الفصل التاسع
الغوص في أعماق الخلية السرطانية
نادرًا ما تكون الأشياء بالبساطة التي تبدو عليها، كما أن ما يبدو معقَّدًا قد لا
يعدو
كونه مجرَّد تموُّجات على سطح بحر ليس له قرار. إن آليَّات الخباثة التي صرتُ معتادًا
عليها
ببطء — حيث تتعرض خلية واحدة لطفرة وراء طفرة حتى تنزلق في أخدود السرطان — وُصِفَت بدقة
١ من قِبَل اثنين من العلماء؛ دوغلاس هاناهان
Hanahan وروبرت فينبرغ
Weinberg، في مؤلَّف شامل نُشر في العام ٢٠٠٠م بعنوان
«السمات المميِّزة للسرطان». يتسم المؤلِّفان بكونهما باحثَين محترمَين. أمَّا فينبرغ،
وهو
رائد في اكتشاف أوائل الجينات الوَرَميَّة ومُثبِّطات الأورام، فسيوجَد على قائمة أبرز
المُفكرين وأكثرهم أصالةً في مجال تخصُّصه.
ترجع الفكرة القائلة بأن السرطان يحدث نتيجةً لتراكم الطفرات في خلية طبيعية إلى
عقود من الزمن،
٢ لكن هاناهان وفينبرغ هما مَن دَمَجا تلك الكتلة المتنامية من النتائج
المُختبَرية والأفكار النظرية إلى ستِّ خصائص يجب أن تكتسبها الخلية السرطانية خلال تطورها،
في نُسختها الفوضوية من التطور الدارويني، إلى الكائن الذي سيُشار إليه باسم الوَرَم.
يجب
على تلك الخلية أن تكتسب القدرة على تحفيز نموِّها هي، وأن تتجاهل الإشارات التي تحثُّها
على الإبطاء. وهنا يأتي دور الجينات الوَرَميَّة ومُثبِّطات الأورام. يجب عليها أن تتعلم
كيف تتحايل على الخطِّ الدفاعيِّ المتمثل في الموت الخلوي المبرمَج وأن تهزم العدَّادات
الداخلية، أي القسيمات الطرفية
telomeres، التي تقيِّد
عادةً عدد المرات التي يُسمَح فيها للخلية بالانقسام. ويجب أن تتعلم استهلال عملية تولُّد
الأوعية
angiogenesis — أيْ إنبات أوعيتها الدموية الخاصة —
وأخيرًا أن تلتهم الأنسجة المحيطة بها وتبثَّ النقائل.
وبعد أكثر من عقد من الزمان على صدورها، لا تزال «السمات المميِّزة» هي أكثر الأوراق
العلمية استشهادًا في تاريخ المجلة المرموقة «الخلية»
Cell،
والذي يعادل القول بأنها قد تكون الورقة العلمية المنفردة الأكثر تأثيرًا في بيولوجية
السرطان. وفيما يُعرف باسم نظرية الخلية الوحيدة النسيلة
٣⋆ (يُطلَق على الخلية المنقسمة والشجرة المتفرِّعة من نسلها اسم النسيلة
clone)، فإن الصورة التي وُصِفَت في ورقة «السمات
المميِّزة» لا تزال تمثِّل النموذج السائد، مثل نظرية الانفجار الكبير في علم الكونيَّات
(الكوزمولوجيا). بدأ الخَلْق بشيء مفرد — ثمة نقطة بدائية من الكتلة والطاقة — والذي
تضخَّم
لتشكيل الكون. وكذلك يبدأ السرطان بخلية مارقة
renegade
cell وحيدة — وقد شاع هذا المصطلح بفضل فينبرغ — والتي تتوسع لتشكيل
وَرَم. وفي ظلِّ هذا المخطَّط الأوَّلي، تطلَّع الباحثان إلى تحقيق نهضة في فهمنا للسرطان:
منذ عِدَّة عقود،
٤ كان بوسعنا التنبؤ بدقة بسلوك الدوائر الإلكترونية المتكاملة من حيث
الأجزاء المكوِّنة لها — مكوِّناتها المترابطة — وكلٌّ منها مسئول عن اكتساب،
ومعالجة، وبثِّ الإشارات وفقًا لمجموعة من القواعد المحدَّدة بدقة. وبعد عقدَين من
الآن، وبعد أن نكون قد تَمكنَّا من إعداد الرسوم البيانية الكاملة لشبكة الأسلاك
المتعلقة بجميع مسارات الإشارات الخلوية، سيصير بالإمكان إعدادُ مخطَّط كامل ﻟ
«الدوائر المتكاملة الخلوية …»
وفي ظلِّ الوضوح الشمولي للآليَّة، سيصبح مآلُ
prognosis وعلاج السرطان علمًا عقلانيًّا، وهو
الأمر الذي لا يدركه الأطباء الممارسون حاليًّا … إننا نترقب ظهور أدوية مضادَّة
للسرطان تستهدف جميع القدرات الأساسية المميِّزة له … وذات يوم، نتصور أن بيولوجية
وعلاج السرطان — والتي تتألَّف في الوقت الحاضر من مزيج متنافر من بيولوجيا الخلية،
وعلم الوراثة، والباثولوجية النسيجية، والكيمياء الحيوية، وعلم المناعة، وعلم
الأدوية — ستتحول إلى علم ذي بِنية مفاهيميَّة وتماسُك منطقي ينافسان ما تمتلكه
منهما الكيمياء أو الفيزياء.
فيزياء للسرطان! خلال العقد ونيِّف الذي انقضى منذ إصدار هذا التنبؤ غير المتحفِّظ،
واصل
العلماء اكتشاف طبقات جديدة كاملة من التعقيدات. داخل الرقاقة البيولوجية، التي تُسمَّى
الخلية، توجَد مكوِّنات بداخل مكوِّنات ووصلات هي من الكثافة والسيولة بحيث يبدو من
المستحيل أحيانًا فصلُ بعضها عن البعض. وإذا انتقلنا صعودًا إلى مستوًى أعلى، فلا يمكن
أن
نفهم ما يدور بداخل الخلايا السرطانية بشكل كامل من دون التفكُّر في مكانها ضمن شبكة
الاتصالات المعقَّدة للخلايا الأخرى. وبحلول الوقت الذي جرى فيه نشرُ ورقة «السمات
المميِّزة»، كان العلماء يكتشفون بالفعل أن الأورام ليست كُتلًا متجانسةً من الخلايا
الخبيثة، وأنها تحتوي أيضًا على خلايا سليمة تساعد في إنتاج البروتينات التي يحتاج إليها
الوَرَم لكي يتوسع ويهاجم الأنسجة ومن ثَم الوصول إلى تيار الدم. وقد صار هذا النظام
البيئي
الشاذ يُعرف باسم البيئة المكروية للسرطان cancer
microenvironment، والذي تُكرَّس مؤتمرات ومجلات بأكملها لفهمه.
وما زاد الأمور تعقيدًا كان الإدراك التدريجي لأن التغيُّرات الوراثية التي يمكن
أن
تؤدِّي إلى السرطان لا تحدث بالضرورة من خلال الطفرات
٥ المتمثلة في عمليات حذف، أو إضافة، أو إعادة ترتيب حروف النوكليوتيدات في دنا
DNA الخلية. من الممكن تغييرُ الرسالة بطُرق أكثر
دهاءً. فكر فيما يحدث خلال النماء الطبيعي؛ تحمل كل خلية في الجنين الدنا الموروث من
والدَيها، أي التعليمات الجينية التي يحتاجها الجسم لتصنيع أجزائه العديدة. ومع انقسام
الخلايا وتمايُزها، يبقى السيناريو بأكمله سليمًا، لكن عددًا قليلًا فقط من الجينات يُفعَّل
لإنتاج البروتينات التي تمنح الخلية الجلدية أو خلية الكُلى هُويَّتها الفريدة. حتى الآن،
لا يعدو الأمر كونه علم البيولوجيا المألوف. أمَّا الأمر الذي لم يدُر في مخيِّلتي فهو
أنه
مع تكاثر الخلية، فلا بدَّ لها من تثبيت هذا الترتيب كما هو ومن ثَم نقله إلى
ذُريَّتها.
ظلَّ العلماء يجمعون أجزاء صورة تقريبية للكيفية التي تجري بها هذه العملية. يمكن
للعلامات الجُزيئية أن ترتبط بأحد الجينات بطريقة تجعله مُعطَّلًا بصفة مستديمة، ومن
ثَم
يصير غيرَ قادر على التعبير عن رسالته الجينية (هذه العلامات
tags هي مجموعات الميثيل، لذلك يُطلَق على هذه العملية
اسم المَثْيَلَة methylation). يمكن أيضًا تعزيزُ الجينات
أو تثبيطُها بتشويه شكل الجينوم. في الصورة التقليدية، تطفو اللفائف المتشابكة من الدنا
برشاقة مثل قناديل البحر في عزلة منفردة، غيرَ أن الفوضى تسود الخلية؛ يلتفُّ الطاقان
الحلزونيَّان حول مجموعات من البروتينات المعروفة باسم الهستونات
histones. يمكن لمجموعات الميثيل وغيرها من الجُزيئات
أن ترتبط بالحلزون نفسه أو بصميمه البروتيني، ومن ثَم تُسبِّب انحراف المُركَّب بأكمله.
وفي
أثناء حدوث ذلك، تنكشف بعضُ الجينات ويُحجَب بعضُها الآخر. إن التعديلات من هذا النوع،
التي
تؤدِّي إلى تغيير وظيفة الخلية في حين تترك الدنا سالمةً بخلاف ذلك، تُسمَّى فوق جينية،
أو
فوجينية epigenetic. اشتُقَّت السابقة «فوق»
(epi-) من الإغريقية، ويمكن أن تعني «أعلى»، أو «فوق»،
أو «على». ومثلما تمتلك الخلية جينومًا، فهي تمتلك أيضًا فوجينوم
epigenome، وهو طبقة من البرامجيَّات التي تعلو أجهزة
الدنا. ومثل الجينوم نفسه، يجري حفظُ الفوجينوم ومن ثَم نقلُه إلى الخلايا الوليدة.
وما يشير إليه كل هذا هو أن السرطان قد لا يعدو كونه مسألةً تتعلق بجينات مُعطَّلة.
إن
الاضطرابات التي تعتري خليةً ما — بفعل المُسرطِنات، أو النظام الغذائي، أو حتى التوتُّر
—
قد تُعيد ترتيب العلامات الفوجينية من دون أيِّ طفرات مباشرة في الدنا. لنفترضْ أن مجموعة
الميثيل تقوم عادةً بكبح تعبير جين وَرَمي واحد، والذي يحفِّز الانقسام الخلوي، فعند
إزالة
العلامة، قد تبدأ الخلية في الانقسام بصورة جنونية. ومن الناحية الأخرى، فإن إنتاج عدد
كبير
للغاية من العلامات قد يُثبِّط أحد الجينات الكابتة للأورام، والذي يكبح في الحالة الطبيعية
جماحَ الانقسام الفتيلي. وعندما تصير حُرةً في أن تتكاثر كما تشاء، تكون الخلية عُرضةً
لعددٍ أكبرَ من أخطاء النَّسخ. وبالتالي فمن شأن التغيُّرات الفوجينية أن تؤدِّي إلى
تغيُّرات جينية، ومن المعقول أن تؤثر هذه التغيرات الجينية في عملية المَثْيَلَة، ما
يحرِّض
المزيدَ من التغيُّرات الفوجينية … وهلُمَّ جرًّا.
وفيما وراء المُختبَر، يوجِّه الحماسَ لهذا السيناريو كلٌّ من الأمل والخوف. قد يوفِّر
علم الفوجينات
epigenetics وسيلةً تستخدمها مادةٌ ما لتعمل
كمادَّة مُسرطِنة على الرغم من أنه قد ثبت كونها غيرَ قادرة على تعطيل الدنا. لكن على
عكس
التلف الجيني، فقد تكون هذه التغييرات قابلةً للعَكْس
(عكوسة:
reversible). ولا يزال حجم الدور الذي تؤدِّيه
الفوجينات غيرَ مؤكَّد. ومثل كل ما يحدث في الخلية، فإن عمليتَي المَثْيَلَة وتعديل
الهستونات يجري التحكُّم فيهما من قبل الجينات، والتي وُجد أنها تعرَّضت للطفرات في أنواع
مختلفة من السرطان.
٦ قد يكون كل ذلك ناتجًا عن الطفرات في نهاية المطاف. ومن ناحية أخرى، اقترح بعضُ
العلماء أن السرطان يبدأ بالفعل باضطرابات فوجينية،
٧ ما يمهِّد الطريق لحدوث مزيد من التحولات المؤلمة.
بيد أن الأمر الأكثر إزعاجًا هو فكرة مثيرة للجدل تُسمَّى نظرية الخلايا الجذعية
السرطانية.
٨ وفي الجنين النامي، يُطلَق اسم الخلايا الجذعية
stem
cells على الخلايا التي تمتلك القدرة على تجديد نفسها إلى ما لا نهاية
— فهي خالدة جوهريًّا — حيث تنقسم وتنقسم وفي الوقت نفسه تظلُّ في حالة غير متمايزة.
وهي
تمثِّل عواملَ للإمكانية الخالصة
pure potentiality؛ فعندما
تكون هناك حاجة لنوع معيَّن من الأنسجة، تُفعَّل الجينات بنمط محدَّد ومن ثَم تتحول الخلايا
الجذعية إلى خلايا متخصِّصة ذات هُويَّات محدَّدة. وبمجرَّد أن يكتمل نموُّ الجنين إلى
كائن
حي، تؤدِّي الخلايا الجذعية البالغة دورًا مماثلًا، حيث تقف على أُهبة الاستعداد للتمايز
واستبدال الخلايا التي تتلف أو تصل إلى نهاية فترة حياتها. وباعتبار أن الأنسجة السليمة
تنشأ من مجموعة صغيرة من هذه الأسلاف القوية، فلماذا لا ينطبق الأمر نفسه على بعض الأورام؟
سيمثِّل هذا انحرافًا غيرَ مُتوقَّع عن وجهة النظر التقليدية التي تقول بأن أيَّ خلية
سرطانية تكتسب التوليفة المناسبة من الطفرات تصير قادرةً على توليد أورام جديدة.
لنتخيَّلْ، بدلًا من ذلك، أن ما يوجِّه نموَّ وانتشار السرطان هو جزء من خلايا خاصة،
والتي صارت بطريقةٍ ما تحظى بخاصية جوهرية تُسمَّى «التجذُّع»
stemness. ومثلما تقوم الخلايا الجذعية العادية بتوليد
الجلد والعظام والأنسجة الأخرى، فبوسع الخلايا الجذعية السرطانية أن تولِّد مجموعةً متنوعةً
من الخلايا التي تشكِّل بقية الوَرَم. غيرَ أن الخلايا الجذعية السرطانية هي وحدها التي
تمتلك القدرة على التكاثر إلى ما لا نهاية، وأن تبثَّ النقائل، وتُنبت أورامًا خبيثةً
أخرى.
كم سيُسهِّل هذا من مهمَّة أطباء الأورام. ربما تفشل أدوية المعالجة الكيميائية لأنها
تُبقي
على الخلايا الجذعية السرطانية، وبالتالي فإن التخلُّص من هذه العوامل البالغة الأهمية
سيؤدِّي إلى انهيار الوَرَم الخبيث.
تمثِّل هذه إمكانيةً واعدة، لكني كلما تعمقتُ في هذا الموضوع، بدا الأمر أكثر إرباكًا.
٩ هل تؤدِّي الخلايا الأخرى في الوَرَم وظائف، مثل تولُّد الأوعية الدموية، والتي
من شأنها أن تساعد في دعم بقاء الوَرَم الخبيث، أم إنها مجرَّد مواد حشو؟ وكذلك فمن أين
تأتي الخلايا الجذعية السرطانية؟ وهل تبدأ حياتها كخلايا جذعية عادية (مثل تلك التي تولِّد
الجلد)، والتي تعرَّضت للتلف بفعل الطفرات، أم إنها خلايا جذعية جنينية ظلَّت على حالها
حتى
مرحلة البلوغ ومن ثَم جُنَّ جنونُها؟ أم إنها، مثل الخلايا الأخرى التي تتصارع للحصول
على
موطئ قدم بداخل الوَرَم، نشأت بدورها عن طريق الاختلاف والانتقاء العشوائي؟ ربما بدأت
هذه
الخلايا التامة القوة كخلايا وَرَميَّة «عادية» ومن ثَم تخلَّصت من هُويَّتها ونكصت
١٠ إلى هذا النموذج البدائي. تشير بعض التجارب إلى أنه في خِضمِّ الاضطراب الهادر
بداخل الوَرَم، تقوم الخلايا على الدوام بتبديل هُويَّتها بين الخلايا التي تمتلك خصائصَ
شبيهةً بالخلايا الجذعية وتلك التي تفتقر إليها.
وفي معرض سعيي الحثيث إلى وضع كل هذا ضمن الصورة الكبيرة، شعرتُ بالارتياح عندما
وجدتُ
لدى الباحثين ارتباكًا يشبه ارتباكي. كان بعض العلماء مقتنعًا بأن هذه الفرضية تمثِّل
موجة المستقبل،
١١ فيما رأى البعض الآخر أنها محدودة الأهمية، مجرَّد حاشية للنظرية الأصلية.
ومهما كان ما ينتهي إليه كل ذلك، فإن المنظور المستبطن للسرطان كعملية داروينية — والتي
نشأت مثل الحياة نفسها من خلال الاختلاف والانتقاء العشوائي — يظلُّ راسخًا إلى حدٍّ
كبير.
لكني، باعتباري دخيلًا يحاول فهم جوهر السرطان، شعرتُ بالرهبة من احتمال وجود مزيد من
التعقيدات.
إن المكان الأمثل لفهم النطاق الكامل لما يحدث على تخوم عالَم السرطان هو الاجتماع
السنوي
١٢ للجمعية الأمريكية لأبحاث السرطان، وهو الأكبر والأهم من نوعه في العالم. انعقد
المؤتمر في بواكير أحد فصول الربيع في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا، ولأنني غيَّرت
طائرتي
في أتلانتا، فقد كنتُ أرى بالفعل تأثير التموُّج. كان العلماء الشبَّان يُهرعون عبر أروقة
المطار وهم يحملون أنابيبَ طويلةً من الورق المُقوَّى لحماية ملصقاتهم
posters، وكلٌّ منها، عند نشرها، تصف قطعةً صغيرةً من
اللغز المتنامي. وإجمالًا، فقد اجتمع في أورلاندو أكثر من ١٦ ألفًا من العلماء
١٣ وغيرهم من المتخصِّصين من سبعة وستين بلدًا، حيث يُقدَّم أكثر من ستة آلاف ورقة
علمية جديدة — في صورة جلسات لعرض الملصقات وندوات نقاشية — على مدى خمسة أيام. كان هناك
قليلٌ مما يشتِّت الانتباه، فمركز المؤتمرات الهائل في أورلاندو وضواحيها يشكِّل عالَمًا
منعزلًا من الفنادق وسلاسل المطاعم، وقاعات الاجتماعات، وهو ما يشبه نسخةً مملةً من لاس
فيغاس. وبداخل هذه الفُقاعة المكيَّفة الهواء، تمنيتُ أن أستوعب أكبر قدْرٍ يمكنني
فهمُه.
في حين كانت هناك ثلاث جلسات متزامنة في الاجتماع المتواضع حول البيولوجيا التطورية
الذي
حضرتُه في ألبوكيركي، كانت هناك أكثر من اثنتي عشرة جلسةً في هذا المؤتمر، تبدأ في السابعة
صباحًا وتستمرُّ حتى المساء، يتخلَّلها عددٌ من المحاضرات الرئيسية والجلسات التعليمية.
متسلِّحون بنُسخة من ملخَّص وقائع المؤتمر التي تُناهز في سماكتها دليل الهاتف (أو مقابلها
الرقمي على هواتفهم النقَّالة)، يقوم الباحثون في نَهَم للمعرفة بتخطيط استراتيجيات الصيد
الخاصة بكلٍّ منهم. ومع دقات الساعة تشير إلى انتهاء الوقت المخصَّص لمحاضرةٍ ما في العاشرة
والنصف صباحًا، ستسمع قعقعة الكراسي وترى المستمعين وهم يسارعون بهدوء إلى العرض التقديمي
المقرَّر إجراؤه في غرفة أخرى بعد رُبع ساعة. كان لا بدَّ من أخذ العوامل الجغرافية بعين
الاعتبار؛ فالانتقال من محاضرة «الشجاعة، والجراثيم، والجينات» (والتي تعرض أحدث النتائج
حول الدور الذي تؤدِّيه البكتيريا في ظهور بعض الأورام) لحضور نهاية محاضرة «الشبكات
الإشارية لليوبيكويتين في السرطان»، يتطلب الهرولة السريعة لمدَّة عشر دقائق سيرًا على
الأقدام عبر الأروقة. تلوح في الطابق الأسفل منطقة المعرض، حيث كانت شركات الأدوية تضع
ماكيناتٍ ضخمةً لتوزيع قهوة الإسبريسو لإغراء المارَّة … قَدَح من الكابتشينو وكعكة إيطالية
في مقابل الاستماع لعرض تقديمي، من قِبَل شركة ميرك
Merck
أو ليلي
Lilly، حول أدوية السرطان الجديدة. وفي كشك شركة
أمجين
Amgen، يرتدي الزوَّار نظاراتٍ ثلاثية الأبعاد
لمشاهدة مقطع فيديو مدهش
١٤ عن وَرَم يقوم بتوليد الأوعية الدموية. طوال أكثر من عقد من الزمان، عكفَت
أمجين على تطوير عقار مُثبِّط لتولُّد الأوعية الدموية.
١٥ وعند الجمع بينه وبين عقار باكليتاكسيل
paclitaxel في التجارب السريرية، أدَّى العقار إلى
تمديد حياة
١٦ النسوة المصابات بسرطان المِبيَض الراجع إلى فترة تتراوح بين ٢٠٫٩ إلى ٢٢٫٥
شهرًا، أو نحو ثمانية وأربعين يومًا.
وخلال مشاهدتي لشريط الفيديو، فكرتُ في الإثارة التي شعرتُ بها قبل ثلاثة عشر عامًا
عندما
تمكَّن عالِم في جامعة هارفارد، هو يهوذا فولكمان
Folkman،
من اكتشافٍ ما بدا لفترة وجيزة كأنه حلٌّ سحري: لكل آليَّة في الخلية، هناك آليَّة مضادَّة
لكبح جماحها. يمثِّل تولُّد الأوعية الدموية وسيلةً طبيعيةً يجري من خلالها توصيلُ الدم
إلى
الأنسجة التي تشكَّلت حديثًا. ثمة جُزيئات تُسمَّى الأنجيوستاتين
angiostatin والإندوستاتين
endostatin، والتي تُنتَج طبيعيًّا لمنع تولُّد الأوعية
الدموية — فليس من المرغوب أن تجد أوعيةً دمويةً جديدةً تنمو في أيِّ مكان — والتي أظهرت
تأثيراتٍ مدهشةً من حيث خنق الأورام في الفئران. على الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك
تايمز،
جرى الاستشهادُ بمقولة لجيمس واطسون
Watson، وهو عالِم
البيولوجيا الجُزيئية الشهير: «سيتمكن يهوذا من علاج السرطان
١٧ في غضون سنتين.» غيرَ أنه تابع الموضوع برسالة إلى المحرِّر أصرَّ فيها على أنه
تحدَّث إلى المُراسل بصورةٍ أكثرَ تحفُّظًا، ثم استطرد مُعلنًا، بالحماس نفسه، أن ما
كان
يحدث في مُختبَر فوكمان هو «أكثر أبحاث السرطان إثارةً طوال حياتي،
١٨ والتي تمنحنا الأمل في أن عالَمًا بدون سرطان قد لا يزال أمرًا قابلًا
للتحقيق.» لم يكُن هذا هو رأي واطسون وحده، فقد وصف مديرُ المعهد الوطني للسرطان النتائج
التي توصَّل إليها فوكمان بأنها «استثنائية ورائعة»،
١٩ و«الشيء المنفرد الأكثر إثارةً في الأفق»، قبل أن يضيف التحذير المعتاد بأن ما
نجح لدى الفئران قد لا ينجح بالضرورة لدى البشر، ولم ينجح ذلك بطبيعة الحال. كان من الصعب
تكرارُ نتائج التجارب، كما أشارت الأبحاث اللاحقة إلى أن بعض مُثبِّطات تولُّد الأوعية
الدموية قد تزيد الأمور سوءًا؛ حيث يُقاوم الوَرَم عن طريق بثِّ النقائل بقوةٍ أكبر
٢٠ للوصول إلى برِّ الأمان. تتوافر في الأسواق حاليًّا بعضُ المُثبِّطات، غيرَ أن
النتائج هي أبعد ما يكون عمَّا جرى تصويرُه. وعند استخدامه بالترافق مع السموم الكليلة
المعيارية، يمكن لعقار الأفاستين
Avastin أن يضيف بضعة أشهر
إلى مأمول حياة المريض
٢١ بتكلفة عشرات الآلاف من الدولارات. وتشمل آثاره الجانبية انثقاب المعدة
والأمعاء، والنزف الداخلي الحاد. ومن الممكن لتثبيط تولُّد الأوعية الدموية أن يعيق التئام
الشقوق الجراحية والجروح الأخرى. وبعد عِدَّة أشهر من اجتماع أورلاندو، ألغت إدارة الغذاء
والدواء، بعد موازنة المخاطر والمنافع، موافقتها
٢٢ على استخدام الأفاستين كعلاج لسرطان الثدي النقيلي.
بدَت هذه الحقائق الكئيبة بعيدةً تمامًا في الجلسة الافتتاحية الكبرى، حيث كُرِّم
آرثر دي
ليفنسون
Levinson، وهو رائد في مجال تصميم العلاجات
المستهدفة، من أجل «الريادة والإنجازات الاستثنائية في أبحاث السرطان». وقد جرى الاحتفاء
به
على وجه التحديد من أجل دوره في تطوير «أدوية رائجة» مثل الأفاستين. يُذكر أن ليفنسون
هو
رئيس مجلس إدارة شركة جينينتيك
Genentech، التي تُصنِّع
بدورها عقار هيرسيبتين المُستخدَم في علاج ١٥ إلى ٢٠ في المائة من سرطانات الثدي الموجبة
للجين
HER2، أيْ تمتلك كمياتٍ مفرطةً من المستقبلات
المحفِّزة للنمو. وبالنسبة إلى سرطان الثدي النقيلي، يمكن للهيرسيبتين إضافة بضعة أشهر
إلى
حياة المرأة. وعند استخدامه في المراحل الأولى من المرض، تكون تأثيرات العقار أشدَّ قوة.
وعندما تترافق المعالجة الكيميائية المعيارية مع الهيرسيبتين،
٢٣ وُجد أن ٨٥ في المائة من النساء قد شُفين من السرطان بعد أربع سنوات، مقارنةً
بنسبة ٦٧ في المائة في النسوة اللواتي لا يتناولن أيَّ أدوية. وقد أُوقِفت التجربة في
مرحلة
مبكرة حتى يمكن أن تستفيد النساء في المجموعة الشاهدة (وبالتالي يمكن لشركة جينينتيك
تقليلُ
الوقت اللازم لوصول عقارها إلى الأسواق).
٢٤ ومع انتشار أخبار العلاج الجديد، فإن المريضات بسرطان الثدي اللاتي أفزعتهن
معرفةُ أن أورامهن موجبة للجين
HER2 — وهو نوع متوحش
وعدواني على وجه الخصوص — كُنَّ شِبهَ مُرحِّبات بالأخبار الجديدة.
وعلى أيِّ حال، فليس هناك دواء السرطان يتسم بكونه جيدًا كما يبدو. من الممكن أن
يؤثر
الهيرسيبتين أيضًا في الخلايا السليمة التي تمتلك عددًا طبيعيًّا من مستقبلات الجين
HER2، كما أن هناك خطرًا حقيقيًّا لحدوث فشل القلب الاحتقاني.
٢٥ حتى عقار غليفيك
Gleevec، الذي وُصف بأنه
«الإنجاز الأكبر»
٢٦ في مجال العلاجات المستهدفة، لديه جانبه المُظلم. عند استخدام هذا الدواء، من
الممكن في الأغلبية الساحقة من الحالات كبحُ جماح ابيضاض الدم النقوي
المُزمن،
٢٧⋆ لكنه يجب تناولُ الغليفيك إلى أجل غير مُسمًّى لمنع السرطان من الظهور مجددًا.
وهناك أيضًا مشاكل مع فئة أخرى من الأدوية التي تهدف إلى كبت الأورام عن طريق تعزيز
الدفاعات المناعيَّة للجسم.
٢٨ يجري تسريبُ مُعزِّزات الجهاز المناعي المعروفة باسم السيتوكينات
cytokines في مجرى الدم، أو تُستخلَص الخلايا
المناعيَّة الخاصة بالمريض،
٢٩ ويجري تعديلُها بحيث تُعزَّز قدرتُها على القتل، ومن ثَم يُعاد حقنُها في جسمه.
يتمثل خطر هذه العلاجات التجريبية في منع الجهاز المناعي من أن يصبح يقظًا بما فيه الكفاية،
وبالتالي يستجيب بصورة مُفرطة الشدة، فيُخطئ في التعرُّف على الجسم نفسه باعتباره دخيلًا
ومن ثَم استهلال استجابة مناعيَّة ذاتية كارثية.
وفي معرض تأملي لما يمكن اعتبارُه دواءً رائجًا، ضجَّت القاعة بطنطنة الأوتار. كانت
هذه
المرة الأولى، بالنسبة إليَّ، أن أشهد اجتماعًا علميًّا بموسيقاه المميزة الخاصة به.
وفي
تلك اللحظة، صعد إلى المنصَّة هارولد فارموس
Varmus، وهو
مدير المعهد الوطني للسرطان. ولاستيعاب جمهور مؤلَّف من آلاف الأشخاص، كان يجري عرضُ
صورة
كل متحدث على ستِّ مجموعات من الشاشات المُزدوِجة؛ نِصف لمشهد الفيديو لمنصة الإلقاء
والآخر
لشرائح الباوربوينت
PowerPoint. كانت الصور تلوح من الضخامة
بحيث إن المتحدث نفسه، الواقف هناك على البُعد، يبدو ضئيلًا على نحوٍ هزلي، فيما يشبه
الرجل
القابع وراء الستار في رواية «ساحر أوز». بدأ فارموس بالأخبار الجيدة: واصَلَت المعدَّلات
الإجمالية للوقوع والوفَيَات انخفاضَها قليلًا عامًا بعد عام. وبطبيعة الحال، كانت هذه
هي
المعدَّلات الناتجة بعد تعديل النتائج الأوَّلية لتشيُّخ السكان. يتمثل الواقع المُخيف،
كما
ذكر الجميع، في أن موجةً بعد موجةٍ من مواليد فترة ازدهار
المواليد
٣٠⋆ يدخلون العقد السابع والثامن من أعمارهم، وهو وقت الذروة السرطان. حتى في وجود
انخفاض طفيف في مقدار السرطان للفرد الواحد، فإن العدد المحض للحالات سيزداد. وفي الوقت
نفسه فإن التمويل الحكومي للبحوث لم يكُن قادرًا حتى على مواكبة التضخُّم. وكما عبَّر
فارموس عن أسفه قائلًا: «نحن لسنا فقط تعساء، بل نعيش في أرض يملؤها عدمُ اليقين.»
وفي أثناء مشاهدة هذه العروض التقديمية المُترَفة التي تُستخدَم فيها أحدثُ التحسينات
السمعية البصرية، وجدتُ أنه يصعُب التفكير في السرطان باعتباره طفل الطب المُهمَل. كانت
جميع البحوث الطبية مُهدَّدة بإجراء تخفيضات على الميزانية، ولكنْ عند إضافة المِنَح
الحكومية إلى الأموال التي يجري ضخُّها في البحوث الدوائية (وهو التبرير المقدَّم للأسعار
الخيالية للأدوية)، والأموال الخاصة التي تُجمَع عبر حملات التبرعات التلفازية
telethons، وكذلك التي يتبرع بها الأثرياء أملًا في درء
الموت عنهم أو لتخليد ذكرى أحد أفراد أُسرتهم بإطلاق اسمه على جناح في مركز طبي جديد،
سنجد
أن هناك مواردَ ضخمةً توجَّه نحو فهم أدق تفاصيل السرطان. هل سيؤدِّي ضخُّ مليارات إضافية
من الدولارات إلى الإنتاج السريع للأدوية، التي يُقال دائمًا إنها قريبة من المُتناوَل،
والتي تستهدف المراحل المتقدمة من السرطان بدون الأضرار الجانبية للمعالجة الكيميائية
والإشعاعية، والتي لا تكتفي بإضافة بضعة أسابيع أو أشهر إلى عمر المرضَى، بل تمثِّل علاجًا
فعليًّا؟ وهل ستنخفض معدَّلات الوفاة بالمعدَّلات الكبيرة نفسها التي تحقَّقت في أمراض
القلب؟
٣١ وهل سيتوقف الناس عن النواح، قائلين بأننا نخسر الحرب على السرطان؟
٣٢
يمكن حشدُ قدْر هائل من المال لاستخدامه في المعركة، وقد فُوجِئتُ بالعدد الكبير
من
الباحثين الجامعيين المنخرطين في عالَم التجارة. إن إليزابيث بلاكبيرن
Blackburn، التي كانت في طريقها للتنحِّي عن منصبها
كرئيس للجمعية الأمريكية لبحوث السرطان
AACR، والتي فازت
بجائزة نوبل تقديرًا لأبحاثها على القسيمات الطرفية وإنزيم التيلوميراز، كانت أيضًا مؤسِّس
ورئيس المجلس الاستشاري لشركة
٣٣ تُدعَى تيلوم الصحية
Telome Health. وطوال
الأسبوع، كان كل عرض تقديمي يبدأ بشريحة إلزامية يجري الكشفُ فيها عن أيِّ تضارُب في
المصالح. من الواضح أنه كان هناك بعض الاستياء من هذا الشرط. عرض بعضُ المتحدثين هذا
الإقرار بسرعة خاطفة إلى درجة تستحيل معها قراءتُها. ذكَّرني ذلك بالإعلانات التلفازية
عن
السيارات، والتي يقوم فيها صوتُ المذيع الذي جرى تسريعُه على نحوٍ هزلي بسرد البنود
التعاقدية الثانوية وتلك الخاصة بالتنصُّل عن المسئولية. كما ذكرَت إحدى المتحدثات على
عجل
أنها فقدت شريحتها
٣٤ (والتي كان من المُفترَض أن تذكر فيها أنها وزوجها كانا مؤسِّسَي شركة للأدوية
يجري تداولُ أسهمها في البورصة، والتي تطور علاجات السرطان المستهدفة). ثمة متحدثون آخرون
أعلنوا بفخر، بل وكثيرًا ما أثار ذلك عاصفةً من التصفيق، أنه لا يوجَد لديهم ما يُفصحون
عنه، وقال أحدهم إن أكبر تضارُب في المصالح لديه هو أنه عمل طوال خمسة وعشرين عامًا على
تطوير علاج لسرطان الجلد، «وبالتالي فأنا أريد حقًّا لهذا الأمر أن ينجح.»
٣٥
يُعَدُّ فارموس واحدًا من عمالقة العلوم الطبية، وقد فاز بجائزة نوبل مناصفةً مع
ج. مايكل
بيشوب
Bishop لأبحاثهما الرائدة على الفيروسات والجينات الوَرَميَّة.
٣٦ وقد بدا سعيدًا بإزاحة الأمور الماليَّة من الطريق حتى يتمكن من الاهتمام
بالعلم وببعضٍ من أكثر الأسئلة التي نواجهها تعقيدًا:
٣٧ لماذا يمكن القضاءُ على بعض السرطانات — مثل سرطان الخصية، وبعض ابيضاضات الدم
والأورام اللمفاوية — بواسطة المعالجة الكيميائية وحدها، في حين يكون البعض الآخر مقاومًا
بعناد؟ ما هي الآليَّات البيولوجية التي تجعل الأشخاص البُدناء مُعرَّضين لخطرٍ أعلى
للإصابة بالسرطان؟ لماذا يبدو المرضَى المصابون بأمراض عصبية تنكُّسية — مثل الشلل الرعاش
(مرض باركنسون
Parkinson’s)، ومرض هنتنغتون
Huntington’s، ومرض ألزهايمر
Alzheimer’s، ومتلازمة الإكس الهش — أقلَّ عُرضةً
للإصابة بمعظم أنواع السرطان؟ لماذا تتباين أنسجة الجسم بصورة كبيرة للغاية من حيث ميلها
إلى الإصابة بالسرطان؟ وخلال استماعي، خطر ببالي أنني لم أسمع أبدًا بسرطان القلب
٣٨ (والذي يحدث بالفعل، لكنه نادر للغاية).
وطوال بقية الصباح، صعدَت إلى المنصَّة أسماء لامعة أخرى للحديث عن المستقبل، وكلٌّ
منهم
تسبقه الجعجعة اللحنية المثيرة وشريحة التنصُّل من المسئولية. وباستخدام أحدث التقنيات،
يقوم الباحثون بسَلْسَلة
sequencing جينومات الخلايا
السرطانية، وبسرعةٍ أكبرَ بكثير مما كان يبدو ممكنًا حتى قبل بضع سنوات. ومن خلال مقارنة
جينومات الأورام بجينومات الخلايا الطبيعية، فهم يرَون بصورة متزايدة الدقة الطفرات التي
يمكنها أن تؤدِّي إلى نشوء أورام خبيثة. كانت بعض النتائج مثيرةً للدهشة،
٣٩ ووفقًا للحكمة الشائعة، فإن الأمر يحتاج عادةً إلى ستة جينات تالفة أو نحوها
لتحويل الخلية إلى سرطانية، لكنه لا يلزم أن تنشأ حالتان من نفس نوع السرطان (سرطان الثدي،
أو سرطان القولون، على سبيل المثال) بفعل نفس التوليفة من التغيُّرات الجينية. تشير أبحاث
علم الجينوم إلى أنه بالنسبة إلى بعض أنواع السرطان، فمن المُحتمَل أن تكون عشرات بل
مئات
الطفرات مكتنفةً في العملية.
٤٠ ومن بين نحو ٢٥ ألف جين في الجينوم البشري، جرى تحديدُ ٣٥٠ على الأقل كجينات
سرطانية مُحتمَلة؛ تلك التي يمكن تغييرُها بطريقة تمنحها ميزةً تنافسية. ووفقًا لبعض
التوقعات، فقد يرتفع الرقم في نهاية المطاف إلى الآلاف.
«ليس السرطان مرضًا، بل مائة من الأمراض المختلفة.» كم مرةً قِيل ذلك؟ أمَّا الآن
فيدور
الحديث عن السرطان باعتباره عشرات الآلاف من الأمراض، والتي يمتلك كلٌّ منها توقيعه
الجُزيئي الخاص. وفي يومٍ ما، مع تطور هذه التقنيات، قد يتمكن العلماء من إجراء تحليل
روتيني للخصائص الفريدة لكل نوع منفرد من السرطان، ومن ثَم تزويد كل مريض بالعلاج المُصمَّم
خصوصًا لحالته. وهو قدْر كثير مما يؤمل حدوثه.
غادرنا القاعة، الآلاف منَّا، وانتشرنا في جميع أنحاء المساحات الكهفيَّة لمركز
المؤتمرات. كانت كلٌّ من قاعات المحاضرات وكل ممرٍّ يعرض الملصقات توفِّر توضيحاتٍ أكثرَ
حول موضوع السرطان. كانت هناك ظاهرة الاستقطاب
polarization؛
٤١ وهي الطريقة التي يمكن بها
للخلية السليمة أن تعرف أمامها من خلفها، والتي تسمح للخلايا الظهارية بتحديد اتجاهها
بداخل
الأنسجة بحيث يشير الشَّعر، والحراشف، والريش جميعها إلى الاتجاه نفسه. خلال الانقسام
الفتيلي، يجب على الخلية أن تخضع للاستقطاب، ومن ثَم توزيع محتوياتها قبل أن تنقسم إلى
خليتَين متطابقتَين. تُظهر الخلية المهاجرة الاستقطاب عندما تنقل بروتيناتها بالطريقة
التي
تحافظ على تحرُّكها إلى الأمام وليس إلى الوراء، كما لو كانت تركب حزامًا ناقلًا خاصًّا
بها. لقد اكتشفت العلماء بعض الدوائر الجُزيئية المكتنفة في عملية الاستقطاب، وفي الخلية
السرطانية تُعَدُّ هذه من بين الأشياء التي يمكن أن تنحرف عن جادة السواء. وما إن كان
ذلك
أحد أعراض الخباثة أو سببًا لها، يمثِّل أحد العوامل المجهولة الأخرى.
وفي أثناء التأمُّل في الإجابة على هذا السؤال، كان الباحثون في غرفة أخرى يناقشون
الأنواع العديدة المختلفة من الموت الخلوي.
٤٢ يمثِّل إيقاف عملية الموت الخلوي المبرمج أحد السمات المميزة الراسخة للسرطان،
كما تعمل المعالجة الكيميائية عادةً عن طريق إعادة تفعيل الموت الخلوي المبرمَج بالقوة.
لكن
هناك أيضًا الالتهام الذاتي
autophagy (حيث تأكل الخلية
أجزاءها الداخلية)، والالتقام
entosis (حيث تلتهم الخلية
جارتها)، والنخر المبرمَج
necroptosis، وهو — مثل الموت
الخلوي المبرمَج — ينطوي على جُزيئات تُسمَّى مستقبلات الموت
و
RIPs (وهي اختصار «البروتينات المتفاعلة مع
المستقبلات»). قد يكون من الممكن تعديلُ هذه أيضًا لاستخدامها في مكافحة السرطان. هناك
مطبوعة بعنوان «مجلة الموت الخلوي»، كما كانت امرأة من بين الحضور ترتدي قميصًا أسود
عليه
عبارة مبهمة «الموت الخلوي ٢٠٠٩م: الجولة غير الموصولة». كان هناك الكثير من الثقافات
الفرعية الصغيرة حتى في عالَم السرطان.
تفكَّر متحدثون آخرون في سرِّ كون الخلايا السرطانية تغيِّر طبيعة استقلابها من هوائية
aerobic إلى لا هوائية
anaerobic، وتستهلك الغلوكوز بنَهَم في ظاهرة تُسمَّى
تأثير فاربورغ
Warburg effect.
٤٣ ومن شأن هذه الطريقة الأقلِّ
كفاءةً في استخدام الطاقة أن تساعدها على البقاء على قيد الحياة في التخوم المتعطِّشة
للأكسجين في أعماق الوَرَم. لكن الخلايا تقوم أيضًا بإجراء هذا التحول عندما يكون هناك
قدْر
كبير من الأكسجين المتاح. وقد يكون أحد أسباب ذلك هو أن عملية الاستقلاب المعدَّلة تسمح
لها
بامتصاص قدْرٍ أكبرَ من المواد الخام
٤٤ التي تحتاج إليها لبناء أجزاء جديدة ولكي تتكاثر. كانت هناك محاضرات حول الطرق
التي يمكن بها للخلايا السرطانية أن تتملَّص من التدمير من قِبَل النظام المناعي، أو
تحويله
لاستخداماتها الخاصة، من خلال استمالة البلاعم
macrophages
كحلفاء في القضية. يكون الاحتراق البطيء للالتهاب المُزمن
٤٥ مكتنفًا بطريقة أو بأخرى في كثير من الأمراض؛ التهاب المفاصل الروماتويدي، ومرض
كرون، ومرض ألزهايمر، والسمنة، والداء السكري، كما يؤدِّي دورًا أيضًا في السرطان. إن
المعدة الملتهبة بفعل الاستجابة المناعيَّة لبكتيريا الملوية البوابية
Helicobacter pylori، أو الكبد الملتهبة بفعل فيروس
التهاب الكبد، هي أقرب احتمالًا لأن تُصبح سرطانية. لكن ما مقدار السبب وما مقدار التأثير
في هذه المعادلة؟ لا يزال يجري اكتشافُ الدوائر الكيميائية المكتنفة في العملية. وقد
خُصِّصت جلسة كاملة لكيف أن جُزيئات تُسمَّى السيرتوينات
sirtuins،
٤٦ والمكتنفة في عملية التشيُّخ، تؤدِّي
كذلك دورًا في الالتهاب، والسمنة، وبالتالي في السرطان.
وفي النهاية، فكل ما تنتهي إليه البيولوجيا هو جينات تتحدث إلى جينات — ضمن الخلية
أو من
خلية إلى خلية — في دردشة جُزيئية متواصلة. وعلى أيِّ حال، فلم أكُن قد فكرتُ في أن الجينات
في الأنسجة البشرية يمكنها أيضًا أن تتحدث إلى الجينات القابعة في الميكروبات
٤٧ التي تحتلُّ أجسادنا. ربما كان لا بدَّ أن يكون ذلك واضحًا؛ فجلودنا وأجهزتنا
الهضمية والتنفُّسية تعجُّ بالبكتيريا، وكثير منها تؤدِّي دورًا تعايشيًّا
symbiotic؛ تُفرز البكتيريا في القناة الهضمية إنزيماتٍ
تساعد في عملية الهضم. تنقل الجينات الموجودة بداخل هذه المخلوقات الوحيدة الخلية الإشارات
من ميكروب إلى ميكروب، كما يمكنها تبادلُ الإشارات مع الخلايا البشرية. وعلى الرغم من
أننا
نفكر في البكتيريا باعتبارها مجرَّد رُكَّاب
passengers،
فإن أعدادها تزيد عن خلايانا بنسبة تصل إلى عشرة إلى واحد. والأكثر إثارةً للدهشة هو
أن
العدد الإجمالي للجينات الميكروبية التي يحملها كل واحد منَّا — أو الميكروبيوم
microbiome — يزيد عن جيناتنا البشرية بنسبة ١٠٠ إلى
واحد. وهناك حتى مشروع للميكروبيوم البشري
٤٨ لسَلْسَلَة جينومات هذه العوامل الخلوية الحرة. إن السرطان مرض متعلق
بالمعلومات، وبالإشارات الخلوية المختلطة. لدينا الآن عالَم آخر يجب استكشافه.
هناك الجينوم، والفوجينوم
epigenome، والميكروبيوم، كما
يتحدث العلماء الآن عن البروتيوم
proteome (وهو الطقم
الكامل للبروتينات التي يمكن تعبيرُها في الخلية)، والترانسكربتوم
transcriptome (كل جُزيئات الرنا
RNA(4)٤٩⋆ من مختلف الأنواع). وهناك الميتابولوم
metabolome، والليبيدوم
lipidome، والريغولوم
regulome، والألليلوم
allelome، والديغرادوم
degradome، والإنزيموم
enzymome، والإنفلاماسوم
inflammasome، والإنترأكتوم
interactome، والأوبيروم
operome، والجينوم الكاذب
pseudogenome … أمَّا مجموع التعرُّض (الإكسبوسوم
exposome)، فهو كل شيء نتعرض له في البيئة، كما يشمل
المجموع السلوكي
behaviorome العوامل المتعلقة بنمط الحياة
التي قد تغيِّر من مخاطر إصابتنا بالسرطان. والبيبليوم
bibliome هو المكتبة المتوسِّعة إلى ما لا نهاية من
الأوراق البحثية حول جميع العلوم، وتتمثل لعنة عصر التخصُّص الدقيق هذا وانتشار «العلوم
الهجينة»
٥٠ في التفريق بين السخيف
ridiculome وذي الصلة
relevantome.
٥١
في أثناء الخربشة في دفتر ملاحظاتي أو السير عبر الممرات للتأمُّل في فكرة جديدة
وغريبة،
فكرتُ في مقدار ما تغيَّر على مرِّ السنين في فهمنا للبيولوجيا الخلوية. لقد تذكرتُ
استمتاعي بقراءة كتاب جيمس واطسون المُعنوَن «الحلزون
المزدوج»
٥٢⋆ خلال رحلة للتخييم خلال دراستي الجامعية، وكذلك جلوسي بعد ذلك بفترة بقرب
المدفأة في كوخٍ جبلي، وأنا أقرأ بشغفٍ السلسلة التي نُشرت على ثلاثة أجزاء في مجلة
نيويوركر، والمُقتبَسة من كتاب هوراس فريلاند جودسون
Judson الرائع،
٥٣ والمعنون «اليوم الثامن للخلق: صُنَّاع الثورة في علم البيولوجيا».
٥٤⋆ كان علم الوراثة الجُزيئي يبدو نظيفًا ونقيًّا مثل الهياكل التي نجمعها من
مكعبات الليغو. وعلى الرغم من كل قدرتها على إنشاء الحياة والتحكم فيها، فإن الجينات
مصنوعة
من توليفات من أربعة حروف فقط من الأحماض النووية:
G،
و
C، و
A،
و
T، والتي يمتلك كلٌّ منها شكلًا محيطيًّا فريدًا من
نوعه، حيث يجري نسخ هذه الأنماط من المطبَّات والأخاديد من الدنا إلى الرنا المرسال
messenger RNA، ومن ثَم تُنقل إلى الريبوسومات
ribosomes، وهي البِنَى الخلوية التي تستخدم المعلومات
لصُنع البروتينات.
وفي هذه المسابك، تعمل جُزيئات أخرى تُسمَّى الرنا الناقل transfer
RNAs مثل مقابس المحول، حيث تقوم بتوليف كل ثلاثية من حروف الأحماض
النووية على حمض أميني محدَّد؛ أي العشرين وحدة المختلفة التي تُصبح، عند وضعها في ترتيب
معيَّن، نوعًا معيَّنًا من البروتينات. وتشمل هذه البروتينات الإنزيمات التي تساعد على
عمل
الآليَّات الوراثية بسلاسة. تمثِّل التبسيط المُتوِّج للنظرية فيما أَطلَق عليه فرانسيس
كريك Crick اسم «المُسلَّمة المركزية»
central dogma: من الدنا إلى الرنا إلى
البروتين.
بيدَ أن التعقيدات سُرعان ما تلَت ذلك؛ فلم تكُن كل ندفة من الدنا جزءًا من الشفرة
البروتينية، إذ تستخدم بعض المتواليات لصُنع الرنا المرسال والرنا الناقل، فيما تعمل
غيرها
كمقابض للتحكم، حيث تعدل صوت الجين صعودًا وهبوطًا لضبط وتيرة إنتاج البروتين المرتبط
به.
وفي ظلِّ كل هذه الآليَّات المعقَّدة والمتشابكة، سترى نفسك شِبهَ واثق من أن الأمر كله
صنعة مهندس خبير، لكن الطبيعة كانت أكثر فوضويةً من ذلك، فالجينات، على سبيل المثال،
ليست
مستمرة؛ بل تتخلَّلها قصاصات من الرطانة. وفي أثناء إعادة طبع الرسالة الوراثية إلى الرنا
المرسال، فلا بدَّ من تحرير وشطب هذه العيوب (أو الإنترونات
introns). كانت هذه أحداثًا للتطور والإنتروبيا
entropy. وفي الواقع أنه من بين الجينوم بأسره، يبدو أن
نسبة صغيرة فقط تخدم غرضًا معيَّنًا، وبالتالي صارت البقية تُعرف باسم الدنا الخردة
junk DNA؛ وهو خليط من الفُتات المتمثل في جينات أصبحت
معطَّلةً وجرى التخلصُ منها على مدى ملايين السنين. هُرِّبت بعض هذه الجينات الزائفة
pseudogenes عن طريق الفيروسات، فيما تكوَّنت أخرى
عندما جرى نسخُ الجين الحقيقي ولصقُه عن طريق الخطأ في أيِّ مكان آخر من الجينوم. وفي
ظلِّ
غياب أيِّ سبب مُقنِع للتخلص من ذلك الحطام، فقد جرى حملُه من دون تغيير، جيلًا بعد
جيل.
من الصعوبة تصديقُ أن معظم الجينوم يقبع صامتًا وخاملًا هكذا. وفي ظلِّ أفعاله الترقيعية
المتواصلة، فإن التطور سيجد بالتأكيد أغراضًا جديدةً للأجزاء التي يجري التخلصُ منها.
وفي
أوائل التسعينيات، بدأ العلماء يلاحظون وجود نوع جديد من الرنا، والذي ينتجه الدنا الخردة.
وعندما تتعلق بالرنا المرسال، فإن هذه الجُزيئات تمنعه من تسليم المعلومات التي يحتويها.
وبسبب صغر حجمه، فقد سُمِّي بالرنا المكروي
٥٥ (في معاجم البيولوجيا الخلوية، تُدمَج مثل هذه المصطلحات معًا هكذا:
microRNAs). وهي تأتي في أصناف مختلفة، كما أن أعدادها
تزداد أو تنقص خلال قيامها بتنظيم إنتاج البروتينات المختلفة. ومثل معظم الأشياء في الخلية،
كان من المُحتَّم أن تؤدِّيَ دورًا في السرطان. لنفترضْ أن هناك رنا مكرويًّا يتمثل دورُه
في منع تعبير الجين الوَرَمي المُعزِّز للنمو. فإذا أنتجت الخلية كميةً ضئيلةً للغاية
من
هذا المنظِّم، سيشجع هذا على التكاثر، وقد يؤدِّي وجود فائض من نوع آخر من الرنا المكروي
إلى تثبيط أحد كابتات الأورام. وفي الواقع أن واحدًا فقط من هذه الجُزيئات قد ينظِّم
عِدَّة
جينات مختلفة، ما يؤدِّي إلى مجموعة معقَّدة من الآثار المتشابكة. كان من المُعتقَد أن
الطفرات التي تصيب الدنا الخردة غير ضارة، لكنها إذا تسببت في اضطراب توازن الرنا المكروي
فمن الممكن أن تدفع الخلية قريبًا من الخباثة.
وكلما تعمق العلماء في البحث، اكتشفوا عددًا أكبر من أنواع الرنا. قد يكون بعض هذه
الجُزيئات أشبه بما تطرحه السفن لتخفيف حمولتها؛ أيْ قِطَع مكسورة متخلفة عن التشغيل
اليومي
المعتاد للآليَّات الخلوية. لكن البعض الآخر يبدو أنه يوجَد لغرضٍ ما. هناك الرنا الكبير
المُقحم غير المُكوَّد
LincRNA، والرنا المتدخل الصغير
siRNA، والبيرنا
piRNA،
والذي يعني الرنا المتفاعل مع بي وي
Piwi، والتي تمثِّل
بدورها اختصارًا لجين الخصية الضعيف المحرض بالعنصر
P، وهو جين آخر من تلك الجينات التي
تحمل أسماءً سخيفة. هناك الرنا زيست
Xist RNA، ورنا الهواء
الساخن
Hotair RNA. وبغضِّ النظر عن مصادر أسمائها، فإن
الفكرة المهمَّة هنا هي أن هذه الجُزيئات أيضًا يمكنها أن تؤدِّيَ دورًا في تنظيم الكيمياء
الخلوية، كما أنها قد تتسبب في نموٍّ جامحٍ للخلايا إذا اضطرب توازنها. هناك عدد قليل
من
العلماء المعارضين لآراء غيرهم من الباحثين، والذين يظنون أنه قد جرى تضخيمُ أهمية أنواع
الرنا الجديدة بصورة مبالَغ فيها،
٥٦ فيما يرى آخرون أنها تبشر بثورة. ومن خلال إعلان أن «المسلَّمة المركزية
مكسورة»، وصف أحد علماء جامعة هارفارد، والذي كان يتحدث في أورلاندو، نظريةً جديدةً شاملةً
٥٧ تتحدث فيها الجينات إلى الجينات الزائفة بلُغة جديدة تتكون حروفها من أنواع
الرنا الغريبة هذه. وإذا كان مُحقًّا في أرائه، فلا بدَّ أن هناك كودًا آخر يجب فكُّ
شفرته.
وعندها فقط سيمكننا أن نفهم حقًّا الدوائر الخلوية وكيف يمكن أن تنحرف عن جادة
السواء.
هناك الخردة التي ليست دون وظيفة؛
٥٨ وهي الجينات — أو٩٩ في المائة منها — الموجودة في ميكروباتنا وليس في خلايانا.
يبدو أن الخلفية تتبادل موقعها مع المقدمة، وقد تذكرتُ ما حدث في علم الكونيات
(الكوزمولوجيا) عندما اتضح أن معظم الكون مصنوع من المادة المُظلمة والطاقة المُظلمة.
ومع
ذلك، وعلى الرغم من جميع التطورات الجديدة، فقد ظلَّت نظرية الانفجار الكبير نفسها صامدة.
بيدَ أنها لم تعد صافيةً وبسيطةً كما كانت من قبل، لكنها قدَّمت اللمسات الواسعة للوحة،
في
صورة إطار يبدو فيه كل شيء منطقيًّا، بما في ذلك جميع الانحرافات. وقد بدا أن الشيء نفسه
يحدث مع السمات المميزة؛ فقد تضمنت العروض التقديمية في أورلاندو، واحدًا تِلوَ الآخر،
شريحة باوربوينت جرى نسخُها كثيرًا توضح المعايير الستة التي وضعها هاناهان وفينبرغ.
ومن
دون هذا المحك، لصار كل شيء إلى الفوضى. وفي الشهر السابق لذلك مباشرةً، نشر العالِمَان
مقالةً مُحدَّثة
٥٩ بعنوان «السمات المميزة السرطان: الجيل التالي». وبالنظر إلى الوراء، إلى العقد
الذي انصرم منذ نشر بحثهما، خلص المؤلِّفان إلى أن نموذجهما كان أقوى من أيِّ وقت مضى.
من
المؤكَّد أنه كانت هناك تعقيدات؛ ففي الرقاقة
microchip
المتمثلة في الخلية السرطانية، ما قد يبدو أنه ترانزستور منفرد قد يتضح أنه رقاقة بداخل
الرقاقة، والتي تخفي دوائرها الخاصة الأشدَّ كثافة. قد تؤدِّي الخلايا الجذعية وفوق
الجينوميات دورًا أكبر في المستقبل. وفي النهاية قد يكون هناك أكثر من ستِّ سمات مميزة.
ويتمثل الأمل هنا في أن يكون العدد محدودًا وصغيرًا بشكل معقول.
ذات ليلة في أثناء انعقاد الاجتماع، التقيتُ حشدًا من العلماء وهم يتقاطرون إلى مرقص
الفندق منهكين بعد يوم طويل من استيعاب ونضح المعلومات.
وبالداخل جرى ترتيبُ مناضد البوفيه الفخم بصورة استراتيجية؛ لحم البقر المشوي مع
جُبن
أوريغون الأزرق، وصدر الدجاج المُحمَّر بطريقة كابريزي، وكعك سرطان البحر المصغَّر، وفطائر
دجاج إمبانياديلَّا empañadillas على طريقة الجنوب الغربي.
كان السُّقاة المتمركزون في ستِّ محطات يصبون كمياتٍ وفيرةً من الشراب الجيد. كان ذلك
حفل
الاستقبال السنوي لمركز إم دي أندرسون للسرطان. ومنذ أن زرتُ المركز مع نانسي في أحد
أيام
شهر يناير الحزينة لطلب رأي ثانٍ، جرى تغييرُ شعار المؤسَّسة. أُضيف خطٌّ مائلٌ عبر كلمة
«السرطان». وقد تساءلتُ عن خبير التسويق الأحمق الذي جاء بهذه الفكرة التي بدَت مبتذلةً،
ومتفائلةً بقسوة من وجهة نظر كثير من ضحايا السرطان.
وانطلاقًا من حفل مركز أندرسون، تدفقت الحشود إلى الأمام إلى قاعةٍ أكبرَ لتناوُل
المزيد
من الشراب والحلوى والرقص مجاملةً للجمعية الأمريكية لأبحاث السرطان
(AACR). كانت هناك فِرقة لموسيقى السول، والمُضاءة من
الخلف بالضوء الأزرق والأحمر، تعزف لحنًا قديمًا للمطرب سموكي روبنسون، في حين أن المُغني،
الذي يحمل ميكروفونًا لاسلكيًّا، كان يحاول إقناع الناس بالصعود إلى حلبة الرقص. في
البداية، كان هناك زوجان يرقصان، ثم ستة، وبحلول الساعة العاشرة، كان هناك خمسون منهم
يحومون مثل الدوامة ويسحبون الآخرين على الأرض. وعندما خرجتُ عائدًا إلى الردهة، كان
الإيقاع قد تباطأ، كما صارت الأضواء خافتة. كانت المطربة تشدو بأغنية «يقتلني بنعومة»،
وهذا
هو بالضبط ما لا يفعله السرطان.