الفصل الثالث
مواساة الأنثروبولوجيا
عندما جلس لويس ليكي
Leakey لسرد قصة
١ اكتشاف ما يمكن أن يكون أبكر علامةٍ على وجود السرطان في جنس الهومو (الجنس
البشري:
genus Homo)، كان أول ما تذكَّره هو الوحل. حدث ذلك
في يوم ٢٩ مارس ١٩٣٢م، في منتصف رحلته الاستكشافية الأثرية الثالثة إلى شرق أفريقيا،
حيث
ظلَّ المطر ينهمر لفترة طويلة وبشدة إلى درجة أن الأمر استغرق ساعةً كاملةً لقيادة السيارة
لمسافة أربعة أميال من موقع المخيَّم في كانجيرا
Kanjera،
بالقرب من شاطئ بحيرة فيكتوريا، إلى موقع كانام الغربية
Kanam
West للحفريات. وبحلول الوقت الذي تمكَّن فيه هو وطاقمه من شقِّ طريقهم
بصعوبة، كان الطين يغطِّي أجسادهم. وقبل مُضيِّ وقت طويل، كان ليكي — الذي بدأ من فَوره
مسيرةً مهنيةً لامعةً كعالِم في الأنثروبولوجيا — جاثيًا على يدَيه وركبتَيه ينقب الأرض
بحثًا عن العظام التي تكشَّفت ملامحُها أخيرًا.
كان يحاول بلطفٍ استخلاصَ رَوَث خنزير منقرض من الوحل عندما خطا أحد العمال الكينيِّين،
واسمُه جمعة غيتاو
Gitau، فوق سنِّ مكسورة كان قد استخرجها
من فوره من الجُرف. لاحظ ليكي أن السنَّ تعود إلى الداينوثيريوم
Deinotherium، وهو مخلوق يشبه الفيل، كان يعيش في
أفريقيا خلال عصور ما قبل التاريخ. عاد غيتاو لإجراء مزيد من التنقيب، وبينما كان يتلمس
طريقه مبتعدًا عن الهاوية، انفصلت كتلةٌ ثقيلةٌ من الطين المتكلِّس، والتي فتَّتها بمِعوَله
لمعرفة ما يوجَد بداخلها، والذي كان مزيدًا من الأسنان، لكنها لم تكُن عظام الداينوثيريوم.
كانت هذه تشبه ما يمكن لطبيب الأسنان أن يتعرف عليه كضواحك
premolars بشرية، والتي كانت لا تزال مُثبَّتةً في
العظام، على الرغم من أنها جاءت من طبقة من الترسبات التي تشكلت، في اعتقاد ليكي، خلال
أوائل عصر البليستوسين
Pleistocene،
٢ أيْ قبل نحو مليون سنة.
وعندما عاد ليكي إلى مقرِّ عمله في جامعة كامبريدج، سرعان ما حَظِيَ فَكُّ كانام
السفلي
Kanam mandible بشهرة واسعة «ليس فقط لأنه أقدم جزء
بشري معروف
٣ من أفريقيا، لكن لأنه أقدم جزء لجنس الهومو الحقيقي جرى اكتشافه في أيِّ مكان
من العالم»، كما أعلن وقتها. في تلك الأيام، كان من المُستغرَب تمامًا أن تدَّعي أن الجنس
البشري قد نشأ في أفريقيا، وليس في آسيا، حيث اكتُشف الأسلاف البدائيُّون مثل رجل جاوة
Java man ورجل بكين
Peking
man.
٤
قد تكون هذه في نفس عمر رجل كانام تقريبًا، لكن ليكي وجد أن ملامحها كانت أقرب شَبهًا
بالقِرَدَة من حيث المظهر. ومن وجهة نظره، كان فكُّ كانام السفلي يُظهر عددًا أكبر من
الملامح الحديثة، بما في ذلك بقايا مثل ذقن شبيهة بذقون البشر، فيما يمثل دليلًا على
أن جنس
الإنسان العاقل Homo sapiens، وليس فقط أبناء عمومته من ذوي
الفكوك المتهدلة، كان أقدم بكثير مما كان يُعتقد سابقًا. أدَّت الاختلافات في شكل الأسنان
إلى جَعْل ليكي يعتبر أن رجل كانام ينتمي إلى فصيلة مختلفة قليلًا؛ هي إنسان كانام، أو
هومو
كانامينسيس Homo kanamensis، والذي أكد ليكي أنه السلف
المباشر لنا جميعًا.
وعلى غرار العديد من حماسات ليكي، اتضح أن هذه مثيرة للجدل. وقد اعتقد أحد منتقديه
٥ أن العينة كانت تبدو حديثةً للغاية، وأنها كانت مجرَّد عَظْم لفكٍّ حديث، والذي
انجرف إلى محيط من الأحافير الأقدم بكثير. وفي السنوات اللاحقة، تكهَّن علماء
الأنثروبولوجيا بأن ما أطلق عليه ليكي اسم هومو كانامينسيس قد يكون في الواقع أحد الأقارب
الأبعد، مثل الأسترالوبيثكس
Australopithecus،
٦ أو رجل النياندرتال
Neanderthal man،
٧ أو الإنسان الماهر
Homo habilis.
٨ وبعد ذلك بفترة، ظن باحثون آخرون
٩ أن العينة قد تعود إلى منتصف أواخر عصر البليستوسين؛ مما يعني أن عمرها لا يزيد
على نحو ٧٠٠ ألف سنة.
١٠ ومهما كانت سلالته أو عمره بالتحديد، فلم يَعُدْ رجل كانام يُعَدُّ قطعةً
مميزةً من حيث قدمها، بل بسبب احتوائه على كتلة شاذة في الجانب الأيسر من الفك.
وفي الوقت الذي جرى فيه الاكتشاف، بدا الأمر كمشكلة صغيرة، والتي تنتقص من أهمية
اكتشاف
ليكي. كان الرجل يعمل في مُختبَره في كلية سانت جونز في كامبريدج، حيث كان يقوم بتنظيف
العيِّنة بكل عناية،
١١ عندما أحسَّ بوجود كتلة ناتئة، والتي ظنَّ أنها مجرَّد صخرة. غير أنه مع
استمرار عمله بالمِعوَل، كان بوسعه أن يرى أن الكتلة كانت جزءًا من الفكِّ المتحجِّر،
ومن
ثَم أرسلها إلى اختصاصيٍّ في تشوهات الفكِّ السفلي في الكلية الملكية للجرَّاحين في لندن،
والذي شخَّصها على أنها ساركومة عظميَّة.
١٢
كان هناك أيضًا كسر رقيق
١٣ في الفك، والذي حدث قبل وفاة صاحبه بفترة طويلة بما يكفي لشفائه. وذلك، كما
ظنَّ الطبيب، قد يفسِّر الكيفية التي بدأ بها السرطان. ومن خلال استشعار الرضح
trauma، كما تفعل الخلايا العظميَّة بصورةٍ ما، تشرع
الخلايا في الانقسام بسرعة لاستبدال الأنسجة الميتة، وعند نقطةٍ ما خلال تلك العملية
— حيث
تتسم الاحتمالات هنا بضآلتها المتناهية — فقد انحرفت هذه العملية المحكومة بعناية عن
مسارها. أُنتِج قدْرٌ من الخلايا الجديدة أكثر مما يلزم لالتئام الجرح، لكنها لم تكُن
تعلم
متى يجب عليها أن تتوقف. وبسبب ضربٍ من سوء التقدير البيولوجي، ظلَّت الخلايا تنقسم وتنقسم،
حيث فاضت من موضع الجرح. وعلى الرغم من أنها بَدَت معقولة، فلم تكُن هذه تعدو كونها مجرَّد
تكهُّنات. لم يَجرِ إثباتُ كسور العظام كمحفزات لنموِّ السرطانات العظميَّة، والتي عادةً
ما
لا يوجَد لها سببٌ واضح. ومهما كانت طريقة نشوء السرطان، فكثيرًا ما ينتشر إلى الرئتَين.
وإذا كان التشخيص صحيحًا — فقد تشكَّك البعضُ فيه — فقد يكون هذا هو ما قتل رجل
كانام.
سمعت لأول مرة عن فكِّ رجل كانام في تاريخ زمني للسرطان، والمنشور في مكانٍ ما على
الإنترنت، ما جعلني أبحث في كتب وأوراق ليكي القديمة، وبعد تبادُل العديد من رسائل البريد
الإلكتروني، علمت أن تلك الحفرية توجَد في متحف التاريخ الطبيعي في منطقة ساوث كنسينغتون
بلندن، حيث ظلَّت مخزَّنةً طوال عقود. وعلى حدِّ علمي، فإنها لم تُعرض على الجمهور مطلقًا.
لقد أُزيلَت العيِّنة من الرفِّ ما بين الحين والآخر لفحصها. وقد درسها عالم الأنثروبولوجيا
آشلي مونتاغو
Montagu في العام ١٩٥٦م، وذكر في تقريره أن
الوَرَم كان من الضخامة والتشوُّه بحيث كان من المستحيل تحديد شكل ذقن رجل كانام.
١٤ على أيِّ حال، فقد أقنعته التفاصيل التشريحية الأخرى بأن الحفرية كانت شبيهةً
بالبشر على نحوٍ واضح. وقد اختلف مع ذلك أحدُ علماء الأنثروبولوجيا
١٥ الآخرين، والذي خلص إلى أن ما اعتقد ليكي أنه الذقن لم يكُن سوى جزء من
الوَرَم.
وهكذا بدأت الخلافات. جازف أعلم علماء الأورام العاملين في لندن، وهو جورج ستاتوبولوس
Stathopoulos، بالتصريح بأن الوَرَم قد لا يكون
ساركومةً عظميَّةً بل نوعٌ مختلفٌ تمامًا من السرطان،
١٦ هو لمفومة بوركيت
Burkitt’s lymphoma، وهو
وَرَم خبيث يصيب الجهاز اللمفاوي، والمتوطِّن بين الأطفال اليوم في وسط أفريقيا، وهو
سرطان
كثيرًا ما يتسبَّب في تدمير العظام. كان هناك باحثون آخرون ليسوا على نفس القدْر من التأكد؛
١٧ فالتهاب العظم والنِّقْي
osteomyelitis، وهو
عدوى مزمنة، يمكنه أيضًا إنتاج تورُّمات عظميَّة. غير أنه في كتابه المُعنوَن «الأمراض
في
العصور القديمة»،
١٨⋆ والذي يمثل مرجعيةً معياريةً في علم الأمراض القديمة، خلص دون
بروثويل
Brothwell١٩ إلى أن شذوذ رجل كانام كان من الثخانة والتوسُّع بحيث لا يمكن أن يكون ناتجًا
عن عدوى.
ومثل زملاء ليكي، كان يميل نحو تشخيص سرطان العظام. وفي وقتٍ لاحق، وبالتحديد في
العام
٢٠٠٧م، خلص العلماء الذين مسحوا ذلك الفكَّ السفليَّ بمجهر إلكتروني
٢٠ إلى أن الشقَّ قد أدَّى بالفعل إلى «جَعْل العظم يخرج عن السيطرة»،
٢١ في حين ظلُّوا على الحياة فيما يتعلق بطبيعة المرض.
أردتُ أن أرى العيِّنة بنفسي، ومن ثَم وصلت في أحد أيام الربيع، كما رتبت سابقًا،
إلى
مدخل الموظفين والباحثين في المتحف، والواقع على شارع المعرض. اتصل الرجل الجالس في مكتب
الحرس مباشرةً بروبرت كروزينسكي
Kruszynski، أمين مستحاثات
الفقاريات، قائلًا له: «إنه يطلب مقابلتك عند حيوان الكسلان العملاق.»
٢٢ كان العثور على هذا المخلوق غايةً في السهولة؛ إذ كان القالب الجبسي لهيكله
العظمي منحنيًا على رِجلَيه الخلفيَّتَين فوق رءوس روَّاد المتحف كأنه يستعدُّ لالتهام
أعلى
شجرة صناعية. ظلَّ الهيكل واقفًا على هذا النحو لمدَّة ١٦١ عامًا، عندما جرى تجميعُه
من
عظام اثنتين أو أكثر من العيِّنات المجلوبة من أمريكا الجنوبية قبل أن يُعرض على الجمهور.
كان هناك من خلفي جدار مخصَّص لحفريات الديناصور السمكي
Ichthyosaurus المحفوظة في صناديق زجاجية. وخلال قيامي
بفحصها، متعجبًا من كون البنية العظمية نفسها سائدةً في جميع أفراد عالَم الفقاريات،
انفتح
الباب الموجود في ركن القاعة. لقد جاء السيد كروزينسكي لتحيَّتي، ثم قادني إلى الحرم
الداخلي للمتحف.
كان في انتظاري على منضدة بالقرب من النافذة صندوقٌ من الورق المقوَّى البني كان قد
أحضره
من مخازن المتحف. كان الملصق المكتوب بخطِّ اليد يعرف محتوياته كالتالي:
كان الحرف M يشير إلى «حيوان ثديي»
mammal. وفي الزاوية العلوية اليمنى من الملصق كان هناك
ملصقان ملوَّنان — رمز أحمر شبيه بالشمس وتحته نجمة زرقاء — ما يشير إلى أن العيِّنة
الموجودة في الصندوق قد جرى تحليلُها في أوقاتٍ مختلفةٍ بواسطة المقايسة الإشعاعية
radioassay والأشعَّة السينية. رفع السيد كروزينسكي
الغطاءَ بعناية، كان بالداخل صندوقٌ أصغر، مصنوعٌ من خشب البلسا
balsa والورق المقوَّى، ويعلوه غطاء من الزجاج يضمُّ
بداخله فكَّ رجل كانام.
وضع العيِّنة على حصيرة مبطنة مزدوجة الثخانة لحمايتها من التلامس مع السطح الصلب
للمنضدة، ثم قال لي: «بوسعك أن تنظر إليها الآن.» ثم انصرف للبحث عن حفرية أخرى كنت آمُل
أن
أراها؛ وهي عظم فخذ femur استُخرِجَت من قبر سكسوني يرجع
إلى أوائل القرون الوسطى في منطقة ستاندليك Standlake في
إنجلترا، والتي كان بها وَرَمٌ هائل الحجم، جرى تشخيصُه بدوره على أنه وَرَمٌ سرطانيٌّ
في
العظام.
كنت أظنُّ أنني سأكتفي بمجرَّد إلقاء نظرة خاطفة على فكِّ رجل كانام، فلم أكُن أتوقع
أن
أُترك وحدي مع العيِّنة بحيث أتمكن من الإمساك بها في يدي. كان لونها بُنيًّا داكنًا،
كما
كانت ثقيلةً وسميكةً بشكل غير مُتوقَّع. لم يكُن ذلك يستحقُّ أن يكون مُستغرَبا، فقد
كانت
في الواقع صخرة، أو عظمة متحجِّرة petrified. لقد كانت في
الماضي جزءًا من إنسان ينتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، أو إنسان بدائي
protoman. كان هناك سنَّان مصفرَّتان لا تزالان في
مكانهما، كما كانت هناك حفرةٌ عميقةٌ كانت تُئوِي جذر سنٍّ أخرى.
وأسفل ذلك بقليل، وفي المنحنى الداخلي الأيسر للفك، كان يوجَد الوَرَم. كان أكبر
مما كان
متوقَّعًا، ما ذكَّرني على نحوٍ شاذٍّ بنوعٍ من الحلوى التي كنتُ أتناولها في طفولتي،
والتي
عُرفت باسم كاسر الفكِّ
jawbreaker. كان هناك أيضًا تورُّم
طفيف على الجزء الخارجي من الفك، وكان بوسعي أن أتفهَّم كيف يمكن للناس أن يتجادلوا إلى
ما
لا نهاية حول ما إذا كان ذلك يمثل جزءًا من الوَرَم أم من الذقن. كان بوسعي أن أرى المواضع
التي شرَّح فيها ليكي الكتلة
٢٣ (كان بعضُ زملائه يعتبر هذا ضربًا من تدنيس المقدَّسات) لإزالة قسم منها لإجراء
مزيد من التحليل. كما كنتُ أستطيع أن أتخيَّل تقريبًا بقية الرأس، وعيناه الشاغرتان تتوسلان
لتخفيف ألمٍ يتعذَّر تفسيرُ سببه.
عاد السيد كروزينسكي بعد نصف ساعة ليرى ما كنت أفعله مع الأحفورة، وقال لي محذِّرا:
«لا
تقربْها كثيرًا من الحافة.» أدركتُ فجأةً أن الوسادة الواقية الموجودة على المنضدة كانت
تنحدر باتجاه رُكبتي، وبالتالي كيف كان يمكن لحركة مفاجئة مني أن تُسقط الفكَّ السفليَّ
لرجل كانام على الأرض المُغطَّاة بالمشمَّع.
وفي النهاية، لم يتمكن السيد كروزينسكي من العثور على عظم الفخذ السرطانية التي كنت
أستفسر عنها، وقال لي: «ربما في وقتٍ آخر.» شارحًا لي أن مخازن المتحف كانت تخضع لعملية
تجديد، وأن العظمة قد وُضعت، على ما يبدو، في غير مكانها، جنبًا إلى جنبٍ مع بقية الهيكل
العظمي، باستثناء الجمجمة. أخرج الجمجمة من عُلبتها، وسمح لي بإمساكها لبرهة — كانت خفيفة
الوزن للغاية مقارَنةً بالعظمة المتحجِّرة — ثم رافقني أثناء عودتي عبر الحاجز إلى الجزء
العام من المتحف.
مرَّ مئات الزوَّار من جميع الأعمار عبر الممرات، والذين سيُصاب بعضُهم، لا محالة،
بالسرطان، أو سيحبُّون شخصًا أُصِيبَ به. تساءلت وقتَها عمَّا إذا كان هناك أيُّ شخص
موجود
بجوار رجل كانام في محنته.
لم يُكتب الكثير عن التخصُّص الغامض لعلم الأورام القديمة
paleo-oncology. وعلى الرغم من أن الأبحاث قد استمرت
على نحوٍ متقطعٍ على مدى عقود، فلم يظهر المصطلحات في الأدبيات إلا في العام ١٩٨٣م، عندما
بدأت مجموعة صغيرة من أطباء الأورام اليونانيين والمصريين
٢٤ (اللفظ مشتقٌّ من كلمة
onkos اليونانية، وتعني
«كتلة» أو «عبء») في التخطيط لندوة عن السرطان البشري في الأزمنة الغابرة. عُقد الاجتماع
في
العام التالي خلال رحلة بين جزيرة رودس
Rhodes وجزيرة كوس
Kos، حيث وُلد أبقراط
Hippocrates.
تمخَّض الاجتماع عن نشر أعداد قليلة من النُّسخ الأنيقة لكتابٍ صغيرٍ بعنوان «علم
الأورام
القديمة». وكنتُ محظوظًا لأني عثرتُ على نسخة منه معروضة للبيع على الإنترنت مقابل ١٠٠
دولار. كانت صفحاته الثمانية والخمسون مجلَّدةً ضمن غلاف أزرق مُزدان بطباعة مُذهَّبة،
وتحت
العنوان يوجَد رسمٌ لسرطان البحر. «السرطان» crab في
اليونانية هو karkinos. وفي القرن الخامس قبل الميلاد،
استخدم أبقراط الكلمة — التي صارت جذرًا للفظتَي «مسرطن»
carcinogen و«سرطانة»
carcinoma — لوصف الداء الذي يُعرف في اللاتينية باسم
cancer.
ليس من الواضح بالضبط سبب اختياره لهذا الاسم. وبعد ذلك بنحو ستة قرون، تأمَّل غالينوس
البيرغاموني
Galen of Pergamon في أصل الكلمة: «باعتبار أن
السرطان مزوَّد بمخالب
٢٥ على كلٍّ من جانبَي جسمه، فإن الأوردة التي تمتدُّ من الوَرَم في هذا المرض
تمثل معه شكلًا يشبه السرطان كثيرًا.» تتكرر هذه القصة في كل سرد تاريخي للسرطان تقريبًا.
وعلى أيِّ حال، فهناك عدد قليل للغاية من الأورام التي تُشبه في شكلها السرطانات. وقد
أشار
بولس الأجانيطي
Paul of Aegina، وهو يوناني بيزنطي من القرن
السابع، إلى أن المقصود هو أن تؤخَذ هذه الاستعارة على نحوٍ أكثر تجريدية: «يقول البعض
إن
«السرطان» قد أُسمي كذلك لأنه يلتصق بعنادٍ شديدٍ
٢٦ إلى الجزء الذي يستولي عليه، وبالتالي — مثل سرطان البحر — فلا يمكن فصله عن
ذلك الجزء دون عناء شديد.» وكذلك فقد جرى استخدامُ كلمة
karkinoi للإشارة إلى الأدوات القابضة مثل الفرجار
calipers.
ثمة اشتقاقٌ مختلفٌ تمامًا، والذي طواه النسيان تقريبًا، والذي أشار إليه وستنرا
وسترنا
سامبون Sambon، وهو خبير بريطاني في علم الطفيليات، حوَّل
اهتمامه إلى دراسة السرطان قُبيل وفاته في العام ١٩٣١م.
هناك الطفيلي، المعروف باسم الكيسية السرطانية
Sacculina
carcini، والذي يلتهم السرطانات بطريقةٍ تشبه، إلى حدٍّ مُخيف، التهام
وَرَم سرطاني للأنسجة. وقد وُصفت هذه العملية في العام ١٩٣٦م في تقرير كتبه الطبيب الشرعي
السير ألكسندر هادو
Haddow لعرضه على الجمعية الملكية للطب:
إنها تعلِّق نفسها بجسم السرطان الفتي،
٢٧ وتُلقي فيه بكل جزء من آليَّاتها باستثناء حزمة صغيرة من الخلايا
البالغة الأهمية، والتي تخترق جسم العائل، قبل أن تستقرَّ على الجزء السفلي من
أمعاء هذا الأخير، تحت المعدة مباشرةً. وهناك، ولكونها محاطَةً بجُليدة
cuticle جديدة، فإنها تشكِّل نفسها على هيئة
«الكيسية الباطنة
sacculina interna». ومثل شتلة
فول نابتة، تمضي قُدمًا لقذف ممصَّات متفرعة بدقة تمتدُّ — مثل الجذر — خلال كل جزء
من تشريح السرطان لامتصاص الغذاء. وعندما ينمو في الحجم، يضغط الطفيلي على جدران
بطن العائل الواقعة تحته؛ ما يسبِّب ضمورها، حتى إنه عندما تنسلخ قشور السرطان،
تتبقى حفرة في تلك المنطقة بنفس حجم جسم الطفيلي. وعبر هذه الفتحة، ينتأ الجسم
الشبيه بالوَرَم في النهاية ويصير ناضجًا، حيث يُعرف باسم «الكيسية الخارجية»
sacculina externa، والتي يمكنها إذَن طرح
صغارها النشطة في عرض البحر.
وقبل فترة طويلة من أيام غالينوس، ربما لاحظ تلاميذ أبقراط، الذين كانوا يتغذَّون
على
سرطانات البحر، أوجه التشابه بين الطريقة التي يباغت بها الطفيلي عائله وطريقة انتقال
metastasizes السرطان.
وأيًّا كان السبب وراء اختيار هذا الاسم، فإن النصوص اليونانية القديمة تصف ما يبدو
كأنه
سرطان الرحم والثدي. ولكونهم موجَّهين بفعل الاعتقاد في السحر التعاطفي
sympathetic magic، كان بعض الأطباء يقومون بعلاج
الأورام عن طريق وضع سرطانٍ حي فوقها،
٢٨ كما أوصى بعضُهم أيضًا بالمساحيق والمراهم التي كانت تُصنع أحيانًا من
السرطانات المسحوقة، أو بالكي، حيث يؤدِّي الحرقُ إلى سدِّ موضع التقرح. أمَّا بالنسبة
إلى
المرضى المصابين بأورام داخلية، فقد أشار أبقراط إلى أنه ربما كان من الأفضل أن يُتركوا
لشأنهم: «مع العلاج، سيموتون سريعًا،
٢٩ في حين أنهم سيبقَون على قيد الحياة فترةً طويلةً من دون علاج.» يمثل هذا
المبدأ جزءًا من قسم أبقراط: أولًا، لا تتسبَّب في أيِّ ضرر.
ومع غالينوس، صارت الإشارات أكثر وضوحًا. وقد ألَّف كتابًا كاملًا عن الأورام، وأدرج
تلك
الخبيثة ضمن فئة من الأورام أسماها
praeter naturam؛
٣٠ أي الخارقة للطبيعة، بمعنى أنها تقع خارج حدود الطبيعة. وقد كتب أن السرطانة
carcinoma هي «وَرَم خبيث وجاسئ،
٣١ سواءٌ كان متقرحًا أو غيرَ متقرح.» ووجد أن سرطان الثدي هو الأكثر شيوعًا
وانتشارًا، خصوصًا بعد سنِّ اليأس
menopause. وخلافًا لما
يعتقده أطباء الأورام المعاصرون، فقد كتب أن النساء اللواتي يَحِضْن بانتظام لا يُصَبن
بالسرطان. وكتب عن سرطان الرحم، والأمعاء، والمستقيم، وعن سرطان الحنك. وفي بعض الأحيان
كان، مثل غيره من المؤلِّفين الإغريق، يستخدم لفظة
therioma، والتي تعني «الوحش البري» للإشارة إلى الأورام
الخبيثة: «لقد تمكنَّا من شفاء السرطان المبكر،
٣٢ لكن ذلك الذي تنامَى إلى حجم كبير، فمن بدون جراحة لم يتمكَّن أحدٌ من
علاجه.»
ولم يكُن جرَّاح العصور الوسطى أبو القاسم الزهراوي أكثر حظًّا: «عندما يظلُّ السرطان
موجودًا لفترة طويلة،
٣٣ ويكون حجمه كبيرًا، يجب ألَّا تقربه. لم أتمكن مطلقًا من إنقاذ أيِّ حالة من
هذا النوع، ولا رأيتُ أيَّ شخص آخر نجح في ذلك.» لم يختلف الحال عن ذلك كثيرًا في أيامنا
هذه.
ثمة أمر مُشجِّع بخصوص معرفة أن السرطان كان دائمًا معنا، وأنه ليس ناتجًا بالكامل
عن خطأ
من جانبنا، بحيث إنك تستطيع اتخاذ جميع الاحتياطات ومع ذلك يتبقَّى شيءٌ ما في اللفائف
الوراثية، والذي قد ينطلق من عقاله بصورةٍ ما. عادةً ما يستغرق تراكم الضرر الدقيق عشرات
السنين، يجري تشخيصُ ٧٧ في المائة من حالات السرطان في أشخاص يبلغون من العمر ٥٥ عامًا
٣٤ أو أكثر. وبالنظر إلى أن فترات الحياة خلال القرون الماضية كانت تحوم حول ٣٠ أو
٤٠ عامًا،
٣٥ فإن العثور على السرطان في السجل الأحفوري يشبه مشاهدة الطيور النادرة. لا بدَّ
أن الناس كانوا يَلقَون حتفهم قبل ذلك لأيِّ سبب آخر. غير أنه، على الرغم من كل الصعاب،
ما
زال اكتشاف حالات السرطان يتواصل، وبعضُها موثق على نحوٍ نابضٍ بالحياة إلى درجة أنه
يمكنك
تقريبًا أن تتخيل الحياة المدمرة لأصحابها.
بعد زيارتي إلى لندن، وصلتني من متحف التاريخ الطبيعي صورٌ للهيكل العظمي السكسوني
٣٦ الذي كنت أرغب في فحص الأورام التي أصابت عظم فخذه. كنت قد قرأت أن الوَرَم كان
ضخمًا — ١٠ بوصات عموديًّا في ١١ بوصة أفقيًّا — لكني ذُهلت لرؤية ما يشبه كرة السلة
ملتصقةً بساق الشاب. يُظهر الوَرَم نمط أشعَّة الشمس
sunburst
pattern الذي يعرفه علماء الباثولوجيا كدليلٍ على الساركومة العظميَّة
osteosarcoma. وهم يرونه بصورة أكثر شيوعًا في
المراهقين الذين تخضع أطرافُهم لطفراتِ النمو المحرَّضة بالهرمونات، وهو دليل إضافي على
واحدة من عدد قليل من القواعد الراسخة للسرطان: كلما زاد تواتر انقسام الخلايا، ارتفعت
احتمالات تعرُّضها للطفرات. وبالتالي تؤدِّي التوليفة المناسبة إلى نشوء الأورام الخبيثة.
تتسم الساركومة العظميَّة بندرتها إلى درجة أن المرء يمكنه مسح عظام عشرات الآلاف من
البشر
٣٧ لاكتشاف عيِّنة واحدة منها. ومع ذلك، فلا تزال الحالات القديمة منها تُكتشف
باستمرار.
كانت هناك علاماتٌ تدلُّ على السرطان في جثة رجل ينتمي إلى العصر الحديدي
Iron Age٣٨ في سويسرا، وفي أحد القوط الغربيين
Visigoth الذي عاش في إسبانيا خلال القرن الخامس. ثمة
ساركومة عظميَّة وُجدت في مقبرة ترجع إلى العصور الوسطى في جبال الغابة السوداء
٣٩ في جنوب ألمانيا، والتي دمرت الجزء العلوي من ساق طفل صغير وانتشرت إلى مفصل
الورك. تشير الزوائد العظميَّة داخل سقف تجويف العين إلى فقر الدم
(
anemia)، الذي قد يكون له تأثير على السرطان. اجتهد
مؤلِّفو التقرير في التكهُّن بالسبب؛ التلوث الناتج عن منجم قريب للرصاص والفضة. يصعب
قبول
السرطان في الأطفال على وجه الخصوص، حتى في طفل عاش قبل تسعة قرون، واختُتم البحث بملاحظة
مؤثرة: «من المؤكد أن الوَرَم قد تسبَّب في جعل الطفل يموت ميتةً مؤلمة.»
٤٠ وأشار المؤلِّفون إلى أنه على الرغم من كون معدَّل وَفَيات الأطفال مرتفعًا
للغاية في تلك الأيام، فإن الأطفال الذين كانوا يتمكنون من البقاء على قيد الحياة بعد
السنوات القليلة الأولى قد يعيشون حتى الأربعينيات من أعمارهم، لكن ليس هذه المرة «أُخمدت
جذوة الحياة في الطفل المُصاب بمجرَّد أن تمكَّن الطفل من النجاة من وَفَيات الرُّضَّع
المُفرطة خلال السنوات الأولى من الحياة.»
ربما أفاد الاعتقاد بوجود سبب لذلك — أي التسمُّم المعدني من المنجم — غير أنه لا
أحد
يعرف سبب الساركومة العظميَّة. ففي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، ربما كان عددٌ قليلٌ
من
الحالات ناتجًا عن عوامل وراثية، والتي تُعزى إلى شذوذات كروموسومية
chromosomal abnormalities. وفي العصر الحديث، تحوَّلت
التكهُّنات لفترة من الوقت إلى المياه المعالجة بالفلوريد، وبشكل أكثر معقولية إلى الإشعاع؛
أي العلاجات الإشعاعية العلاجية للأمراض الأخرى أو التعرُّض للنظائر المُشعَّة مثل
السترونشيوم ٩٠ (strontium-90)، الذي ينتشر عن طريق الغبار
الذري المتساقط. يقبع السترونشيوم عند مستوًى أدنى بقليل من الكالسيوم في الجدول الدوري
للعناصر ويحاكي سلوكه، حيث يدمج نفسه في العظام بإحكام. غير أن الساركومة العظميَّة توجِّه
ضربتها من دون سبب واضح في معظم الأحيان، تاركةً الآباء والأمهات متلهفين لفهم ما يظلُّ
عصيًّا على التفسير كأنه ضربة نيزك.
ويمكن لخباثة أخرى، وهي السرطانة الأنفية البلعومية
nasopharyngeal
carcinoma، التي تصيب الغشاء المخاطي للأنف، أن تُحدِث ندوبًا في
العظام المجاورة، حيث عُثر على أدلة على ذلك في هياكل عظميَّة من مصر القديمة. أدَّى
الوَرَم إلى طمس وجه امرأة بالكامل تقريبًا، وقد حاولتُ أن أتصورها وهي تشقُّ طريقها
بصعوبة
عبر دروب الحياة. وكما أشار إليه يوجين ستروهال
Strouhal،
وهو عالم الأنثروبولوجيا التشيكي الذي قام بتوثيق هذه الحالة: «إن الحجم الكبير للوَرَم،
٤١ الذي تسبَّب في مثل هذا التدمير الواسع النطاق، يشير إلى وجود عملية طويلة
الأمد نسبيًّا. يبدو أن المريضة قد ظلَّت على قيد الحياة لفترة طويلة، وكانت تعاني، بلا
شك،
من الألم ومن أعراض أخرى. ولا بدَّ أن البقاء على قيد الحياة كان مستحيلًا من دون مساعدة
ورعاية بني جلدة المريضة.» كانت هذه حالة أخرى اخترقت فيها أهوال السرطان القشرة المسطحة
للنثر العلمي.
أمَّا الوَرَم النقوي المتعدد
multiple myeloma، فهو
سرطان يصيب الخلايا البلازمية في نخاع (نقي) العظام، والذي يمكن أن يترك آثارًا على الهيكل
العظمي. عُثر على آثار لذلك في جمجمة
٤٢ امرأة عاشت في العصور الوسطى. تمثل الخلايا البلازمية جزءًا من الجهاز المناعي،
وعندما تتصرف بصورة طبيعية، فهي تُنتج أجسامًا مضادَّةً مناعيَّةً تُسمَّى الغلوبولينات
المناعيَّة (
immunoglobulins). وفي الوَرَم النقوي المتعدد،
يجري إنتاج نوع واحد منها على حساب الآخرين. وقد عثر اختبار كيميائي على الأجسام المضادَّة
التي اعتبرها الباحثون تأكيدًا للمرض.
إن السرطانة العظميَّة، والسرطانة الأنفيَّة البلعوميَّة، والوَرَم النقوي المتعدد،
تمثل
جميعها سرطاناتٍ أولية، أيْ توجَد في الموقع الأصلي لنشوء الوَرَم، وهي موهِنة للغاية.
تأتي
الأغلبية العظمي من سرطانات الهيكل العظمي من
نقائل
metastases٤٣ نشأت في موضع آخر. وهي تظهر كذلك بتواتر أكبر في السجل الأحفوري، مع نتائج
مدمرة. لقد اكتُشف سرطان العظام النقيلي في المقابر المصرية،
٤٤ وفي مقبرة برتغالية
٤٥ كبيرة، وفي مقبرة في وادي نهر تينيسي
٤٦ تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وفي هيكلٍ عظميٍّ لمريضة بالجذام
(
leper) من مقبرة تعود إلى العصور الوسطى
٤٧ في إنجلترا. ولكونها دُفنت بالقرب من برج لندن،
٤٨ كان الهيكل العظميُّ للمرأة التي تُوفِّيت في سنِّ الحادية والثلاثين يحمل
العلامات المميزة للآفات النقيلية. نحن نعرف حتى اسمها من لوحة نعشها المصنوعة من الرصاص؛
آن ستومبر
Sumpter، والتي تُوفِّيت في ٢٥ مايو
١٧٩٤م.
وفي العام ٢٠٠١م، اكتشف علماء الآثار تلة دفن
burial
mound يعود تاريخها إلى ٢٧٠٠ سنة
٤٩ في جمهورية توفا
Tuva الروسية، حيث كان الفرسان
الرُّحَّل المعروفون باسم السكيثيين (
Scythians) يهدرون في
الماضي خلال مرورهم عبر السهوب الأوراسية، وكان زعماؤهم يرفلون في الحليِّ الذهبية المصنوعة
بإتقان. ومن خلال الحفر ما بين سقفَين خشبيَّين، وصل العلماء إلى غرفة مدفونة تحت الأرض.
كانت أرضيتها، المُغطَّاة ببطانية من اللباد الأسود، توسِّد هيكلَين عظميَّين، ولكونهما
جاثمَين معًا كعاشقَين، كان الرجل والمرأة يرتديان ما تبقَّى من ثيابهما الملكية. التفَّ
حول رقبة الرجل شريطٌ ثقيلٌ من الذهب المُجدوَل، والمُزيَّن بإفريز مرسوم عليه عدد من
الفهود، والوعول، والإبل، وغيرها من الحيوانات. كانت توجَد قرب رأسه قِطَعٌ من غطاء للرأس؛
أربعة خيول وغزال من الذهب. كانت الفهود الذهبية، التي يزيد عددها على ٢٥٠٠، تُزيِّن
غطاء
رأسه. لم تتمكن ثرواته هذه من إنقاذه. وعندما تُوفِّي — حيث كان في الأربعينيات من عمره
على
ما يبدو — كان هيكله العظميُّ يعجُّ بالأورام.
٥٠ خصلت التحليلات الباثولوجية، بما في ذلك نظرة فاحصة بالمِجهَر الإلكتروني
الماسح، إلى أن طبيعة الآفات ونمط انتشارها كانا مميزَين لسرطان البروستاتة النقيلي.
وكشفت
الاختبارات البيوكيميائية عن وجود مستويات عالية من المستضدِّ النوعي
للبروستاتة،
٥١⋆ أو
PSA اختصارًا. وعلى الرغم من جميع النتائج
الإيجابية الكاذبة التي يمكن أن تنتجها تلك الاختبارات، كانت هذه النتيجةُ حقيقيةً
بوضوح.
شُخِّص سرطان البروستاتة النقيلي في الحوض المحروق جزئيًّا لرجل روماني عاش في القرن
الأول الميلادي،
٥٢ وفي هيكل عظمي استُخرج من مقبرة تعود إلى القرن الرابع عشر
٥٣ في كانتربري. وفي حين ينزع سرطان البروستاتة إلى أن يكون بانيًا للعظم
osteoblastic،
٥٤ بحيث يضيف كتلةً غير مرغوب فيها إلى الهيكل العظمي، يكون سرطان الثدي حالًا
للعظام
osteolytic، حيث يلتهم العظام كما يفعل العث.
ومن بين جميع أنواع السرطان، يُظهر سرطانا البروستاتة والثدي أقوى شهية
٥٥ لأنسجة الهيكل العظمي. واعتمادًا على جنس الضحية، فهما الخيار الأول للتشخيص
عند اكتشاف النقائل العظمية.
استُخرج رفات امرأة في منتصف العمر، والتي تُظهر آفات حالة للعظم،
٥٦ من جبال الإنديز التشيلية الشمالية، حيث تُوفِّيَت نحو العام ٧٥٠ للميلاد.
دُفنت جثَّتُها المجفَّفة في غلاف للمومياوات مع ممتلكاتها: ثلاثة قمصان صوفية، وبعض
الريش،
وعدد من عرانيس الذرة، وملعقة خشبية، وحاوية لليقطين، وبوتقة معدنية. لم تكُن المرأة
إحدى
ملكات السكيثيين، كان شعرها يصل إلى أسفل ظهرها في جديلة طويلة مربوطة بشريط أخضر. كانت
هناك آفاتٌ في عمودها الفقري، وكذلك في عظم القص
sternum
والحوض. وعلى قمة جمجمتها، قام السرطان بقضم حفرة خشنة يبلغ قُطرها ٣٥ ملِّيمترًا. كان
السرطان قد التهم أيضًا جزءًا من عظم فخذها الأيمن؛ ما أدَّى إلى تقصير ساقها.
اكتُشفت آفات حالة للعظم في الرجال أيضًا، والتي انتشرت في جميع أجزاء هيكل عظمي
لرجل من
الصيادين، جامعي الثمار، عاش في عصر الهولوسين المتأخر
Late
Holocene،
٥٧ استُخرجت جثَّتُه في السهوب الأرجنتينية. يُصاب الرجال بدورهم بسرطان الثدي،
ولكن في حالات نادرة للغاية. ويمكن لسرطان الرئة أيضًا أن يترك علاماتٍ عظمية، لكنه من
المُعتقَد أنه كان نادرًا للغاية قبل اختراع السجائر؛ ومن ثَم فقد ظلَّ تشخيصُه معلقًا.
كانت تلك حالة أخرى التي يسمِّيها أطباء الأورام «مجهولة المصدر الأولي».
لا تزال هذه الكلمات تطاردني عندما أفكر في الأسابيع التي مرَّت علينا قبل اكتشاف
مصدر
النقائل السرطانية في جسد نانسي. ومثل ٩٠ في المائة من أنواع السرطان البشرية،
٥٨ كان المصدر من نوع السرطانة
carcinoma. من
المنطقي أن تكون هذه الأورام أكثرها شيوعًا، إذ تنشأ السرطانات في الأنسجة الظهارية التي
تبطِّن أعضاء وتجاويف الجسم وتغلِّفنا بالجلد. ومع اهتراء تلك الطبقات بفعل مرور الطعام
والنفايات، أو التعرُّض للعناصر، فإن الخلايا الخارجية تموت باستمرار. أمَّا الخلايا
الواقعة تحتها فلا بدَّ أن تنقسم لصنع بدائل لها. ومع كل انقسام، ستكون هناك أخطاء في
نسخ
الجينات؛ أي الطفرات التلقائية أو تلك الناتجة عن المسرطنات الموجودة في الطعام والماء
والهواء. وبالنسبة إلى الأطفال، الذين شرعوا لتوِّهم في تحمُّل عمليات البلى والتمزُّق
التي
تنطوي عليها الحياة، لا تمثل السرطانات
carcinomas سوى جزء
ضئيل من حالات السرطان.
٥٩
وعندما يتعلق الأمر بتعقُّب حالات السرطان القديمة، فإن السرطان الأوليَّ يضيع مع
الأنسجة
المتحلِّلة في الغالبية الساحقة من الحالات، كما أن تلك التي انتقلت لا بدَّ أنها انتشرت
أولًا إلى الرئة أو الكبد؛
٦٠ ما أسفر عن مقتل الضحية قبل أن يترك الوَرَمُ أثرًا على العظام. تضمُّ
البرديَّات الطبية المصرية إشاراتٍ مبهمةً إلى «تورُّمات» و«تآكلات»،
٦١ ونجت بعض الأدلة عليها في المومياوات. جرى تأكيد الإصابة بسرطانة المستقيم
rectal carcinoma في مومياء عمرها ١٦٠٠ سنة
٦٢ بواسطة التحليل الخلوي للأنسجة. وجرى تشخيص مومياء أخرى للإصابة بسرطان المثانة
bladder cancer.
٦٣ وفي أماكن أخرى من العالم، اكتُشف وَرَمٌ نادرٌ يصيب العضلات، ويُعرف باسم
الساركومة العضلية المخطَّطة
rhabdomyosarcoma، في وجه طفل تشيلي
٦٤ عاش ما بين عامَي ٣٠٠–٦٠٠ للميلاد. وفي بيرو، ذكر تقريرٌ لاثنين من علماء
الباثولوجيا حالةً لوَرَمٍ ميلانيني نقيلي
metastatic
melanoma في جلد، وأنسجة، وعظام تسعة مومياوات لأفراد من شعب الإنكا،
والتي ترجع إلى ما قبل كولومبوس.
٦٥ وفي استطرادٍ مُستغرَب، اقتبس المؤلِّفان قصيدةً غنائيةً من القرن الثامن عشر
تتغزل في علامات جمال الأنثى، ثم كتبا باستهزاء: «في حين كانت عواطف الشاعر تتأجج، كما
كان
كذلك معاصروه، بفعل جمال الشامات في جسد إحدى السيدات، فنحن — بعد نحو ٢٤٠ سنةً مملة
—
نظلُّ غير متأثرين عاطفيًّا بأيٍّ منها، فلم نحصل منها سوى على المتاعب.»
تعرضت الأدلة الأخرى على السرطان القديم للتدمير بفعل الطبيعة الباضعة
Invasive لطقوس التحنيط المصرية، فمن أجل إعداد الفرعون
٦٦ للمرور إلى الدار الآخرة، كانت الخطوة الأولى تتمثل في إزالة معظم أعضائه. كان
يجري استخراج الدماغ عن طريق المنخرين، كما كان يجري شَقُّ الجذع لإخراج البطن والأعضاء
الصدرية (باستثناء القلب، الذي كان يُعتقَد أنه ضروري لتلك الرحلة السماوية). كان كل
عضو
يُلَف في الكتان المنقوع في الراتنج، ومن ثَم يُعاد مرةً أخرى إلى الجسم أو يوضَع فيما
كان
يُسمَّى بالوعاء الكانوبي
canopic jar. كانت هناك طرق أخرى؛
فمن أجل إبطاء عملية التحلُّل، كان يحدث أحيانًا حقن محلول شبيه بزيت التربنتين في صورة
حقنة شرجية لإذابة أعضاء الجهاز الهضمي.
لكن الأورام المُحنَّطة يمكنها البقاء.
٦٧ نظرًا إلى معالجتها بطريقة أكثر لطفًا، فقد وجد أن الجثَّة المُحنَّطة لفيرانتي
الأول
Ferrante I ملك أراغون،
٦٨ الذي تُوفِّي في العام ١٤٩٤م، وهو في أوائل الستينيات من عمره، تُؤوي سرطانةً
غُديَّةً انتشرت إلى عضلات حوضه الأصغر. وبعد نحو خمسمائة سنة من وفاته، كشفت دراسةٌ
جزيئيةٌ عن وجود خطأ مطبعي في شفرة الدنا
DNA التي تنظم
الانقسام الخلوي — حيث انقلب الحرف
G إلى
A — وهي طفرة جينية مرتبطة بسرطان القولون
والمستقيم. وكما خمَّن المؤلِّفون، فربما كان ذلك ناتجًا عن وفرة اللحوم الحمراء التي
كانت
تُقدَّم في البلاط الملكي، أو، وفقًا لأحدث معلوماتنا، عن أشعَّة كونية شاردة.
وبصورة إجمالية، فقد أحصيت نحو مائتي مشاهدة محتملة للسرطان
٦٩ في السجل الآثاري. وكما حدث مع الديناصورات، فقد جعلني هذا أتساءل عن مدى ضخامة
جبل الجليد الطافي تحت القمة الظاهرة. تمثل المومياوات تُحفًا مثيرةً للفضول، وقد عُثر
على
معظم الأدلة في هياكلها العظمية مصادفةً.
٧٠ ولم يبدأ علماء الأنثروبولوجيا سوى أخيرًا فقط في البحث عن السرطان، باستخدام
التصوير المقطعي المُحَوسَب، والأشعَّة السينية، والفحوصات البيوكيميائية، وباستخدام
أعينهم. لكن ما لن يروه أبدًا، حتى في العظام، هو القرائن التي فُقدت عن طريق ما يسمِّيه
علماء الأنثروبولوجيا بالتغيرات التافونومية
٧١ المتعلقة بتكون الأحافير:
taphonomic. وأثناء
نبش ونقل الرُّفات، من الممكن أن تُمحى العلامات عن غير قصد، وبالتالي فمن الممكن للآفات
الآكلة للعظم أن تجعل العيِّنة تنهار وتختفي. ومن خلال عمليات التعرية، والتحلل، وقضم
القوارض، قد تؤدي التغيرات التافونومية بدورها إلى خلق الوهم المتمثل في وجود نقائل،
وهو ما
يُعرف بالباثولوجيا الكاذبة
pseudopathology٧٢ وهو احتمال يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار جنبًا إلى جنبٍ مع التشخيصات البديلة مثل
تخلخُل العظام
osteoporosis والأمراض المُعدية. غير أنه عند
أخذ كل شيء بعين الاعتبار، يبدو من المرجح أن أدلة السرطان القديمة لم تُقرَّر بشكلٍ
كافٍ
إلى حدٍّ كبير.
٧٣ فبعد كل شيء، تكون معظم الهياكل العظمية غير مكتملة. وتكون النقائل أقرب
احتمالًا لأنْ تُوجَد في عظام محدَّدة
٧٤ مثل الفقرات، والحوض، وعظم الفخذ، والجمجمة؛ فيما يندر أن تُصاب العظام الأخرى.
ولا يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كانت العظام المفقودة قد تصادف إصابتها بالسرطان.
وعلى أمل قطع الشك باليقين،
٧٥ حاول توني والدرون
Waldron، وهو اختصاصيُّ
باثولوجيا المومياوات في جامعة لندن، التعرف على حجم الأدلة السرطانية التي يتوقع أن
يجدها
علماء الآثار. كان عليه أولًا أن يتوصل إلى قيمة تقديرية، مهما كانت أولية، لتواتُر وقوع
الأورام الأولية في الأزمنة الغابرة. لم يكُن هناك الكثير مما يمكن الاعتماد عليه. كان
أقدم
السجلات التي بدت موثوقةً تقريبًا؛ تلك المدوَّنة في السجلات البريطانية العامة عن أسباب
الوَفَيات ما بين عامَي ١٩٠١–١٩٠٥م. وباستخدام تلك البيانات كخطٍّ قاعدي، وضع في اعتباره
احتمالية انتهاء رحلة مختلف أنواع السرطان في الهيكل العظمي، حيث يمكن التعرف عليها.
جاءت
الأرقام، وهي مجموعة من القِيَم التقريبية، من التقارير الحديثة لتشريح الجثث
(
autopsy). وبالنسبة إلى سرطان القولون والمستقيم، كانت
الاحتمالات منخفضة، حيث تراوحت بين ٦–١١ في المائة، كما كانت الحال عليه بالنسبة إلى
سرطان
المعدة، الذي تراوحت نسبته بين ٢–١٨ في المائة. أمَّا على الجانب المرتفع، فقد كان هناك
سرطان الثدي (٥٧–٧٣ في المائة)، والبروستاتة (٥٧–٨٤ في المائة).
وبالنظر إلى هذه الاعتبارات وغيرها، أشارت حسابات والدرون إلى أن نسبة السرطانات
في
مجموعة من العظام القديمة ستتراوح بين ٠–٢ في المائة في الذكور، و٤–٧ في المائة في الإناث
٧٦ (بناءً على العمر عند الوفاة). ومهما كان الجهد الذي تبذله في البحث عنها،
فستكون حالات السرطان القديمة نادرة، حتى لو كان معدَّل وقوعها مرتفعًا كما كانت الحال
في
بريطانيا خلال عصر التصنيع. ولاختبار ما إن كانت أرقامه معقولة، فقد جربها على رُفات
٦٢٣
شخصًا دُفنوا في سرداب كنيسة المسيح بمنطقة سبيتالفيلدز الواقعة في الطرف الشرقي من لندن،
ما بين عامَي ١٧٢٩–١٨٥٧م. واعتمادًا على المعاينة البصرية وحدها، وجد حالةً واحدةً للإصابة
بالسرطان بين النساء ولم يجد أيًّا منها بين الرجال. كان ذلك ضمن نطاق معادلته، وهي نتيجة
مشجِّعة تُشير إلى أنه لم يكُن مخطئًا إلى حدٍّ كبير.
تمثلت الخطوة التالية
٧٧ في تجربة تكهُّناته على مجموعة من السكان الأقدم بكثير والأكثر عددًا؛ ٩٠٥
هياكل عظمية محفوظة جيدًا دُفنت في موقعَين في مصر ما بين عامَي ٣٢٠٠–٥٠٠ قبل الميلاد.
و٢٫٥٤٧ هيكل عظمي وُضِعت في صندوق لحفظ عظام الموتى
ossuary
في جنوب ألمانيا ما بين عامَي ١٤٠٠–١٨٠٠م (كانت مقبرة الكنيسة من الصغر والازدحام بحيث
إن
الرُّفات، بمجرَّد أن يتحلَّل، كانت تُزال بصفة دورية ومن ثَم تُخزَّن). وباستخدام التصوير
المقطعي المحوسب والأشعَّة السينية لتأكيد التشخيص، وجد علماء الباثولوجيا في ميونيخ
خمس
حالات للسرطان في الهياكل العظمية المصرية وثلاث عشرة في تلك الألمانية، وهو قريب مما
تكهَّنت به حسابات والدرون. وعلى الرغم من جميع الفروق بين الحياة في مصر القديمة، وفي
ألمانيا خلال عصر الإصلاح، وفي بريطانيا في أوائل القرن العشرين، بدا تواتُر السرطان
متماثلًا تقريبًا.
ومنذ ذلك الحين، ازداد تعقيد العيش في العالم؛ فقد ارتفعت معدَّلات البقاء على قيد
الحياة، جنبًا إلى جنبٍ مع تصنيع السجائر. لقد تغيرت النظم الغذائية بشكل جذري، فيما
يعجُّ
العالم بالمواد الاصطناعية، كما تحسَّنت قدرات النظام الطبي فيما يتعلق باكتشاف السرطان،
ولا يزال علماء الوبائيات يسعَون إلى فكِّ جميع الخيوط. ومع ذلك، فتحت السطح تُوجَد نسبة
أساسية للإصابة بالسرطان، والتي تمثل إرثًا لكوننا مخلوقاتٍ متعددة الخلايا نعيش في عالَم
غير مثالي. ليست هناك أدلة دامغة على أن هذه القيمة القاعدية
(baseline) تختلف كثيرًا الآن عمَّا كانت عليه في العصور
القديمة.
وفي حين كنتُ لا أزال منغمسًا في المعلومات الخفيَّة لعلم الأورام القديمة، تناولتُ
العشاء مع صديقة، وهي عالمة في الثلاثينيات من عمرها، كانت قد عُولجت مؤخرًا لإصابتها
بسرطان الثدي. ومثل كثير من الناس، كانت تشكُّ في وجود عدد أكثر بكثير من حالات السرطان،
حاليًّا، مقارنةً بما كانت عليه الحال في الماضي. وبعد بضعة أسابيع، أرسلت إليَّ إشارةً
إلى
مقال نُشر من فَوره
٧٨ في مجلة نيتشر لمراجعات السرطان،
٧٩⋆ والذي خلص فيه اثنان من علماء المصريات إلى وجود «ندرة لافتة للنظر في الأورام
الخبيثة» في العصور القديمة. وفي بيان صحافي صدر عن الجامعة التي تعمل بها،
٨٠ طرحت إحدى المؤلفين، هي أ. روزالي ديفيد، الادِّعاء التالي:
في المجتمعات الصناعية، يأتي السرطان تاليًا فقط لأمراض القلب والشرايين كسببٍ
للوفاة، لكنه كان حدثًا نادرًا للغاية في العصور القديمة. ليس هناك شيء في البيئة
الطبيعية يمكنه أن يسبِّب السرطان، وبالتالي لا بدَّ أنه مرضٌ من صُنع الإنسان،
ويمكن تعقُّبه وصولًا إلى التلوث والتغيرات التي طرأت على نظامنا الغذائي وأسلوب
حياتنا.
… يمكننا إصدار بيانات شديدة الوضوح حول معدَّلات الإصابة بالسرطان في المجتمعات
المختلفة؛ لأننا نمتلك لمحةً كاملةً عنها. لقد بحثنا في آلاف السنين، وليس في مائة
سنة فحسب، ولدينا أكوام هائلة من البيانات.
وعبر الإنترنت، تقافزت التقارير الإخبارية حول تلك المعلومات: «السرطان مرضٌ من صُنع
الإنسان»، «اكتشاف علاج للسرطان: العيش في العصور القديمة». بحلول ذلك الوقت، كنتُ قد
اعتدتُ على الأدبيات. هل ظهرت بعض الأدلة المهمة الجديدة التي من شأنها حلُّ أوجه الغموض؟
كان من الخطأ تمامًا أن نقول إنه لا يوجد في البيئة الطبيعية ما يمكن أن يسبِّب السرطان.
ماذا عن أشعَّة الشمس، والراديوم، والأفلاتوكسين، وفيروس التهاب الكبد، وفيروس الوَرَم
الحليمي البشري؟ ظللتُ أتابع الموقع الإلكتروني للجامعة على افتراض أنه سيكون هناك تصحيحٌ
ما، لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق.
أمَّا الورقة البحثية نفسها فقد اتضح أنها أكثر واقعيةً وتحفُّظًا، وخلال قراءتي
لها
سطرًا سطرًا، وجدتُ أنها لا تحتوي على أيِّ شيء جديد. اعتمد المؤلِّفون على نفس مجموعة
البحوث التي كنتُ أخوض فيها طوال فصل الشتاء، ومن ثَم أضفَوا عليها وجهة نظرهم الخاصة.
وفي
حين تبدو مائتا حالة للسرطان، جرى توثيقُها مصادفةً، كأنها عدد كبير بالنسبة إلى معظم
علماء
الباثولوجيا القديمة
paleopathologists، فقد نظر بعضُهم إلى
القيمة الظاهرية لذلك العدد،
٨١ فتخيلوا الماضي كمكانٍ شاعريٍّ خالٍ من السرطان، عالَم يقلُّ فيه كثيرًا
احتمالُ إصابة الأطفال بالسرطانة العظمية، أو حتى إصابة الطاعنين في السنِّ بسرطان الثدي
والبروستاتة، أو أيٍّ من أنواع السرطان التي نقلق بشأنها اليوم؛ عالَم خالٍ من هجمات
العصر
الحديث. يمكن للمرء أن يجد مواساةً في الإيمان بالقضاء والقَدَر، ومن ثَم الاعتقاد في
فكرة
أن السرطان يمثل جزءًا لا يتجزأ من العملية البيولوجية. لكن هناك أيضًا نوعًا من السلوى
في
الاعتقاد بأن البشر، بحِيَلهم الخاصة، قد زادوا من احتمالات الإصابة بالسرطان. من المُحتمَل
أن ما خلقته الكائنات ذات الإرادة الحرة أمرٌ قابلٌ للإلغاء. وإذا تعذَّر ذلك، فهناك
على
الأقل جُناة يمكن إلقاء اللوم عليهم.
وخلال انطلاقي جيئةً وذهابًا بين هذه الآراء المتعارضة، تذكرت الخداع البصري الذي
يبدو في
لحظة كأنه امرأة شابة جميلة، وفي اللحظة التالية كعجوز شمطاء ملتوية الأنف. وفي وجود
النذر
اليسير من البيانات الجيدة التي يمكن الاعتماد عليها، يرى الناس ما يأملون في رؤيته.
وفي
معرض السعي إلى تكوين وجهة نظري الخاصة، تساءلتُ عن ذلك الجزء من كومة العظام البشرية
الذي
اختير بالفعل. طلبتُ من ثلاثة من علماء الأنثروبولوجيا تقديرَ العدد الإجمالي للهياكل
العظمية التي تعود إلى العهود القديمة وعصور ما قبل التاريخ،
٨٢ والتي اكتُشِفت على مرِّ السنين وأُتيحت للدراسة من قِبَل العلماء في جميع
أنحاء العالم.
أخبروني أن العدد قد يصل إلى ٢٥٠ ألفًا، وهو ما لا يزيد بكثير عن عدد سكان مدينة صغيرة.
يشمل ذلك الهياكل العظمية غير المكتملة، والجماجم المنفصلة في كثير من الأحيان، والتي
كانت
العظام الوحيدة التي اعتقد كثيرٌ من علماء الأنثروبولوجيا الأوائل أنها تستحقُّ الحفظ.
لم
يُفحَص سوى عدد قليل للغاية من تلك العيِّنات للإصابة بالسرطان.
خُذ هذا الرقم وقارنه بالعدد الإجمالي للأشخاص الذين عاشوا وماتوا منذ بدء الخليقة.
أجرى
أحد علماء الديموغرافيا
demographer في المكتب المرجعي
للبيانات السكانية عمليةً حسابيةً تقريبية؛
٨٣ فوجد أنه بحلول العام الأول للميلاد، كان العدد التراكمي لسكان الأرض قد اقترب
بالفعل من ٥٠ مليارًا، كما تضاعف هذا العدد إلى ١٠٠ مليار نسمة تقريبًا بحلول العام ١٨٥٠م.
لقد اندهشتُ من ضخامة العدد، والذي يزيد بكثير عن الفكرة السائدة بأن عدد البشر الذين
يعيشون اليوم يساوي عدد جميع الذين سبقونا.
وعن طريق قسمة ٢٥٠ ألف هيكل عظمي على ١٠٠ مليار نسمة، ستحصل على بضعة أجزاء من ١٠
آلاف
جزء من واحد في المائة، وهو ما يقارب حجم العيِّنة التي تستند إليها معرفتنا بالسرطان
القديم، فيما يشبه اختبار رورشاخ Rorschach ذا البقع
القليلة، والذي يمكنك اختيارُ قراءته بإحدى طريقتَين.