الفصل السابع
من أين يأتي السرطان حقًّا؟
في تسعينيات القرن التاسع عشر، ولأنه توقَّع حدوث طفرة اقتصادية بطول ضفاف نهر نياغرا
Niagara River، بدأ وليام ت. لاف
Love حفر قناة
١ تطوف حول شلالات نياغرا، مما يسمح للقوارب بالسفر بين بحيرة إيري وبحيرة
أونتاريو. والأهمُّ من ذلك هو أن المياه المحوَّل اتجاهها ستُستخدَم لتوليد الطاقة
الكهرومائية. وبسبب إمدادات الطاقة التي لا تنضب، على ما يبدو، ستنشأ صناعات جديدة، كما
سيتوجه العمال يوميًّا للعمل في المصانع الحديثة من منطقة حضرية دعائية أطلق عليها لاف
اسم
«المدينة النموذجية»
Model City.
وقد اعتمدت خطة لاف، في جزء كبير منها، على حاجة العملاء المتعطشين إلى الطاقة للحضور
من
أجل الكهرباء، والتي كان يجري توليدُها في تلك الأيام بالطريقة التي ابتكرها توماس إديسون
Edison، والتي يُطلَق عليها اسم «التيار المستمر»
direct current. لا يمكن نقلُ التيار المستمر إلى مسافة
بعيدة قبل أن يتلاشى، وبالتالي فإن مصابيح العملاء التي تقع منازلهم قُرب نهاية خطوط
الكهرباء تكون أكثر خفوتًا من تلك الأقرب إلى محطة التوليد. لكن ميزة شلالات نياغرا كانت
قصيرة الأمد؛ فبعد مُضيِّ وقت قصير من بدء أعمال الحفر في قناة لاف، أنتج المخترع الصربي
نيكولا تيسلا Tesla وصاحب عمله، جورج وستنغهاوس
Westinghouse، مولِّدات ومحوِّلات التيار المتناوب
alternating current. وبعد فترةٍ قصيرة، صار بالإمكان
تقويةُ الكهرباء، المنتَجة في شلالات نياغرا وغيرها، وصولًا إلى فولطية عالية ومن ثَم
نقلها
إلى جميع أنحاء البلاد. أدَّى ذلك، بالإضافة إلى الذُّعر الاقتصادي الكبير الذي صاحَب
العام
١٨٩٣م، إلى إيقاف العمل في مشروع قناة لاف، مخلِّفًا وراءه حفرةً غير مُنجَزة يبلغ طولها
نحو ٣٠٠٠ قَدَم وعرضها ١٠٠ قَدَم، والتي استخدمها سكان مدينة نياغرا فولز
Niagara Falls بولاية نيويورك لممارسة السباحة
والتزلُّج على الجليد.
وعلى الرغم من فشل مشروع لاف، فإن عددًا من الصناعات الأخرى، بما في ذلك شركات تصنيع
الكيماويات، قد تنامت بطول النهر، وخلال السنوات المحيطة بالحرب العالمية الثانية، استحوذَت
شركة هوكر للصناعات الكهروكيميائية
٢⋆ على القناة المهجورة لاستخدامها كمَكَبٍّ لنفاياتها. وعلى مدى العقد التالي،
تخلَّصت الشركة من نحو ٢٢ ألف طنٍّ
٣ من النفايات السامة، بما في ذلك مُسرطِنات مثل البنزين والديوكسين. وفي العام
١٩٥٣م، بِيعَ الموقع — وهو مُغلق حاليًّا ومُغطًّى بالأوحال — بسعر رمزي قدْرُه دولار
واحد
إلى مجلس المدارس المحلي الذي كان يُدرك أنه ممتلئ بالنفايات الكيميائية. ومع ذلك، فقد
جرى
بناءُ مدرسة ابتدائية هناك، كما خطَّطت المدينة لتحويل جزء من موقع النفايات القديم إلى
حديقة عامة.
وخلال العقدَين التاليَين، جرى بيعُ وبناءُ الأراضي المتاخمة للقناة، وفي أواخر سبعينيات
القرن العشرين، بعد بضع سنوات من هطول الأمطار بمعدَّلات مرتفعة بشكل غير عادي، بدأ السكان
يشكُون من رائحة مُقزِّزة. وعندما جاء مسئول من وكالة حماية البيئة للتفتيش في العام
١٩٧٧م،
رأى براميل صدئة من النفايات التي شقَّت طريقها إلى السطح. كانت الحفر تنزُّ النفايات
في
الساحات الخلفية لكثير من المنازل، كما تسربت إلى الطابق السفلي من أحد المنازل. وذكر
المسئول في تقريره أن «الروائح تخترق ملابسك وتلتصق بحذائك».
٤ وبعد ثلاثة أيام، كانت رائحة سترته لا تزال تزكم الأنوف. جرى إخلاءُ الحي،
وأُعلنت حالة الطوارئ على المستوى الوطني، وبدأت التحقيقات.
جرى تأليف كتب بأكملها في محاولة لتوزيع اللوم بين شركة هوكر، ومجلس المدارس، ومطوِّري
العقارات، ومدينة نياغرا فولز، على ما اتفق الجميع على أنه كان كارثةً بيئية. (أدرجت
جويس
كارول أوتس
Oates تلك الملحمة في إحدى رواياتها).
٥ وبالصعوبة نفسها، كانت مهمَّة تحديد الأضرار الناجمة عن مكبِّ النفايات هذا
فيما يتعلق بالصحة العامة. وفي بدايات الأزمة، قدَّرت وكالة حماية البيئة
٦ أن الأشخاص الذين يعيشون بطول قناة لاف يتعرضون لاحتمالٍ بنسبة عشرة في المائة
للإصابة بالسرطان خلال حياتهم بسبب تنفس الهواء الملوَّث وحده. ولكن بعد عِدَّة أيام،
اعترفت الوكالة بوجود خطأ حسابي؛
٧ كانت نسبة الخطر المتزايد هي في الواقع واحد في المائة، وأقلَّ من ذلك بكثير
بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون على مبعدة بضعة شوارع فحسب. وجد تقريرٌ آخر لوكالة
حماية البيئة
٨ أن بعض السكان الستة والثلاثين الذين تطوعوا لإجراء الاختبارات أظهروا علاماتٍ
تشير إلى تضرُّر الصبغيات بمعدَّلات تزيد على ما يُعتبر طبيعيًّا. لكن ذلك جرى رفضُه
من
قِبَل لجنة
٩ من الخبراء الطبيين بقيادة لويس توماس
Thomas،
وهو رئيس مركز سلون-كيترينغ التذكاري للسرطان، باعتبار أنها «غير كافية»، وأنه جرى تنفيذُها
على نحوٍ سيئ إلى درجة أنها «تضرُّ بمصداقية العلم». وفي دراسة لاحقة أُجريَت في مراكز
مكافحة الأمراض،
١٠ لم يجرِ اكتشافُ أيِّ قدْر أكبر من الشذوذات الصبغية.
قد يستغرق السرطان عقودًا لكي ينشأ، وبالتالي فإن أولئك الذين واصلوا متابعة الحالة
ظلُّوا في انتظار نتائج دراسة ذات أثر رجعي لمدَّة ثلاثين عامًا
١١ تُجريها إدارة ولاية نيويورك للصحة. ومع الحاجة لمقارنة الكثير من المتغيرات،
فإن دراسات مثل هذه تكون محفوفةً بعدم اليقين. كان لا بدَّ من أخذ العمر، والجنس، والقُرب
من القناة بعين الاعتبار. كان نحو نصف السكان الذين شملهم الاستطلاع، والبالغ عددهم ٦٫٠٢٦،
١٢ يعملون في وظائف قد يمثِّل التعرُّض المهني
occupational
exposure أحدَ مخاطرها، كما أن نحو ثُلثَيهم كانوا مدخِّنين، كما كانت
النسبة نفسها تقريبًا من مُعاقِري المشروبات الكحولية.
وعندما اكتملت الدراسة، أعلن علماء الوبائيات أن معدَّل العيوب الخلقية
١٣ في الأطفال المولودين لآباء وأمهات يعيشون بالقرب من القناة، كان ضِعفَ مثيله
في مقاطعة نياغرا، كما كان أعلى من المعدَّل في بقية أجزاء الولاية.
١٤ ومقارنةً بعموم السكان، فقد وُلد من البنات عددٌ أكبر بقليل من الأولاد،
١٥ وهو تلميح آخر على أن كيماويات قناة لاف قد تكون لها تأثيرات جينية. وعلى الرغم
من التلميحات التي تُشير إلى وجود تأثيرات ماسخة
teratogenic
effects، فقد خلصت الدراسة إلى عدم وجود أدلَّة مُقنِعة
١٦ على أن العيش على مقربة من القناة أدَّى إلى إصابة الناس بالسرطان. كان انتشار
بضعة أنواع من السرطان أعلى بقليل مما كان متوقَّعًا، لكن الأعداد كانت من الضآلة بحيث
إنها
اعتُبرت ضمن نطاق المصادفة. وفي الواقع أن المعدَّل الإجمالي للسرطان كان أقلَّ بقليل
١٧ من مثيله لدى عموم السكان.
يمكن لكلٍّ من العيوب الخِلقيَّة والسرطان أن ينتُج عن الطفرات، فلماذا توجَد علاماتٌ
على
واحدٍ منهما دون الآخر؟ يبدو من المعقول أن الخلايا المنقسمة للجنين النامي تكون أكثر
حساسيةً للتأثيرات المدمرة من خلايا الشخص الكامل التشكُّل. وعلى الرغم من أن طفرةً واحدةً
قد تكون كافيةً لعرقلة مسار النماء، فعادةً ما تكون هناك حاجةٌ إلى العديد منها لكي تتمكن
خليةٌ ما في أحد الأعضاء من الإفلات، ومن ثَم تصبح سرطانية. ولكنْ حتى بعد ثلاثة عقود،
فإن
ميزة الأسبقية الظاهرية التي تمثلها قناة لاف لم تكُن كافيةً لإنتاج فائض واضح من الأورام
الخبيثة.
بالنسبة إلى الكثيرين منَّا الذين نشئوا خلال البدايات المفعمة بالحيوية للحركة البيئية
في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كانت تلك النتيجة شِبهَ مُنافية للعقل. لقد تأثرنا
بكتاب «الربيع الصامت»، وهو إنذار راشيل كارسون
Carson الأنيق
١٨ حول مبيدات الحشرات والبيئة، والمجادلات اللاذعة
١٩ مثل كتاب صموئيل إبشتاين
Epstein المُعنوَن
«المناورات السياسية للسرطان». كنَّا نشعر بالقلق إزاء السكارين
saccharine والصبغ الأحمر رقم ٢، ثم حول الحشرات
الجناحية التي تصيب التفاح. لقد سمعنا عن الوباء الحديث من حالات السرطان
٢٠ — «طاعون القرن العشرين»
٢١ — الذي كان يُفرض على الجمهور من قِبَل الشركات غير المسئولة ونفاياتها
السائلة. كما قيل إن المضافات الغذائية، والمبيدات الحشرية، ومبيدات الأعشاب، والمنظفات
المنزلية تتسبَّب جميعُها في إتلاف الدنا
DNA الخاص بكلٍّ
منا. كنَّا أشبهَ بالبيادق في «لعبة قاتمة من الروليت الكيميائية»،
٢٢ كما حذَّر راسيل ترين
Train، مدير وكالة حماية
البيئة، في مقال تناقلته الصحف في جميع أنحاء البلاد. «ثمة مخلوقات غريبة جديدة من صنعنا
توجَد في كل مكان حولنا؛ في هوائنا، ومياهنا، وطعامنا، وفي الأشياء التي نلمسها. وعندما
تضربنا، فنحن لا نشعر بشيء، فقد لا تظهر آثارها السيئة سوى بعد عقود لاحقة، في صورة سرطان
أو حتى بعد أجيال عِدَّة، في صورة جينات طافرة.» كنَّا في خِضَمِّ ما أسماه المؤرِّخ
روبرت
بروكتور
Proctor «حروب السرطان الكبرى».
٢٣
ينتُج تسعون في المائة من السرطان عن عوامل بيئية
٢٤ كما قيل لنا مرارًا وتكرارًا. كان هناك انحراف تآمُري في بعض تلك التحذيرات؛
فنفس الشركات التي تُنتج الكيماويات المُسرطِنة تُنتج أيضًا الأدوية المُستخدَمة في
المعالجة الكيميائية؛ وبالتالي فهي تستفيد من السرطان من الناحيتَين. كان هذا النوع من
الخطاب متطرفًا، لكن الرسالة العامة التي يحملها كانت معقولةً تمامًا. تُعتبر العديد
من
المواد الكيميائية المصنَّعة مُسرطِنة، ويمكن العثورُ عليها بين العوامل المعروفة
والمُشتبَه فيها،
٢٥ المُدرَجة في التقرير المؤلَّف من ٤٩٩ صفحة، والصادر عن برنامج علم السموم
الوطني حول المواد المُسرطِنة. واعتمادًا على درجة التعرُّض، فإن العمال في الصناعات
التي
تستخدم أو تُنتج هذه المواد يتعرضون لمخاطر صحية متزايدة. ومع انتشار المواد الكيماوية
عبر
الغلاف الجوي، كان لا بدَّ أن تظهر تأثيرات شديدة على الجمهور، والتي تبدأ من الوقت الحاضر
وتتصاعد عامًا بعد عامٍ مع تراكم الجينات المَعيبة. كانت بعض مخاوفنا متجذرة في سوء الفهم.
يعرِّف علماءُ الوبائيات «البيئة» بصورة واسعة للغاية، بحيث تشمل كل ما لا يمثِّل نتيجةً
مباشرةً للوراثة — التدخين، والأكل، وممارسة الرياضة، وحمل الأطفال، والعادات الجنسية،
وأيَّ نوع من السلوكيات أو الممارسات الثقافية، والفيروسات، والتعرُّض لأشعَّة الشمس
والرادون والأشعة الكونية — يجري تعريفُها جميعًا باعتبارها عوامل بيئية. ولأخذ فكرة
عن مدى
قوة تأثر السرطان بالوراثة
٢٦ وبهذه العوامل الخارجية، أجرى العلماء في خمسينيات القرن العشرين دراسةً عن
السكان السُّود الذين جرى أسرُ أجدادهم من قِبَل تجار الرقيق، ومن ثَم نقلهم إلى الولايات
المتحدة، وقارنوهم بأقاربهم الذين ظلُّوا في أفريقيا. لقد اتضح أن معدَّلات الإصابة بسرطان
الكبد ولمفومة بوركيت مرتفعة للغاية بين الأفارقة، ولكن ليس بين الأمريكيين السود. أمَّا
معدَّلات سرطان الرئة، والبنكرياس، والثدي، والبروستاتة، والأنواع الأخرى من السرطان،
فقد
كانت أعلى بكثير بين الأمريكيين السُّود مقارنةً بالأفارقة. وقد وجد الباحثون أنماطًا
أخرى
مماثلة. كان من المعروف أن الرجال اليابانيين يُظهرون معدَّلاتٍ أعلى للإصابة بسرطان
المعدة، ولكن معدلات أقل للإصابة بسرطان القولون مقارنةً بنظرائهم في الولايات المتحدة،
وعندما انتقلوا إلى ذلك البلد تغير الوضع؛ صاروا يميلون إلى الإصابة بسرطانات مضيفيهم
وترك
سرطانات بلدهم الأم وراء ظهورهم. وباعتبار أن جيناتهم قد ظلَّت هي نفسها، فلا بدَّ أن
ثمة
عوامل خارجة عن نطاق الوراثة مكتنفة في العملية.
وبحلول أواخر سبعينيات القرن العشرين، وصلت عقود من هذه الدراسات التي أُجريَت على
المهاجرين إلى النتيجة نفسها؛ ففي تسعين في المائة من حالات السرطان كان لا بدَّ من وجود
نوع من التأثير الخارجي، أو عامل «بيئي». كانت هناك فرصة لحصول شخصٍ ما على أسبقية الإصابة
بالسرطان عن طريق وراثة جين تالف، لكن معظم الطفرات التي تحرِّض الخباثة كانت تلك
المُكتسَبة خلال الحياة. مثَّلت هذه أنباءً مشجِّعةً للصحة العامة والوقاية، لكنه كثيرًا
ما
كان يُساء فهمُها على أنها تعني أن الأغلبية الساحقة من حالات السرطان كانت ناجمةً عن
التلوث، والمبيدات الحشرية، والنفايات الصناعية. كان ذلك متوافقًا تمامًا مع بقية نظرتنا
إلى العالم، والمتمثلة في ضعف الحافز لإلقاء نظرة أعمق. أمَّا الأصوات الأكثر هدوءًا
فقد
دعت إلى اعتماد منظور أكثر توازنًا، لكن أكثر التحذيرات إخافةً هي التي ترسَّخت في أذهان
الجمهور. فإذا أُصِبنا أو أُصِيب أيُّ شخص كنَّا نعرفه في أي وقت مضى بالسرطان، فسنسارع
إلى
التساؤل عمَّا إذا كانت الشركات الأمريكية هي المَلومة في ذلك.
كانت القصة تنطوي على أكثر من المناورات السياسية والدلالات. ففي العام ١٩٧٣م، بعد
فترة
ليست بالطويلة من إعلان الرئيس ريتشارد نيكسون
Nixon عن
برنامج «الحرب على السرطان»، بدأ برنامج الحكومة للمراقبة، والوبائيات، والنتائج
النهائية،
٢٧⋆ والمعروف اختصارًا باسم
SEER، في جمع البيانات
من سجلات الولايات بشأن السرطان حول الوقوع
incidence
ومعدَّل الوَفَيات، أيْ معدَّلات إصابة الناس بالسرطان، وعدد المرات التي تفتك بهم فيها.
طوال سنوات، كانت وجهة النظر السائدة هي أنه باستثناء سرطان الرئة، فقد حافظت المعدَّلات
الإجمالية على ثباتها. ولكن في العام ١٩٧٦م، عندما قُورِنت البيانات الجديدة للبرنامج
SEER مع الدراسات المَسحيَّة السابقة التي أُجريَت من
قِبَل المعهد الوطني للسرطان، بدا أن عدد الحالات الجديدة يتصاعد على نحوٍ مفاجئ،
٢٨ حتى عند تعديل الحسابات للسماح بمعدلات تشيُّخ السكان. بدا أن هذا هو التبرئة
٢٩ التي كان كثيرٌ من الناس يسعَون إليها.
بيدَ أن دمج هاتين المجموعتَين من الإحصاءات، اللتين جرى تجميعُهما من مصادر مختلفة
ووفقًا لقواعد مختلفة، لا بدَّ أن يسبِّب المتاعب. في البداية، حذَّر علماء الوبائيات
من
كون المقارنات غير صالحة،
٣٠ ومن ثَم لا ينبغي وضع استنتاجات، أيْ إنه لم يكُن هناك أيُّ دليل على وجود وباء
للسرطان. وللحصول على فكرة أوضح عمَّا كان يواجهه الجمهور، بادر مكتب الولايات المتحدة
لتقييم التكنولوجيا برعاية دراسة
٣١ أجراها ريتشارد دول
Doll، وريتشارد بيتو
Peto، وكلاهما من علماء الوبائيات في جامعة أكسفورد،
واللذان اكتسبا شهرتهما عن طريق إثبات الصلة بين السجائر والسرطان، وكذلك التأثيرات
المُسرطِنة للأسبستوس
asbestos. كان من الصعب العثورُ على
عالِمَين أكثر كفاءةً منهما
٣٢ في مجال عملهما.
بادئ ذي بدء، كان عليهما تقرير أيِّ أرقام سيثقون بها.
٣٣ وعلى الرغم من أنها كانت آخذةً في التحسُّن، فإن الإحصاءات المتعلِّقة
بمعدَّلات وقوع السرطان — عدد الحالات الجديدة التي تحدث في مجموعة سكانية بعينها — لم
تكُن
جديرةً بالاعتماد حتى الآن. وما بدا أنه مزيدٌ من حالات السرطان الجديدة قد يكون نتيجةً
لتحسُّن سُبُل التشخيص، وكون السجلات الطبية أكثر دقة، وزيادة نسبة السكان الذين يطلبون
الرعاية الطبية ويحصلون عليها. وكذلك كانت شهادات الوفاة الصادرة في أوائل القرن متَّهمةً
في ذلك أيضًا. ربما خضع الأطباء لطلب العائلة عدمَ إدخال وصمة العار المتمثلة في السرطان
في
السجلات العامة. وكثيرًا ما ارتُكبت أخطاء في كلٍّ من حفظ السجلات والتشخيص، فإن شخصًا
تُوفِّي بسرطان الرئة قد يجري تسجيلُه كضحية للالتهاب الرئوي. وقد تُعزى وفاة ناتجة عن
وَرَم غير مُشخَّص في الدماغ إلى الشيخوخة. وقد يجري تسجيلُ مريض على أنه تُوفِّي بفعل
السرطان في حين أن السبب الحقيقي كان شيئًا آخر. وقد تحسَّن الوضع
٣٤ في العام ١٩٣٣م، عندما بدأت الولايات تقرير الوفَيَات في سجل مركزي، وفي منتصف
القرن العشرين وُضع نظامٌ موحَّدٌ للتصنيف (جرى جمع سرطان عنق الرحم وسرطان الرحم معًا،
أمَّا لمفومة هودجكن،
٣٥⋆ وهي وَرَم خبيث يصيب خلايا الدم، فقد أُسِيء فهمُها باعتبارها مرضًا مُعديًا).
وبدايةً من العام ١٩٥٠م، وباستخدام معدَّلات الوفاة باعتبارها أفضل تقدير تقريبي متاح
لانتشار السرطان، أعدَّ المؤلِّفان تحليلًا معقَّدًا يمتدُّ إلى أكثر من مائة صفحة تكتظُّ
بالكلمات، والجداول، والرسوم البيانية، وستة ملاحق شديدة التفصيل. وبالإضافة إلى حساباتهما
الخاصة، فقد استعرضا أيضًا نتائج أكثر من ثلاثمائة دراسة أخرى.
ومنذ نشره في العام ١٩٨١م، أصبح تقرير دول وبيتو المُعنوَن «أسباب السرطان» واحدًا
من
الوثائق الأشدِّ تأثيرًا في مجال الوبائيات السرطانية. خلص التقرير إلى أن معظم حالات
السرطان، إلى حدٍّ كبير، «يمكن تجنُّبها»، أيْ إنها ناجمة عن عوامل تقع، إلى حدٍّ كبير،
في
متناول تحكُّم البشر. وفي ٣٠ في المائة من الوَفَيات الناجمة عن السرطان، كان التبغ أحد
الأسباب.
٣٦ وبالنسبة إلى النظام الغذائي، كانت النسبة ٣٥ في المائة، كما كانت ٣ في المائة
للكحول. ينطوي نحو ٧ في المائة من الوَفَيات على «سلوكيات إنجابية وجنسية»، وتتضمن تأجيل
أو
التخلِّي عن حَمْل الأطفال وممارسة الجنس بصورة منحلَّة (لُوحِظ أن امتلاك المرأة عِدَّة
شركاء جنسيين يمثل خطرًا للإصابة بسرطان عنق الرحم، على الرغم من أنه لم يكُن معروفًا
في
ذلك الوقت أن العامل المسبِّب له هو فيروس الوَرَم الحليمي البشري).
وقد عُزيت ١٠ في المائة أخرى من حالات السرطان مبدئيًّا لمجموعة متنوعة من العدوى،
وعُزيت
٣ في المائة إلى الظواهر «الجيوفيزيائية»؛ التعرض للأشعَّة فوق البنفسجية المتضمَّنة
في
أشعَّة الشمس، وإشعاع الخلفية
background radiation الذي
ينبعث بشكل طبيعي من التربة والأشعَّة الكونية. أمَّا بالنسبة إلى الوَفَيات الناجمة
عن
المُسرطِنات المُنتَجة اصطناعيًّا، بما في ذلك النظائر المُشعَّة، فقد جاءت النِّسَب
منخفضةً للغاية؛ ٤ في المائة من التعرُّض المهني، و٢ في المائة من الهواء، والماء، والتلوث
الغذائي، واحد في المائة بسبب الآثار الجانبية للعلاج الطبي (بما في ذلك الأشعَّة السينية
والعلاج الإشعاعي)، وأقل من واحد في المائة بسبب المنتَجات الصناعية مثل الدهانات، ومنتجات
البلاستيك، والمُذيبات أو المُضافات الغذائية. أمَّا النسبة المتبقية فهي مجهولة المنشأ،
مع
اقتراح بأن الإجهاد النفسي أو تقويض الجهاز المناعي للخطر قد يؤدي دورًا. وخلص دول وبيتو
إلى أنه، باستثناء سرطان الرئة، فإن «معظم أنواع السرطان الشائعة اليوم
٣٧ في الولايات المتحدة لا بدَّ أن تكون راجعةً أساسًا إلى عوامل ظلَّت موجودةً
لفترة طويلة.»
يا لها من نتيجة يصعُب تصديقُها. إن أيَّ حالة بعينها من السرطان تكون لها أسباب
متعددة،
٣٨ بيئية (بالمعنى الواسع)، جنبًا إلى جنب مع النزعات الوراثية، والتأثير المخادع
لسوء الحظ. ولكن بالنسبة إلى عموم الجمهور، فإن الكيماويات المنبعثة من المصانع أو المواد
المضافة المتعددة المقاطع
pollysyllabic، والموجودة في
الأطعمة، لم تكُن تمثِّل، على ما يبدو، سوى أجزاء طفيفة من المعادلة. كانت مجرَّد مُكوِّن.
٣٩ «هناك الكثير من الجهل
٤٠ إلى درجة لا يمكن معها تبريرُ الرضا عن النتائج»، كما كتب المؤلِّفان، لكن
الأمر الأكثر أهميةً بكثير هو أسلوب معيشتنا وتأثير ذلك في الميل الطبيعي للخلية إلى
التمرد
وتأكيد حتميتها الداروينية. أمَّا الأمر الأكثر تعبيرًا على الإطلاق فهو أن دول وبيتو
وجدا
أن معدَّلات السرطان لم تتزايد بسرعة، كما يمكن للمرء أن يتوقع إذا كنَّا نتعرض لفيض
من
الاعتداءات المُخترَعة حديثًا. عند إسقاط سرطان الرئة والأورام الخبيثة الأخرى المرتبطة
بشكل وثيق بالتدخين (سرطان الفم، والحنجرة، والمريء، وغيرها) من الاعتبار، وتعديل النتائج
وفقًا لتشيُّخ السكان، نجد أن وَفَيات السرطان بين الأشخاص الذين تقلُّ أعمارُهم عن الخامسة
والستين
٤١ قد تناقصت بشكل مطَّرد في جميع الفئات تقريبًا منذ العام ١٩٥٣م (اتضح أيضًا أن
ذلك ينطبق، إلى حدٍّ كبير، على الأمريكيين المُسنِّين،
٤٢ لكن تلك الأرقام، التي تعتمد على التقارير الطبية وبيانات تعداد السكان
القديمة، قد اعتُبرت أقلَّ موثوقية). لم يكُن انخفاض معدَّل الوَفَيات ناتجًا عن حصولنا
على
علاج أفضل
٤٣ بكثير للسرطان، كما خلص إليه المؤلِّفان، ولكنْ لأن عدد الحالات الجديدة لم
يكُن في ازدياد. وبمجرَّد أن أصبح البرنامج
SEER أكثر
رسوخًا وتحسنت جودة البيانات، أكَّدا أنه لا يوجَد ارتفاع مهول في معدَّل وقوع
السرطان.
لم يكُن دول وبيتو وحدهما في النتائج التي توصَّلا إليها. توصَّلت دراستان أصغر حجمًا؛
٤٤ واحدة في الولايات المتحدة والأخرى في مدينة برمنغهام الصناعية (إنجلترا)، إلى
نِسَب مماثلة، حيث عُزيت معظم حالات السرطان إلى التدخين ومزيج مما يُسمَّى بالعوامل
المتعلِّقة بنمط الحياة، في حين أن التعرُّض المهني لم يكُن مسئولًا سوى عن بضعة أجزاء
في
المائة. لكن تقرير «أسباب السرطان» كان أوسع الدراسات التي أُجريَت نطاقًا. وبطبيعة الحال،
فقد كانت استنتاجاته متوافقةً مع ما يريد سماعه روَّاد الصناعة، ومن ثَم فقد بدأ الأشخاص
الملتزمون بمحاربة مشكلات التلوث الصناعي يطعنون في صحة التقرير.
٤٥ رُفضت حُجَّة نمط الحياة باعتبارها هجومًا مضلِّلًا، فهي تلقي باللوم على
الضحايا بدلًا من الجُناة. وفي حين كان واضحًا أن السجائر تمثل تأثيرًا مهمًّا، فمن
المُحتمَل أن عددًا كبيرًا من المدخِّنين لم يكُن ليصيبهم سرطان الرئة من دون مساعدة
إضافية
من الهواء الملوَّث أو المُسرطِنات الاصطناعية في تأثير تآزُري مُعقَّد. ومهما كان يحدث
بشأن المعدَّلات الإجمالية، بدا أن وقوع بعض أنواع السرطان كان في ازدياد، خصوصًا بين
جمهرات المُسنِّين والأقليات. ربما أن ما نسبه دول وبيتو لتحسُّن سُبُل التشخيص كان يشير
في
الواقع إلى السموم المُسرطِنة التي تتراكم باطِّراد، والتي ستندلع في السنوات المُقبِلة
في
صورة جائحة مدمِّرة من السرطان. وعندما بدأت معدَّلات الإصابة بسرطان الرئة تتزايد
٤٦ في أوائل القرن العشرين، رُفض ذلك أيضًا باعتباره ناتجًا عن تحسُّن التشخيص.
وبالتالي فإن الرعب الحقيقي الذي كنَّا نُلحِقه بأنفسنا لن تتضح معالمُه إلا بمرور
الوقت.
وفي حين ظلَّ علماء الوبائيات مترقبين
٤٧ لظهور وباء متأخر، فإن بروس إيمز، وهو مخترع اختبار إيمز،
٤٨ بدأ يتساءل بدوره عمَّا إذا كانت المواد الاصطناعية تمثِّل تهديدًا كبيرًا. كان
إيمز هو مَن استخدم التجارب التي أجراها على البكتيريا في العام ١٩٧٣م، لإثبات أن
المُسرطِنات، أو معظمها على أيِّ حال، تُسبِّب السرطان عن طريق إحداث طفرات جينية (ليست
كل
المسرطنات مُسبِّبة للطفرات، بعضها يمكن أن يعمل بصورة غير مباشرة. فعن طريق قتل خلايا
المريء
٤٩ وزيادة نسبة استبدالها، يزيد الكحول من احتمالات حدوث أخطاء عشوائية في النسخ).
ومع رسوخ اختباره، شعر إيمز في البداية بالقلق بشأن المخاطر التي كان الإنسان المعاصر
يقذف
بها إلى العالم. ساعدت أبحاثه المبكرة على فرض حظر على المُسرطِنات التي كانت تُستخدَم
كمُثبِّطات للَّهب
flame retardants في منامات الأطفال
وصبغات الشَّعر. وساعد في إقناع ولاية كاليفورنيا بتعزيز تنظيمها لإحدى المستدخنات
fumigant الزراعية. لقد صار الرجل يشبه بطلًا بيئيًّا.
وبعد ذلك، بدأ يُجري اختباراتٍ على المواد الكيميائية الموجودة في الطبيعة، فوجد أن عددًا
مذهلًا منها أيضًا يبدو أنه يُتلف الدنا
DNA.
كان ذلك منطقيًّا للغاية من الناحية التطورية؛ فعلى مرِّ الزمان، طوَّرت النباتات
قدرةً
على تصنيع موادَّ كيميائيةٍ لدرء الضواري-البكتيريا، والفطريات والحشرات والقوارض،
والحيوانات الأخرى. وصف إيمز بعضَ مُبيدات الهوام
pesticides الطبيعية هذه في بحث نُشر في مجلة «ساينس»
Science٥٠ في العام ١٩٨٣م. يحتوي الفلفل الأسود،
الذي يُستخدَم كتوابل في طعامنا، على السافرول
safrole
والبيبيرين
piperine، ويسبِّب الأورام في الفئران. وتحتوي
أنواع فُطر عيش الغراب الصالحة للأكل على الهيدرازينات
hydrazines، وهي موادُّ مُسرطِنة. ويحتوي الكرفس،
والجزر الأبيض، والتين، والبقدونس على الفلوروكومارينات
furocoumarins المُسرطِنة. وفي الشوكولاتة، يوجَد
الثيوبرومين
theobromine، كما توجَد قلويدات البيروليزيدين
pyrrolizidine في العديد من أنواع الشاي العشبي. وعلى
مرِّ السنين، واصل إيمز إضافة أرقام إلى قائمته. وفي العام ١٩٩٧م، ذكر تقريرٌ له
٥١ أنه من بين ثلاثٍ وستين مادةً طبيعيةً الموجودة في النباتات، أثبتت الاختبارات
أن خمسًا وثلاثين منها مُسرطِنة. كان مثاله الأبرز هو فنجان من القهوة، والذي احتوى على
تسع
عشرة مادةً مُسرطِنةً مختلفة، بما في ذلك الأسيتالديهيد
acetaldehyde، والبنزين، والفورمالديهيد
formaldehyde، والستايرين
styrene، والطولوين
toluene، والزيلين
xylene. وبصورة إجمالية، قدَّر أن الناس يشربون من
مبيدات الهوام الطبيعية عشرة آلاف ضعف ما يتناولونه من تلك المُصنَّعة. وقال إن مَن يسعَون
إلى العثور على الأسباب الكيميائية للسرطان يبحثون في المكان الخطأ.
وقد تشكَّك في الواقع
٥٢ في أن السموم الطبيعية كانت تسبِّب بالفعل كثيرًا من حالات السرطان. ومما يجري
إغفالُه كثيرًا هو أن بحثه المنشور في مجلة «ساينس» قد ذكر أيضًا العديد من مضادات الأكسدة
antioxidants والعناصر النباتية الأخرى التي يُحتمل أن
توفر بعض الحماية. كان من الممكن، كما أشار إليه إيمز، أن يتفوق الجيد على السيئ، وأنه
عند
أخذ كل شيء في الاعتبار قد يقلِّل تناول الفواكه والخضار من وقوع السرطان. لكن أحدًا
لا
يعرف حقًّا.
وفي نهاية المطاف، كانت رسالة إيمز هي أننا نقلق أكثر من اللازم بخصوص كلا النوعَين
من
الكيماويات؛ الطبيعية والاصطناعية. وكتب قائلًا إن نِصفَ جميع المواد التي جرى اختبارها
٥٣ تُسجَّل باعتبارها مُسرطِنة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك المواد خطيرة.
يجري حقن المُسرطِنات المُشتبَه بها في القوارض باستخدام ما يُسمَّى بالحدِّ الأقصى للجرعة
التي يمكن تحمُّلُها،
٥٤⋆ وهو أقصى قدْرٍ يمكن للحيوانات تحمُّلُه دون تأثيرات موهِنة. ويعني هذا عدد
مرات التعرُّض التي يُحتمل أن يتلقَّاها الناسُ في العالم. تنطوي هذه المقاربة على منطق
محدَّد.
لنفترض أن تعريض ١٠ آلاف شخص لمادة كيميائية معيَّنة يؤدِّي إلى حالة واحدة من السرطان،
فبالنسبة إلى مجموعة من السكان قوامُها ١٠ ملايين نسمة، يمثل هذا ١٠٠٠ حالة يمكن تفاديها.
لتوضيح الخطر، قد تحتاج لحقن تلك المادة الكيميائية في عشرات الآلاف من الفئران، وهي
تجربة
تكلِّف عشرات الملايين من الدولارات.
٥٥ وبديل ذلك هو إعطاء جرعات ضخمة لعددٍ أقلَّ بكثير من تلك الحيوانات، ومعرفة ما
إذا كانت نسبةٌ كبيرةٌ منها ستتأثر. تتمثل المشكلة، كما قال إيمز، في أن حقن تركيزات
كبيرة
من أيِّ مادة غريبة قد تصيب الحيوانات باضطرابات جسدية. وعند استشعار الأضرار التي لحقت
بأنسجته، يستجيب الجسم كأنه أُصيب بجرح، مُطلِقًا العنانَ لعملية الشفاء التي تنطوي على
تسريع وتيرة الانقسام الفتيلي، مما يعمل على توليد خلايا جديدة بسرعة لكي تحلَّ محلَّ
تلك
التالفة. ومع نَسخ قدْر كبير من الدنا، فإن احتمالات حدوث طفرات عشوائية يكون أعلى، وكذلك
يزيد احتمال اكتساب واحدة من التوليفات القاتلة. وباستخدام المصطلحات الطبية، فإن التفتُّل
mitogenesis يزيد من احتمالية التطفُّر
mutagenesis.
٥٦
دافع علماء السموم عن تلك الاختبارات
٥٧ كحلٍّ وسط جيد إلى حدٍّ معقول. ومثل دول وبيتو، تعرَّض إيمز للشجب من قِبَل
أشدِّ مُنتقِديه بزعم إراحة الملوِّثين وتحويل الانتباه عن مشكلة حقيقية.
٥٨ ربما كانت السموم البيئية تتجمع في مجرى الدم البشري، حيث تُرى بالكاد، لكنها
لا تزال تضيف تدريجيًّا إلى معدَّل وقوع السرطان في الخلفية. أشار تقريرٌ صدر أخيرًا
عن
مجموعة استشارية تابعة للبيت الأبيض
٥٩ إلى أن الاختبارات الحيوانية تسهم في الواقع في فهم السرطَنة
carcinogenicity، وهو عكس ما دعا إليه إيمز لفترة
طويلة. تُجرى تلك الاختبارات عمومًا على القوارض المراهقة التي يجري التخلُّص منها عند
انتهاء التجربة. ومن شأن ذلك إخفاء آثار التعرُّض في الفترة السابقة للولادة وخلال الطفولة،
فضلًا عن الأورام المتأخرة الظهور. وقد يكون البديل هو إعطاء
٦٠ تلك المواد الكيميائية للحيوانات الحوامل ومتابعة صحة جِرائها في أثناء
نموِّها، حتى تصير بالغةً ومن ثَم تموت من تلقاء نفسها. وكذلك فإن تلك الطريقة تُغفِل
أيضًا
التفاعلات التآزُرية. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من ثمانين ألف مادة جديدة قد أُدخِلت
إلى
العالم في العصر الحديث، وبالتالي فإن عدد التوليفات بينها لا نهاية له. ولم يُختبَر
سوى
جزء ضئيل من المركَّبات الجديدة، بعد أن جرى الاشتباه بالفعل في كونها تسبِّب السرطان.
وعند
أخذ هذه العوامل بعين الاعتبار، خلصت اللجنة بكل ثقة إلى أن عدد حالات السرطان المرتبطة
بالمُسرطِنات الصناعية قد «جرى تقليل قيمته بشكل فاضح».
٦١
وفي حين انتقد العديدُ من العلماء التقرير
٦٢ بسبب مبالغته الشديدة في وصف التهديد الذي تمثله الكيماويات الاصطناعية، وبسبب
إضفائه مصداقيةً لا مبرر لها لوجهة نظر خارجة عن الإجماع، فإن معظمهم وافقوا على أن
اختبارات السموم بحاجة إلى تحسين. وقد وصفت الأكاديمية الوطنية للعلوم
٦٣ كيف أن التقدم في مجال البيولوجيا الخلوية وعلوم الحاسوب فتح الطريق أمام
المقايسات السريعة والعالية الإنتاجية، التي تسمح بتحليل مزيد ومزيد من المواد الكيميائية
وتوليفات المواد الكيميائية. وبدلًا من الحيوانات، يمكن إجراء الاختبارات على الخلايا
التي
يجري إبقاؤها على قيد الحياة في أطباق المُختبَر. ومن المؤمَّل أن يجري التعرُّف على
المُسرطِنات الجديدة بسرعة، ومن ثَم اتخاذ التدابير اللازمة لتقليل انتشارها. فإذا جرى
التعرُّف عليها جميعها، فسيمكن حينئذٍ خفضُ معدَّلات الإصابة بالسرطان أكثر فأكثر. وهذا
أمرٌ جيد، لكنه من الصعب إثبات أن التأثير سيكون كبيرًا للغاية.
ومع مرور السنوات، لم يظهر أيُّ وباء. ومع تعديلها للتكيُّف مع تشيُّخ السكان، تبيِّن
الإحصاءات التي جمعها البرنامج
SEER أن معدَّلات الوَفَيات
الناجمة عن السرطان قد ارتفعت تدريجيًّا
٦٤ بمقدار نصف نقطة مئوية بين العامَين ١٩٧٥–١٩٨٤م، حيث من المؤكَّد أن التدخين
كان عاملًا مسبِّبًا، وبوتيرة أبطأ حتى العام ١٩٩١م، لكنها بدأت حينئذٍ تنخفض بمعدَّلات
طفيفة،
٦٥ واستمرت على هذا المنوال منذ ذلك الحين. أمَّا معدَّلات الوقوع فتحكي قصةً مماثلة،
٦٦ على الرغم من كون المشهد أشدَّ تعقيدًا إلى حدٍّ ما. ومثل معدَّلات الوَفَيات،
فقد ارتفعت تدريجيًّا منذ العام ١٩٧٥م وحتى أوائل تسعينيات القرن العشرين، مع موجة من
الحالات الجديدة المُبلَّغ عنها خلال الفترة بين ١٩٨٩–١٩٩٢م، عندما ارتفع المعدَّل بنسبة
٢٫٨ في المائة سنويًّا. يبدو أن أكبر موجِّه لتلك الزيادة الحادة هو الفحص الأكثر دقةً
لاثنين من أكثر أنواع السرطان انتشارًا. ارتفع عدد حالات سرطان البروستاتة التي اكتُشفت
بنسبة ١٦٫٤ في المائة سنويًّا قبل أن تتراجع بشكل حاد، كما انخفضت معدَّلات سرطان الثدي
بنسبة ٤ في المائة. وحينئذٍ، فإن معدَّلات الوقوع — مثل معدَّلات الوَفَيات — بدأت تراجعها
البطيء.
وفي كل عام، عندما ينشر المعهد الوطني للسرطان «تقريرًا إلى الأمة بخصوص وضع السرطان»،
تظلُّ القصة على حالها. وقد انتشرت أيضًا أدلةً على أن نسبةً كبيرةً من الحالات يمكن
أن
تُعزى إلى نمط الحياة. ويستمر اختلاف الآراء بشأن أيِّ العناصر المحدَّدة هي الأكثر أهمية،
حيث جرى استبدالُ الأطعمة المحدَّدة — مثل تحديد المقدار الضار من اللحوم الحمراء
والمُصنَّعة، والمقدار الجيد من الفواكه والخضراوات — بالاشتباه في أن عدم ممارسة الرياضة
والوزن المُفرط يمثلان عاملَين يمكن أن يُلقى عليهما قدْرٌ أكبر بكثير من اللوم.
٦٧ وبعد مرور أكثر من خمسة وعشرين عامًا،
٦٨ فلا يزال تقرير «أسباب السرطان» يعزو ٣٠ في المائة من السرطان إلى التبغ. ومن
المُعتقَد أن السمنة وعدم ممارسة الرياضة يمثلان ٢٠ في المائة، كما يمثل النظام الغذائي
نسبة ١٠ إلى ٢٥ في المائة، والكحول نسبة ٤ في المائة، والفيروسات نسبة ٣ في المائة. وقد
وجدَت دراسةٌ أجرتها الوكالة الدولية لبحوث السرطان، والتابعة لمنظمة الصحة العالمية،
أرقامًا مماثلةً
٦٩ في فرنسا. وفي مركز أكثر انخفاضًا بكثير في القوائم، نجد التعرُّض المهني
والملوثات المهنية. وقد أظهرت دراساتٌ أخرى وجودَ نِسَب مماثلة في المملكة المتحدة وغيرها
من الدول الصناعية.
وطوال كل هذا الوقت، فإن عناقيد السرطان في الأحياء،
٧٠ مثل ذلك الذي قرأتُ عنه في لوس ألاموس، وفي لونغ آيلاند، ورأيتُه مجسَّدًا في
فيلم إيرين بروكوفيتش،
٧١⋆ لا يزال يجري الإبلاغُ عنها. ولكن في كل الحالات تقريبًا، يتضح أنها مجرَّد
أوهام إحصائية، مما يمثل مزيدًا من الأمثلة على تأثير قنَّاص تكساس.
٧٢⋆ ومن بين تلك الحقيقية، لم يجرِ الربطُ إلا بين قلة نادرة وبين الملوِّثات
البيئية. وعلى مرِّ العقود، أدَّت معدَّلات الوقوع غير العادية للسرطان بين العمال إلى
التعرُّف على بعض المواد المُسرطِنة، مثل العلاقة بين وَرَم «الظهارة» المتوسطة
mesothelioma والأسبستوس، وبين سرطان المثانة والأمينات
الأروماتية
aromatic amines (وهي موادُّ توجَد أيضًا في
دخان السجائر). ولكن حتى العناقيد المهنية تظلُّ غير شائعة.
٧٣
ومع تطور بقية أجزاء العالم، تظهر نفسُ الأنماط الموجودة
٧٤ في الغرب. تميل الدول الفقيرة في البداية إلى الوقوع فريسةً للسرطانات التي
تنتشر عن طريق الاتصال الجنسي والاحتشاد المُفرط
overcrowding؛ تلك التي تحرِّضها الفيروسات. هناك
العلاقة بين فيروس الوَرَم الحليمي البشري
HPV وسرطان عنق
الرحم، والتهاب الكبد
B و
C وسرطان الكبد، والملوية البوابية
Helicobacter
pylori وسرطان المعدة. ومع تحسُّن مستويات النظافة والاستخدام المتزايد
لمسحات بابانيكولاو (لعنق الرحم)
Pap smears (وأخيرًا لقاح
فيروس الوَرَم الحليمي البشري)، فقد يبدأ سرطان عنق الرحم في الانحسار. ولكنْ بعد ذلك
سوف
تنشأ سرطانات جديدة لتحلَّ محلَّه. ومع اختيار النساء لإنجاب أطفال أقل، كما تبدأ بناتهن
اللواتي حصلن على تغذية أفضل في الحيض في سنٍّ أبكر، فقد تتزايد السرطانات المعتمدة على
هرمون الإستروجين في الرحم والثدي. إن التعليم، واللقاحات، وتحسُّن الصحة العامة … تؤدي
هذه
العوامل بدورها إلى تقليل سرطانات الكبد والمعدة، لكنها في الوقت نفسه تزيد من معدَّلات
سرطان القولون والمستقيم مع انتقال مزيد من الناس من الحقول إلى المُدن ومن ثَم يصبحون
خاملين. إنهم يتحولون من الإصابة بنقص التغذية إلى المعاناة من فرط التغذية
overnourished، مع جميع الاختلالات الغذائية التي يمكن
أن يحملها اتباعُ النظام الغذائي الحديث. إن سرطانات الفقر تُفسح المجال لسرطانات الثراء.
إن سرطان البروستاتة، وهو مرض يصيب الرجال المُسنِّين، يصبح مشكلةً عندما يزداد متوسط
العمر
المتوقَّع إلى السبعينيات والثمانينيات. وتزداد معدَّلات سرطان الرئة مع نقل شركات السجائر
لأعمالها إلى أسواق أقلَّ تمييزًا. ويجلب التصنيعُ معه مخاطرَ جديدة للتعرُّض
المهني.
لا تنسجم جميع العناصر مع صورة مرتبة، فقد تبدو معدَّلات الإصابة بالسرطان أعلى في
بلدٍ
من الآخر بسبب توافر اختبارات التحرِّي
screening tests،
كما أن السرطان في المناطق الحضرية يكون أقربَ احتمالًا لأن يجريَ اكتشافُه من السرطان
في
الريف. وفيما عدا الشكوك الإحصائية، فإن مزيجًا من المكوِّنات — النظام الغذائي، والعوامل
الوراثية، والممارسات الثقافية — يمكنه إحداثُ تباينات مفاجئة. قد ينتُج انتشار سرطان
الفم
في الهند عن مضغ جوز التنبول
betel nuts، وكذلك — وهو الأمر
الأكثر أهمية — بسبب التدخين العكسي
reverse smoking،
٧٥ حيث توضَع النهاية المشتعلة
من السيجارة بداخل الفم. قد يفسِّر شرب المتَّة،
٧٦⋆ الشديد السخونة، ارتفاعَ معدَّلات الإصابة بسرطان المريء في بعض دول أمريكا
الجنوبية. كما أن اليابان، وهي مجتمع رغيد الحياة، لا تزال تقود العالم في معدَّل الإصابة
بسرطان المعدة. وغالبًا ما يُعزى سببُ ذلك للنظام الغذائي الذي ينطوي على تفضيل ثقافي
للأسماك المُملَّحة. تتسم معدَّلات سرطان الثدي في اليابان بانخفاضها مقارنةً بالدول
المتقدمة، لكنها تلحق بها بسرعة.
وفي أحد الأيام، وخلال محاولتي لفهم كل هذا، تحصَّنتُ في مكتبي وبدأتُ قراءة أحدث
إحصاءات
البرنامج
SEER.
٧٧ من الممكن أن يؤدِّيَ التركيز على
المعدَّلات الإجمالية للإصابة بالسرطان إلى طمس بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام، ولذلك
تساءلتُ عمَّا يمكن أن يكون كامنًا تحت السطح. كان المحرِّك الأساسي لتقليل المعدَّلات
هو
حدوث انخفاض أو استواء
٧٨ في أكثر السرطانات شيوعًا على الإطلاق؛ أيْ سرطان البروستاتة في الرجال، وسرطان
الثدي في النساء، وسرطان الرئة وسرطان القولون والمستقيم في كلٍّ من النساء والرجال.
وفي
الوقت نفسه، فإن أنواع السرطان التي يبدو أنها في ازدياد — مثل سرطان الجلد، وسرطان
البنكرياس، والكبد، والكُلى، والغُدَّة الدرقية — تُعَدُّ من بين أندر السرطانات. يبلغ
المعدَّل السنوي لسرطان البنكرياس ١٢٫١ حالة لكل ١٠٠ ألف نسمة،
٧٩ مقارنةً بمعدَّل ٦٢٫٦ حالة لسرطان الرئة والشُّعَب الهوائية. وسنةً بعد سنة،
تتقلب الأرقام بمعدَّلات متزايدة الضآلة. وفي وجود أعداد ضئيلة للغاية، قد يكون من الصعب
معرفةُ ما إذا كانت الزيادات حقيقيةً أم وهمية؛ أيْ نتائج زائفة لتحسن طرق إعداد التقارير
وسُبُل الكشف المبكر.
تمثل هذه واحدةً من الصعوبات المزعجة في علم الأوبئة؛ فكلما زادت ندرة السرطان، صارت
الأرقام أكثر عُرضةً للتقلُّبات العشوائية، وهو المقابل الإحصائي للضوضاء. تُعَدُّ سرطانات
الأطفال من بين أندر الأورام
٨٠ الخبيثة على الإطلاق، حيث يتراوح معدَّل الوقوع بين ٠٫٦ حالة لكل ١٠٠ ألف نسمة
في لمفومة هودجكن إلى ٣٫٢ في سرطان الدماغ والجهاز العصبي، و٥٫٠ في ابيضاض الدم
leukemia. إنَّ تراجُع معدَّلات الوفاة من هذه الأورام
الخبيثة إلى نحو نصف
٨١ ما كانت عليه قبل بضعة عقود يُعَدُّ واحدًا من الانتصارات العظيمة للطب. لكن
الاتجاهات في معدَّلات الوقوع — أيْ تحديد عدد الأطفال الذين يصابون بالسرطان في المقام
الأول — يكاد يستحيل فهمُها. وفي حين أن هناك أدلةً قليلةً على وجود زيادة إجمالية، فمن
الصعب للغاية فهمُ دلالاتها. إن زيادةً في العدد الإجمالي من ١١٫٥ حالة لكل ١٠٠ ألف نسمة
في
العام ١٩٧٥م إلى ١٥٫٥ في العام ٢٠٠٩م تبدو مُخيفة؛ لكنْ بالنسبة إلى السنوات الواقعة
بينهما، نجد أن الأرقام تتباين بشدة.
٨٢ كان المعدَّل هو نفسه تقريبًا في العام ١٩٩١م، أيْ ١٥٫٢. وفي العام التالي،
انخفض إلى ١٣٫٤، وبعد ذلك بأحد عشر عامًا، أيْ في العام ٢٠٠٣م، بلغ ١٣٫٠، وفي السنوات
التالية كان ١٥٫٠، ثم ١٦٫٤، ثم ١٤٫٢. ماذا سيحدث لاحقًا؟ قد يكون معرفة ذلك أشبهَ
بالمُضاربة من دون دليل.
يروي كل سرطان قصةً مختلفة.
٨٣ طوال سنوات عديدة، انخفضت معدَّلات سرطان الرئة بين الرجال بسبب الآثار
المتأخرة للإقلاع عن تدخين السجائر. بدأت النساء التدخين في وقت لاحق من القرن، وبالتالي
فقد استمرت معدَّلات إصابتهن بهذا السرطان في الصعود، ولم تبدأ في الانخفاض سوى أخيرًا.
من
الممكن تفسيرُ الارتفاع الحادِّ في معدَّلات الإصابة بسرطان الثدي في الرُّبع الأخير
من
القرن العشرين — بما في ذلك الأورام الصغيرة اللابدة
in
situ والبطيئة النمو التي يرى بعضُ الأطباء أنه لا يجب تصنيفُها كأورام
سرطانية — من خلال تحسُّن سُبُل التشخيص والبداية المبكرة للحيض على حدٍّ سواء. قد يكون
التحسُّن الأخير في المعدَّلات ناتجًا جزئيًّا بسبب الانخفاض في استخدام العلاج بالهرمونات
التعويضية خلال فترة اليأس
menopause. أمَّا ارتفاع
معدَّلات الإصابة بالوَرَم الميلانيني
melanoma، والذي بدأ
قبل وقت طويل من اكتشاف ثقب الأوزون، فكثيرًا ما يُعزى إلى رواج حمَّامات الشمس، وصالونات
تسمير الجلد
tanning salons، والملابس الضيقة التي تحمي
الجسد بدرجةٍ أقلَّ من الأشعَّة فوق البنفسجية. وقد يمثِّل السفر الدولي سببًا آخر،
فالأشخاص الذين ينتمون إلى المناخات الشمالية من أصحاب البشرة الفاتحة هم الآن أكثر
احتمالًا لقضاء بعض الوقت في أماكن تنعم بقدْرٍ أكبرَ من أشعَّة الشمس. وما قد يبدو كارتفاع
٨٤ في معدَّلات الأورام الخبيثة في مرحلة الطفولة، كما يشير إليه المعهد الوطني
للسرطان، ينتُج على الأرجح عن تحسُّن تقنيات التصوير الطبي وإعادة تصنيف بعض الأورام
الحميدة باعتبارها خبيثة. وقد تكون البدانة في مرحلة الطفولة مُكتنفةً في العملية على
نحوٍ
معقول.
يمكنك تحليلُ الأرقام بالقدْر الذي يحلو لك من الدقة. ومن خلال التعمُّق في دراسة
الكَمِّ
الهائل من البيانات التي يتضمنها التقرير
SEER، يمكن للمرء
تقسيمُ أنواع السرطان المنفردة حسب الجنس، والعمر، والعِرْق، واللغة، والمنطقة الجغرافية.
فإذا اخترتَ مجموعةً من العوامل الديموغرافية، ستتخذ السرطانات المختلفة أنماطًا متعرجةً
صعودًا وهبوطًا. يحدث السرطان بمعدَّلاتٍ أكبرَ في الرجال السُّود عنه في الرجال البِيض،
لكنه يصيب النسوة السوداوات بمعدَّلاتٍ أقلَّ مقارنةً بالنسوة البيضاوات. وعند تمحيص
الأرقام أكثر والتأمل في مدلولاتها، سنجد أن سرطانات البروستاتة، والرئة، والقولون
والمستقيم، والكبد والبنكرياس، وعنق الرحم هي أعلى جميعها
٨٥ في الأمريكيين السود، في حين تقلُّ معدَّلات إصابتهم بسرطان الجلد، والرحم،
وكذلك بأورام الدماغ الخبيثة. توفِّر أصباغ البشرة الداكنة وقايةً من أشعَّة الشمس، لكن
التناقضات الأخرى يصعُب حلُّها. قد يُتوقَّع أن يعانيَ العديد من الأقليات من سوء التغذية،
وارتفاع معدَّلات التدخين، ومعاقرة الكحول، وتدنِّي جودة الرعاية الطبية، وكذلك العيش
في
مناطقَ أكثرَ تلوثًا، والعمل في وظائفَ أكثرَ خطورة. لكن اللاتينيين، والهنود الحمر،
وسكان
ألاسكا الأصليين، وسكان جُزر المحيط الهادي يصابون بالسرطان بمعدَّلاتٍ أقلَّ بكثير من
السُّود أو البِيض.
٨٦ هناك الكثير من المتغيرات التي ينطوي عليها الأمر.
وإذا تعمقنا أكثر وأكثر في البيانات، سينشأ مزيدٌ من التباينات. بالنسبة إلى جميع
الأجناس، تراوحَت معدَّلات الإصابة بسرطان الدماغ،
٨٧ في السنوات الأخيرة، بين ٤٫٢٣ حالة لكل ١٠٠ ألف نسمة في هاواي إلى ٧٫٥٤ في
ولاية أيوا. قد تثير هذه النسبة الشكوك في وجود تأثير زراعي. وقد تساءلتُ عن الوضع في
الولايتَين المجاورتَين لأيوا، أيْ كانساس ونبراسكا، لكن هاتين الولايتَين لم تشاركا
في
البرنامج
SEER. وبالنسبة إلى سرطان الكبد،
٨٨ تتصدر هاواي القائمة بنسبة ١٠٫٦٨، في حين تقبع يوتا في ذيل القائمة بنسبة ٣٫٩٤.
هل نتج ذلك عن امتناع المورمون
Mormons عن شُرب المُسكِرات
teetotaling أم عن اختلاف في معدَّلات انتشار فيروس
التهاب الكبد؟ بعد ذلك بساعات، وفي خلال خَوضي في مستنقع الأرقام هذا، يئستُ من تمكُّني
من
فهم الأمر برمَّته في أيِّ وقت من الأوقات. كم كانت سهولة الأمر لو تأكَّد كونه موجَّهًا
بالملوِّثات الكيميائية. وبدلًا من ذلك، هناك لُجَّة من التأثيرات الضئيلة المتعددة،
والتي
تحتلُّ الإنتروبيا
entropy مرتبةً عاليةً بينها، أي الميل
الطبيعي لتوجُّه العالم نحو الفوضى. ومن بين الطفرات المتعددة اللازمة لبدء وَرَم سرطاني،
ليست هناك طريقةٌ لمعرفة أيُّها نتجَت عن أيِّ واحدة. أو بالنسبة إلى أخطاء النَّسخ،
في
حالة الطفرات العفوية، ما إذا كان هناك سببٌ على الإطلاق. تخيَّلتُ جيشًا من النسائل
clones، المتطابقة وراثيًّا، التي تشقُّ طريقها عبر
الحياة في ظلِّ الظروف نفسها وفي المناطق الجغرافية نفسها. كانت ستأكل الأطعمة نفسها،
وتمارس السلوكيات نفسها، وسيموت بعضُها بالسرطان في سنِّ الخمسين أو الستين، في حين سيموت
البعض الآخر بعد ذلك بعقود من الزمن، ولكنْ لسببٍ آخر. وكما صاغها دول وبيتو، فإن «الطبيعة
والتنشئة تؤثران على احتمالية
٨٩ إصابة كل فرد بالسرطان». لكن القدَر هو ما يحدِّد أيٌّ منَّا سيُصاب به
بالفعل.