم تُصب
سوى الفقرات الذيلية caudal vertebrae، أيْ تلك الأقرب إلى
ذيل العمود الفقري. ما الأمر المتعلق بالجزء السفلي من تلك الزواحف، والذي جعلها أكثر
عُرضةً للسرطان من الجزء العلوي؟ لو كان بوسعنا فقط إعادة إنشاء الديناصورات من الدنا
DNA القديم، كما حدث في فيلم «الحديقة الجوراسية»، ومن
ثَم إتاحتها للبحوث الطبية. في مراكز السرطان الكبرى، مثل مستشفى دانا فاربر في بوسطن،
وإم
دي أندرسون في هيوستن، وغيرها في جميع أنحاء العالم، يمكن لعالِم أن يقضي حياته المهنية
كلها في دراسة الدور الذي يؤديه جزيء واحد في الأورام الخبيثة، وبالتالي فإن مجرد البيانات
المستقاة من مسح روتشيلد قد طرحت من الأسئلة ما يكفي لأطروحاتٍ بأَسرِها، بيدَ أن الأهمَّ
من بينها هو كيفية وضع نتائج مشاهداته في منظورها الصحيح. إن سرطان العظام البشرية من
أيِّ
نوع، سواء كان نقيليًّا أو ناشئًا من الهيكل العظمي، يمثل حالات نادرة. لكنْ هل كانت
حالةٌ
واحدةٌ من بين سبعمائة من الهياكل العظمية للديناصورات قليلًا أم كثيرًا؟
وفي دراسة ثالثة، تدبَّر روتشيلد الصعاب.
٢٠ لقد اتصل به اثنان من علماء الفيزياء الفلكية كانا يأمُلان في دعم نظريتهما
القائلة بأن نهاية هيمنة الديناصورات على الأرض قد تسارعت بفعل زيادة مفاجئة في الأشعة
الكونية المشعَّة. يمكن للإشعاع المؤين — وهو نوع قوي بما يكفي لإتلاف الدنا — أن يسبِّب
السرطان، ويكون نخاع العظام عُرضةً للإصابة به بشكل خاص. إذا كان ثمة حدث كوني قد أدَّى
إلى
انبعاث أشعة قوية بشكل غير معتاد، فلا بدَّ أن تأثير ذلك على الديناصورات كان التعرُّض
للأشعة السينية من الفضاء الخارجي.
لكنْ كيف يمكنك احتساب وبائيات ذلك؟ في دراسة سابقة، أجرى روتشيلد وزوجته
٢١ كريستين فحصًا بالأشعة السينية على العظام المتضمَّنة في مجموعة هامان-تود
للعظام البشرية
٢٢⋆ في متحف كليفلاند للتاريخ الطبيعي، وهي مستودع يضمُّ ثلاثة آلاف هيكل عظمي من
جثث كلية الطب، وهي جثث المشرَّدين التي كانت ستنتهي بخلاف ذلك في مقابر الفقراء. كان
ثلاثة
وثلاثون منهم مصابين بأورام نقيلية في العظام، وهو ما يمثل نسبة ١٫١٤ في المائة. وتشير
عمليات تشريح الجثث في حديقة حيوان سان دييغو
٢٣ إلى أن الزواحف تُصاب بسرطان العظام بمعدَّلٍ يبلغ نحو ثُمن الإصابات لدى
البشر، أو حوالي ٠٫١٤٢ في المائة، وبالتالي فإن إصابة سرطانية واحدة في الإدمونتوصورس
من
بين سبعمائة ديناصور صُوِّرت بالأشعة التألقية يُنتج نفس العدد تقريبًا. لا بدَّ للمرء
أن
يبحث في مكان آخر عن دليل على أن السرطان كان عاملًا مُسبِّبًا للانقراض.
طوال شهور، ظلَّت الأخبار غير المؤكدة مثل هذه تتراكم في دفتر مذكراتي، ومن ثَم تتناقل
عبر أجزاء ذهني. والملاحظ أن كل سؤال أُثيرَ حول السرطان قد تمخَّض حتمًا عن المزيد.
ما مدى
تمثيل مجموعة هامان-تود لمعدَّل الإصابة بالسرطان بشكل عام؟ ربما أن الفقراء المتضمَّنة
عظامهم في المجموعة قد عانوا من سوء التغذية والأنظمة الغذائية العشوائية، الأمر الذي
ربما
أدَّى إلى زيادة قابليَّتهم للسرطان. ومع ذلك فإن العديد منهم ربما عاش حياةً قصيرةً
نسبيًّا، ومن ثَم تُوفِّي بسبب العنف أو الأمراض المُعدِية قبل أن يكون هناك وقتٌ لتنامي
السرطان في جسده. ربما عمل كل ذلك على موازنة الاحتمالات، وربما لا. بيدَ أن دراسة
الحيوانات في حديقة حيوان سان دييغو أثارت المزيد من الأسئلة؛ تميل الحيوانات في الأَسر
إلى
الإصابة بالسرطان بمعدلات أكبر من تلك التي تعيش في البرية، ربما بسبب تعرُّضها لكميات
أكثر
من المبيدات الحشرية أو المواد المُضافة إلى الأغذية، أو ربما لمجرد أنها تظلُّ على قيد
الحياة لفتراتٍ أطول، وتحصل على قدْرٍ أقلَّ من الحركة، وتأكل بكميات أكبر. ومن بين جميع
عوامل الخطر المرتبطة بالسرطان البشري، هناك اثنان نادرًا ما يُختلف عليهما؛ هما السمنة
والشيخوخة.
كان السؤال الأكثر إثارةً للقلق هو كم يمكن للمرء استقراؤه حول السرطان في الديناصورات،
ومن ثَم الأصل النهائي لهذا المرض، من ذلك القدْر الضئيل من الأدلة المتبقية. وإذا لم
تُدرج
في العيِّنة سوى تلك المائة هادورصورس المعرَّضة للإصابة بالأورام، فسيكون معدَّل إصابتها
بسرطان العظام واحدًا في المائة، وهي النسبة نفسها تقريبًا في الهياكل العظمية البشرية.
لكن
عليك أن تتساءل عن ذلك الكَمِّ الهائل من العيِّنات الأخرى التي تقبع في انتظار مَن
يكتشفها، فمجرد اكتشاف واحدة أخرى مصابة بوَرَم خبيث سيُضاعف معدَّل الإصابة بالسرطان.
وأخيرًا كان هناك سؤال عن عدد أنواع السرطان التي ربما قد انتشرت إلى الأجزاء التي لم
تُفحَص من الهيكل العظمي أو إلى الأعضاء الرخوة، وهي السرطانات التي لم تصل إلى العظام
مطلقًا. وبمجرد أن تتحلل الأنسجة، ستختفي الأدلة على وجودها.
ثمة تقارير عن وجود استثناء محتمَل، ففي عام ٢٠٠٣م، وهي السنة التي ظهر فيها مسح
روتشيلد،
أعلن علماء الحفريات في ولاية ساوث داكوتا
٢٤ عن اكتشاف ما قد يكون وَرَمًا في دماغ ديناصور. كانوا يجهزون جمجمة غورغوصورس
Gorgosaurus يبلغ من العمر ٧٢ مليون سنة، وهو أحد أقارب
التيرانوصورس ريكس، عندما وجدوا «كتلة غريبة من المادة السوداء في الجمجمة».
٢٥ أظهر التحليل بالأشعة السينية والفحص بالمجهر الإلكتروني أن الكتلة المستديرة
تتألف من خلايا عظمية، والتي شخَّصها علماء الباثولوجيا البيطرية على أنها «ساركومة عظمية
خارج الهيكل العظمي»،
٢٦⋆ وهي وَرَم مُنتِج للخلايا العظمية السرطانية يصيب المخيخ وجذع الدماغ. وقد يفسر
هذا سبب كَوْن مظهر الغورغوصورس مضروبًا بهذا الشكل، كما لو أن ذلك الحيوان، الذى كان
يعاني
من فقدان التحكم الحركي، قد تعثَّر وسقط مرارًا وتكرارًا. وكما خمَّن روتشيلد في ذلك
الوقت؛
«فمن المؤكد أن ثمة حدثًا غريبًا
٢٧ هو ما خلق هذا المظهر. إن موضع وطبيعة الكتلة تشير إلى أنها قد تكون وَرَمًا،
لكننا لا نزال بحاجة إلى إثبات أنها ليست مجرد شظايا متساقطة من كسر في الجمجمة.»
واصلتُ طريقي عبر طريق ديناصور دياموند السريع، وأنا أفكر في السرطان، وهنا تحقَّقت
رؤيتي
الشخصية النادرة؛ محطة بنزين سينكلير يُظهر شعارُها الأخضر ديناصورًا، ما يمثل أثرًا
آخر من
الأزمنة الخالية. وعلى طول الطريق، كانت آبار النفط الهزازة تضخُّ الوقود الأحفوري
المشتقَّ، وفقًا لأفضل معلوماتنا، من المواد العضوية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ،
والمتمثلة في هريس من الحياة النباتية والحيوانية الضئيلة، ربما مع بعض النفط الذي أسهمت
في
تكوينه الديناصورات.
كان الوقت يشير إلى الغسق تقريبًا عندما وصلت إلى هضبة يامبا
Yampa
Plateau في شمال ولاية كولورادو، وهي كومة من العناصر الجيولوجية التي
تعود إلى ٣٠٠ مليون سنة.
٢٨ أدَّت دهورٌ من الاضطرابات الزلزالية المتمثلة في انحشار وميل وسقوط وانزلاق
كُتَل هائلة من القشرة الأرضية، إلى إحداث حالة من الفوضى في الجدول الزمني. وطوال أميال،
كان الطريق ينزلق على سطح الصخور التي ترسبت في العصر الجوراسي والعصر الطباشيري، وهو
منتصف
إلى أواخر عهد الديناصورات. وبعد ذلك، ومن دون أن أشعر بارتطام في الإطارات، تغير سطح
الهضبة فجأةً إلى العصر البنسلفاني
Pennsylvanian، فقد
تقشَّرت دهورٌ بأَسرها لكشف عالَمٍ أقدم، والذي يعود إلى ١٥٠ مليون سنة قبل ديناصورات
موريسون، عندما كانت الصراصير البدائية تزحف على الأرض. وإذا أزلنا بضع طبقات تحت تلك
البنسلفانية، فسنجد آثار العصر الديفوني
Devonian، وهو مشهد
ريفي يعود إلى ٤٠٠ مليون سنة. وفي صخور العصر الديفوني، على مبعدة ١٦٠٠ مِيل إلى الشرق
من
يامبا، اكتُشفت عظمةُ فكٍّ تعود إلى إحدى الأسماك المدرعة البدائية
٢٩ بالقرب مما أصبح مدينةً كليفلاند بولاية أوهايو. كان العظم منقَّرا بما يعتبره
بعض العلماء وَرَمًا، في حين يرى آخرون أنه مجرَّد جرح قديم ناجم عن معركة.
انتهى الطريق في هاربرز كورنر — وهو الطَّرَف القاصي للهضبة — وقد سرتُ إلى الحافة
حيث
يلتقي على عمق كبير تحت نهرَي غرين ويامبا، بعد أن انتهت مسيرتهما المتعرجة عبر كل تلك
الأزمنة القاسية. وقفتُ هناك مرتبكًا من التفكر في كل هذا الماضي الذي تلاشى وكأنه لم
يكُن.
بعد اختفاء الديناصورات، جاء تجبل لاراميد
Laramide orogeny،
٣٠ عندما ارتفعت من الأرض قمم
الجبال التي أصبحت جبال الروكي فيما بعد، حتى وصلت إلى ارتفاع ١٨٠٠٠ قَدَم، قبل أن تُدفن
حتى أعناقها في الركام الخاص بها. ومع نبش جبال روكي
٣١⋆ (وهي أسماء تبدو مُستمَدة من الكتاب المقدس)، بدأت الفراغات بينها تنحسر. وفي
أوائل عصر البليستوسين (العصر الحديث الأقرب:
Pleistocene)،
أيْ منذ حوالي مليونَي سنة، تلَت العصور الجليدية الكبرى، تاركةً وراءها المعالم الجغرافية
التي نعرفها اليوم. وطوال كل هذه الكوارث الطبيعية، ظلَّت الحياة تتطور. وقد تسلَّل على
متن
تلك الرحلة هذا الدخيل المُسمَّى بالسرطان.
عُثِر على تلميحات لوجود أورام حميدة في العظام المتحجِّرة للفِيَلة، وحيوانات الماموث
mammoths، والخيول القديمة.
٣٢ يظهر فرط التعظُّم
hyperotosis، أو نمو العظام الجامح،
٣٣ في الأسماك من جنس الخنافس الثخينة
Pachylebias، والتي يبدو أنها سخَّرت تلك الأورام لمنفعتها،
فباستخدام الصابورة
ballast التي وفرتها زيادة كتلة العظام،
كان بوسع تلك الأسماك أن تبحث عن طعامها عند أعماق أكبر في مياه البحر المتوسط المالحة،
ما
منحها أفضليةً على منافسيها. وبالتالي، فإن ما بدأ كوَرَمٍ مَرَضيٍّ ربما جرى اعتماده
كاستراتيجية تطورية.
وقد اشتُبه في وجود أورام خبيثة في جاموس قديم ووعل قديم،
٣٤ بل إن هناك تقريرًا يعود إلى عام ١٩٠٨م عن اكتشاف سرطان في مومياء لقرد مصري
قديم من نوع البابون
baboon.
٣٥ تتسم هذه الأمثلة بندرتها وبكَوْنها
مثيرةً للجدل في بعض الأحيان. ولكن كما هو الحال مع الديناصورات، فإن غياب الأدلة ليس
دليلًا على انعدام الوجود. ربما كان السرطان نادرًا بدرجة كبيرة قبل أن يبدأ البشر في
العبث
بالأرض، لكن قدْرًا أساسيًّا من السرطان لا بدَّ أنه كان موجودًا طوال الوقت. من أجل
أن
يعيش جسم حي، لا بدَّ أن تظلَّ خلاياه في حالة من الانقسام المستمر، حيث تنقسم إلى خليتين،
تنقسمان إلى أربعة، ثم ثمانية، ثم تتضاعف مرارًا وتكرارًا. ومع كل انقسام، فإن الخيوط
الطويلة من الدنا
DNA — وهو مستودع المعلومات الوراثية
للكائن الحي — لا بدَّ أن يجري نسخُها ومن ثَم نقلُها للمرحلة التالية. وعلى مدار الوقت،
تطورت آلياتٌ لإصلاح الأخطاء. غير أنه في عالم يعجُّ بالفوضى، تتسم هذه بأنها عملية معيبة
بطبيعتها. وعندما تسير الأمور على نحوٍ خاطئ، فإن النتيجة هي عادةً مجرد خلية ميتة، ولكنْ
في ظلِّ الظروف المواتية، فإن تلك الأخطاء تؤدِّي إلى السرطان.
حتى البكتيريا المنفردة الوحيدة الخلية
٣٦ يمكنها أن تُنتج طفرةً تجعلها تتكاثر بقوة أكثر من جيرانها. وعندما يحدث ذلك في
خلية توجد بداخل نسيج حي، فإن النتيجة هي ظهور وَرَم. انبثقت النباتات والحيوانات — وهما
شكلان مختلفان لنفس موضوع تعدُّد الخلايا
multicellularity
— من نفس المصدر البدائي في نهاية المطاف. تمثل النباتات أبناء عمومتنا البعيدة للغاية،
كما
أنها تُصاب بالفعل بما يشبه السرطان. يمكن للبكتيريا المعروفة باسم الأجرعية المورِّمة
Agrobacterium tumefaciens٣٧ أن تنقل جزءًا من
الدنا الخاص بها إلى جينوم
genome خلية نباتية، ما يجعلها
تتضاعف متحولةً إلى وَرَم يُسمَّى التدرُّن التاجي
crown
gall. ويظهر بحث علمي متميز،
٣٨ نُشر في عام ١٩٤٢م، أنه في نباتات دوَّار الشمس، يمكن لهذه الأورام أن تُنتج
أورامًا ثانوية، وهي نظائر بدائية للنقائل
metastasis. وفي
عالم الحشرات، يمكن للخلايا اليرقية
larval cells أن
تؤدِّيَ إلى أورام غازية،
٣٩ وهي الظاهرة نفسها، ربما، التي انتقلت وصولًا إلى الفقاريات
vertebrates.
وُصِف السرطان (الساركومات، والسرطانات
carcinomas،
واللمفومات
lymphomas، وغيرها من المسمَّيات السريرية التي
تبعث على الاكتئاب)، في أسماك الشبوط
carp، والقد
codfish، والورنك
skate rays،
٤٠ والكراكي
pike، والفرخ
perch،
وغيرها من الأسماك. أمَّا سمك السلمون المرقط، مثل البشر، فيُصاب بسرطان الكبد
٤١ بسبب مادة مسرطنة، هي الأفلاتوكسين
aflatoxin،
التي يُنتِجها فُطر الرشاشية الصفراء
Aspergillus flavus.
أدَّت الشائعات القائلة بأن أسماك القرش لا تُصاب بالسرطان إلى حملة من الذبح الجماعي
من
قِبَل التجار الساعين للحصول على حبوب غضاريف القرش المضادَّة للسرطان. غير أن أسماك
القرش
تُصاب بالسرطان
٤٢ بدورها. ليست هناك أيُّ فئة مستثناة من السرطان في المملكة الحيوانية. وفي
الزواحف، هناك حالات للإصابة بالوَرَم الغُدِّي جار الدرقي
parathyroid
adenoma في السلاحف،
٤٣ وبالساركومة، وسرطان الجلد، والابيضاض اللمفاوي
lymphatic
leukemia في الثعابين. وكذلك فإن البرمائيات
amphibians تكون عُرضةً للأورام
٤٤ بدورها، غير أن بعضها يُظهر اختلافاتٍ غريبةً في الموضوع.
٤٥ وعند حقنها بالمسرطنات، نادرًا ما تُصاب حيوانات سمندل الماء
newts بالأورام، فهي أقرب احتمالًا لأن تستجيب عن طريق
إنبات أطراف جديدة في غير محلِّها. بيدَ أن هذه القدرة على تجديد أجزاء الجسم قد فُقدت
تمامًا لدى الحيوانات الأخرى خلال عملية التطور. هل يمكن أن يمثل هذا تلميحًا آخر
٤٦ يشير إلى أصول السرطان، أيْ محاولة الأنسجة التالفة إعادة إنماء نفسها على نحوٍ
محموم، لتجد أنها لم تعد تعرف كيف تفعل ذلك؟
ليس من بين هذه المخلوقات مَن يسير، أو يسبح، أو ينزلق إلى عيادة لطلب الرعاية الطبية،
لكن من المشاهدات العشوائية لعلماء التاريخ الطبيعي وعلماء الحيوان، ظهرت أنماط محدَّدة.
يبدو أن الثدييات تُصاب بعدد أكبر من السرطانات مما تفعل الزواحف أو الأسماك،
٤٧ والتي تُصاب بدورها بعدد أكبر من السرطانات مما تفعل البرمائيات. ويبدو أن
الحيوانات المستأنسة تُصاب بعدد أكبر من السرطانات
٤٨ مما تفعل أبناء عمومتها التي تعيش في البرية. أمَّا البشر فيُصابون بأكبر عدد
من السرطانات من بين جميع الكائنات الحية.
وفي أصيل أحد الأيام خلال رحلتي على الطريق، توقفت لبعض الوقت في متحف رحلة
الديناصورات.
٤٩⋆ وبالنظر إلى الحالة الراهنة لمتاحف العلوم، التي تشبه كثيرًا البرامج
الاستعراضية
show biz، توقعت أن يعجَّ المكان بأفلام متحركة
عن الديناصورات وبالمعروضات العملية التي تشبه ألعاب الفيديو. بيدَ أنه كان هناك الكثير
من
العلم الجيد. اختلست النظر عبر النوافذ المزدانة بالصور لمُختبَر الحفريات القديمة
Paleo Lab، حيث يظهر رجال ونساء أحياء، يميلون على
طاولات العمل وهم يقومون بفصل الحفريات المنطمرة في الأحجار المحيطة بها.
وقد تجولت بين الهياكل العظمية الهائلة المُعاد بناؤها، والمعلَّقة بقرب السقف؛ ألوصورس،
وستيغوصورس. رأيت فقرةً عُنقيةً تعود إلى أباتوصورس، والتي كانت من الضخامة إلى درجة
أنها
لو كانت من دون تسمية لم أكُن لأخمِّن أن هذه الكتلة الصخرية كانت نسيجًا حيًّا في يومٍ
ما.
كان الأمر برمته مثيرًا للإعجاب، غير أنه على مرِّ السنين كنت قد شاهدت ما يكفي من الهياكل
العظمية للديناصورات ليجعلني أشعر بقليل من الضجر، لكن عندما توقفت أمام شاشة تُظهر
مخطَّطًا تفصيليًّا بالحجم الكامل لقلب براكيوصورس
Brachiosaur، والذي يرتفع حتى مستوى صدري، شعرت حقًّا
بمدى الضخامة التي كانت عليها تلك الحيوانات.
تفكَّرتُ مرةً أخرى في مسح روتشيلد عن أورام الديناصورات. ثمة علاقة وثيقة بين الحجم
ومدَّة الحياة.
٥٠ وعلى الرغم من وجود استثناءات، فإن الأنواع الضخمة تميل إلى العَيش لفترات أطول
من تلك الأصغر حجمًا، ووفقًا لبعض التقديرات، فقد عاشت أضخم الديناصورات لفترات طويلة
للغاية؛ مما وفر قدْرًا كبيرًا من الوقت والمساحة لتراكم الطفرات. ألم يؤدِّ ذلك إلى
جَعْلها عُرضةً للإصابة بالأورام؟ ليست هذه المسألة واضحةً تمامًا في عالم الثدييات على
الأقل، وهي المشاهدة التي تحمل اسم مفارقة بيتو
٥١، والتي سُمِّيت باسم السير ريتشارد بيتو؛ وهو اختصاصيُّ الوبائيات في جامعة
أكسفورد. شعر بيتو بالحيرة من كون المخلوقات الضخمة المعمَّرة، مثل الفيلة، لا تُصاب
بقدْرٍ
أكبر من السرطان مما تفعل المخلوقات الصغيرة القصيرة الأجل، مثل الفئران. وقد عُرض هذا
اللغز بإيجاز
٥٢ في عنوان بحث عملي من تأليف مجموعة من البيولوجيين وعلماء الرياضيات في ولاية
أريزونا: «لماذا لا تُصاب جميع الحيتان بالسرطان؟» باستثناء الحيتان البيضاء
belugas في المصبِّ الملوث لنهر سانت لورانس، يبدو أن
إصابة الحيتان بالسرطان مشاهدة غير مألوفة. أمَّا بالنسبة إلى الفئران، فإن معدَّلات
الإصابة بالسرطان مرتفعة.
في البداية، لم يبدُ ذلك غريبًا تمامًا. هناك علاقة عكسية بين العمر وسرعة النبض،
وخلال
فترة الحياة المتوقعة للفيل والفأر، سوف يخفق قلبُ كلٍّ منهما نحو مليار مرة،
٥٣ غير أن الفأر سيقوم بذلك بوتيرة أسرع بكثير. ومع اشتعال وتيرة الاستقلاب
metabolism لديها، يبدو من المعقول أن تُصاب الفئران
بقدْرٍ أكبر من السرطان،
٥٤ لكن ما ينطبق على الفئران ليس صحيحًا بالنسبة إلى الثدييات الصغيرة الأخرى.
فالطيور، على الرغم من وتيرة استقلابها المحمومة (يمكن لقلب الطائر الطنَّان أن يخفق
بمعدَّل أكثر من ألف مرة في الدقيقة)، يبدو أنها تُصاب بقدْرٍ ضئيلٍ للغاية من السرطان.
إذا
قُمتَ برسم مخطَّط بياني لحجم الثدييات مقابل معدَّل إصابتها بالسرطان، فلن تجد خطًّا
مائلًا واضحًا، بل مجرد عدد من النقاط المتناثرة. وفي ظلِّ جهلنا، يبدو كل نوع من الأحياء
كأنه استثناء.
وقد اقترح العلماء عِدَّة أسباب
٥٥ لتفسير عدم ارتباط السرطان بالحجم على نحوٍ سَلِس. وفي حين أن الحيوانات
الكبيرة قد تُصاب بالفعل بمزيد من الطفرات، فربما أنها قد طوَّرت أيضًا وسائل أكثر فعالية
لإصلاح الدنا
DNA، أو لدرء الأورام بطرق أخرى. وضع مؤلِّفو
بحث أريزونا مقترحًا لكيفية حدوث هذا، والذي يتمثل في الأورام الفائقة
hypertumors.
٥٦ يمثل السرطان ظاهرةً تشرع فيها
إحدى الخلايا في الانقسام بصورة خارجة عن السيطرة، ما يؤدي إلى تراكم الضرر الوراثي.
ويستمر
أبناؤها، وأحفادها، وأبناء أحفادها في تفريخ ذريتها الخاصة؛ وهي جمهرات فرعية من الخلايا
المتنافسة، التي يمتلك كلٌّ منها توليفةً مختلفةً من الصفات. إن أقوى الخلايا المتنافسة
—
تلك التي طوَّرت قدرةً على النمو بشكل أسرع من غيرها، أو على تسميم جيرانها، أو على استخدام
الطاقة بكفاءة أكبر — هي التي ستكون لها اليدُ العُليا. لكن قبل أن تتمكن من الهيمنة،
كما
اقترح المؤلِّفون، فقد تصبح عُرضةً للإصابة ﺑ «الأورام الفائقة»؛ وهي عناقيد من الخلايا
السرطانية الضعيفة التي تحاول بصورة انتهازية أن تتطفل للحصول على رحلة مجانية، تقوم
هذه
الطفيليات باستنزاف الطاقة على نحوٍ مستمر، ما يعمل على تدمير الوَرَم أو كبح جماحه على
الأقل. وفي الحيوانات المعمَّرة الكبيرة الحجم، يتطور السرطان تدريجيًّا بما يكفي لتشكل
العلقيات
leeches. وفي الواقع أنها قد تُصاب بعددٍ أكبرَ من
الأورام، لكنها تكون أقلَّ عُرضةً بكثير لأن تنموَ إلى حجم ملحوظ. السرطانات التي يمكن
أن
تُصاب بالسرطان، على الرغم من كل الوقت الذي أمضيتُه غامرًا نفسي في الأدبيات، كانت هذه
أول
مرة أسمع فيها بذلك الموضوع.
بيدَ أن هذا جعلني أتساءل عن الطيور الطنَّانة، وقادتني ملاحظةٌ دونتُها في حاشية
بحث حول
مفارقة بيتو إلى سر آخر من أسرار السرطان. من المعروف جيدًا لدى علماء الحيوان أن جميع
الثدييات، مهما كانت طويلةً أو قصيرة، تمتلك سبع فقرات عُنقية، على وجه التحديد: الزرافات،
والإبل، والبشر، والحيتان (تمثل خراف البحر
manatees
وحيوانات الكسلان
sloths استثناءاتٍ لهذه القاعدة). أمَّا
الطيور والبرمائيات والزواحف، فليست محكومةً بهذه القاعدة، فالبجعة يمكن أن تمتلك ٢٢–٢٥
فقرةً عُنقية، كما يبدو أنها تُصاب بسرطانات أقل. ظنت فريستون غاليس
Galis، وهي عالمة بيولوجية هولندية، أنه لا بدَّ من
وجود نوع من الارتباط،
٥٧ ففكرت فيما حدث في الحالات النادرة التي أنبتت فيها الأجنة ضلعًا إضافيًّا في
المكان نفسه الذي تتشكل فيه الفقرة السابعة طبيعيًّا. ونتيجةً لذلك، لا يمتلك الأطفال
الذين
يُولَدون بهذا العيب الخِلْقي سوى ستِّ فقرات في أعناقهم. كذلك فهم يكونون أكثر عُرضةً
للوفاة بسبب الأورام الدماغية، والابيضاضات، والأورام الأروميَّة
blastomas، والساركومات. وتشير غاليس إلى أن ذلك هو
السبب في الاختفاء البطيء للتباين في عدد الفقرات العُنقية لدى جمهرات الثدييات.
قضيتُ ليلتي الأخيرة على الطريق في بلدة فيرنال بولاية يوتا، حيث يوجَد برونتوصورس
وردي
عملاق؛ أعني أباتوصورس ذا رموش طويلة جذابة ويحمل لافتة للترحيب بالزوَّار. كانت الساعة
تشير إلى التاسعة مساءً تقريبًا، حيث كانت المدينة تغلق أبوابها بالفعل. وقد وجدت مطعمًا
يحمل طابع الغرب البري، الذي كان بالكاد مفتوحًا على الشارع الرئيسي. وبعد يوم طويل من
قيادة السيارة، كنت أتطلع إلى كوب من الشراب. حاولت مواكبة أحدث الدراسات حول الكيفية
التي
يمكن بها لهذه الرذيلة، عند تناولها باعتدال، أن تكون مفيدةً للجهاز الدوري، ودرء النَّوبات
القلبية والسكتات الدماغية، بل إن أكثر البحوث طموحًا أشار إلى أن الآثار المضادَّة للأكسدة
antioxidizing لهذا الإكسير قد تساعد في كَبْت الأورام
وإطالة العمر. لكن كلما طال بقاؤك على قيد الحياة، ازداد احتمال إصابتك بالسرطان، تضيف
كل
وجبة طائفةًّ من الاحتمالات المتضاربة، يزيد الكحول من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان
(الفم، البلعوم)، لكنه قد يقلِّل من خطر الإصابة بسرطان الكلى.
في ملفٍّ على حاسوبي المحمول، احتفظتُ بقائمة ببعض عناوين الأنباء الأخيرة:
-
«مركَّبات طبيعية من الرمَّان
٥٨ قد تمنع نمو سرطان الثدي المعتمد على الهرمونات.»
-
«الشاي الأخضر يمكنه تعديل تأثير التدخين على خطر الإصابة بسرطان
الرئة.»
-
«استهلاك المشروبات الغازية قد يزيد من خطر الإصابة بسرطان
البنكرياس.»
-
«خلاصة البطيخ المُر تقلِّل نمو خلايا سرطان الثدي.»
-
«خلاصات الأعشاب البحرية قد تحمل وعدًا لعلاج اللمفومة
اللاهودجكينية.»
٥٩⋆
-
«القهوة قد تقي من سرطانات الرأس والعنق.»
-
«الفراولة قد تُبطئ الأورام قبل السرطانية في المريء.»
كنت أعلم الآن أن تلك التأثيرات، إذا كانت حقيقية، ستكون ضئيلة. كيف يمكن لأيِّ شخص
أن
يزن تلك الاحتمالات بصورة معقولة، مستندًا في ذلك، بلا مفرٍّ، على معلوماتٍ منقوصة؛ أيْ
على
نتائج يمكن أن تنقلب في اليوم التالي رأسًا على عقب؟
اتضح أن الآثار المسرطنة للنبيذ الأحمر لم تكُن ذات أهمية في تلك الليلة. كانت هذه
ولاية
يوتا، ولم يكُن هناك أيُّ مشروبات كحولية في قائمة الطعام. ابتلعتُ شطيرتي من الدجاج
المُحمَّر بشرب عصير الليمون المصنوع من مسحوق ومياه الصنبور.
وعندما عدتُ إلى غرفتي في نُزل الديناصور، الذي يحرسه أباتوصورس مبتسم آخر، فكرت
مرةً
أخرى في تلك الطبقات الممتدة تحتي بكيلومتراتٍ وآلاف السنين. في يومٍ ما، سيتراكم مزيدٌ
من
الطبقات فوقنا، وتساءلتُ عن قدر السرطان الذي سيكون منتشرًا حينئذ. كانت سبع سنوات تقريبًا
قد انقضت منذ أن جرى تشخيص نانسي، وهي المرأة التي كنت متزوجًا منها، للإصابة بنوع مسعور
من
السرطان، والذي ظهر في رحمها، من دون سبب وجيه، واشتعل مثل لهب على فتيل بطول الرباط
المستدير round ligament، حتى وصل إلى إربيتها
groin. لقد عاشت لتروي قصتها، لكن منذ ذلك الحين،
ظَلِلتُ أتساءل عن كيف يمكن لخلية واحدة تدير شئونها الخاصة أن تتحول جذريًّا إلى كائن
غريب
ينتمي إلى الخيال العلمي، أو إلى وَحش ينمو داخل الجسم.