الفصل الحادي عشر
المقامرة مع الإشعاع
ثمة مادة مُسرطِنة مؤكدة لم أتحدث عنها مع ريبولي، وهي النشاط الإشعاعي
radioactivity، والتي تتسم الآليَّة فيها بكونها واضحةً
ومباشرة؛ تقوم نواة غير مستقرة من عنصر مثل الراديوم بقذف جُسيمات وأشعَّة مُفعَمة بالكثير
من الطاقة إلى درجة أنها تستطيع تمزيق الجُزيئات، وتكسير الروابط الكيميائية، وإحداث
جميع
أنواع التلف الخلوي الجَسيم. يُطلَق على الانبعاثات التي تتسم بمثل هذه القوة اسم الإشعاع
المؤيِّن
ionizing radiation (إن الذرات التي تُجرَّد من
الإلكترونات تصبح أيونات). وإذا لم تضرب الجُزيئات المُشعَّة الجين بصورة مباشرة، الأمر
الذي يؤدِّي إلى حدوث طفرة، فقد تترك أثرًا من الجذور الحرة الأكَّالة
١ في السيتوبلازم، وهي حالة تُسمَّى الكَرْب التأكسدي
oxidative
stress، والتي يمكن أن تُلحق الضرر بالجينوم بشكل غير مباشر. وعند
التحول إلى وضع الذُّعر، قد ترسل الخلية المهترئة إشاراتٍ إلى الخلايا المجاورة،
٢ ما يؤدِّي إلى مزيد من التوتُّر والصدمة الجينومية. يأتي معظم التعرُّض الذي
نتلقاه من هذا المُسرطِن من مصادر طبيعية، حيث يُقال إن أكبر مصادره هو الرادون
radon المنبعث من التربة أسفلنا.
منذ أن خضع منزلي لاختبار الغاز قبل عقدَين من الزمن، حيث سُجِّلت كمية متواضعة،
لم
أهتمَّ كثيرًا بتلك التحذيرات. إن الرادون، مثل أول أكسيد الكربون، هو قاتل صامت لأنه
غير
مرئي وعديم الرائحة، على الرغم من أنه يعمل ببطء، حيث تتراكم الطفرات الناجمة عنه عامًا
بعد
عام. ومن بين نحو ١٦٠ ألف حالة وفاة بسرطان الرئة تقع سنويًّا في الولايات المتحدة، ذكرت
وكالة حماية البيئة أن ٢١ ألف حالة، أو ١٣٫٤ في المائة،
٣ قد تكون متعلقة بالرادون. أمَّا ما لا نسمعه كثيرًا فهو أنه في نحو ٩٠ في
المائة من تلك الوَفَيات، يمثِّل التدخين بدوره عاملًا مسبِّبًا.
٤ طوال كل سنوات حياتي، يبلغ المجموع الكلي لما دخنتُه نحو عشر سجائر، ليس منها
واحدة خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. ومع ذلك، فعندما شرعتُ في معرفة المزيد عن
السرطان، شعرتُ بالحاجة إلى إجراء اختبار آخر للرادون؛ هذه المرة في الغرفة التي جلست
فيها
أخيرًا طوال أسابيع لتأليف هذا الكتاب.
كان الشتاء باردًا بصورة غير معتادة في سانتافي. يتطلب الوصول إلى مكتبي الكائن في
الدور
الثاني عبور درج في الهواء الطلق، وهي رحلة يومية سهلة تنطوي على مناظر خلابة، لكنها
تستلزم
تجريف الثلوج في بعض الأحيان. لذلك السبب ولأسباب أخرى فقد بدأتُ العمل في الطابق السفلي
في
غرفة أُنشِئت، مثل كثير من الغُرف في سانتافي القديمة، فوق مسافة ضيقة من الأوحال. كان
اثنان من جدران الغرفة بعمق نحو ستة أقدام تحت مستوى سطح الأرض، واللذان بنَيَا من طوب
لَبِن مصبوب من نفس الأوحال الموجودة تحت الأرضية. وطوال أسابيع، ظلَّ الطقس الخارج أبرد
من
أن نستطيع فتح النوافذ، وكنتُ قد أوصدتُ الباب المُوصِل بين المكتب والردهة للاحتفاظ
بالحرارة. وبعبارة أخرى، فمن المرجَّح أن تؤدِّي الظروف إلى جعل الهواء راكدًا، ومن ثَم
الوصول بقراءات غاز الرادون إلى الحدِّ الأقصى.
طلبتُ شراء عُدَّة اختبار، ووضعتُها على المكتب، ومن ثَم أرسلتُها بعد ثمانٍ وأربعين
ساعة
بالبريد إلى المُختبَر المُدوَّن اسمه على ورقة التعليمات. كانت النتائج التي جاءت هذه
المرة أكثر بأربعة أضعاف مما كانت عليه من قبل؛ ٢٢٫٨ بيكوكوري
picocuries للتر الواحد. كان الحدُّ الأقصى لمقياس
وكالة حماية البيئة،
٥ الذي يربط بين مستويات غاز الرادون والمخاطر، هو ٢٠، كما يُوصَى باتخاذ إجراءات
علاجية عند ٤ بيكوكوري فقط للتر الواحد. يمثِّل الكوري الواحد الكمية التقريبية للإشعاع
الذي ينتجه غِرام واحد من الراديوم، وبالتالي فإن البيكوكوري يساوي جزءًا واحدًا من تريليون
جزء من تلك القيمة؛ أي ٢٫٢ تفتُّت نووي في الدقيقة الواحدة. وباعتبار أن الرادون يتحلَّل
بسرعة، فهو يقذف بالجُسيمات ألفَا (وهي عناقيد مؤلَّفة من نيوترونَين اثنين وبروتونَين
اثنين)،
٦ ومن ثَم يتحلَّل إلى عناصرَ أصغر، والتي تطفو في الهواء وتبثُّ بدورها
الجُسيمات ألفَا. غيرَ أنها لا تبتعد كثيرًا — يمكن إيقافُ سبيل الأشعَّة ألفَا حتى بفعل
لوح من الورق — ولكن بسبب غزارتها، فهي توجِّه ضربةً ثقيلة. أمَّا غاز الرادون نفسه فيجري
لفظُه من الرئتين بسهولة، لكن الجُزيئات الابنة، التي يُستنشَق مع كل نَفَس، قد تعلق
بتلك
البيئة الرطبة وتصيب الخلايا بإشعاعها. وفي كل دقيقة وفي كل لتر من هذا الهواء الراكد،
كان
يقع خمسون من هذه الانفجارات المِجهريَّة غير المرئية. علمتُ من الرسم البياني الصادر
عن
وكالة حماية البيئة، والذي جاء مع طقم الاختبار، أنه إذا تعرَّض ألف شخص لم يكونوا أبدًا
من
المدخِّنين لجرعة مقدارُها ٢٠ بيكوكوري للتر الواحد طوال حياتهم كلها، فإن ستةً وثلاثين
منهم سيتعرضون للإصابة بسرطان الرئة. وإذا أردنا صياغة ذلك بطريقة أخرى، فإن خطر الإصابة
بالسرطان مدى الحياة هو ٣٫٦ في المائة (بالنسبة إلى المدخِّنين المعرَّضين للجرعة نفسها
من
الرادون، تزيد تلك الاحتمالات بمقدار سبعة أضعاف).
وعندما تأملتُ تلك الأرقام، بدأت أشعر بضيق في صدري. تخيلت رئتيَّ وهما مثقلتان بمستنقَع
من الهواء البارد المُشع، وبالمقارنة بالمقدار الهائل من الذرات المتضمَّنة في نَفَس
واحد
من الهواء، فإن الخمسين انفجارًا مُشعًّا التي تحدث كل دقيقة تتسم بكونها نسبةً ضئيلةً
للغاية. وكذلك فإن جزءًا ضئيلًا فقط من الشظايا، وهو الجُسيمات ألفَا، سيضرب أنسجة الرئة
ويسبِّب طفراتٍ جينية. إن معظم الطفرات، كما ذكَّرت نفسي، غير مؤذية. يتعرض الدنا الموجود
في خلايانا للطفرات طوال الوقت، كما طورت الخلايا آليَّاتٍ لإصلاح الدنا التالف أو تدمير
نفسها إذا كان الضرر جَسيمًا للغاية. ومن بين جميع الطفرات التي تحدث في الجينوم، فإن
توليفاتٍ معيَّنةً فقط قد تؤدِّي إلى السرطان، الذي لا يحدث إذا فشلت أشياء أخرى كثيرة.
ولكنْ على الرغم من جميع تلك التطمينات، كان لا يزال هناك خطر ملموس. أُجريَ الاختبار
في
ظلِّ ظروف مُحكَمة إلى درجة تأكدت معها أن القراءة كانت مرتفعةً بشكل غير طبيعي. وبعد
ذلك
بستة شهور، عندما كان الطقس أدفأ، أعدتُ القياس مرةً أخرى. وفي هذه المرة، وضعتُ المكشاف
في
غرفة النوم (حيث كنتُ أنام أنا ونانسي لمدَّة سبعة عشر عامًا). قمت بفتح وإغلاق الأبواب
والنوافذ وفقًا لروتيني المعتاد. وفي هذه المرة، فإن القياس الذي جرى في ظلِّ ظروف أقرب
إلى
الطبيعي، كان أقلَّ بكثير؛ ٧٫٨ بيكوكوري.
أمَّا القراءة الثالثة، التي أُجريَت في أشدِّ الأجزاء حرارةً من فصل الصيف، عندما
كانت
المراوح توزِّع الهواء عبر أرجاء المنزل، فلم تَزِد عن ٠٫٨ بيكوكوري، وهو أقلُّ بكثير
من
المتوسط الوطني. كان متوسط قراءاتي الثلاث هو ١٠٫٥ بيكوكوري، وهو ما يمثِّل نسبةً للخطر
قدْرُها ١٫٨ في المائة. كانت حظوظي تبدو أفضل، ومن ثَم فقد تساءلتُ عمَّا إذا كان بإمكاني
تقليلُها أكثرَ من ذلك بقليل.
تستند بيانات وكالة حماية البيئة إلى افتراض أن الناس يقضون في المتوسط ٧٠ في المائة
من
وقتهم بداخل المنزل،
٧ أيْ نحو سبع عشرة ساعةً يوميًّا. يمثِّل ذلك قيمةً عاليةً بالنسبة إلى شخص
ينتقل يوميًّا إلى وظيفة بدوام كامل. إنني أعمل من المنزل، لكني أقضي معظم الوقت في الطابق
العلوي، حيث من المُفترَض أن يكون تعرُّضي أقلَّ بكثير. يأتي الرادون من الأرض، وهو أثقل
من
الهواء بثمانية أضعاف. وفي غياب الدرج الداخلي أو التدفئة القسرية للهواء، شعرتُ بالأمان
في
مكتبي المرتفع هذا. عندما أكون في الطابق السفلي، كثيرًا ما أتواجد في تلك الأجزاء من
المنزل التي يرجَّح أن تكون فيها مستويات غاز الرادون أقلَّ بدورها، شعرتُ بأنني قد أشتري
مزيدًا من أطقم الاختبار. ولوضع كل ذلك في الاعتبار، خفَّضتُ تعرُّضي التقديري — كان
تقليله
بنسبة الرُّبع يبدو معقولًا — ومن ثَم تقليله مرةً أخرى. لقد عشتُ في هذا المنزل لنحو
ثُلث
حياتي فقط، وبالتالي فإن القسمة على ثلاثة أوصلَت المستوى إلى ٢٫٦ بيكو كوري — وهو أقلُّ
من
«مستوى العمل» الذي توصي به وكالة حماية البيئة — وبالتالي تقلِّل خطر إصابتي بالسرطان
إلى
نحو ٠٫٣ في المائة. عادةً ما تُقدَّر فرصة إصابة غير المدخِّنين بسرطان الرئة
٨ في وقتٍ ما من الحياة بنحو واحد في المائة أو أقل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن
العيش في هذا البيت القديم المُريح ربما زاد من احتمالات إصابتي إلى نحو ١٫٣ في المائة،
من
مخاطر ضئيلة إلى مخاطر أكثر ضآلة. لكنني أعتقد أن هذا منظور مرتكز على الذات، فعند توزيعها
على عموم السكان فمن شأن ذلك أن يمثِّل عددًا كبيرًا من حالات السرطان.
كانت حساباتي تقديريةً فحسب. وإذا أردت أن أضع تقديراتٍ أكثر دقة، كان عليَّ أن أضع
في
الاعتبار كل مكان آخر عشتُ فيه. كانت غرفة نومي في الطابق السفلي عندما كنتُ طفلًا، لكنني
عشتُ في الطابق الرابع من منزل متلاصق في بروكلين، وفي الطابق الثامن عشر من ناطحة سحاب
في
مانهاتن. سيكون من الممكن، من الناحية النظرية، أن أحسب التعرُّض الطويل المدى من خلال
التحليل المُختبَري لنظارتي.
٩ عندما تضرب الجُسيمات ألفَا العدسات البلاستيكية المصنوعة من الكربونات، فهي
تترك آثارًا، أيْ ذكريات تدلُّ على التعرُّض للإشعاع. وهذه الآثار، التي عادةً ما يوجَد
الآلاف منها في كل سنتيمتر مربَّع، يمكن أن تُترجَم إلى قياسات لمستويات الرادون. هناك
أيضًا طريقة يُستخدَم فيها الزجاج المنزلي العادي.
١٠ تترسب نواتج تلاشي الرادون على المرايا وإطارات الصور ونوافذ الخزائن، كما يمكن
أن تندمج في الزجاج. ومن خلال قياس الكمية التي تراكمت وأخذ المتغيرات الأخرى بعين
الاعتبار، يمكن لعلماء الوبائيات تقديرُ مقدار تعرُّض الناس للرادون على مدى سنوات عديدة،
ليس فقط في منازلهم الحاليَّة، ولكنْ طوال فترة امتلاكهم لأشياء معيَّنة.
١١
وفي أثناء تفكُّري في كل الصفعات المِجهريَّة التي ربما تعرضتُ لها، تساءلتُ عن المصدر
الذي حصلَت منه وكالة حماية البيئة على أرقامها في المقام الأول، أيْ ذلك العدد المحدَّد
مقدَّرًا بالبيكوكوري للتر الواحد، والذي يقابل عددًا محدَّدًا من الوفَيَات الناجمة
عن
سرطان الرئة. لا يشبه الأمر أن تحبس ألف شخص في الطابق السفلي من أحد المباني ثم الانتظار
حتى يُصاب بعضهم بالسرطان. بدأت القصة في سبعينيات القرن العشرين، عندما وُجد أن المنازل
في
بلدة غراند جنكشن
Grand Junction،
١٢ كولورادو، والتي بُنيت فوق
النفايات الخام المُستنقَذة من مناجم اليورانيوم، تحتوي على مستويات مرتفعة من الرادون.
وبتكاليف باهظة، أزيل مكبُّ النفايات المُشعَّة هذا واستُبدل، لكن قراءات الرادون ظلَّت
مرتفعة. وبعد ذلك، وقع حادث حظيَ باهتمام إعلامي كبير، كان بطله مهندسًا إنشائيًّا يُدعى
ستانلي واتراس
Watras،
١٣ والذي كان يعمل في العام ١٩٨٤م في محطة
للطاقة النووية في ولاية بنسلفانيا. ومع اقتراب الانتهاء من بناء المحطة، جرى تركيب أجهزة
للإنذار من الإشعاع، والتي كانت تُصدِر أصواتها التحذيرية كلما مرَّ واتراس إلى جوارها.
وعلى أيِّ حال، فلم يكُن قد بدأ تشغيل المفاعلات حتى ذلك الوقت، كما لم تكُن هناك موادُّ
منشطرة في المحطة. وقد اتضح أن مصدر التلوث هو منزله، الذي وصل مستوى الرادون فيه إلى
٢٧٠٠
بيكوكوري. لم تكُن بحاجة للبناء فوق مخلَّفات اليورانيوم لكي يكون الهواء حولك مُشعًّا.
وفي
جميع أنحاء البلاد كانت هناك منازل إيجابية لغاز الرادون، والذي كان مصدره التربة الطبيعية.
لقد كان الرادون موجودًا معنا منذ البداية.
وفي محاولة لقياس مدى التهديد الحقيقي الذي يمثله التعرُّض، بدأ علماء الوبائيات
يُجرون
دراسات الحالات والشواهد، عن طريق مقارنة مستويات الرادون لدى الأشخاص الذين أُصيبوا
بسرطان
الرئة بتلك في الأشخاص غير المُصابين به. كانت النتائج الأوَّليَّة غير حاسمة، فقد اكتشف
بعضها وجود تأثير محدود، في حين لم تكتشفه دراسات أخرى. وفي دراسة أُجريَت في وينيبيغ
Winnipeg،
١٤ التي تتسم بأعلى مستويات لغاز
الرادون من بين ثماني عشرة مدينةً كندية، لم يُكتشَف وجود أيِّ تأثير على سرطان الرئة.
عمد
باحثون آخرون إلى مقارنة المستويات المتوسطة لغاز الرادون
١٥ في مناطق جغرافية مختلفة. ومرةً أخرى، لم يُكتشف وجود أيِّ ارتباط. وأفاد مسح
وطني بوجود ارتباط سلبي،
١٦ كأن استنشاق الرادون يوفر الحماية بطريقة أو بأخرى، أو أن الدراسة نفسها كانت مَعيبة.
١٧ شكَّ بعض المنتقدين في أنه قد جرى تحريف النتائج بفعل ارتباط عكسي
١٨ بين التدخين وكمية الرادون المسجَّلة في المنازل. ربما دخان السجائر يعوق عمل
شاشات مراقبة الرادون،
١٩ أو أن المدخِّنين هم أقرب احتمالًا للعيش في منازل قديمة جيدة التهوية، أو أنهم
يفتحون مزيدًا من النوافذ.
إن الحصول على أرقام أفضل سيتطلب إما مجموعات سكانية كبيرة للغاية وإما مستويات بالغة
الارتفاع من الرادون، وهي مئات الآلاف من البيكوكوريات للتر الواحد،
٢٠ التي يمكن العثورُ عليها في المناجم تحت الأرضية. وفي أثناء بحثهم عن أجوبة،
درس الباحثون معدَّلات الإصابة بسرطان الرئة بين عمال مناجم اليورانيوم
٢١ في كولورادو، ونيو مكسيكو، وفرنسا، وجمهورية التشيك، وكندا (في منطقة تقع على
شاطئ بحيرة غريت بير، والتي تحمل اسمًا موحيًا هو «ميناء الراديوم»)، وأستراليا (تل
الراديوم). درسوا عمال مناجم المعادن الأخرى في كندا والصين والسويد، والذين بلغ عددهم
الإجمالي ٦٨ ألف رجل. ومن بين هؤلاء، تُوفِّي ٢٧٠٠ بسرطان الرئة، وهو ما يمثِّل نحو أربعة
في المائة. كانت هناك عوامل مُربكة يتعين أخذُها بعين الاعتبار. يُعتقَد أن معظم عمال
المناجم من المدخِّنين، لكن البيانات المتعلقة بطول فترة تدخينهم
٢٢ أو مدى تواتُر قيامهم بالتدخين كانت إما ضئيلةً وإما منعدمة. يتعرَّض عمال
المناجم أيضًا لأبخرة الديزل، والسليكا، والأغبرة الأخرى، والتي قد يكون لها تأثيرات
تآزُرية. يتنفس العمال اليدويون بصعوبة أكبر من شخص يطهو طعام العشاء أو يقرأ كتابًا
وهو
مُستلقٍ على السرير.
ومن خلال بذل قُصارى جهدهم لضبط نتائجهم لاستيعاب هذه التعقيدات، بدأ أعضاء لجنة
شكَّلها
المجلس الوطني للبحوث
٢٣ تحليل الأرقام وقياس العلاقة بين الرادون وسرطان الرئة. افترض الباحثون أن
العلاقة يجب أن تكون خطِّية، أيْ إن عُشر التعرُّض يؤدِّي إلى عُشر المخاطر. لا يعتقد
كل
علماء السموم بصحة ذلك، ومن ثَم فقد اقترحوا بدلًا من ذلك وجود عتبة
threshold لا يسبِّب الإشعاع أيَّ ضرر أدناها، لكن وجهة
النظر السائدة هي أنه حتى أصغر الكميات قد تكون ضارة. ومن خلال جهود مُضنية في إجراء
الحسابات الإحصائية، قُلِّلت الأرقام المتعلقة بعمال المناجم لتقدير مخاطر مستويات التعرُّض
الأقل بكثير التي توجَد في المنازل. كان هذا هو الأساس الذي استند إليه الرسم البياني
الذي
وزعته وكالة حماية البيئة، والذي احتوت عليه عُدَّة الاختبار التي اشتريتُها.
ظن بعض المنتقدين أن التخمين الاستقرائي من عمال المناجم إلى أحياء الضواحي كان يمثِّل
قفزةً أكبر من اللازم، ولكن في السنوات الأخيرة حظيَت التقديرات بدعم مزيد من الأبحاث
الواسعة النطاق التي أُجريَت على الأُسر. وقد أُجريَت الدراسة الأكثر طموحًا
٢٤ في ولاية أيوا، والتي تتميز بوجود أعلى مستويات متوسطة لغاز الرادون في البلاد.
جرى اختيار النساء كمشاركات في الدراسة لأنهن أكثر عُرضةً لقضاء وقت أطول في المنزل.
ومن
أجل التأهل للمشاركة، كان لزامًا أن يعشن في المنزل نفسه خلال العقدَين الماضيَين على
الأقل. ثُبتت مكاشيف الرادون في عِدَّة مواقع في كل منزل، ومن ثَم أُخذَت القراءات على
مدار
السنة. ومن خلال الاستبيانات، قدَّر الباحثون نسبة الوقت الذي تقضيه النساء في الغُرف
المختلفة أو في المباني الأخرى، أو في الهواء الطلق، حيث تُقاس المستويات المتوسطة للرادون
أيضًا. وعندما كانت النساء في إجازات أو في رحلات عمل، افتُرض أنهن تلقَّين متوسط التعرُّض
الموجود في عموم الولايات المتحدة. خُصِّصَت زيادات للتعرُّض المهني، والتدخين (بما في
ذلك
التدخين السلبي)، وغيرها من العوامل. وفي النهاية، خلصت الدراسة إلى أن شخصًا ما يعيش
لمدَّة خمسة عشر عامًا في منزل يبلغ متوسط مستوى الرادون فيه ٤ بيكوكوري للتر الواحد
قد
يتعرَّض «لمخاطر زائدة» تبلغ نحو ٠٫٥. يبلغ الوقوع المعدَّل وفقًا للعمر لسرطان الرئة
(للمدخِّنين وغير المدخِّنين مجتمعين) نحو ٦٢ حالةً لكل ١٠٠ ألف
٢٥ لكلٍّ من الرجال والنساء سنويًّا. وإذا تساوت جميع العوامل الأخرى، فستزيد هذه
القيمة بمقدار النصف إلى ٩٣ حالة؛ أيْ ٣١ شخصًا إضافيًّا يعانون من هول ما يمثِّل حالةً
مُميتةً في الغالبية الساحقة من الحالات.
لا توجَد دراسة واحدة يمكنها استخلاصُ استنتاجات قاطعة؛ فحجم العيِّنة صغير للغاية.
لكن
علماء الإحصاء واصلوا دمج البيانات، فأنتجوا ما يُسمَّى بالتحليل المجمَّع
pooled analysis، وهو مهمَّة شاقة. تُجرى الأبحاث على
مجموعات سكانية مختلفة ووفقًا لمنهجيات مختلفة. وفي أثناء دمج الأرقام، يجب أخذُ هذه
التناقضات بعين الاعتبار. وفي ثلاثة من هذه التحليلات
٢٦ — في أوروبا وأمريكا الشمالية والصين — وجد الباحثون نتائجَ مشابهةً لتلك
المستمدَّة من التجربة التي أُجريَت على عمال المناجم، وبالتالي فإن معظم باحثي الرادون
الآن يعتبرون المسألة منتهية،
٢٧ لكن علم الوبائيات ليس كتابًا مغلقًا أبدًا. وفي أثناء انهماكي بشغف في قراءة
الأدبيات المكتوبة عن الرادون، علِمتُ بوجود فرضية مثيرة للجدل تُسمَّى الإنهاض
hormesis، والتي تقول بأن الجرعات الصغيرة من الإشعاع
ليست غير مؤذية فحسب، بل مفيدة.
٢٨
وتضيف الفرضية أننا تطورنا في عالم مغمور في الإشعاع، وتكيفنا على جميع الاعتداءات
باستثناء أفظعها. وقد خلص أحد باحثي جامعة جونز هوبكنز
٢٩ أخيرًا إلى أن مستويات غاز الرادون التي تصل إلى ٦٫٨ بيكوكوري للتر الواحد قد
تؤدِّي في الواقع إلى تقليل خطر الإصابة بسرطان الرئة. وفي حين أن الجُسيمات ألفَا تسبِّب
طفراتٍ مُسرطِنةً مُحتمَلة، فإن الأشعَّة السينية المنخفضة المستوى، وأشعَّة غَاما وبِيتَا،
٣٠ يمكن أن تُفعِّل الدوائر فوق الجينية المكتنفة في إصلاح الدنا والموت الخلوي
المبرمَج وتعزيز الاستجابة المناعيَّة.
وإذا كان ذلك صحيحًا، فإن تقليل التعرُّض لمستوى العمل المُوصَى به من قِبَل وكالة
حماية
البيئة قد يزيد في الواقع من خطر الإصابة بسرطان الرئة، لكن هذا لا يزال يمثِّل رأيًا
مستقلًّا. ولدى النظر في الأدلة مع أخذ جميع العوامل بعين الاعتبار، قررتُ أن أبدأ بترك
نافذة مفتوحة عندما أعمل في الطابق السفلي، حتى في الأيام الباردة خلال فصل الشتاء، في
حالة
كان الأمر مهمًّا. حتى الإشعاعُ المنبعث من التفجيرات النووية، سواءٌ كانت عرضيةً أو
متعمَّدة، لم يسبِّب ذلك القدْر من السرطان الذي يظنه معظم الناس. قُتل خمسون عاملًا
على
الفور تقريبًا بفعل الجرعة المقدَّرة بنحو ١٠٠ مليون كوري، والتي أطلقتها كارثة محطة
تشيرنوبل
Chernobyl للطاقة النووية
٣١ في العام ١٩٨٦م. كان من المتوقَّع أن تلي ذلك موجة ضخمة من حالات السرطان، لكنْ
بعدما يقرب من عقدَين من الزمن، خفضت مجموعة للدراسة كلفتها الأمم المتحدة تقديراتها
لذلك
العدد المُفرط، ٤ آلاف حالة وفاة من بين ٦٠٠ ألف نسمة (العمال، الذين جرى إجلاؤهم، وسكان
المناطق القريبة)، من الذين تلقَّوا أكبر جرعات التعرُّض، أو أقلَّ من واحد في المائة.
كانت
هناك زيادة في معدَّلات الإصابة بسرطان الغُدة الدرقية
٣٢ بين الأشخاص الذين تعرَّضوا للإشعاع وهم أطفال، لكن أكبر مشكلة تتعلق بالصحة
العامة، كما خلص إليه التقرير، كانت نفسية.
٣٣ وكما صرَّح أحد الباحثين لصحيفة نيويورك تايمز: «لقد طوَّر الناس قَدَريَّة
fatalism تُصيب بالشلل
٣٤ لأنهم ظنوا أنهم في خطرٍ أعلى بكثير مما هم عليه بالفعل، بحيث انجرفوا إلى
ممارسات مثل تعاطي المخدِّرات ومعاقرة الكحوليات، وممارسة الجنس غير الآمن، والبطالة.»
وقد
فتحت حكومة أوكرانيا أخيرًا موقع تشيرنوبيل أمام السياح،
٣٥ كما اكتشف علماء الإيكولوجيا أن غياب البشر قد حوَّل المنطقة إلى قِبلة للحياة البرية.
٣٦
أدَّت الرءوس الحربية النووية التي أُلقيَت على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي، في العام
١٩٤٥م، إلى مقتل ما لا يقلُّ عن ١٥٠ ألف شخص،
٣٧ سواء بصورة مباشرة بفعل الانفجار أو في غضون أشهر بسبب الإصابات والتسمُّم
الإشعاعي. ومنذ ذلك الحين، ظلَّ العلماء يرصدون صحة ما يقرب من ٩٠ ألف من الناجين، وتشير
تقديراتهم إلى أن الإشعاع الناجم عن الانفجارات أدَّى إلى ٥٢٧ حالة وفاة إضافية
٣٨ بفعل السرطانات الصلدة
solid cancers و١٠٣ من
حالات ابيضاض الدم.
٣٩
نجا تسوتومو ياماغوتشي
Yamaguchi من كلا الانفجارَين،
٤٠ فخلال زيارة له إلى هيروشيما في رحلة عمل، كان قريبًا بما فيه الكفاية من مسرح
الانفجار لكي يُصاب بحروق شديدة وتمزُّق في طبلة الأذن، وبعد قضاء الليلة في أحد الملاجئ
عاد إلى موطنه، ناغازاكي، في الوقت نفسه الذي وقع فيه الانفجار الثاني.
تُوفِّي الرجل في العام ٢٠١٠م عن عمر يناهز الثالثة والتسعين. كان السبب في وفاته
هو
سرطان المعدة، لكنه يستحيل أن نعرف حجم الدور الذي أدَّاه الإشعاع كعامل مُسهِم في وفاة
الرجل المُسن، الذي عاش لمدَّة أطول من كثيرين آخرين. ربما كان الحدث المُمهِّد لذلك
هو
اتباعه لنظام غذائي يعتمد على الأسماك المُملَّحة.
كان ابيضاض الدم
leukemia هو السبب الذي أودى بحياة ماري
كوري، مكتشفة الراديوم (والدة الرادون)، في سنِّ السادسة والستين، وهو «سرطان في شكل
منصهر وسائل»،
٤١ كما وصفه سيدهارتا موخرجي
Mukherjee بصورة لا
تُنسى في كتابه المُعنوَن «إمبراطور جميع الأمراض». عندما استُخرج جثمانها في العام ١٩٩٥م
لتنال شرف الدفن مع بيير في مدافن العظماء
٤٢ (البانثيون
Panthéon)، خشيَ المسئولون
الفرنسيون من أن يكون جسدها مُشعًّا بصورة خطيرة.
٤٣ يُحتفَظ بالدفاتر السوداء الثلاثة التي وصفت فيها تجاربها الشهيرة في صندوق من
الرصاص في المكتبة الوطنية
٤٤ في باريس، كما يتعيَّن على الأشخاص الذين يرغبون في قراءتها أن يوقِّعوا على
وثيقة تنازُل يقرُّون فيها بإدراك المخاطر التي ينطوي عليها ذلك. وعندما فُتِح قبرها،
وُجد
رُفاتها مغلَّفًا في تابوت خشبي داخل تابوت من الرصاص، والذي كان داخل تابوت خشبي آخر.
كانت
الإشعاعات المنبعثة من الداخل بقوة ٩٫٧ بيكوكوري، وهو أقلُّ بنحو عشرين مرةً من الحدِّ
الأقصى الذي تعتبره الحكومة الفرنسية آمنًا للجمهور. لم تكُن مدام كوري إلا بنصف سخونة
الهواء الذي كان يملأ مكتبي في ذلك اليوم الشتوي.
بعمره النصفي
half-life الذي يُقاس بالقرون، لا بدَّ أن
الراديوم الذي امتصَّه جسدُها خلال مسيرتها المهنية لم يتقلَّص بشكل ملحوظ منذ وفاتها،
ولذلك خلص المكتب الفرنسي للوقاية من الإشعاعات المؤيِّنة أنها ربما لم تمُت بفعل الراديوم،
واقترحوا أن السبب الأقرب احتمالًا لإصابتها بالسرطان هو أجهزة الأشعَّة السينية التي
كانت
هي وابنتها، إيرين جوليو-كوري، تقومان بتشغيلها كمتطوعتَين طبيتَين خلال الحرب العالمية
الأولى. أمَّا إيرين، التي فازت بجائزة نوبل عن أبحاثها الخاصة على العناصر المشعَّة،
فقد
تُوفِّيت أيضًا بابيضاض الدم عندما كانت في الثامنة والخمسين من عمرها. أما بالنسبة إلى
بيير، فقد جاء الموت مبكرًا، في سنِّ السادسة والأربعين، عندما دهسته عربة تجرُّها الخيول
في أحد شوارع باريس. لا يعرف أحد نوع الضرر الذي فعله الراديوم بخلاياه، لكنه هو وماري
كانا
من الاعتلال بحيث لم يتمكَّنا من السفر إلى ستوكهولم
٤٥ لتسلُّم جائزة نوبل التي فازا بها. وسواءٌ كانت الوفاة من التسمُّم الإشعاعي أو
الإرهاق البدني الشديد، إن استخراج غِرام من الراديوم من نصف طن من خلطة القار
pitchblende يشبه العمل اليدوي في مصنع، فلا يزال السبب
غير معروف. وبعد ذلك بسَنتَين، تمكَّنا من القيام بالرحلة. وفي محاضرته أمام لجنة جائزة
نوبل (والتي ألقاها أيضًا نيابةً عن ماري)، وصف بيير تجربةً
٤٦ أجراها على نفسه: «إذا ترك المرء صندوقًا من الخشب أو الورق المُقوَّى، والذي
يحتوي على أمبولة زجاجية صغيرة تضمُّ عِدَّة سنتيغرامات من ملح الراديوم في أحد الجيوب
لمدَّة بضع ساعات، فلن يشعر بأيِّ شيء على الإطلاق، ولكن بعد خمسة عشر يومًا سيظهر احمرارٌ
على البشرة، ومن ثَم قُرحة، والتي يكون من الصعب للغاية أن تُشفى، كما أن فعل ذلك لأمَدٍ
أطول قد يؤدِّي إلى الشلل والوفاة.» وكما لاحظ بيير، فقد كانت لهذه القدرة التدميرية
استخداماتها. يُستخدم الراديوم بالفعل لحرق الأورام، وكذلك كانت تفعل الأشعَّة السينية
بعد
فترة قصيرة من اكتشافها في العام ١٨٩٥م. وقبل فترة طويلة من التأكد من كونه سببًا للسرطان،
استُخدم الإشعاع كعلاج.
قبل انتهاء المعالجة الكيميائية التي تلقَّتها نانسي، بدأ أطباؤها مناقشة المرحلة
التالية
من علاجها ونوع الجُسيمات التي يجب استخدامُها في علاجها الإشعاعي. إن الجُسيمات ألفَا
هي
أضخم وأكثر تدميرًا من أن يجري تشعيعُها مباشرةً إلى الجسم. أمَّا أشعَّة بِيتَا، التي
تتألف من تيارات من الإلكترونات، فهي إشعاعٌ أقلُّ حدة. تقوم تلك الجُسيمات الخفيفة الوزن
باختراق الجسم لعمقٍ أكبر قليلًا مما تفعل أشعَّة ألفَا، كما أن ورقةً من الألومنيوم
تكفي
لإيقافها، لكن تأثيرها أقلُّ إضرارًا بالجسم. وكثيرًا ما تُختار لعلاج سرطانات الجلد،
بحيث
يمكن الحفاظُ على سلامة ما يوجَد أدناه. تمتلك الأشعَّة السينية وأشعَّة غامَا اليد الطولى
اللازمة لعلاج السرطانات التي توجَد عميقًا في الجسم، وتتسم بأطوال مَوجيَّة من الصغر
بحيث
يمكنها المرورُ عبر العديد من طبقات الأنسجة قبل أن تضرب هدفها. لكن حوافها المُبهَمة
تجعل
من الصعب تجنُّب إيذاء الخلايا المجاورة. إن البروتونات، التي هي أثقل بنحو ١٨٠٠ ضعف
من
الإلكترونات ولكنها أصغر حجمًا من الجُسيمات ألفَا، يمكنها توصيل كميات كبيرة من الطاقة
مع
قدْرٍ أقلَّ من الفوضى.
وبدلًا من توجيه الأشعَّة من الخارج، قد يقرِّر أطباء الأورام بدلًا من ذلك تطبيقَ
العلاج
الإشعاعي الموضعي (المعالجة الكثبية:
brachytherapy)؛ والذي
يتألف من وضع كبسولات صغيرة من النظائر المُشعَّة بداخل الوَرَم أو بالقرب منه. وفي بعض
أنواع السرطان، يجري حقنُ النظائر المُشعَّة إلى مجرى الدم. واليود المُشع، على سبيل
المثال، يتركز في الغُدة الدرقية ويهاجم الأورام الخبيثة القابعة هناك. ثمة دواءٌ مستهدَفٌ
يُدعى ألفارادين
Alpharadin،
٤٧ والذي يوصل الراديوم مباشرةً إلى
خلايا سرطان العظام النقيلي. ومهما كانت الطريقة، يظلُّ الأساس المنطقي لها هو المُستخدَم
نفسه في المعالجة الكيميائية. إن الخلايا السرطانية السريعة الانقسام ستستسلم للسُّم
بسرعةٍ
أكبرَ مما تفعل الخلايا السليمة، كما أنها ستكون أقلَّ قدرةً على إصلاح نفسها.
واتفق كلٌّ من جرَّاح نانسي وطبيب الأورام المُعالج لها على المنطقة الأربية اليمني
واليسرى من جسدها، حيث انتفخت الغُدد اللمفاوية بالسرطان، ينبغي أن تُعالَج بالأشعَّة
بِيتَا. في المنطقة الأربية اليمنى، كان السرطان قد وصل إلى طبقات البشرة، وبالتالي فإن
حُزَم الإلكترونات ستخترق فقط بما يكفي من العمق للوصول إلى أيِّ خلايا تكون قد نجت من
المعالجة الكيميائية. وعلى أيِّ حال، فقد اختلف الأطباء حول ما إذا كان ينبغي عليهم أيضًا
تشعيعُ حوضها بأكمله بالأشعَّة السينية. رأى الجرَّاح أن مخاطر ذلك كانت غير مبرَّرة؛
فقد
يترك الإشعاع وراءه ندباتٍ داخليةً ربما تسبِّب انسداد الأمعاء، كما يمكن أن تؤذي الأجهزة
الأخرى. قد يتسبَّب تلف الجهاز اللمفاوي في حدوث وذمة لمفية
lymphedema، وهي تراكم السائل اللمفاوي الذي قد يسبِّب
تورُّمًا مُزمِنًا في الجذع والأطراف. وفي حالات نادرة للغاية، فإن الطفرات المحرَّضة
بالإشعاع قد تحفِّز ظهور سرطان آخر بعد عقود من الزمن. كان هناك الكثير من العوامل
المتضاربة التي يجب أخذُها بعين الاعتبار.
وبسبب تأكده من أنه قد استأصل كل ندفة من الأنسجة المعرَّضة للخطر، رأى الجرَّاح أن
تشعيع
الحوض سيكون إجراءً زائدًا عن الحاجة بشكل خطير، وأن أسابيع من المعالجة الكيميائية تليها
أشعَّة بِيتَا السطحيَّة ستمثِّل ضمانًا كافيًا ضدَّ النقائل المتبقية. من شأن استخدام
المزيد من الإشعاع الآن، عندما لا يكون ضروريًّا على الإطلاق، أن يحدَّ من الخيارات المتاحة
إذا حدثت رجعة للوَرَم لاحقًا. يؤدِّي كلٌّ من المعالجة الكيميائية والإشعاع إلى تدمير
نخاع
العظام، ما يضعف قدرة الجسم على تحمُّل المزيد من الاعتداءات العلاجية. وقد نصح طبيبٌ
آخر ﺑ
«الاحتفاظ بنخاع العظام للمعارك المستقبلية»، لكن طبيب الأورام المعالج لنانسي لم يقتنع
بأيٍّ من هذا على الإطلاق، فقد رأى أن الغطرسة تشوب تقدير الجرَّاح؛ وأن سرطانًا بمثل
هذه
العدوانية في امرأة شابة وصحيحة البدن كهذه يستلزم هجومًا مضادًّا بالغ الشدة. وقد أخبر
نانسي بأن التخلِّي عن تشعيع الحوض يشبه المقامرة على حياتها. لم تكُن هناك إجابة صحيحة.
وقد أوصى خبراء مركز إم دي أندرسون أيضًا بتشعيع الحوض بأكمله، وبالتالي كان هذا هو السبيل
الذي اخترناه.
بدَا قذفُ الخلايا السرطانية بالأشعَّة كأنه هجوم بالطلقات النارية، لكن التخطيط
والدقة
أمران مثيران للإعجاب. تقوم الماسحات الطبية — الأشعَّة المقطعية المُحَوسَبة
(CT)، والتصوير بالرنين المغناطيسي
(MRI)، والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني
(PET) — بتخطيط الوَرَم والأعضاء المحيطة بصورة ثلاثية
الأبعاد. وعند تسديد الشعاع، يجري اختيارُ المسارات والزوايا التي تتجنب أكثر الأعضاء
عُرضةً للخطر. تُحتسَب الجرعات بدقة؛ فبعض الأعضاء تكون أكثر حساسيةً للإشعاع من غيرها،
وكذلك بعض الأورام. تُخطَّط العلاجات بحيث يمكن توزيعُ جرعات صغيرة على مدى أيام وأسابيع،
أيْ بصورة تدريجية بما يكفي لأن تقوم الخلايا السليمة بإصلاح أو استبدال نفسها، ولكن
ليس
بالتدريج الذي يسمح للسرطان باستعادة اليد العليا. يمكن للأذرع الروبوتية الموجَّهة
بالحاسوب توصيلُ جرعات متدرجة إلى أجزاء مختلفة من الوَرَم. ولتقليل كمية الإشعاع التي
تمرُّ عبر الأنسجة السليمة، يمكن توجيهُ الأشعَّة من عِدَّة اتجاهات، وكلٌّ منها ضعيفة
في
حدِّ ذاتها، والتي تتلاقى لتوصيل أقوى ضربة للوَرَم.
وعلى الرغم من جميع سُبُل الرعاية والحساب، فإن الضرر يظلُّ حتميًّا، متمثلًا في
التعب،
وحروق الجلد، وتنمُّل الأعصاب، والإسهال. يضيء الإشعاع عبر الأمعاء، ما يسبِّب حروقًا
داخليةً تشبه ضربة الشمس. تؤدِّي كُتَل الغذاء الضخمة إلى ازدياد الحالة سوءًا، ولذلك
نُصحت
نانسي باتباع نظام غذائي قليل البقايا low-residue diet،
وتجنُّب الأطعمة الغنية بالألياف؛ الخبز المصنوع من الحبوب الكاملة، والحبوب الخشنة
الحُبيبات، والفواكه الطازجة، والخُضَر النيئة، والأرز البري أو البني. كان عليها أيضًا
أن
تتجنب الخضراوات ذات النكهة القوية — البروكلي، وملفوف بروكسل، والقنبيط — وجميع تلك
الأطعمة التي يُفترض أن تكون جيدةً بالنسبة إلى صحتك في ظلِّ الظروف العادية. كانت نانسي
تحبُّ جميع هذه الأطعمة، كما أن الفلفل الحار وغيره من الأطعمة الحارة، والفشار … كانت
جميعها ممنوعة. وبدلًا من ذلك، فقد بدأت تعتاد على طعم دواء الإيموديوم
Imodium.
وعندما أنظر إلى الوراء، بعد مُضيِّ سنوات، وأنا أتصفح الملفَّ الكبير الذي كانت
تحتفظ
فيه بالأوراق الخاصة بهذه الفترة العصيبة، أدهشني بعضٌ من السخافات؛ فمن بين الأوراق
البحثية التي توازن بين مخاطر ومزايا تشعيع الحوض ووثائق التنازل التي يُقَرُّ بمعرفة
الآثار الجانبية على المدَيَين القصير والبعيد، كانت هناك شهادة تنصُّل
disclaimer: عند إعداد المريض للعلاج، قد توجَد على
الجسم علامات بالحبر. كان على نانسي أن توقِّع على شهادة لإسقاط الحقِّ تُقِرُّ فيها
بأن
الحبر قد يلطِّخ ملابسها. وكذلك فقد نُصحت نانسي بأن تتجنَّب الحمل. وخلال جلسات المعالجة
الكيميائية، كان بوسعي أن أجلس معها في الاستراحة المُفعَمة بالضوء والتي تُطلُّ على
مناظر
جبلية خلابة. وعندما يحين موعد جلسات الإشعاع، كان تُصطحَب إلى غرفة مبطَّنة بالرصاص.
وحدها
مع الروبوت الذي يقوم بمهارة بأرجحة ذراعه والتنقُّل بكل دقة بين أهدافه المبرمَجة سابقًا،
كانت تشعر بأنها تراجع عيادة السفينة على مَركبة فضائية خيالية. كانت تحاول تخيُّل الأشعَّة
وهي تقتل الخلايا السرطانية وتتجنب بقية الخلايا. تتمثل أقوى ذكرياتي حول تلك الفترة
في
اليوم الذي اصطحبتُها فيه بالسيارة لتلقِّي أول جرعة في برنامج علاجها. عندما اقتربنا،
قاومتُ شعورًا مُلحًّا بالبكاء. كانت قد عانت الكثير بالفعل، كما أنني نادرًا ما شاهدتُها
تبكي. وقالت لي: «لا أستطيع تصديق ما يفعلونه بجسدي المسكين.»
وكما حدث في مرات عديدة، كان عليَّ كبتُ شعوري بالذنب. قلتُ لنفسي مرةً أخرى أن السرطان
الذي أصابها لم يكُن معروفًا عنه أنه متعلق بهرمون الإستروجين، وإنه من غير المُحتمَل
أن
يكون عدم رغبتي في الإنجاب هو السبب. لكن مَن ذا الذي يمكنه أن يعرف ذلك حقًّا؟ ماذا
عن
التوتُّر الذي سببته لها هبَّات الكورتيزول المسبِّبة لاضطراب الإنسولين المسبِّب لانحراف
التوازن الاستقلابي؟ هل كانت هناك فرصة ضئيلة — لم تذكرها الأدبيات بعد — لأن يكون الرادون
أحد العوامل المسبِّبة؟ تخيَّلتُ هذا الغاز وهو يتسرب إلى المسام والفوهات. يُعَدُّ ذلك
جزءًا من لعنة أن تكون إنسانًا؛ أي الفكرة القائلة بأنك تُصاب بالسرطان لأنك فعلت شيئًا
خطأ، أو أن شخصًا — أو شيئًا — قد فعل ذلك بك. وبالنسبة إلى نانسي، لم يُحدَّد أيُّ سبب
في
أيِّ وقت كان. كان أفضل ما يمكن أن يُقال هو أنها كانت ضحيةً للعشوائية
randomness. لكن العشوائية يُمكن أن تمثِّل تعقيدًا
أعمق من أن يمكن فهمُه.
وخلال تلك الفترة، ذهبنا بالسيارة في أصيل أحد أيام السبت إلى حرم مدرسة نيومكسيكو
للصُّمِّ حيث كانت الجمعية الأمريكية للسرطان تنظِّم فاعليتها المعروفة باسم «المؤازرة
من
أجل الحياة».
٤٨⋆ لم يعد يُطلَق على المصابين بالسرطان اسم المرضَى أو الضحايا بل الناجين
survivors، والذين كانوا يسيرون بفخر حول المضمار وهم
يرتدون قمصانًا زرقاء مرسومة عليها نجمة كبيرة وكلمة «الأمل» بأحرف كبيرة (كانت نانسي
تحتفظ
في المنزل بقميص آخر مكتوب عليه «لم أمُت بعد»). وقد احتفظت بخمس صور من تلك الفاعلية.
كانت
ترتدي سروالًا أسودَ قصيرًا أو تنورةً متوسطة الطول — لا أستطيع أن أتذكر على وجه التحديد
—
وكان بوسعي ملاحظة أن ساقها اليمنى كانت منتفخةً بالفعل بسبب الوذمة اللمفية. طمأننا
الأطباء بأن ذلك قد يكون أحد الآثار الجانبية المؤقتة للجراحة — بسبب تضرر الأوعية
اللمفاوية — وربما تفاقم بسبب العلاج، لكن التورُّم لم ينصرف مطلقًا. كانت تقول إن هذه
لم
تكُن تسويةً سيئةً مقابل أن تظلَّ على قيد الحياة. تمثلت خُطتها في تمزيق قُبعتها أثناء
الموكب، كاشفةً رأسها الأصلع كاحتفال بنجاتها من الجراحة، والمعالجة الكيميائية، والدورتَين
الأُوليَين من الإشعاع، لكن اللحظة المناسبة لم تحِن مطلقًا. جاء الجزء الأكثر تميزًا
من
اليوم عندما سار المشاركون واحدًا تِلوَ الآخر إلى المسرح، حيث عرَّفوا أنفسهم باختصار،
ومن
ثَم قامت السيدة الأولى لولاية نيومكسيكو بمنح كلٍّ منهم ميدالية ذهبية وشريطًا أرجوانيًّا.
قالت المرأة الأولى: «إنني ناجيةٌ من السرطان.» ثم جاء التالي والذي يليه. فكرتُ في الكيفية
التي وصلنا بها إلى تلطيف آلامنا بهذه الطريقة؛ فقد صار الصُّمُّ يُعرفون باسم «ضعاف
السمع»، ثم «المعاقين سمعيًّا»، ثم دارت الدورة مرةً أخرى مع اعتماد مصطلحات من قَبيل
«مجتمع الصُّم»، وحتى «ثقافة الصُّم».
هناك الآن ثقافة للسرطان، وسواءٌ كنتَ مصابًا بسرطانة لابدة أُزيلت بواسطة عملية بسيطة
لاستئصال الوَرَم، أو كنتَ تكافح المراحل النهائية من الوَرَم الميلانيني المنتشر، فأنت
أحد
الناجين. في الحالة الأولى، لم يكُن هناك شيء تنجو منه، أمَّا في الحالة الثانية، فلن
يكون
هناك بقاء على قيد الحياة، لقد جُرِّدت الكلمة من معناها تقريبًا. انقطع حبل أفكاري عندما
أمسكَت بالميكروفون امرأة نحيفة وطويلة القامة ترتدي وشاح المعالجة الكيميائية، ومن ثَم
أعلنَت: «لقد نجوتُ من السرطان للمرة الثانية.» هل كان هذا مَدعاةً للاحتفال حقًّا؟ ذلك
أن
السرطان قد عاد.