المثولوجيا الكنعانية
(١) المبحث الأول: الآلهة الكنعانية
يضعنا موضوع الآلهة والأساطير الكنعانية في شبكة مركبة الطبقات من الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال والأساطير والحكايات والملاحم النازحة من عصور مختلفة لتاريخ الكنعانيين الطويل ومن بقاع مختلفة من الأرض، أو من الأيكومين المتوسطي الذي يتشكل على وفق فسيفساء مثولوجية كنعانية ومصرية وإغريقية ورومانية، تلتمع فيها ألوان الثقافات والحضارات التي ظهرت في وحول حوض المتوسط.
كما أن المشكلة الأخرى التي نصادفها في معالجة المثولوجيا الكنعانية تكمن في تنوع وتباين مرجعياتها؛ فهناك شذرات منها في العهد القديم، وهناك ما دونه الإغريق والرومان عن التراث الروحي الكنعاني، وهناك المادة الآثارية لمدن الكنعانيين في صور وقبرص وقرطاج وغيرها. وأخيرًا ذلك الكنز الأوغاريتي من الألواح الطينية الأشد عراقة وقِدمًا، والذي بدأ بالظهور منذ عام ١٩٢٩م على يد المنقبين والآثاريين.
كل هذه المرجعيات المتفاوتة في مستوى صدقها وأصالتها تزيد المشهد المثولوجي الكنعاني ضبابا والتباسًا؛ ولكنها من ناحية أخرى، تعطينا انطباعًا قويًّا بخصوبة وعظمة المثولوجيا الكنعانية.
إن الوسيلة الوحيدة لتفادي المشكلات السابقة هي في انتهاج طريقين؛ الأول: هو تنظيم شجرة دقيقة محكمة لتسلسل أنساب الآلهة الكنعانية، والثاني: هو الانطلاق أساسًا من الألواح الأوغاريتية واعتبارها المرجع الأعرق والأشد أصالة للمثولوجيا الكنعانية، لأنها تنقل لنا المشهد الروحي الكنعاني في حدود القرن الخامس عشر قبل الميلاد بكل أمانة ودقة.
وسنعمل على انتهاج السبيلين وحرث الطريق الوعر والشائك في هذا الموضوع.
(١-١) شجرة الآلهة الكنعانية
نفضل العودة إلى كتابنا «الآلهة الكنعانية» الذي فصلنا فيه الحديث عن الآلهة الكنعانية وأجيالها، والذي طرحنا فيه رأيًا جديدًا في أصل الآلهة الكنعانية وضبطنا جدول أنسابها اللاحقة، ورغم أننا سنجري هنا تعديلًا جديدًا وهو إضافة آلهة جديدة سواء في بدايتها، مثل: «أ س، دامور، ملكارت»، أو في وسطها في جيل إيل وحيل بعل، أو في نهايتها عندما يتحد بعل مع حدد وتظهر عناة بصيغة عرجاتس الآرامية ومعهما ابنهما «سيميوس».
تتكون شجرة أنساب الآلهة الكنعانية (مخطط (٢)) من أربعة أجيال كبرى، يحتوي كل جيل على مجموعة من الآلهة، وهي كما يلي:
(أ) جيل الآلهة القديمة
لقد سجلنا تحفظنا المطلق على جدول أنساب الآلهة الكنعانية الذي وضعه الكاهن الكنعاني الإغريقي «سانخونتين» ثم «فيلون الجبيلي»، واعتباره مربكًا ومشوشًا وموضوعًا لصالح الثيولوجيا الهيلينية، ثم لصالح مدينة بيروت ورفع شأن آلهتها كما حصل مع فيلون الجبيلي، الذي كان من أبناء هذه المدينة.
وقد ثبتنا اعتراضنا تفصيليًّا على اعتبار الإله «عليون» والإلهة «بيروت» كآلهة أب وأم لكل الآلهة الكنعانية (انظر: الماجدي، ١٩٩٩م، أ: ٣٠–٣٩).
هناك إشارات أركيولوجية كثيرة تأتينا من العصور الحجرية الوسيطة والحديثة والمعدنية (الميزوليت، والنيوليت والكالكوليت) في بلاد الشام وتعطينا فكرة عن وجود الإلهة الأم التي سبقت اكتشاف الزراعة بقليل في «الميزوليت»، ومع اكتشاف الزراعة (النيوليت) ومع اكتشاف المعادن (في الكالكوليت).
وتتمثل هذه الإشارات بظهور تماثيل الإلهة الأم التي هي إلهة محلية في بلاد الشام سبقت مجيء الكنعانيين إلى البلاد، وعَبَدها سكان بلاد الشام الأصليين الذين نجهل عنهم كل شيء تقريبًا.
رغم ذلك أحيا ظهور الكنعانيين في بلاد الشام اتباع الإلهة الأم القديمة، ولكن الاختلاف ظهر حول هوية هذه الإلهة وطبيعتها.
لقد أهمل العلماء المختصون مناقشة هذا الموضوع وملاحظة الالتباس والخطأ الذي تصدر عنه بداية الآلهة الكنعانية واستسلموا دون مناقشة لرواية فيلون الجبيلي، ولذلك نرى هنا ضرورة مراجعة هذا الأمر الذي سيصحح لنا مسار فهمنا الكامل للدين الكنعاني كله.
ولكي نساهم مساهمة متواضعة في هذا الموضوع فإننا سنقدم مقترحًا استنتاجيًّا يمكن أن يكون بديلًا معقولًا عن ذلك الإرباك الذي وضعه فيلون الجبيلي، ويكمن مفتاح هذا الحل في المثولوجيا الرافدينية وبمساعدة قوائم أسماء الآلهة الأوغاريتية.
تمنحنا قوائم أسماء الآلهة التي عُثر عليها في أوغاريت والتي تحمل أسماء أكدية (بابلية) وأسماء أوغاريتية، تمنحنا هذه القوائم تقابلات بين الآلهة الأكدية والآلهة الأوغاريتية، فعلى سبيل المثال يرد اسم الإلهة «تامونو» أي «تيامت» الواردة باللغة الأكدية ويقابلها اسم الإلهة «يمو» في الأوغاريتية (انظر: شيفمان، ١٩٨٨م، ٧٦).
لكننا عندما نرجع إلى الأساطير الكنعانية نجد أن اسم الإله «يمو» أو «يم» مندرجًا في أسفل سلم الآلهة. وتُظهره أسطورة صراعه مع الإله بعل على أنه إله مندحر يقوم بعل بالانتصار عيه ليصبح بعل بعد ذلك «ملك الآلهة»، وتذكرنا هذه الحادثة بانتصار مردوخ (الذي يسمى «بل» أيضًا) على الإلهة تيامت فيصبح بعدها «ملك الآلهة».
إن هذه المقارنة بين «تيامت» و«يم» صحيحة جدًّا تدعونا لاستنتاج جديد وهو أن «يم» أو «يمو» هي الإلهة الأم عند الكنعانيين وهو ليس بإله ذكر. لكن الانقلاب الذكوري من ناحية، ومحاولة المحو المتعمد لأصول الآلهة الكنعانية من ناحية أخرى أنزلت هذا الإله من مرتبة الإلهة الأم وتحويله إلى إله مهزوم يعبر عن البحر ولا يعبر عن شيء آخر.
إن الإله «يم» الذي يعبر عن المياه الهيولية الأولى وعن مياه البحار والمحيطات موجود كاسم في ثنايا اسم «تاموتو» أو «تيامت»، وهو أيضًا في صيغة «يمو» يقترب من الإلهة السومرية الأم الأولى «تمو»؛ ولذلك أرى أن هذا الإله كان في أصله إلهة أنثى معبرة عن الإلهة الكنعانية الأم الأعلى التي أصبحت إلهًا ذكرًا مع تصاعد حمى الانقلاب الذكوري، وأُنزلت إلى إله ذكر مغلوب وهامشي.
ونرى أن هذا المحيط السماوي البحري هو الذي خرج من الإلهة الأم الأولى «يمو» وهو يقابل محيط السماء والأرض السومري المزدوج «إن-كي» الذي خرج من «نمو» الإلهة السومرية الأم.
وهكذا انفصل هذا المحيط بعد ذلك إلى إلهَين، هما عبارة عن محيطين منفصلين عن بعضهما (شم أو ثم وهو محيط السماء) و(تم أو دم، وهو محيط الأرض).
ومن كل منهما نشأ إله السماء «شميم أو شاميما» من المحيط السماوي «شم أو ثم» وإلهة الأرض «أديم أو أدمة» التي يمكن أن يكون قد استعمل لها مرادف آخر هو «أرسو»، الذي يعني الأرض أو إلهة الأرض.
ومن تزاوُج إله السماء «شميم» مع إلهة الأرض «أدمة» يظهر الإله «إيل» وإخوته من الآلهة الأخرى.
وبذلك ينهار البناء الذي صممه، بشكل متعسف، فيلون الجبيلي والذي ألغى فيه الإلهة الأم واستبدل بها إلهة محلية، ثم صاغ إلهة السماء والأرض صياغة إغريقية.
وبذلك أيضًا نكون قد وُفِّقنا إلى وضع أنساب الآلهة القديمة التي سبقت إيل، ولكي نرى بصورة أوضح ما افترضناه نضع الجدول الآتي، الذي يقارن بين جدول فيلون الجبيلي ومتقرحنا الجديد:
وفيما يلي جدول شجرة الآلهة الكنعانية موضوعة بشكل علميٍّ دقيق:
يفتح لنا هذا المقترح المجال واسعًا لتصور آلهة كنعانية أصيلة وحقيقية نابعة من أرض وطبيعة كنعان نفسها تناسب الخلق الأول والتكوين الأول … ولذلك أزحنا من شجرة الأنساب التي وضعناها للآلهة الكنعانية مخطط فيلون الجبيلي واعتبرناه مقحمًا، إضافة إلى الأخطاء والإرباكات الكبيرة التي حفل بها مخططه لأنساب الآلهة الكنعانية، والتي لا مجال للرد عليها هنا وهي واضحة، على أية حال، لكل مهتم بهذا الموضوع.
وهكذا صار بإمكاننا وضع شجرة أنساب الآلهة الكنعانية بأصول واضحة لا لبس فيها؛ بل إن هذه الأصول ستعدل مجمل سياق هذه الشجرة، بل وتعدل أساطير الآلهة الواردة فيها كما سنرى (انظر: شجرة أنساب الآلهة الكنعانية).
(ب) آلهة الكون (العناصر الأربعة)
وتضم هذه الطبقة من الآلهة مجموعة الآلهة الآباء والآلهة الأمهات الكبار، وهؤلاء الآلهة نتاج تزاوج السماء والأرض، فهم يمثلون مظاهر الطبيعة والكون في أعظم أشكالها، وإذا نظرنا بعمق إلى جوهرهم فسنجدهم يكونون عناصرها الطبيعية الأربعة (النار، التراب، الهواء، الماء) ولو عدنا إلى شجرة الآلهة الإغريقية التي نرجح أن تكون قد أُخذت حرفيًّا من شجرة الآلهة الكنعانية ذات، يوم كما يؤيد ذلك فيلون الجبيلي وسانخونتين. إذا عدنا لهذه الشجرة فسنجد أن ما يقابل هذا الجيل عند الإغريق هو ذلك العدد الهائل من الآلهة الكونية القديمة والتي تتكون من الجبابرة والعمالقة والصقالبة (من السيكلوب ذات العين الواحدة) والعمالقة الجدد من دم أورانوس والصقالبة الأورانيون وغسل الإله بونتوس (الموج البحري) ونسل طيفون.
تقع كل هذه الآلهة بين مستويين هما: السماء والأرض ويمثلها في الكنعانية «شميم وأديم» وفي الإغريقية «أورانوس وجيا»، والمستوى الآخر هو جيل المطر والخصوبة ويمثلها في الكنعانية «بعل وعناة» وفي الإغريقية «زيوس وهيرا».
- (أ) آلهة الهواء والنار: وهم نسل الإلهة «عوص» أو «أوسوس» وأصله «أش» أي النار، وهو أخو إله السماء شميم؛ حيث ظهر منه الإله «دامور» الذي هو الإله «ذمر» أو «دمناروس» إله الأموريين، وهو إله الهواء القديم، والإله الآخر الذي يتوحد به عوص هو الإله ملقارت، وهو نظير هرقل الإغريقي إله النار وإله مدينة صور وقرطاج.
- (ب) آلهة الماء والتراب: وينقسمون إلى قسمين:
- (١)
نسل الآلهة الذكور المولودين من تزاوج السماء والأرض:
كل هؤلاء الآلهة يمثلون المياه بمختلف أشكالها:
إيل: الإله الأب يمثل المطر.بيتيل: وهو إله يمثل مكان إيل في المياه عند منبع النهرين.عتل (أطلس): وهو إله البحر والملاحة.عاي (إيا): وهو إله المياه البابلي الذي صار إله مدينة عاي الكنعانية.داجون: إله الجنوب والمطر والأسماك، وأحيانًا يوصف كإله للطقس.سيتون (صيد): إله الصيد البحري والبري. - (٢)
نسل الآلهة الإناث المولدات من تزاوج السماء والأرض، وكلهن يعبرن عن الأرض (التراب)، وهن أخوات الإلهة عشيرة (عشتارة)، ريا (رحيا)، بعلتيس، أنوبرت.
- (١)
- (جـ) أنصاف الآلهة: من الحكماء أو العماليق الذين ظهروا مباشرة بعد خلق الأرض والسماء، وهم الذين علموا الإنسان نواميس الحضارة، وتختلف الروايات في ذكر عددهم فهم يتراوحون بين ٧ و١٢، مثل «فوس = الضوء، فير = النار، فلوكس = الشعلة، هيفسورانيوس = ألواح القصب، صيد = الصيد، ربما هو نفسه سيتون، خوسور = الحديد والصناعة وهو الإله كوثر، تؤوتوس = الكتابة … إلخ».
وعند مقارنة هؤلاء بالحكماء السومريين الخارجين من المياه أتباع «إيا» يمكننا أن نطلق على هؤلاء «الألكالو الكنعانيون» أي الحكماء الكنعانيين.
- (د) التنين تيفون: وهو «يظهر» في الأساطير الكنعانية، ويكون على شكل ثعبان كبير يصارع الإله ملكارت … كما صارع تيفون هرقل.
- (هـ) الإنسان: وهو الكائن الذي ظهر بعد خلق السماء والأرض مطابقًا لهما في صورة ذكر وأنثى هما «شمم وأدمه» ثم «أدم وأدمة» وربما «آدم وحواء» واكتمل نسلهما بسلالة بشرية متتابعة.
(ﺟ) جيل إيل
يستمر النسق الإلهي من خلال جيل إيل وتحديدًا من خلال الإلهين «إيل وعشيرة» باعتبارهما مركز الثقل في هذا الجيل ويصبح الإله «إيل» أبا الآلهة والبشر، ويستوي على كل شيء حتى على ماضي آبائه وأجداده من الآلهة، وربما كان كهنة إيل وراء حذف وتشويه سلالة الآلهة ما قبل إيل.
ويتزوج الإله إيل عشيرة بشكل خاص رغم أن له علاقات جنسية واسعة مع أخواتها. ورغم أن إخوته الذكور هم أزواج لهن، ولكن هذه الحقائق تُطمس احتفاءً بذكورية وبطولة إيل.
وتعتبر الإلهة عشيرة الزوجة الرسمية للإله إيل، وهي الإلهة الأم الجديدة وتلقب «إيلات» على ضوء اسم زوجها إيل، وتنجب منه نسل سبعين إلهًا هم آلهة الجيل القادم الذي يضم بالدرجة الأساس «بعل وعناة».
ويضم جيل الإلهات أيضًا الإلهات اللائي يرتبطن مع الإله إيل بعلاقة جنسية وينجبن منه مجموعة كبيرة من الآلهة الغريبة.
فالإلهة «عشتارة» أو «عشترون» تمثل إلهة الحب والجمال، وتأخذ دور الإلهة العذراء؛ لكنها تنجب من إيل سبع إلهات إضافة، إلى إنجاب عشيرة وعشترون من إيل عن طريق التقبيل الإلهين «شهار وشاليم».
أما الإلهة «ريا» التي تأخذ موقعًا مركزيًّا في الآلهة الإغريقية فهي زوجة «كروزس» مقابل «إيل»، أي إن مكانها هو مكان عشيرة، هذه الإلهة تنجب سبع أبناء منهم الإلهة «موت».
أما الإلهة «بعلتيس» وتسمى «ديوني» فإنها تنجب سبع بنات أيضًا.
وتنجب الحورية «أنويرت» من الإله إيل سبع أبناء منهم الإله جنود «إله الأضاحي».
وبذلك يكون عدد أبناء الإله «إيل» مائة إله بالضبط.
(د) جيل بعل
وهو الجيل المقابل للإلهين الإغريقيين «زوس» و«هيرا» ويسمى عند الإغريق ﺑ «الكرونيديون» نسبة إلى كرونوس، ويمكن أن نسميه عند الكنعانيين ﺑ «الإيليين»، نسبة إلى الإله إيل فهم جميعًا أبناء الإله إيل.
ويمثل الإله بعل «ملك الآلهة»؛ لأنه مثل «مردوخ» ينتصر على قوى الهيولي الماشية الأولى ممثلة ﺑ «يمو»، ثم يبني بيته وعرشه ويحكم الكون. ويتخذ له رفيقة أساسية هي «عناة».
- (أ) آلهة الكواكب: وهم آلهة الشمس والقمر والزهرة، ويمثل القمر الإله «برح» وهو «باريشي» إله أريحا الذي يتزوج نيكال إلهة القمر. أما الشمس فيمثلها الإله شغش أو شبش، وإلهَا الزهرة هما من تزاوج الإله إيل مع الإلهتين عشيرة وعشتار عن طريق التقبيل، وهما شاليم نجم المساء وإله أوروشليم، والإله شهار نجم الصباح.
- (ب) آلهة الحرب والنار والشفاء: وهم الآلهة: حرون إله الحرب والحرارة، وأشمون إله النار والطب في صيدا، وشرافا إله الشفاء زوج الإلهة شديد.
- (جـ) آلهة الخصب وهما الإلهان أدونيس إله جبيل: الذي يرتبط بقصة مأساوية مع عشترون (عشتارت) إلهة الحب والجمال. والإله شان، إله الحقول، وهو إله مدينة بيسان (بيت شان).
- (د) إلهات الحب والولادة والشفاء والجبل: وهي الإلهات عستارت (عشترتا)، التي هي شكل من أشكال الآلهة التي كانت في الجيل السابق «عشترون»، والإلهة نيكال إلهة القمر وهي إلهة سومرية، والإلهة قادش المقدسة أو المطهرة، والإلهة عجالين ملكة الجيل إلهة مدينة عجلون، والإلهة بارات إلهة مدينة بيروت، والإلهة سديد زوجة شدرافا إلهة الطب، والإلهات كوثرات إلهات الحمل والولادة.
وينتمي لهذا الجيل أيضًا آلهة وإلهات من نسل إيل مع أخوات عشيرة مثل التيتانات السبع من عشتارة، والآلهة الكوربيم السبعة، ومنهم موت من ريا (رحيا)، والإلهات السبع من بغليتيس (ديوني)، والإله وحيد (جنود) من الحورية أنويرت.
(ﻫ) البعول: أشكال وأبناء بعل
بعد انتصار بعل وسيادته التدريجية على مقدرات الكون بدلًا من إيل أصبحت مظاهر الكون كلها بعلية، وتحولت المدن والأماكن كلها لصالح بعل … بل ارتد ذلك إلى الآلهة القديمة وأصبح شميم إله السماء هو بعل شميم أو بعل شماين، وهكذا أصبح كل شيء إما شكلًا من أشكال بعل أو ابنًا له.
- (أ) بعول المدن والأماكن: ومنها بعل بقاع (بعلبك)، بعل كرم اللوز (كرمل)، بعل دوليخ، الذي كان يسميه الرومان جوبيتر دوليخوس، بعل صفون وهو بعل جبل صفون، ونرى أنه الإله بعل الحقيقي، لأن مقر سكنه الدائم هو جبل صفون، حيث بنى بيته هناك، ويسمى هذا البعل أيضًا بعل الشمال.
وبعل صور، وبعل معدن، وبعل دمشق التي ربما كانت آلهة غير بعلية لكن استعمال كلمة بعل هنا بمعنى «رب»، مثل بعل دمشق الذي هو «رامان»، وهو إله آرامي وليس كنعانيًّا.
- (ب) بعول الصفات: ومنها بعل أدير أو القدير، وبعل قرنيم، أي: ذو القرنين، وهي صفة أطلقت على بعل حمون القرطاجي، وبعل مرقد (الرقص)، وبعل بريت (المواثين)، وبعل بور (فاغر الفم) المؤابي، وبعل زيوت وهو إله الذباب والأمراض.
- (جـ) بعول الحضارة (الصناعة): وأغلبها آلهة تابعة للإله بعل وتعمل بمثابة الخدم له: كوثر وحاسيس وهما إلها الفنون والحرف، وإلش مُنزل المطر وهو بخار بعل، وجفن أو جوبان وهو إله الكروم ورسول بعل، وأوجار وهو إله الأرض الزراعية رسول بعل ورب مدينة أوغاريت، والإله عليون الذي ارتبط اسمه بالحدادة، رغم أن عليون كان أحد أسماء إيل، وهو الإله الذي رفع إلى مستوى إله خالق، وارتبط بالإلهة بيروت عند فيلون الجبيلي.
- (د) بعول الكواكب: مثل عجل بعل إله القمر، وملك بعل إله الشمس.
- (هـ) الابن الوريث لبعل وهو عايان أو عليان: وهو الذي يذكر وكأنه بعل حيث تتحدث الأساطير عنه كما تتحدث عن بعل، وقد يذكر اسم بعل على هيئة بعل عليان، ولذلك علينا أن نعده إله الطقس الجديد، ابن بعل ووريثه.
- (و) بعول النار: وهم الإله رشف، والإله حموت إله المباخر الذي صار يطلق عليه في شمال أفريقيا بعل حمون زوج تانيت، والإله بعل حارات إله الثأر.
- (ز) الثالوث الأول لبنات بعل: وهن الإلهات اللائي ارتبطن بالزراعة البعلية (المطرية) ويمثلن مظاهرها، مثل: الإلهة «إناتا» إلهة المحاصيل، وتوصف بأنها الإلهة العذراء وربما كانت وريثة عناة (أنات)، وهي أساس اشتقاق اسم تانيت.
- (ﺣ) الثالوث الثاني لبنات بعل: وهن الإلهات اللائي ارتبطن بمظاهر الكون الكبرى، مثل: أرصاي إلهة الأرض، وبدراي إلهة البدر أو القمر، وطلاي إلهة الندى أو الطل الذي يسقط فجرًا على النباتات في الصيف.
(و) الثالوث الكنعاني الآرامي
ظل الإله بعل يلعب الدور الأساس في المثولوجيا؛ ولكنه تنشط أكثر عندما ارتبط بنظيره الآرامي «حدد» إله الطقس عند الآراميين، ولا شك أن هذا حصل مع أفول الكنعانيين في الشام وظهور الآراميين كقوة سياسية وحضارية جديدة.
ثم ظهر ثالوث جديد من الإله الابن «سميوس» الذي أنشطر إلى مظهرين؛ الأول: ذكري كان يمثله إله البحر «سيميون»، الذي لقب اختصارًا «سوما»، والثاني أنثوي الذي كانت تمثله إلهة الحمام «سميرنا» التي لقبت اختصارًا «سيما».
وكان الثالوث الأول الأرضية الروحية والفكرية التي ترسخت عليها المسيحية في ثالوثها المعروف (الآب، والابن، والروح القدس) حيث كانت الروح القدس هي الآن قبل ذلك.
وهكذا التقت نهاية الشجرة الكنعانية بنهاية الشجرة الآرامية واندمجتا، ثم أحاطت اندماجهما عناصر هيلنستية ورومانية ثم مسيحية.
•••
إن شجرة الآلهة الكنعانية المكونة من الطبقات أو الأجيال الستة تعطينا انطباعًا قويًّا عن ذلك الإيقاع التطوري الذي مرت به الحياة الروحية الكنعانية من التوحيد إلى التفريد إلى التعدد، وهو إيقاع نابض بالحياة يعكس بيئة وحياة وطبيعة الكنعانيين أو الفينيقيين.
ظهر من اتصال الآلهة الكنعانية مع الآلهة الآرامية في جيل البعول وفي نهاية شجرتي الآلهة الكنعانية والآرامية صورة جديدة للإله بعل، تمثل اندماج إله الطقس الكنعاني بعل مع إله الطقس الآرامي «حدد» في صيغة بعل حدد الذي أصبح يلخص إله الطقس الشامي أو السوري بشكل عام.
كذلك اندمجت الإلهة الآرامية «عتر» مع الإلهة الكنعانية «عناة» في صورة واحدة نتج عنها ظهور الإلهة الجديدة «عتر عناة» التي أصبحت «عترغات» والتي تحولت نهائيًّا إلى «عترغاتس» أو «أترغاتس»، وهي الإلهة الشامية أو السورية الأم إلهة السمك والقمح.
ثم تكون ثالوث إلهي يتكون من الأب والأم والابن، وهم بعل حدد وأترغاتس وسيميوس، الذي أصبح الثالوث الآرامي الهيلنستي عندما تَطابق بعل حدد مع زوس، وأترغاتس مع هيرا، وسميوس مع ميركوري (هرمس) الرسول.
(٢) المبحث الثاني
Typology
كانت قوة الإله تكمن في رموزه، ولذلك كانت الرموز الدينية إشارة إلى القوة الدينية.
(٢-١) رموز الفينيق
«النخلة والطير»: تشير رموز الفينيق (كما تحدثنا عنها في المبحث الأول) إلى الانبعاث من الموت، وكانت النخلة بثمرها وطلعها تشير إلى الفينيق أيضًا. لكن الفينيق تركز أكثر في الطير المجنح، الذي ينبعث من رماده، والذي كان يأخذ أحيانًا شكل امرأة مجنحة.
(٢-٢) رموز إيل
-
(أ)
الخوذة المتقرنة: التي تشبه نبات الذرة رمزًا أساسيًّا للإله إيل، فقد كانت تتكون من كوزين يشبهان أكواز الذرة، ويبرز من مقدمتهما قرنان يدلان على الملوكية أو الألوهية، وكان قرص الشمس المجنح رمزًا آخر من رموز الإله إيل؛ حيث يظهر دائمًا على نقش صورته (ومن رموز إيل الأخرى القوس الحاد، والسهام الملتهبة).
-
(ب)
قرص الشمس المجنح: حيث يظهر القرص الذي يحمل رمز الألوهية (الأشعة الثمانية) محمولًا بجناحين متميزين يختلفان عن الرمز الآشوري أو المصري المقابل.
(٢-٣) رموز عشيرة
(٢-٤) رموز بعل
-
(١)
الرمح المورق: وهو الرمح الذي اعتاد بعل على الإمساك به في يده اليسرى، بينما كان يمسك هراوة في يده اليمنى. ونرى أن الرمح المورق رمز أصيل من رموز بعل فهو يوحي بالخصب والقوة بالحب والحرب معًا.ونود الإشارة إلى أن رمز الصاعقة (شوكة الصاعقة المفردة أو المزدوجة) هو رمز آرامي ذو أصول سومرية وبابلية تسرب بعد الألف الثاني إلى بعل، وعندما أصبح بعل يمسك به صرنا نطلق على الإله اسم «بعل حدد»، أي إن الصاعقة رمز «حدد» ولذلك نعتبر هذا الرمز آراميًّا وليس كنعانيًّا، ونتمسك بالرمح المورق والهراوة كرمزين كنعانيين أصيلين (شكل ٢-٦أ)
-
(٢)
الخوذة الكونية المقرنة: اشتهرت الخوذة الكونية المخروطية الطويلة كرمز أصيل وقديم لبعل، ثم أصبحت الخوذة القصيرة المخروطية ذات القرون هي لباس الرأس الشائع للإله بعل (شكل ٢-٦ب).
-
(٣)
الهراوة: وهي سلاح بعل التقليدي الذي كان يمسكه بعل بيده اليمنى، وكان يمسكه آلهة آخرون، مثل: الإله «موت» (شكل ٢-٦ﺟ).
(٢-٥) رموز عناة
-
(١)
الأسد: وهو رمز قديم للألوهة المؤنثة كانت إنانا وعشتار تتخذه وجهًا من وجوه القوة والحرب لهما. وقد حافظ الأسد على ارتباطه بعناة باعتباره رمزًا للقوة والحرب. ولنلاحظ أن الأسد رمز شمسي، ولأن عناة كانت تبدو في أغلب أساطيرها قوية عنيفة كان الأسد رمزًا مهمًّا من رموزها، وتبدو عناة وهي تعتلي ظهر الأسد وتمسك بيديها نباتَي البردي واللوتس (شكل ٢-٧ / ١).
-
(٢)
البردي واللوتس: وهما رمزان تعودت عناة أن تمسك بهما. ونعتقد أن هذين الرمزين ارتبطا بعناة من خلال الاتصال مع التراث الروحي المصري (شكل ٢-٧ / ٢).
-
(٣)
المحراث.
-
(٤)
قرن الفاكهة: الذي أخذه الإغريق من الرومان ليكون أحد رموز إلهة الحظ «تايكي»، أو «فورتونا».
-
(٥)
الصاعقة.
-
(٦)
الأجنحة.
-
(٧)
السلاح.
-
(٨)
طوق الشعر: وكان طوق الشعر الموضح في هذا الشكل خاصًّا بعناة، وربما كان شكلًا من أشكال التيجان.
-
(٩)
التاج المقرن: كان التاج المقرن يرمز إلى الألوهية والملوكية في آن واحد. وقد لبست عناة عدة أنواع من التيجان المقرنة. واعتادت أن تظهر بقرنين كبيرين على رأسها تتوسطهما أيقونة مزخرفة جميلة. وربما أشار القرنان إلى وصف عناة بالبقرة وهو وصف اعتدنا على مصادفته.
وهناك التاج المقرن (ذو الأربعة قرون) والذي لو تمعنا فيه لوجدنا أنه عبارة عن جديين أو عنزين جانبيين يحيطان رأس عناة، فتظهر القرون الأربعة كدليل على الملوكية أيضًا. ويظهر على قمة رأسها عادة المخروط التقليدي الذي كان يظهر به بعل.
-
(١٠)
العانة: كان مثلث الشعر الذي يوضع عادة تحت أشكال عناة يشير إلى الموضع الجنسي للإلهة الأنثى. وربما كانت كلمة «عانة» مشتقة من عناة.
-
(١١)
الجداء: كان الجدي يرمز للإلهة عناة، وكانت تظهر في بعض رسوماتها وهي تحمل جديين بيديها.
-
(١٢)
الأفعى: وكانت تظهر بطريقة مزدوجة تحيط جسد عناة، والأفعى رمز قديم للألوهية المؤنثة.
(٢-٦) رموز تانيت
-
(١)
اليد المرتفعة: التي تمثل المباركة والحماية والدعاء.
-
(٢)
الصولجان: حيث يتألف من عصا متوَّجة بهلال يعلو قرصًا، وتخرج من القرص ذؤابتان جانبيتان، ثم يخرج شريطان جانبيان من العصا، ويرمز الشكل عمومًا إلى جسد امرأة، وعادة ما يُوضع إلى جانبها علامتان تقليديتان لتانيت.
-
(٣)
علامة تانيت: هي الرمز التقليدي لتانيت في المشرق والمغرب، والحقيقة أن مرجع هذه العلامة قديم جدًّا قد يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث يمثل الأنثى التي تفتح ذراعيها ورجليها ترميزًا للجنس.
وقد تطورت هذه العلامة حتى أصبحت على شكل دائري على مستقيم، وتحت المستقيم مثلث. وربما يقترب هذا الشكل من علامة الحياة المصرية (عنخ). وعادة توضع في قرطاج علامة الهلال المقلوب والقرص فوقها.
نرى أن علامة تانيت كانت قد ظهرت في زمن مبكر جدًّا في شمال أفريقيا. تشير إلى ذلك الرسومُ البدائية على الصخور في ليبيا، والتي تعود إلى ما يقرب الألف الثامن والتاسع قبل الميلاد.
وقد اتخذت علامة تانيت شكلًا هندسيًّا صارمًا في قرطاج كان الحجر يُرصَّع أو ينحت على شكلها. إضافة إلى الميزة النجمية التي تكمن في الشكل الدائري له. وأحيانًا تجسد هذه العلامة تانيت وحمون معًا.
وكانت علامة تانيت تميل أحيانًا إلى تجسيدٍ أنثوي بظهور ثديين صغيرين على قاعدة المثلث.
-
(٤)
الصولجان: الذي يتألف من قضيب من الغار أو الزيتون، ويحمل في أعلاه جناحين، وتلتف حوله حيتان أحيانًا.
-
(٥)
الرمان.
-
(٦)
الغصون.
-
(٧)
السنابل.
-
(٨)
القرن والهلال.
-
(٩)
النجمة المشعة (نجمة الزهرة وزخارفها).
-
(١٠)
السمكة: وتشير إلى علاقتها بالبحر وإلى صفة الأمومة فيها.
-
(١١)
الهلال والنجمة: ولعل الكثير من النقوش البونية كانت تحمل رمز الإلهة تانيت على شكل كوكب الزهرة يتصل به هلال، ويشير هذا الرمز إلى أمرين أولهما العذرية حيث يرمز له من خلال القمر، وتطابقت فيه تاينت مع العذراء «كايلستس» في الحقبة الرومانية. والثاني يرمز إلى الخصوبة والأمومة التي عرفت بها «نوتريكس»، النجمة، أو يرمز لها برمانة أو حمامة أو سنبلة … إلخ.
-
(١٢)
المعيَّن: وهو شكل هندسي موضوع على حجرة مستطيلة داخل أخرى مستطيلة، وربما أشار هذا الشكل إلى شكل العضو الجنسي للمرأة (الإلهة).
-
(١٣)
القنينة والصنم: يتكون من منضدة صغيرة عليها قنينة أو جرة، وفوق الجرة رمز تانيت الذي تعلوه دائرة تدل على الشمس أو القمر.
-
(١٤)
الأذن المصغية: تعتبر الأذن المصغية رمزًا للإلهة تانيت، كما هي للإله حمون، دلالة على الصلاة والأدعية التي توجه لهما. وكانت تنقش على الحجر مفردة أو مزدوجة.
(٢-٧) رموز عشتارة
كانت عشتارة تمثل الحب الإباحي، ولذلك كان من أهم رموزها «العري»، فكانت تظهر عارية في صورها ونقوشها، وكان «الحصان» أحد رموزها المهمة لما يمثله من القوة والطيش ولأصولها الآسيوية؛ لكنها كانت تظهر أيضًا برموز مصرية معروفة، مثل التاج المصري المضاف له قرنان جانبيان، وعلامة الحياة المصرية (عنخ)، التي كانت تمسكها الإلهات المصريات.
(٢-٨) الرموز الدينية الأخرى
-
(١)
زهرة اللوتس والورق القلبي: رمز الزمن عند البونيين.
-
(٢)
تاج الورق: رمز العالم السعيد للولد المضحى به عند البونيين.
-
(٣)
الخطوط المتقاطعة: رمز العالم الأسفل.
وقد جمع لوح عثر عليه في شمال أفريقيا رموز تانيت المختلفة، ويبدو كأنه لوح نذري أو شاهدة جنائزية، فهو مستطيل الشكل يظهر في أعلاه نتوءان جانبيان ومثلث بينهما يحتوي على رمز الهلال والقرص لتانيت، والذي يبدو وكأنه عين وحاجب، وفي متن اللوح تندرج رموز تانيت من الأعلى: الخطوط المنكسرة المحيطة برمز المعين، وتحت هذا السطر النقشي كتابة يصعب قراءتها وتحتها ثلاثة رموز لتانيت هي: الكف المرفوعة، ورمز تانيت الرئيسي المزود بثديين، ورمز الصولجان، وفي السطر النقشي الأسفل يظهر نقش السمكة وهو أحد رموز تانيت المائية الأمومية.
(٣) المبحث الثالث: الأساطير الكنعانية
تشكل ألواح أوغاريت المصدر الأول للمثولوجيا الكنعانية التي يصح أن نسميها هنا «المثولوجيا الأوغاريتية»، وتعود هذه النصوص إلى حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولذلك تعد النصوص الأقدم والأشد عراقة بين النصوص الكنعانية.
بالرغم من أن حفريات جبيل (ببلوس) زودتنا ببعض الإشارات والنصوص التي سنأخذها في نظر الاعتبار، إلا أن هذه النصوص يطغي عليها الطابع المصري، بسبب وقوع هذه المدينة مباشرة تحت النفوذ المصري منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
لكننا لن نهمل ما تحدث به سانخونتين وفيلون الجبيلي عن خلق الكون، وقصة الخليقة الكنعانية، وتأسيس مدينة صور؛ لأن ذلك سيكون معيننا الأول لمثل هذه الأساطير، رغم أننا سنقوم بمناقشتها وفق استنتاجاتنا الخاصة بالخليقة الكنعانية.
إن المثولوجيا الكنعانية تعتبر بحق مثولوجيا الصراع بين الخصب والجدب، فهي تدور في أغلب مواضيعها حول هذه الثيمة.
كان الكنعانيون يحرصون على وفرة المطر في الشتاء والندى في الصيف، وكان أكثر ما يخشونه هو الشتاء عديم المطر والصيف عديم الندى وهبوب الجراد، ولذلك ظهر ذلك في أساطيرهم؛ ولكن طبيعة كنعان كانت تمتاز بميزة خاصة وهي تعاقب سبع سنوات من المطر والندى والخصوبة بعد سبع سنوات من انحباس المطر والندى واليباب، وهكذا ظهر إيقاع الطبيعة هذا واضحًا في أساطيرهم.
وسنرى أن الأساطير الكنعانية تهمل كثيرًا الكواكب ولا تتعامل مع مظاهرها إلا بما ينفع الخصب والجدب؛ على عكس الأساطير الأمورية ذات الطابع الكواكبي والأساطير الآرامية المهتمة بجدل النور والظلام.
إن هذه الصفات شكلت بإجمالها أساطير بلاد الشام منذ القدم قياسًا لطبيعتها المتنوعة ومشارب أقوامها النازحين من طبيعة مختلفة وبيئات متفاوتة.
(٣-١) أساطير الخليقة
رغم عدم وجود أسطورة خليقة كنعانية خاصة في ألواح أوغاريت إلا أننا نرى أن هذه الأسطورة موجودة في القسم الأول المحذوف من أسطورة صراع بعل ويم، وسنثبت ذلك.
لكننا قبل الدخول في هذا الأمر لا بد من القول: إن الرواية الأسطورية التي وردت على لسان سانخونتين ثم فيلون الجبيلي حول بداية الخليقة يمكن أن تكون مرشدًا لنا في استنتاج المحذوف من أسطورة صراع بعل ويم والخاص بالخليقة الكنعانية، رغم أن هذه الرواية الأسطورية تحمل مؤثرات هيلنستية واضحة.
(أ) ما هو المحذوف عمدًا من أسطورة بعل ويم؟
كنا قد توصلنا في المبحث السابق إلى وضع نسب الآلهة القديمة الكنعانية، تلك التي بدأت الخليقة، وقد وضعنا نظرية تقول إن الإله «يم» كان الإلهة الأم الكنعانية الأولى التي أطيح بها من قبل الإله بعل، فتحولت تدريجيًّا إلى إله ذكر هامشي لا قيمة له.
ونرى أن أسطورة صراع «بعل ويم» هي الأسطورة التي يمكن أن تمنحنا أسطورة الخليقة الكنعانية، ولكن كيف يحصل ذلك وهذه الأسطورة تبدأ بداية أخرى لا علاقة لها بما نريد؟
إن مفتاح الحل هو في قناعتنا الراسخة بأن هذه الأسطورة التي تبدأ بصراع بعل ويم تشبه أسطورة صراع مردوخ وتيامت (خصوصًا أن مردوخ يطلق عليه اسم بيل أو بعل)، ولذلك نرى أن هذه الأسطورة ما هي إلا أسطورة الخليقة الكنعانية وقد أعيدت صياغتها، وأن إعادة الصياغة هذه تمت من خلال حذف الجزء الأول الخاص بالخليقة الكنعانية؛ حيث خلق الكون والآلهة … حتى وصولنا إلى بداية الصراع بين (بعل/مردوخ، ويم/تيامت).
كما إن إعادة الصياغة شملت أيضًا تغيير شخصية «يم» الذي تحول إلى ذكر مناوئ للإله بعل، في حين أنه إلهة أنثى هي الإلهة الأم الكنعانية الأولى وهي «يموه».
وهكذا يكون من الطبيعي تتبع سياقات أسطورة الخليقة البابلية في أطرها العامة لاستنتاج كيفية خلق الكون عند الكنعانيين.
(أ) الكوزموغونيا والثيوغونيا الكنعانية من الهيولي إلى السماء والأرض
-
(١)
بدأت الخليقة من ظهور المياه الهيولية الأولى (يمو)، وهي مياه البحر الأول الساكن الذي يبدو أنه تحرك إما بفعل ازدواج عنصري الأنوثة والذكورة فيه (يمو ويم)، أو أن ريحًا هبت على هذه المياه من داخلها.
ولكي نثبت وجود هذه الرياح أو الروح أو الهواء نقول: إن الإلهة الأم الكنعانية ترتبط بشكل حميم مع الإلهة الأم الأمورية والآرامية وهي الريح (إم)، وهو ما يفسر الأصل الواحد للكنعانيين والأموريين.
وهكذا يمكن أن تكون الإلهة الأم الكبرى للأموريين والكنعانيين هي «م» التي تكون «إم» الريح عند الأموريين و«يم» عند الكنعانيين، وهكذا اجتمعت منذ البداية قوتا الهواء والماء في الإلهة الأم الكبرى.
لقد تحدثنا بتوسع عن الإلهة «إم» في كتابينا عن الدين الأموري والآرامي، ولاستكمال صورة الخليقة القديمة نفضل العودة إليهما.
إن الهواء والماء هما أهم عناصر الآلهة الكنعانية اللاحقة؛ لأنهما يجسدان المطر الذي يتجلى أولًا في «إيل» ثم ابنه «بعل»، ولذلك لا بد أن يظهر منذ بداية أسطورة الخليقة الكنعانية ما يشير لهما.
وإذا عدنا إلى أسطورة «صورة البهية» الواردة على لسان فيلون الجبيلي فسنرى أن الخليقة الكنعانية تبدأ من تصور وجود هواء يتعانق مع فضاء، ثم يبدأ هذا الهواء بالتكاثف، فينتج عنه عاملان هما الريح والشهوة.
ومن تزاوج الريح والشهوة يظهر «موت» على شكل بيضة، ثم تلقح الريح البيضة وتبعث فيها الحياة، ثم تفقس البيضة وتخرج منها الكواكب والنجوم والشمس والقمر، وبفعل ظهور النور تنفصل المياه واليابسة عن السماء.
ولنلاحظ أن هذه الموتيفة الأسطورية الكونية متأثرة بالخليقة المصرية؛ حيث تذكر بعض أساطير الخليقة المصرية أن الإله «بتاح» خلق الكون على شكل بيضة ثم فقست فخرج منها الكون، وهي كذلك متأثرة بأسطورة الخليقة الإغريقية التي ترى أنه لم يكن يوجد شيء سوى «خاؤوس» وهو العنصر الذكري الذي يمثل الخواء في الأسفل وهو يحتضن «نوكوس» العنصر الأنثوي الذي يمثل الظلمة في الأعلى، وأنهما عن طريق الحب (أيروس) أنتجا «أثير»، وهو قبة الفضاء و«تيرا» أي: الأرض الأولى. وهناك رواية أخرى تقول إنهما عن طريق الرغبة (باثوس) أنتجا «أورانوس» وهو إله السماء، و«حيا» وهي إلهة الأرض (انظر: غريمال، ١٩٨٢م، ٢٣).
ويتضح من هذه الروايات الهيلنستية خلط التراث الكنعاني بالتراثين المصري والإغريقي؛ لذلك تُفضل العودة إلى الرواية التي افترضناها حول «يم» و«إم» عنصري «الماء» و«الهواء»، حيث حرك الهواء الماء، لأنه عنصر الروح والريح. ونتج عن ذلك كثافة في الماء كونت فيما بعد الكون البدائي.
وإذا كنا نفتقد ظهور صورة أو رسم لهذه الآلهة الهيولية عند الكنعانيين فإننا نجدها عند السومريين، فقد استنتجنا أن الإلهة «إم دوكد» هي الإلهة الأم القديمة للريح، وهي التي تعبر عن الإلهة «إم» التي كانت موجودة في بدء الخليقة مع الإلهة «يم» والتي تعبر عنها المنحوتات والرسوم السومرية. كما في (الشكل ٢-١٦). -
(٢)
بعد أن ظهر الكون الأول الذي نرى أن اسمه يمكن أن يكون «ير-مر» أو «مر-ير»، وهو الاسم القديم الصحيح الذي يعني «السماء-الأرض»، ولكن هذا الاسم تحول (وفق اللغة الكنعانية وانفصالها عن اللغات التي كانت من ضمنها) إلى اسم مرادف لها هو «ثم-تم» أو «شم-تم» حيث «شم» تعني السماء و«تم» تعني الأرض.
ويرد اسم «ثمتم Thmtm» ليدل على المحيط المزدوج السماوي والأرضي في الكتابات الأوغاريتية القديمة. (انظر: شيفمان، ١٩٩٥م، ٧٥)، ويشبه هذا الكون الأول الكنعاني ما يرد عند السومريين «آن-كي» الذي يخرج من المياه الأولى «نمو»، كذلك يشبه ما يرد عن البابليين «لخمو ولخامو» و«انشار وكيشار» وهما الطمي الأول والأفق الأول لذلك الكون البدائي منقسمًا إلى ذكر وأنثى في حالة اتصال وانفصال. -
(٣)
ينفصل الكون البدائي «شمتم» إلى عنصرين؛ الأول: سماوي أو يمثل قبة السماء (شم)، والثاني أرضي يمثل هاوية أو محيط الأرض (تم أو دم)، ونرى في الاسمين ما يقترب من السماء (شماء) والأرض (أدمة).
-
(٤)
يظهر من «شم» الإله «شميم» أو «شاميما» وهو إله السماء الذي عبرت عنه المثولوجيا الكنعانية باسم «بعل شماين» أو «بعل شمين» إله السماء، واعتبرته أقدم الآلهة، ولكننا حفاظًا على السياق نفضل تسميته «شميم».
ويظهر من «تم» الإلهة «أديم» أو «أدمة» إلهة الأرض التي عبرت عنها المثولوجيا الكنعانية باسم «أرسو»، أي الأرض وهي إلهة قديمة جدًّا تعبر عن الأرض الأم الأولى.
ويبدو أن الإله شميم كان منتشرًا بشكل واسع جدًّا في فينيقيا كلها، وفي قبرص وسردينيا وتدمر، «ويذكر إسحق الأنطاكي من القرن الخامس الميلادي أن عبادة بعل شميم كانت منتشرة في إديسا، ويعني الاسم سيد السماء، ولذا من المفترض أن يكون واحدًا من الآلهة السماوية، وكان فيلون الجبيلي يضع اسمه إلى جانب اسم «زيوس» على رأس قائمة الآلهة، وليس لدينا ما يثبت أنه كان إله طقس أو إله شمس، وعلى كل حال لم تزل شخصيته مجهولة ومجال عمله غير معروف؛ ولكن نفترض أن يكون مساويًّا لإله السماء (آنو/أورانوس)» (أزدارد، ١٩٨٧م، ٢٠٣).
أما الإلهة «أرسو» فيظهر اسمها كابنة للإله بعل بصيغة «أرصو» أو «أرصاي» مع أختيها «بدراي = البدر» و«طلاي = الندى» ويظهر اسمها مرتبطًا بلقبها «بت يعبود دار» الذي يعني «بنت العالم الواسع» (انظر: المرجع السابق، ١٧٠).
وهذا إلحاق متأخر للإلهة أرسو ببعل الذي سيستولي على كل المقاليد.
-
(٥)
تذكر الأساطير الفينيقية أن هناك أخًا للإله «شميم» هو الإله «عوص» أو «عوش» أو «أوسوس»، وهو الإله الذي بنى مدينة «صور».
يذكر المؤرخ الفينيقي «سانخونتين» قصة خلق الإنسان، التي سنذكرها في موقعها، ثم يصل إلى أن جيلًا من العمالقة (وهم أنصاف آلهة وأنصاف بشر) ظهر من اتحاد النور مع النار وتكون اللهب. أي إن هذا اللهب هو الذي أخرج ستة من العماليق اخترع كل منهم شيئًا ينفع العالم، أي كل ما تحتاجه البشرية لرفاهيتها، وهؤلاء العماليق هم (انظر: بنت بطوطة، د.ت، ٢٠١–٢٠٣).
-
(١)
العملاق الأول: اخترع الصيد والقنص.
-
(٢)
العملاق الثاني: اخترع فن تشغيل المعادن.
-
(٣)
العملاق الثالث: اخترع الزراعة.
-
(٤)
العملاق الرابع: اخترع صناعة الطوب.
-
(٥)
العملاق الخامس: أقام العدل.
-
(٦)
العملاق السادس: اخترع فن الملاحة، وكان اسمه أوسوس (Ousoos)، وهو الذي بدأ بمغامرة السفر في البحار فوق جذع شجرة حيث قادته إلى شواطئ سورية، وعلى البحر أقام عمودين أحدهما تكريمًا للريح والثاني تكريمًا للنار، وبنى مدينة صور ووضع نظام العبادة.
إن «أوسوس» أو «أوس» هذا هو ذاته الإله «عوص» الذي تصفه الأساطير الشعبية على أنه كان صيَّادًا في بداية حياته وعاديًّا؛ لكنه اهتدى إلى لبس الثياب من جلود الحيوانات التي كان يصطادها، وأنه بنى هيكلين لإلهتي النار والريح.
وتخلط هذه الأساطير بين كونه إنسانًا أو إلهًا؛ لكنها تضعه مع أخيه «شميم» في مستوى واحد، ويبدو أن عداوةً أو تنازعًا ما قد جرى بين الأخوين (انظر: عبد الحكيم، ١٩٨٢م، ٤٩٨).
فإذا أردنا تحليل ذلك وفق منظور علمي فإننا نقول: إن الإله «عوص» هو نفسه ذلك الإله الذي ظل وما زال غامضًا في المثولوجيا الفينيقية والبربرية والليبية، وهو الإله «أش» وهو إله النار، ولكي ندلل على ذلك نقول: إنه خرج من «النور والنار»، أي من «اللهب»، ثم إنه أقام هيكلين أو معبدين للنار والريح وهو ما يجعل النار دائمة الاستعار، ثم إن هناك تقاربًا بين «أوس» و«أش»؛ ولذلك نرى أن هذا الإله إنما يمثل كتلة اللهب السماوية التي كانت في السماء «شاميم». أما عن الملاحة فنرى أنها وظيفة أخرى له، لها علاقة بجذع الشجرة الذي يمكن أن يشتعل ليلًا ليضيء مسرى الماء.
وفي بحثنا عمَّا آل إليه الإله «عوص» وجدنا، صدفةً، أن هذا الإله قد تجلى بشكل واضح في آخر سلم الآلهة الكنعانية بصيغة الإله «حاسس» الذي يرد دائمًا برفقة الإله «كوثر»، وهما إلها الصناعة والأعمال الحضارية، والإله «حاسس» هو ذاته الإله «أوسوس» أو «عوس»، واسمه يعني بالأكدية «الذكي» أو الحساس (اسمه موجود في اسم اتراحاسس البابلي، منقذ الناس من الطوفان). ويذكر فيلون الجبيلي أن «أوسوس» أول من استخدم جلود الحيوانات كلباس للجسم، وأول من استخدم جذع شجرة كقارب، وهو ما أتينا على ذكره.
ونرى أن الإلهين «كوثر» و«حاسس» كانا إلهين قديمين جدًّا أُنزلا أيضًا من مكانهما القديم إلى إلهين صانعين عند بعل (لترسيخ قوة بعل).
وأن في اقترابهما من النار ما يشير إلى أنهما أصل إله النار الكنعاني «ملكارت» الذي سنراه كابن للإله «عوص».
وهكذا نتج عند هذا المستوى ثلاث قوى هي «السماء، الأرض، النار».
(ب) خلق آلهة العناصر الأربعة
في هذا المستوى ستفصح السماء والنار والأرض عن عناصرها العميقة المكونة لها؛ ولذلك نرى ظهور آلهة عديدة يمكننا في نهاية الأمر القول: إنها تمثل عناصر الطبيعة الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار).
-
(١)
تزاوجت السماء والأرض بصيغة الإلهين «شميم» و«أديم» وظهر منهما مجموعتان أساسيتان من الآلهة الذكور والإناث.
المجموعة الأولى من الذكور تشير كلها إلى قوى الماء الممزوجة بقوى الهواء وهي لذلك تحوي آلهة الطقس والمطر والمياه، وهذه الآلهة هي:- داجون: وهو إله الطقس الذي ظهر في المدونات الأكدية والسومرية، وكان أحد أهم الآلهة الرئيسية عند الأموريين.
- أطلس: وهو الإله «عتل» عند الكنعانيين حيث يروى عنه أنه الإله الذي اخترع الملاحة ومارسها وعلمها للإنسان.
- بتيل: وهو «بيت إيل» ويسميه فيلون الجبيلي «بيتلوس»، وقال بأن الأنصاب الحية تمثله، وهي أنصاب الحجر التي لها قوة سحرية، كما أن بيت إيل الذي كان على المياه عند ملتقى النهرين (لا نعرف أي نهرين) يمكن أن تشير إلى طبيعته المائية، ويقال إن العبريين قد عبدوا هذا الإله إضافة إلى الكنعانيين (انظر: عاموس، ٦٠٤: ٥؛ سفر التكوين، ٣١: ٣، و٣٥: ٧)، وربما دل «بتيل» على بلاد لبنان كلها.
- إيل: وهو أعظم الآلهة الذكور من أبناء السماء والأرض، ويعتبر الإله الأب لكل الآلهة، وسنتناوله بالتفصيل عند الحديث عن أساطيره.
- سيتون: وهو إله الصيد البحري والبري، ومن اسمه جاء الإله «صيد» وبوزيدون، ويمكن أن يكون هو الإله المؤسس لمدينة صيدا.
- عاي: وهو الإله أيا (إله الماء عند البابليين) وعلى اسمه سميت مدينة «عاي».
- بعلتيس: وهي الإلهة الأنثى التي تلقب ﺑ «ديوفه» التي ربما كانت الوجه الأنثوي للإله «أدون» أو «دونسيوس»، أما اسمها «بعلتيس» فيشير إلى ارتباطها باسم الإله بعل الذي يحمل ذات الصفات التهتكية الداعرة لديونسيوس وأدون، وقد تكون هي الإلهة القديمة بعلات (Baalat) ذاتها التي ذكرتها أختام جبيل في الألف الثالث قبل الميلاد على أنها «سيدة جبيل»، والتي تصفف شعرها على الطريقة المصرية، وتحمل قرصًا بين قرنين على رأسها مما يجعلها مشابهة للإلهة المصرية حاتحور (انظر: Larousse, 1995, 73)، ولهذه الإلهة سبع بنات من الإله إيل.
- ريا: تحتل هذه الإلهة الكنعانية مكانة مهمة جدًّا في
البانثيون الإغريقي، فهي زوجة الإله «كونوس»، الذي
يقابل إيل، ومعنى اسمها في اللغة الكنعانية «الأرض»،
فهي إلهة الأرض، وفي العربية تعني المطر الساقط على
الأرض. وهذه الإلهة تمثيل جديد لإلهة الأرض في جيل
الإله إيل، فهي سليلة أمها (أديم، أدمة، أرسو) والتي
امتلكت نفس صفاتها، وهي عند الإغريق أيضًا سليلة
الإلهة الأم «جيا»، وقد جعل الإغريق البدائيون من جيا
الأم العظمى وخالقة لجميع الكائنات، هكذا تأكدت
أفضلية ريا من حقيقة كونها قد جُعلت أمًّا لجميع آلهة
الأولمب العظام. وبالرغم من أصل ريا الأجنبي إلا
أنها سرعان ما اكتسبت ملامح إغريقية خالصة، وادعى
العديد من الأقاليم اليونانية شرف كونها كانت مسرحًا
لسلسلة حوادث إلهية لأسطورتها … وتبدلت شخصية ريا
الهيلينية بتأثير «سيبيل» الإلهة الإيجية العظيمة
التي أدخلت عبادتها قديمًا إلى اليونان، إلا أن
كلًّا من الإلهتين دُمجتا معًا في النهاية (الخوري،
١٩٩٠م، ج٥٠، ٢).
ويبدو أن الإلهة ريا كانت أحد احتمالين؛ فإما أنها كانت الإلهة الأم الجديدة زوجة إيل، وإما أنها كانت إلهة هامشية قبل أو بعد أن رحلت إلى البانثيون الإغريقي. وفي كلا الحالتين حلت الإلهة عشيرة القادمة من البانثيون الأكدي أو البابلي محل ريا، وتحولت عشتار الأكدية إلى عشيرة وأضيفت لها صفات الأمومة بعد أن تهذبت فيها صفات العذراء المغامرة والمحاربة.
ويرى فيلون الجبيلي: أن الإله إيل اتصل جنسيًّا بالإلهة ريا وأنجب منها سبعة أبناء منهم الإله «موت» وهو إله الأرض السفلى (العالم الأسفل)، ويطلق عليه فيلون اسم ثاناتوس Thanatos أو بلوتون Plotonn، لأن «موت» الكنعاني سيقابل إله الجحيم اليوناني والروماني. - عشتارة: ورد ذكرها بعدة أسماء وهي (عشتارت، عشتارة،
عشتارتة، عشترة، عشتورة)، ويجمع الاسم بلفظة عشتروت،
ويعني هذا الاسم بصورة عامة الإلهات «إشتارتي»، الذي
يقابل اسم الجمع المذكر «إيلاتي»، ويعني آلهة.
والأهم في كل هذا هو التفريق بين هذه الإلهة والإلهة
«عشيرة» زوجة إيل.
ويبدو أن هذه الإلهة امتصت صفات العذرية والغنج والجمال والحب من «عشيرة» التي أصبحت إلهة أمًّا فقط. وبلغة أخرى يبدو أن عشتار الأكدية أو البابلية عندما دخلت إلى البانثيون الكنعاني انشطرت إلى إلهتين؛ الأولى هي عشتارت إله الحب والجمال، والثانية هي عشيرة الإلهة الأم زوجة إيل.
وقد حملت هذه الإلهة عدة ألقاب منها «سيدة المعارك، وإلهة الأسيويين» حيث تظهر في إحدى المسلات المصرية كمقاتلة عادية فوق قوس مشدود العنان إلى جسدها وهي ترمي سهامها.
أما لقبها الآخر «ذات القرنين»، حيث ظهرت وهي تلبس رأسًا على شكل ثور يرمز إلى السلطة. أو تاجًا مخروطي الشكل تحيط به من الأعلى ريشتان يبرز تحتهما قرنان، وتحمل بيدها اليسرى عصا طويلة وبيدها اليمنى صليب الحياة المصري (عنخ)، وتلبس ثوبًا طويلًا شفافًا تظهر من خلاله تقاطيع جسدها، وهو ما عثر عليه كنصب كلسي في بيت شان «بيسان» في فلسطين، وكان الحصان حيوانها المفضل وربما رمزها. وتلقب أيضًا ﺑ «سيدة المشاعل»، حيث عبرت بهذا اللقب في «أفقا» قرب بحيرة «يمولة» في لبنان، وقد هربت هذه الإلهة بعد أن لاحقها الثعبان تيفون. وكانت عبادتها هناك مرتبطة بالنار، حيث كانت تُحمل المشاعل وتُشعل النيران على شكل كرات فوق سطوح المعابد، ويروي زوسيموس أنها كانت تلقي كرات ضخمة من النيران من أعلى جبال لبنان باتجاه نهر أدويس إيذانًا ببدء الاحتفال المقدس (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٢٥).
أما اللقب الأخير لها فهو «ضجيعة إيل»، حيث ضاجع إيل إلهتين ظهرتا على شكل مشاعل، وهما «عشتارة» و«عناة»، وأنه بعد مضاجعته لعشتارة ولدت له سبع بنات (تيتانيدس أو أرتميدس) وصبيين هما «باثوس» و«إروس»، وأحيانًا تندمج الإلهة عشتارة مع عشتارت من جيل بعل.
- عشيرة: وهي الإلهة الكنعانية الأم زوجة إيل، والتي صارت
أمًّا لكل الآلهة الكنعانية من إيل؛ حيث استمر نسلها
إلى الأجيال القادمة، وقد حملت ألقابًا عدة، منها:
«خالقة الآلهة» و«الأم» و«إيله، إيلاتو، إيلات»
و«سيدة العموديين» و«ربة اليم» و«سمكة البحر»
و«السارية»، وكان الحمار حيوانها المفضل. وقد كان
لها مظاهر عدة، أو صور عند العبريين والعرب والأنباط
وفي بلاد الشام ووادي الرافدين (انظر: الماجدي، ١٩٩٩م،
أ: ٥٣–٥٦).
نرى أن الإلهة عشيرة ظهرت من إضفاء صفات الأمومة على الإلهة الأكدية عشتار، وربما اختلطت مع إلهتين: واحدة من جيلها هي عشتارة، والأخرى من الجيل اللاحق هي عشتارت. كذلك يجب فرزها عن ولدها أو ولد «بعل» عشتر (عشتار). ولا بد من تذكر أن الإلهة الآرامية «عتر» ظهرت من عشتار أيضًا، وكونت أساس اسم عترغاتس، التي ننفي عنها كونها ظهرت من دمج «عناة + عشتارة»؛ بل هي الإلهة الآرامية عتر اندمجت فيها صفات عناة (شكل ٢-١٩، ٢-٢٠) ويمكننا جمع كل هذه الاستنتاجات في جدول واحد مبسط كما يلي:
- أنوبرت: وهي حورية مائية تزوجها الإله إيل وأنجب منها
الإله «وحيد» أو «جنود» وهو الإله الذي ضحى به
لوالده الإله شميم إله السماء عندما أصاب الوباء
والجرب الأرض.
وفي تأملنا لاسم أنوبرت وجدنا أن لهذا الاسم علاقة بالإلهة «بيروت» أو «برت» التي ستظهر في جيل بعل. والإلهة بيروت مشتق اسمُها من الكلمة الكنعانية «برت»، أي: «الروح»، فهي حورية مائية تمثل إحدى تجسدات الروح الكلي المائي عند الكنعانيين.
وقد ذهبنا لأبعد من ذلك فنحن نرى أن هناك علاقة بين اسم برت أو بيروت الكنعانية والكلمة المصرية بيريت Peret تعني «بذور»، وربما كان لها علاقة بكلمة «بر» التي تعني «بيت»، وفي كلا الحالين فإننا نرى أن البذور تدل على صفة الخصب، وأن البيت تدل على المكان والمستقر الأرضي، وهذا يعني أن هناك إيقاعًا خفيًّا بين الاسمين الكنعاني والمصري.وقد حمل الكنعانيون الإلهة بيروت أو بارات عبر البحار وعبر مضيق جبل طارق، وأطلقوا اسمها على الجزر البريطانية التي ما زالت تحمل هذا الاسم «باريتانيا».
وتظهر بارات كإلهة مصرية تحمل صليب الحياة بيد وعصا الملوكية بيد أخرى، وهي من الفترة المصرية الفرعونية، وهناك نقش نقدي مصري هيلنستي يطابقها مع تاريكي؛ حيث تظهر حاملة قرنَ الخصب، وهناك نقش آخر من العصر القبطي المسيحي يظهرها حاملة الصليبَ تحيط بها كتابة لاتينية (الشكل ٢-٢١).
هكذا يظهر لنا جليًّا أن جيل إيل الذي يمكن أن نطلق عليه اسم «الإيليون» هو جيل يتضمن بشكل أساسي عنصري «الماء والتراب» من خلال آلهته التي تعرفنا عليها.
أما عنصرا «النار والهواء» فيرتبطان بالأصل السابق الذي نشأ في جيل الآلهة السابقة «السماء والأرض»؛ حيث تخبرنا الأساطير التي ترد تواترًا عن سانخونتين أن الإله «عوص» أو «أوسوس» أنجب ولدين الأول هو «دامور» أي النخيل أو التمر، ثم أعقبه هرقل أو هرقل (أول من اخترع الأرجوان وقلد به عشترون) (انظر: عبد الحكيم، ١٩٨٢م، ٤٦٨–٤٩٩).
وتمنحنا هذه الإشارة الفرصة لتأمل طبيعة هذين الإلهين فالإله «دامور» هو الإله «ذ.مر» الذي أطلق عليه «أمورو» إله الأموريين. والحقيقة إن مثل هذا التخريج حسن الهدف وسيئ النية؛ فهو يريد القول إن الأموريين يعبدون إلهًا ضمن البانثيون الكنعاني، وبذلك يجعلهم فرعًا من الكنعانيين، وقد أوضحنا الأصل الواحد لهما من خلال الإلهتين «يم، وإم».
يرد اسم الإله دامور أيضًا بصيغته الإغريقية «دماروس»، حيث تقول الأسطورة الهيلنستية: إن الإله أطيختون (وهو مقابل شميم الكنعاني) كانت له محظيات كثيرات يغيظ بهن زوجته «أدمة» وقد أنجب من إحداهن الإله دماروس، الذي أنجب بدوره الإله ملكارت، الذي هو «هرقل»، وعمورو هو الإله القومي للأموريين والذي كان ينظر إليه كإله كواكبي أو سماوي أو إله عاصفة وهواء.
إن الإله «دامور» هو مصدر كلمة «تامور» ويسمى أحيانًا بها، وهي كلمة تدل على «التمر» ثمرة النخيل ويدل على النخلة كلها، ومنه اشتقت كلمة «ثمر» الشاملة.
وقد تأملنا كثيرًا في مصدر هذه التسمية فوجدنا أنها إما أن تكون قد أتت من اسم الإله «ذ.مر»، وهو الإله الأموري القديم الدال على السماء أو الأرض (ذات اللون البني أو الأحمر). أو من الإله «دموزي» أو «تموز» وهو الأرجح عندنا؛ لأن هذا الإله مخضب بالدم وهو اللون الأحمر الذي يدل على كيس خضاب النخلة، أو يدل على التمر الأحمر اللون … ولسبب آخر، لعله الأهم في استنتاجاتنا هذه، هو أن الرمز السومري والبابلي للإله «دموزي» أو «تموز» هو النخلة التي تعلو قمتها دائرة الألوهية، وهو حصرًا رمز الإله «دموزي أشمخوقال أنا» إله الإخصاب المسئول عن تلقيح النخيل، ثم صار يشير إلى قوة الإخصاب في الحيوان والنبات والطبيعة كلها. والحقيقة أن كل هذه الإشارات تريد أن تفصح عن اللون الأحمر الذي هو جوهر الآلهة الثلاثة «عوص، تامور، ملكارت»، وهو ما يجعلها مرتبطة بفكرة النار ذات اللون الأحمر أيضًا، وهو ما كان من أصل تسمية الكنعانيين والفينيقيين كما أسلفنا في الفصل السابق، وهو ما يجعلنا نظن بأن «تامور» هو نفسه «تاموز» أو «تموز».
الابن الثاني للإله عوص هو الإله «ملكارت» وهو نظير «هرقل» الإغريقي ونظير «نرجال» السومري البابلي الذي كان إله النار والأمراض والعالم السفلي، وكان الإله ملكارت إله مدينة صور وابنتها قرطاج … ولعل وضعه أخًا للإله «دامور» يأتي من فكرة وجود «تموز» و«نرجال» سوية في العالم الأسفل بعد أن ينزل تموز إلى العالم الأسفل.
الإله «ملكارت» هو إله النار الكنعاني بامتياز، ويبدو أن الأساطير الهيلنستية الكنعانية وحدته مع الإله «عوص» ودمجتهما في شخصية واحدة، ويبدو أن الإله ملكارت هو الذي أشاع العدل في مدينة «صور»، ثم بنى أسطولًا بحريًّا وغزا البحر المتوسط وجزره، مثل: «رودس، مالطة، كريت» حتى وصل إلى مضيق جبل طارق وسمى هذا المكان ﺑ «أعمدة ملكارت» التي أبدلها الإغريق ﺑ «أعمدة هرقل»، ثم سار باتجاه السواحل الأطلسية جنوب غرب إسبانيا وأسس مدينة «قادش» الساحلية و«هسباليس» في الداخل، وتقول الرواية إنه بنى ٢٠٠ منشأة على سواحل إسبانيا والبرتغال تابعة لصور، وتوجه نحو السواحل الأفريقية وأسس قرطاج التي تحمل بعضًا من اسمه؛ حيث ملكارت يعني «ملك المدينة»، وقرطاج تعني «المدينة الجديدة». وأسس المدن الأخرى على الساحل الأفريقي ثم استولى على كورسيكا وسردينيا (التي أخذ اسمها من اسم ولده سرد)، ثم دخل صقلية وأسس مدنًا عدة فيها، ثم توجه ملكارت إلى إيطاليا حتى وصل إلى شواطئ الغال وبنى ماسيليا أو مرسيليا (انظر: بنت بطوطة، د.ت، ٢٠١–٢٠٣).
وتعطينا هذه الرواية انطباعًا بأن الفينيقيين حملوا الإله ملكارت وغزوا به سواحل وجزر ومياه البحر الأبيض المتوسط الذي أصبح، إذا صح التعبير، «بحر ملكارت»، وكانت «صور» هي عاصمة هذه الإمبراطورية البحرية.
ولا نغالي إذا قلنا إن جزيرةً ربما سميت باسم هذا الإله «كرت» أي القرية أو المدينة، وإن أول من حكمها هو الملك مينوس الذي كان ابن زوس من الأميرة الفينيقية أوروبا وهي ابنة الملك الفينيقي «أجينور».
وكان البحر الأبيض المتوسط بالذات، يسمى «راش ملكارت»؛ ولذلك كانت عبادته مرتبطة بالبحر مثلما ارتبطت بالنار؛ فقد أقيمت له معابدُ عند سفوح الجبال الساحلية. وينطبق مثل هذا على نهر بيروت الواقع شرق بيروت «وأكثر الكتاب المحدثين يرون أنه هو النهر الذي دعاه بلينوس الطبيعي نهر ماغوراس، وأنه كان من أنهار الفينيقيين المقدسة؛ إذ دعوه بذلك اشتقاقًا من اسم الإله ملقار وهو اسم زحل بلغتهم» (اليسوعي، ١٩٨٢م، ٤).
كانت مدينة صور تحتفل بمهابة ووقار في شهر كانون الثاني من كل عام باحتفال يسمى «بعث ملكارت»، وهو احتفال يختلف عن الاحتفالات الخصبية لمنظومة الآلهة البعلية من الجيل القادم؛ فقد كان يجري على محرقة وذلك بحرق تمثال كبير للإله ملكارت لوحده أو وهو يركب حصان البحر (وهنا يجب أن نتذكر إله البحر اليوناني ملكرتيس الذي هو ملكارت البحري). وكان محظورًا على الغرباء حضور هذا الاحتفال الناري، وهناك إشارات إلى أن إنسانًا أو كاهنًا كان يحرق باعتباره الإله ملكارت، وكانت تجري طقوس تمثيلية في هذا العيد تتضمن طقوس الحرق أولًا، ثم طقوس بعث ملكارت التي كانت تتم بحركات درامية، حيث تستعاد أسطورة رحيل ملكارت إلى ليبيا وقتل التنين «تيفون» لملكارت وهو في طريقه إلى هناك، حيث تتم عودته إلى الحياة عندما يقوم «أيولاوس» بوضع طيور السلوى وهي حية في أعياد ملكارت التي كانت تضبط أوقاتها، في غير موعدها المعروف، عندما تعود الآلاف من هذه الطيور إلى أرض كنعان في ليلة واحدة من ليالي آذار، «ولعل الإغريق كثيرًا ما راقبوا في دجى الليل ألسنة اللهب تحرق ملكارت على كل شاطئ وفي كل ميناء؛ حيث أقام الفينيقيون متاجرهم ومصانعهم، فعلموا، وقد امتلئوا دهشة، أن هؤلاء الغرباء العجيبين إنما يحرقون إلههم، وربما نبتت أسطورة هرقل ورحلاته وموته في النار من هذه المحارق، بيدَ أن الإغريق لم يستعيدوا الأسطورة فحسب، بل عادةَ حرق الإله أيضًا وسط اللهب على جبل أوتيا، ونظن — وإن لم يكن لدينا نص صريح على ذلك — أنهم كانوا أيضًا في كل مرة يحرقون تمثالًا لهرقل في المحرقة» (فريزر، ١٩٧٩م، ١٠٥-١٠٦).
وإذا كان النظير الإغريقي له هرقل، فإن نظيره الروماني هو «باخوس» أو على الأقل أنه كان يُعبد في روما إلى جانب باخوس أو ديونسيوس، وهذا يعني ارتباطه بأعياد القصف والمجون والخلاعة والخمر.
وكان الإله ملكارت سيد الآلهة في صيدا وقرطاج، وقد ذكره هيرودوس وقال: إن معبده يحتوي على عمودين طويلين أحدهما من الذهب والثاني من الزمرد، وكان العمودان يضيئان في الليل، وارتبط ملقارت بالبحر والملاحة، ويوجد مرفأ باسمه في صقلية، ولا يستبعد أن تكون أعمدة هرقل هي نفس أعمدة ملقارت، وقد قتل بالنار واحتفل الكنعانيون بصحوه السنوي في شهر كانون الثاني (انظر: كورتل، ١٩٩٣م، ٥٠-٥١).
لقد ظهر اسم الإله «ملكارت» دائمًا مع اسم الإله «أشمون» على أنهما إلها قسم، وهو ما أظهره العقد الموقع بين الملك الآشوري أسرحدون مع بعل ملك صور (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٤٢).
وقد كان الإله «أشمون» إله النار في الجيل البعلي الذي كان يرتبط بعلاقة مع الإله «أدون» من نفس جيله، أي إن الإيقاع المتمثل بظهور الإلهين «دامور وملكارت» في جيل إيل هو ذاته الذي أظهر الإلهين «أدون وأشمون» في جيل بعل لتطابق وظائف هذه الآلهة مع بعضها، وهي وظائف تتراوح بين «الخصب والنار» ويجمعها نبض العالم الأسفل.
•••
لقد ظهر في جيل الإله إيل مع الآلهة الممثلة للعناصر الكونية الأربعة مجموعة من المردة والعماليق والجبابرة والشياطين، بعضها اكتسب صفات إيجابية خيرة مثل عماليق الحضارة، وبعضهم اكتسب صفات سيئة شريرة مثل تيفون.
وتذكرنا هذه الصورة بما ظهر في جيل التيتانات (جيل كرونوس) في البانثيون الإغريقي حيث ظهرت، بالإضافة للنسل المرتبط بكرونس مثل ريا وأوقيانوس، مجاميعُ أخرى من الكائنات المُخِّيَّة مثل الصقالبة (السيكلوب ذوات العين الواحدة) والعمالقة ذوي المائة يد وغيرهم.
أما في البانثيون الكنعاني فإن الصورة هنا ما زالت مشوشة بعض الشيء حول هذه المخلوقات والتي يمكن أن نصنفها كما يلي:
(ﺟ) عماليق الحضارة (معلمو البشر)
وهم مجموعة من الكائنات الإلهية الضخمة التي ذكرها كل من فيلون الجبيلي وسانخونتين؛ لكنَّ هناك اختلافًا حول عددها وأسمائها، ولكننا نذكرها هنا لأنها التي قدمت للإنسان نواميس الحضارة وسبل الحياة، وهم يشبهون من هذه الناحية اﻟ «أبكالو» السومريين، وهم الحكماء السبعة الذين قدموا الحضارة للبشر وكانوا مثل مخلوقات الإله «إنكي» أو «إيا» يظهرون بأشكال سميكة (انظر: الماجدي، ١٩٩٨م، ١٧٠).
- (١)
فوس الذي اخترع الضوء.
- (٢)
فير الذي اخترع النار.
- (٣)
فلوكس الذي اخترع الشعلة.
- (٤)
هفسورايلوس الذي اخترع أو استعمل ألواح القصب.
- (٥)
خوسور الذي استعمل المعادن.
- (٦)
صيد إله الصيد البري والبحري.
- (٧)
تحوت (تؤوتوس) الذي اخترع الكتابة.
- (٨)
إله الزراعة والري.
- (٩)
إله الماشية.
- (١٠)
إله الطوب.
- (١١)
إله صناعة الألبسة.
- (١٢)
إله العجلات.
ويضاف لهؤلاء ملكارت (إله العدل)، وأوسوس (إله الملاحة).
وظهر من أول الآلهة والبشر نسل «النور والنار واللهب»، وكان عددهم حوالي مئتين من ذرية كنعان الأولى، الذين تزاوجوا وأنجبوا أولادًا ضخامَ الأجسام، طوال القامات، وسميت الجبال التي ملكوها بأسمائهم وهي «قاسيون، لبنان، أنيتلبانان، براتي» الذين نرى أنهم يميلون لكونهم آلهة أكثر من كونهم بشرًا، أو أنهم أنصاف آلهة مثل عماليق الحضارة.
(د) تيفون
وهو التنين الكبير الذي يقابله بنفس الاسم تيفون الإغريقي الذي يقاتله هرقل، في حين يقاتل ملكارت هذا التنين وهو في طريقه إلى ليبيا. وسيظهر هذا التنين تحت اسم «يطفن» في أسطورة بعل وأمهات، وتطابق كلمة «طفن» معنى «قتل»، ونرجح أن يكون تيفون هو جذر الأفعى في أسطورة الجنة التوراتية.
(أ) الأنثربوغونيا الكنعانية (خلق الإنسان)
ظهرت الطبيعة والآلهة في أساطير الخليقة السابقة وكأنها شيء واحد، فهل اختلف خلق الإنسان عن ذلك؟
الإنسان من الأساطير الكنعانية خلق مع الآلهة الأولى، الكونية منها بالذات، وبدا كما لو أن الإنسان كان في بدايته إلهًا، أو أن الآلهة، كلها، كانت بشرًا ثم وقع التأليه عليها.
ورغم أنه لا توجد صراحة أسطورة خلق أنثروبوغونية (خاصة بالإنسان) كنعانية في مدونات أوغاريت أو نصوص ببلوس أو النصوص الهيلنستية، إلا إن ذلك لا يمنعنا من استنتاج خاص لهذه الأنثروبوغونيا.
إن هذه الأنثروبوغونيا التي ما زالت قيد الغيب ولم تكشف عنها الآثار حتى يومنا هذا تحف بها أنثروبوغونيات مشابهة سومرية وبابلية وإغريقية؛ ولكننا يجب ألا نندفع بسهولة وراء مثل هذه المغريات إلا إذا وجدنا مسوغًا حقيقيًّا ومقنعًا لذلك. إننا لا نجد، بصراحة، ما يشير إلى ذلك ولذا نحذر من الاندفاع في الاستنتاجات والفرضيات. ماذا نفعل إذن؟
لقد اهتدينا إلى حل آخر انطلاقًا من منطقة مثولوجية أخرى هي المثولوجيا العبرية، فهي القادرة على الإيحاء بما كانت عليه الأنثروبوغونيا الكنعانية، وهذا يعني أن الكنعانيين هم الذين ابتكروا أسطورة خلق الإنسان الأول، ثم أخذها عنهم العبريون، وهو ما يتفق مع آراء العلماء حول الجذور الكنعانية للمثولوجيا الأولى.
كيف يمكن تخيل الجذر الكنعاني لهذه الأسطورة «على مستوى الأسماء»؟ لنعد إلى شجرة الآلهة الكنعانية حيث نرى أن الإله الأول «يم» يلد «شمتم» الذي يظهر منه إله ذكر هو «شم» وإلهة أنثى هي «تم» ومنهما ظهر نسل الآلهة اللاحقة.
ولنقف هنا قليلًا.
لقد نظر الكنعانيون إلى خلق الآلهة والبشر سوية ووضعوا سياقًا واحدًا لهما واعتبروا أن الآلهة والبشر والكون قد ظهروا من إله واحد أزلي قديم هو الإله «يم». وهو ما يختلف عن نظرة السومريين والبابليين لخلق الإنسان، ويتفق مع نظرة المصريين لخلق الإنسان.
رأى الكنعانيون أن الإله «شمتم» أظهر منه وفق سياق واحد الآلهة والبشر، ولذلك كان يجب التمييز بينهما على صعيد الأسماء وهكذا نرى أن «شم» الإله يتحول إلى «شاميم» وأن «تم» الإلهة تتحول إلى «أديم» وهي أدمة أو أرسو إلهة الأرض.
أما «تم» المرأة الأولى فهي «دم» و«دمة» و«أدمة» لكنها بهذه التسمية تطابق إلهة الأرض ولذلك أعطيت اسمًا آخر كان موجودًا في المثولوجيا السومرية هي «ننتي» … التي كانت تُوصف بأنها ابنة إله السماء وهي إحدى إلهات الشفاء وتسمى «السيدة التي تحيي»، أي: «حواء» هكذا طوبقت «أدمة» مع «حواء» وأصبح اسم حواء هو الدال عليها ولكي نثبت هذا نقول إن اسم الإلهة «ننتي» كان يعني أيضًا «سيدة الضلع»؛ لأن كلمة «تي» تأخذ معنيين هما «حياة» و«ضلع». وهكذا استدعى هذا الخلط ابتكار الأسطورة العبرية الشهيرة التي تقول بأن حواء خرجت من ضلع آدم، خصوصًا وأن أسطورة «إنكي ونخرساج» تشير إلى ذلك عندما تقوم الإلهة «ننتي» بمشافاة ضلع إنكي (انظر: كريمر، ١٩٥٧م، ٢٠٥).
والآن بقي لدينا الإله «شم» الذي كان يجب أن يتميز أيضًا عن الرجل الأول «شم»، وقد تم ذلك عن طريق تذكير اسم حواء القديم «أدمة» وجعله مرادفًا له لكي يتم التخلص من اسم الإله «شم»، وهكذا أصبح «شم» الرجل هو «آدم».
وأصبحنا الآن أمام أربعة أسماء متداخلة ومتناظرة هي «شم» الإله الذكر ومعه «آدم» و«أدمة» الإلهة الأنثى ومعها «حواء».
وبالطبع فإننا لا نعرف على وجه الدقة ما هي الأسطورة الكنعانية لخلق آدم وحواء، رغم أننا كشفنا عن أصل اسميهما، ولا نعرف كيف حور وتصرف العبريون بهذه الأسطورة ونحتوها وفق معتقداتهم.
وإذا مضينا في الاستنتاجات فسنجد أن أبناء آدم وحواء في الأسطورة العبرية تتفق مع تسلسل الآلهة الكنعانية ويمكن استنتاج أسمائهم منها أيضًا (انظر: المخطط (٤)).
يظهر إلهان رئيسيان من «شم» و«تم» هم شميم وأوسوس «عوس» ويجري استبدال صورتهما البشرية بأسماء جديدة حتى لا تختلط بأسماء الآلهة، وهنا يجري نوع آخر من نحت الأسماء.
الإله «شميم» هو أب للإلهة إيل ولذلك يسمى «أب إيل» ثم يتحور هذا الاسم ليتكون اسم «هابيل» وهو اسم الابن الأكبر لآدم وحواء والذي يناظر الابن الأكبر للإله شم أو شام.
الإله «أوسوس» أو «عوس» أو «أش» وهو الإله المرتبط بالنار يسمى بشريًّا «أخ أب إيل»؛ لأنه فعلًا أخ شميم، ويتحور هذا الاسم إلى «أخابيل» ثم تتحول الخاء إلى قاف فيكون «قابيل»، وهو اسم الابن الأصغر لآدم وحواء والذي يناظر الابن الأصغر للإله شم.
وقد ذكرنا أن عداوة تنشأ بين الإلهين «شميم» و«عوص» ولذلك تنسحب هذه العداوة بين الولدين «هابيل» و«قابيل»، ويأخذ هابيل شكل الراعي، أما قابيل فيأخذ شكل الفلاح، وتعيننا الأسطورة السومرية التي تتحدث عن المنافسة بين الفلاح والراعي.
ويقوم قابيل بقتل هابيل، وهكذا يجنح نسل قابيل نحو الجنس البشري أكثر، ويظهر من نسل عوص معلمو الحضارة الأوائل، أما نسل هابيل فيبقى في إطار الآلهة رغم أنه ينقطع على مستوى البشر لكن نسل قابيل هو نسل ناري شرير في الجوهر. لذلك يخترع مؤلفو الأسطورة العبرية شخصًا آخر من آدم وحواء من نسل «شميم وأدمة» هو الإله «سيتون» الذي يتحول بشريًّا إلى الإله «شيت» الذي تنحدر من سلالته البشر الأتقياء ويظهر منه بقية المصلحين القدماء (أنوش، مهلئيل، يارد، أخنوخ، متوشالح، لامك، نوح) عند العبريين.
ولا نملك، كنعانيًّا، ما يدعونا للاسترسال مع بقية هذا النسل. ونكتفي بإثباتاتنا السابقة حول أصل أسماء آدم وحواء وقابيل وهابيل وشيت وهو في رأينا استنتاج جديد لم يذهب إليه أحد قبلنا. ونضيف هنا إلى سلسلة الاستنتاجات السابقة التي فصلناها.
ورغم أن الحديث الغامض والملتبس الذي يتحدث به فيلون الجبيلي حول البشر الأولين لا يمكن أن يكون مقنعًا إلا أننا نذكره هنا على سبيل التوثيق فهو يرى أن الريح تزاوجت مع باعو وأنجبت أيون (الحياة) و«يون» الأول وهو الابن البكر اللذان أنجبا يون الذي هو آدم وبينا التي هي حواء. ومن تزاوجهما ظهر النور والنار اللذان أنجبا العماليق.
هذا الكلام المشوش والذي تشوبه المسحة الهيلنستية لا يمكن أن يكون دقيقًا رغم أنه يحوم حول الاستنتاج الدقيق الذي وضعناه. إن البشر وفق الأساطير الكنعانية تعلموا الحضارة من آلهة الحضارة أو عماليق الحضارة الذين تختلط شخصياتهم بالشخصيات الإنسانية مثل صيدون وملكارت وتؤوتوس (تحوت) و«خوسور» … إلخ، وهذا التداخل طبيعي جدًّا بالنسبة للشخصيات المتعايشة مع بعضها والحالة واحدة مكان الأخرى.
(٣-٢) أساطير إيل
لا تسعفنا الآثار الكنعانية بالكثير من أساطير إيل التي نرى أنها المركز الأول الكبير الذي تلتف حوله المثولوجيا الكنعانية، يليه في ذلك الإله بعل؛ لكن أخبار وحكايات وإشارات الإله كثيرة إضافة إلى أساطيره الصريحة، أو التي يأتي ذكره فيها.
وقد اهتدينا إلى وضع مخطط افتراضي يشير إلى دورة حياة الإله إيل والأساطير التي يمكن أن توجد في سيرته من خلال تلك المعلومات المبعثرة عنه:
(أ) أساطير مرحلة القوة
-
• ولادة الإله إيل وحجزه
لأبيه: حيث يرى فيلون الجبيلي وسانخونتين أن الإله «شاميم» إله
السماء كان له زوجات كثيرات أنجب منهن ذرية لا حصر لها، ومنها
أنه هجر زوجته إلهة الأرض «أدمة» وحاول قتل أبنائها مرارًا
وبلا هوادة، لكن ابنه البكر إيل عندما كبر واتخذ من الإله
«تحوت» أو «توت» إله الكتابة (الذي عرفه الساميون فيما بعد في
الملاك جبرائيل) كاتبًا لأسراره، ثم أشعل حروبًا طاحنة ضد أبيه
لإهانته لأمه الأرض، وهكذا تمكن بعد ذلك من الانتصار على أبيه
وتمكن من اصطياده وحبسه في أعماق الهاوية.
ثم بدأت مرحلة البناء فبنى الإله إيل مدينته الأولى «جبيل» أو «ببلوس» في فينيقيا، وسمي، بعد أن أصبح ملكًا للآلهة مكان أبيه، باسم «إيم ألوهيم» أو «رب الأرباب».
وبذلك يشبه إيل الإله الإغريقي كرونوس إله الزمان، ويرى فيلون أن إيل يملك أربع عيون: عينان إلى الأمام، وعينان إلى الخلف، عينان مفتوحتان، وعينان نائمتان. ومعنى هذا أنه كان في مقدور هذا الإله إيل أن ينام متيقظًا ويستيقظ وهو نائم (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٤٧).
ويذكر أن له ستة أجنحة وسبعة رءوس.
- • تضحية إيل بابنه «شديد»: كان لإيل ولد وحيد اسمه «شديد» أو «سديد»، وكان إيل يخاف من أن تكرر الأقدار أفعالها ويقتله ابنه هذا مثلما فعل هو مع أبيه، فقام بقتل وذبح ابنه هذا، ثم فعل نفس الشيء مع ابنته.
-
• شاميم يبعث له
بابنتيه: سئم والده شاميم من الحجز فبعث له بابنتيه «عشتروت» وأختها
«ريا» التي كانت تسمى أيضًا «ديونا» و«سميرنا» و«بعلتي»
للإيقاع به، لكن إيل تمكن من استمالتهن وتزوج بهن، وإذا اتفقنا
مع الشجرة الإلهية الكنعانية فإن «ريا» ستكون غير بعلتيس، وهكذا
تلد أخواته الثلاث مجموعة من أبنائه وكما يلي:
- (١) من «عشتروت» ينجب سبع بنات تيتانات (طيطيات) أو الترابيات.
- (٢) من «ريا» ينجب سبع ذكور هم الكروبيم، ومنهم الإله «موت» وهم آلهة الأرض السفلى أو الشياطين.
- (٣) من «بعلتيس» أو «ديوني» ينجب سبع بنات.
- • زوجته الكبرى «عشيرة»: لكن زوجته الأساسية هي عشيرة وهي الإلهة الكنعانية الأم وريثة أمها إلهة الأرض «أدمة»، ومن عشيرة ينجب الإله إيل سبعين إلهًا هم آلهة الطبيعة الجدد، وهم نسل الجيل القادم، وعلى رأسهم بعل وعناة اللذين سيرثان مقام إيل وعشيرة.
- • قتله لأبيه شاميم: بعد أن حكم إيل ٣٢ عامًا عاد فأوقع بأبيه الذي حاول أن يتخلص من أسره، وحين أمسكه مزق أطرافه وأعضاءه وألقى بها مع دمه في مياه الينابيع والآبار والأنهار.
-
• توزيع الأرض على زوجاته
وأبنائه: بعد أن أصبح الإله إيل الملك المطلق للكون والأرض وزع الأرض
على زوجاته وبناته وأولاده، وكان من حصة زوجته عشتروت أثيكا في
اليونان، أما بعلتي فأخذت عاصمته «جبيل»، أما بيروت فقد منحها
لبوصيدون إله البحر. واكتفى هو وزوجته بمكان إقامته الدائمة
عند منبع النهرين (ولا نعرف أي نهرين)، وقرب مصدر المحيطين
«ثمتم Thmtm» وتشير هذه الكلمة
إلى مفردها «ثمت أو تمت»، وربما أشارت إلى تيامت إلهة المياه
الأولى البابلية، وبذلك يمكن أن يكون النهران هما دجلة والفرات
لأنهما ينبعان من مياه المحيطين عند البابليين (انظر: الماجدي،
١٩٩٩م، ٤٥).
ويقال إن إيل كان يسكن جزيرة عند منبع النهرين، وبذا يقربنا هذا المشهد من صورة «دلمون» جزيرة البحرين في الخليج العربي التي يمكن أن تكون أرض إيل … ولِمَ لا؟ فقد كانت في الأساطير السومرية أرض إنكي «إيا» إله الماء القريب في صفاته من إيل، وهي الجنة السومرية القديمة، وقد يقربنا هذا الاستنتاج من الأصل الرافديني للكنعانيين الذين تحدثنا عنه سابقًا.
- • منح مصر للإله تحوت: كان الإله «تحوت» أو «توت» هو الذي أعان إيل في شبابه وأصبح مودعَ أسراره وموجهه في التعامل مع أبيه واحتجازه؛ ولذلك أعطاه إقليم مصر تحت حكمه. والإله «تحوت» يرجع في أصله إلى الإله «توت» أو «توتو» وهو لقب الإله البابلي الآشوري «تيو» إله الحكمة والكلمة وابن الإله مردوخ.
(ب) أساطير مرحلة الضعف
يبدو أن تقسيم مملكة إيل واعتزاله الحكم في جزيرة نائية تشكل بداية مرحلة الضعف وبدء الشيخوخة؛ ولكنها لم تأت دفعة واحدة بل استغرقت زمنًا طويلًا، فقد أصبح الإله إيل مشرفًا ومرشدًا رمزيًّا للعالم والبشر.
(١) أسطورة التضحية بولده جنود أو وحيد
ربما كانت كارثة الوباء أو الجفاف هي ذاتها السنوات السبع العجاف التي عالجها إيل بالتضحية بابنه «جنود» أو «وحيد» من حورية البحر «أنوبرت» أو «عين عبريت» أو «عفريت» والتي نرى أنها الإلهة «بيروت» أو «بارات» إلهة مدينة بيروت، التي رفعها فيلون الجبيلي إلى مستوى الإلهة الأم قبل إيل وزوَّجها بالإله «عليون»، الذي جعل منه إلهَ السماء مكان شاميم كما أسلفنا.
وكان ابنها هذا وحيدًا؛ ولكنه لاقى نفس المصير الذي لاقاه سديد فقام بالتضحية به فوق المذبح وهو يرتدي ملابسه وإشاراته الملوكية في سبيل والده إله السماء (ربما لأنه شعر بالذنب، وربما دعاه لينزل المطر في هذه السنوات العجاف). وتشبه هذه الحادثة ما فعله إبراهيم مع ولده إسماعيل (في الرواية العربية) ومع ولده إسحاق (في الرواية العبرية) خاصة وأن هناك من يطابق بين إبراهيم وإيل.
(٢) أسطورة ولادة الآلهة الجميلة والقبيحة والسابوع الإلهي
ويمكن أن نسميها أيضًا أسطورة نهاية السنوات السبع العجاف وبداية السنوات السبع السمان (دورة السنوات السبع). ويتكون نص هذه الأسطورة من حوالي ١٢ مشهدًا هي كما يلي:
-
(١)
دعوة الآلهة والملك والملكة لحضور الاحتفال في الهيكل ونجد معهم أتباعهم والقادة العسكريين والمدنيين والكهان، وهذا الحقل مخصص لتجديد قوى إيل التناسلية بعد تقدمه في السن لتنتهي السنوات السبع العجاف وتعود قوى الخصب والخير إلى الأرض.
-
(٢)
طقس فرك الكروم: حيث تجري عملية تهذيب الكروم التي ترمز إلى الموت، ثم تجديد الحياة، وهي نوع من القداس الإلهي تجري فيها قطع وبتر شخصية إلهية تسمى «الموت والشر» صاحب صولجانَي الحرمان والترمل. وهو الكرم أو إله الكرم، ويشير لون الكروم الأحمر المائل إلى السواد إلى هذا القداس الإلهي.
-
(٣)
تلاوة نشيد الولادة وحفظ الآلهة السبعة الخيرة (السابوع الإلهي) الذي سيرعى فيه كل إله سنة من السنين السمان القادمة.
-
(٤)
طقس طبخ الجدي في لبن أمه: وهو طقس كنعاني قديم معروف (تذكره التوراة معترضة عليه)، ويتم ذلك في حقول عشيرة الفردوسية زوجة إيل ومعها عناة ابنتها.
-
(٥)
صراع عناة (رحماي لاس) مع البطل الطيب، وهو مشهد يصور شخصية عناة (ابنة إيل) وقوتها أمام الأبطال.
-
(٦)
مشهد مساكن الآلهة والشعائر ذات الأركان السبعة.
-
(٧)
الغيرة على الأسماء الإلهية لمعبودات «أبناء شاروما».
-
(٨)
دعاء الإلهة الطيبة التي ستلد وترضع ثدي عشيرة، ويقوم كبار القوم بتحضير الضحايا الطيبة للمأدبة.
-
(٩)
مشهد حقول الفردوس حقول عشيرة وعناة.
-
(١٠)
المشهد الرئيس الأول: ولادة إلهي الفجر والغسق.
ويبتدئ هذا المشهد عند ساحل البحر؛ حيث يظهر الإله إيل الشيخ وهو يخلق إلهتين على النار، وربما كان هذا المشهد هو قيام الإلهتين عشيرة وعناة بالرقص قرب النار على الساحل؛ حيث يردد الراقصون أمامهما نشيدًا لإكثار حليب الثدي؛ لأن وظيفتهما إرضاع الآلهة القادمة الجديدة، وتتم الإشارة إلى أن إيل في هذه السنوات العجاف ما زال فاقدًا لقواه الجنسية، فهل ستقوم الإلهتان بإحياء قواه الجنسية؟ ثم يدخل إيل والإلهتان إلى منزله وهناك يتعرى إيل لكن قضيبه ينزل (غير قادر على الانتصاب). فيتدارك الموقف وينطلق إلى السماء ويصيد طائرًا ينتف ريشه وينظفه ثم يشويه على النار، ويحاول مجامعة الإلهتين:«إذا صاحت النساء أيها الزوج الزوجلقد أُنزل قضيبكوسقطت عصا يدكحين يشوي الطائر على النارنعم يشوي على الفحمثم إن النساء زوجات إيلزوجات إيل وله إلى الأبدولكن النساء إذا صحن: يا أبتاه، أبتاه.هبط قضيبكوسقطت عصا يدكحين يُشوى الطائر على النارنعم يُشوى على الفحموالبنات بنات إيلبنات إيل إلى الأبد» (جوردن، ١٩٧٤م، ١٦٣).ولكن العجز الجنسي يكون قد دب نهائيًّا في أوصال إيل ولا ينجح في مضاجعتهما جنسيًّا، لكنه يخترع طريقة أخرى هي الاتصال العاطفي بدلًا من الاتصال الجنسي، فينحني عليهما ويقبِّل شفاههما الحلوة كالرمان (ومن التقبيل يكون الإخصاب ومن الإخصاب يكون الحمل) كما تقول الأسطورة. وهكذا تدخلان في المخاض وتلدان إلهين هما الإله شهار والإله شاليم، إلها الفجر والغسق، وهما إلهان جميلان يمكن أن تكون وظيفتهما في مساعدة فعل الإخصاب في السنوات السبع السمان؛ ولكنهما ليسا إلها إخصاب بالمعنى الدقيق؛ إنهما إلها حب وعاطفة وهكذا يرفعهما الإله إيل بعد ذلك إلى السماء ليكون «شهار» هو نجم الصباح الذي يشير إلى الخير، وليكون «شاليم» نجم المساء، الذي يشير إلى العطاء، ثم يستمر الإله إيل بهذا النوع من الاتصال العاطفي مع عشيرة وعناة.
-
(١١)
يلد منهما إلهين طيبين آخرين؛ ولكنهما ماردَين نهِمين لهما شفة تمتد إلى الأرض وشفة إلى السماء؛ بحيث تدخل فيهما طيور السماء وأسماك البحر. وكان هذان الإلهان نهمين ولا يشبعان، فأمر إيل بأن يوضعا في أرض القفر (الصحراء)؛ حتى يصلا ذات يوم إلى فلاح يزرع الحنطة فيطلبا منه أن يقدم لهما طعامًا وشرابًا فيجيء لهما بالطعام والشراب … وهنا ينقطع النص.
ويبدو من قراءة متأنية للنص ولنصوص أخرى محايثة أن هذين الإلهين ينتميان إلى آلهة تسمى «جزريم» وتعني «الآلهة القاطعة أو القاتلة» وربما عنت نوعًا من الآلهة الملتهِمة، التي يضعها إيل في العالم الأسفل (بدلالة الصحراء) وهي تشبه الغِيلان والسعالي.
-
(١٢)
والسؤال الآن: ماذا عن السابوع الإلهي؟ وكيف سينجبه إيل ليزيح به جدب السنوات السبع؟ لأنها لا تذكر صراحة في النص.
ونرجح أن الإله إيل ينجب هؤلاء الآلهة السبعة إما بنفس الطريقة العاطفية (الاحتضان والتقبيل)، أو عن طريق الكلمة؛ حيث كلمة إيل هي المطر. ثم يخاطب إيل أبناءه السبعة ويوجههم إلى البرية:«أنتم هناك ستقيمون بين الأحجار والأشجارسنين سبعًا سويًّا؛بل ثمانيَ دائرة (سنين)،حتى تزرعوا أيها الآلهة الخيِّرون الحقل،حتى تزرعوا أركان البرية» (جوردن، ١٩٧٤م، ١٧٠).
تمثل لنا هذه الأسطورة المركبة الطويلة نسبيًّا عددًا من المشاهد الأسطورية المؤلفة في نص واحد طويل غلبت عليه الصفة الدرامية، ولذلك انقسمت موجات النص الطينية إلى «أقسام بخطوط أفقية رسمها الكاتب، أما النص ففي شكل تمثيلي مع إرشادات مسرحية تبين الموضوع وشخوص المسرحية في مختلف المناظر. وكانت أصول التمثيلية دينية؛ حيث يقوم النص علمًا من أعلام الطريق إلى فجر تاريخ التمثيلية الكلاسيكية (الإغريقية)» (جوردن، ١٩٧٤م، ١٦١).
وهذا يعني أن هذا النص يشير إلى إمكانية تنفيذه دراميًّا في شكل مسرحي شرقي قديم. وقد قادتنا كل هذه الإشارات الصغيرة وغير المباشرة بعد قراءة تحليلية معمقة في هذا النص إلى وضع فرضية جديدة حوله، لعلنا نهتدي من خلالها إلى وصف حقيقة هذا النص، وهي أن هذا النص يمثل نص «عيد رأس السنة الكنعانية الأكبر»، ونرى أن هذا العيد كان يمثل في بداية رأس السنة الكنعانية، ولنقل بشكل أدق: السنة الأوغاريتية.
ويشبه هذا النص في بعض أوجهه نص اﻟ «أكيتو» البابلي الذي يتحدث في سيناريو شعائري محكم عن الأيام الاثني عشر لعيد رأس السنة البابلية رغم الخلافات الجوهرية بينهما، وخصوصًا فيما يخص الملك وعلاقته بالإله الذي يشكل أساس عيد الأكيتو؛ بينما يكتفي النص الكنعاني بحضور الملك والملكة والأعيان في الاحتفال دون أن يكونوا جزءًا منه.
أما الاستنتاج الثاني الذي نود أن نضعه هنا فيخص الإلهين «شهار» و«شاليم». فقد وجدنا أن هذين الإلهين المتلازمين لعبا دورًا كبيرًا في مثولوجيات الأمم الأخرى كما سنرى. أما حضورهما في المثولوجيا الكنعانية فما زال غامضًا، فهما يوصفان على التوالي بإلهي الخير والعطاء وهما إلهان جميلان خيِّران.
ويدل الإله شحر «سحر» على وقت السحر أو الشفق قبل الفجر، وأصبح يشار له بنجم الصباح (الزهرة قبل طلوع الشمس). أما الإله شالم «سالم» فهو إله التسليم أو الوداع، ويدل على النجم الذي يطلع قبل غروب الشمس في الغسق وهو (الزهرة قبل الغروب) ويسمى نجم المساء أو نجم العشاء.
وكان الأموريون يعبدون إلهين شبيهين بهما هما «عزيز» و«منعم» وهما أيضًا إلها «الخير والعز» و«الإنعام أو العطاء»، ونجد لهما تسمية إغريقية باسم «أزيزوس» «ومونيموس»، ويشار لهما أيضًا بنجمي الصباح والمساء. وكانا يسميان أيضًا في مدينة تدمر ﺑ «عزو» و «أرصو». ويرد اسم مدينة القدس (في فلسطين) في النصوص المصرية في عهد الأسرة الثانية عشرة بصيغة «أورشالم» أي «مدينة سالم» أو «نورشالم»، ونجد اسم شالم يندس في اسمي ولدي داوود «سليمان وأبشالم» وفي الأسماء الآشورية «شلمانصر». ولذلك المؤابي «شلمانو»، وكان اسم «العزى» و«شالم» مرتبطًا بقوة بمدينة القدس وضواحيها منذ الألف الثاني قبل الميلاد؛ حيث تجسد في نجم بيت لحم (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ٢١٨-٢١٩).
ونرجِّح ارتباط اسم الإلهة «إيزيس» باسم «عزيز» و«عزو» و«العزى». خصوصًا أن الإلهة إيزيس ترتبط بالنجم الذي يظهر في السحر، وهي بذلك تتطابق مع الإله أو الإلهة «سحر» وكذلك نظيره أيزيس واختها «نفتيس» التي يرتبط اسمها بالنجم الذي يظهر في الغسق وهي بذلك تتطابق مع الإله «شالم» (انظر الماجدي ١٩٩٩: ٨٦-٨٧).
- (١)
إن هذين الإلهين هما الجذر القديم للإله «أيروس» إله الحب الإغريقي والإله موت إله البيضة التي خرج منها العالم، وقد حصل هذا عندما رفعت مرتبة هذين الإلهين من الهامش الكنعاني إلى القمة الإغريقية، فهكذا نجد بأن الخليقة الإغريقية تتحدث عن وجود إلهين أوليَّين عتيقين هما: «أيريب» و«نيكس» ينفصلان عن السديم الهيولي الأكبر ويمثلان الظلام والظلمة؛ لكنهما ما يلبثان أن يفصلا فينزل أيريب ويحرر أخته «نيكس» التي تتجوف فتصبح كرة كبيرة في الفلك، ثم ينفصل نصفاها كما بيضة تنشق نصفين ليخرج منها «أيروس» إله الحب وليرتفع النصف الأعلى ويشكل قبة الفضاء وينبسط النصف الأسفل ويشكل سطح الأرض. وهكذا تكتسب الأرض والفضاء واقعًا ماديًّا ويصير الحب قوة طبيعتهما الروحية، وصار أيروس هو الذي يؤمن تماسك الكون الناشئ، ومن أنحاء الفضاء على الأرض، وجماعهما، بدأت السلالات الإلهية (انظر: غريمال، ١٩٨٢م، ٢٢-٢٣).
أما الإله «موت» فيظهر في رواية كوزموغونية كتوأم للإله إيروس (الذي قد يسمى بوثوس أو الرغبة) مع «موت» في البيضة الكونية التي تفقس وتنقسم إلى قشرة عليا هي السماء «أوارنوس» ومادة سفلى هي الأرض «جيا».
ونحن نرجِّح أن «أيروس» و«موت» ما هما إلا «سحر» و«سالم» الكنعانيين؛ حيث يقابل اسم موت الغروب والأفول والغسق، بينما يقابل أيروس الظهور والشروق والحب والرغبة «سحر».
- (٢)
إن هذين الإلهين هما الجذر القديم للثالوث العربي الوثني القديم (اللات وعزى ومناة)، وهنَّ الغرانيق العلا، وبنات الله، كما كانت تسميهم قريش قبل الإسلام. فقد عرفنا أن الإله/الإلهة «سحر» ظهرت باسم «أيزيس» و«عزى». أما الإله/الإلهة «شالم» فتدل على الغروب وموت الشمس واختفائها، «والإلهة «مناة» في منشئها إلهة الموت والقدر عند البابليين العراقيين، وعرفت بنفس اسمها العربي عندهم «مناتو»، وعن البابليين عرفها الكنعانيون والآراميون والأنباط.
إلى أن وصلت عبادتها العرب الجاهليين فيما بعد فعرفوها بنفس الاسم أو ما يقاربه «منى»، وذكرت منى متوحدة مع الإله «حاد» إله قبيلة جاد في العهد القديم» (عبد الحكيم، ١٩٨٢م، ٦٤٤).
إن ربطنا بين «سالم» و«مناة» له ما يبرره؛ لأن كلمة «سالم» تعني التسليم والوداع والموت. كما أن العُزى ومَنَاة تشكلان وجهين لعملة واحدة؛ فالعزى إلهة الصباح ومناة إلهة الليل أو المساء وهما تعبيران عن إلهة واحدة هي إلهة «الزُهرة» التي كانت تمثلها الإلهة عشتار التي تلقب ﺑ «الإلهة» عند البابليين أما عند الكنعانيين فتلقب الإلهة «عشيرة» زوجة إيل ﺑ «إيلات» أو «اللات» أي الإلهة. وهكذا نجد أن هذا الثالوث يعبر عن معنيين؛ أحدهما شمسي تظهر فيه اللات كإلهة للشمس، والعزى وجهها المشرق ومناة وجهها المغرب.
والثاني نَجمِي تظهر فيه اللات كإلهة للزهرة، العزى ظهورها الصباحي كنجمة للصباح ومناة ظهورها الليل كنجمة للعشاء.
نوع الأساطير | نجمة الصباح | نجمة السماء | ||
---|---|---|---|---|
اسمها | مدلولها | اسمها | مدلولها | |
الكنعانية | شهار | السحر | شالم | الغسق |
الأمورية | عزيز | الخير | منعم | العطاء |
البابلية | عشتار | الحب | مناتو | الموت والحرب |
المصرية | إيزيس | الحب والأمومة | نفتيس | سيدة الدار (الشفق) |
الإغريقية | إيروس | الحب | موت | البيضة الكونية الأولى |
التدمرية | عزُّو | النهار | أرصو | الأرض (العالم الأسفل) |
العربية | العُزَّى | الحب، النهار، النار | مناة (منى) | الموت والقدر |
النقطة الثالثة التي نود الإشارة إليها هي ظهور الرقم ٧ في عدة صيغ (سبع تلاوات لنشيد حفظ السابوع، مساكن الإلهة ذات الأركان السبعة، ولادة السابوع الإلهي، السنوات السبع العجاف والسبع السمان … إلخ)، وبرغم أن الرقم ٧ رقم مقدس عند السومريين بشكل خاص؛ إلا أن ما يستوقفنا فيه هنا هو السنين السبع العجاف والسبع السمان، فقد عكست البيئة الكنعانية نظامًا دوريًّا سبعيًّا للخصوبة والجفاف.
وكان تعاقب السنين من الجفاف والجراد نقمة مروعة يحرص الكنعانيون على تجنبها بأي ثمن، وسوف نرى أن موضوع الإلهة الميتة والحيَّة ليس موسميًّا أو سنويًّا؛ ولكنه يحدث مرة كل سبع سنوات فهو يتصل بدورات من سبع سنين مخصبة وأخرى مجدبة (انظر: جوردن، ١٩٧٤م، ١٦٠).
لكن الأسطورة تظهر أحيانًا رقم ٨، ونتفق مع جوردن أن نصف القرن الواحد أي «خمسين سنة» فيها سبع دورات سبعية (٧ × ٧) تتكون من ٤٩ سنة، أما السنة المتبقية فتكون ثامنة بالنسبة للدورة الأخيرة هكذا يحتوي القرن الواحد على سنتين مجربتين إضافيتين بعد كل سبع دورات. وتشير هذه الملاحظة إلى دقة مراقبة البيئة والمناخ عند الكنعانيين.
(ﺟ) أساطير مرحلة الضعف الجنسي
تستمر قوة إيل بالهبوط وتصل إلى مرحلة الضعف الجنسي، ويبدو أن الإله إيل في هذه المرحلة يختار العزلة في مقامه المائي عند النهرين، وتبتعد عنه زوجته «عشيرة»؛ حيث تختار منزلًا مستقلًّا، ربما كان على ضفة البحر أو النهر ولا تتصل بإيل إلا في حالات خاصة، حيث تذهب إليه بين الحين والآخر فقد أصبح إيل شيخًا لا نفع من الاتصال الجنسي معه. ويتعزز هذه الاستنتاج مع قصة أسطورة حيثية من أصل كنعاني تروي زيارة إله الطقس الحيثي «تيشوب»، وهو الإله المناظر للإله الكنعاني بعل، إلى الإله إيل الذي تسميه الأسطورة الحيثية «إيل كونيرثا» في منزله، ولا يجده هناك فتستقبله عشيرة في مخدعها وتراوده عن نفسه؛ إلا أنه يقاوم إغراءها ويشكوها إلى زوجها ويسرد على مسامعه اتهام زوجته له بأنه أصبح عاجزًا عن التصرف تجاهها، فيغضب إيل ويطلب منه أن يستجيب لرغباتها الشبقة ثم يعمل على إذلاله وتحطيم عزته (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ١٦٦).
وربما كان من بعض إيحاءات هذه الأسطورة تعاظم دور الابن «بعل» وبدء سيادته وحلوله مكان الأب «إيل»، وهو ما سنراه بوضوح في أساطير المرحلة القادمة.
(د) أساطير غياب إيل
لعل أهم ما يميز هذه المرحلة اختفاء إيل المتمثل باختطافه إلى العالم مؤقتًا. فقد حدد بلوتارك مكان إقامة إيل «في جزيرة» أو «الجدبة، التي هي خلف الأوقيانوس الكروني»، وفي بعض أساطيره، أن حيتان البراري أسرته واحتجزته في إحدى الجزر القريبة من الجزائر الإنكليزية (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٤٧).
وربما كانت هذه الأساطير تمهد لاختفائه الكلي في العالم الأسفل، أي موته. وهنا نكون بانتظار ظهور الإله الابن الذي يتحول إلى ملك الآلهة «بعل».
وهكذا نرى أن إيل في مكانته وقوته من مقره الأول في السماء حتى مقره عند النهرين ثم في البحر ثم غيابه في البحر نهائيًّا.
(ﻫ) أساطير جيل إيل
أما الآلهة المجايلة لإيل فقد أتينا على ذكر أساطيرها، فقد تحدثنا عن الآلهة الذكور (سيتون، داجون، أطلس، بتيل)، وتحدثنا عن الآلهة الإناث (عشيرة، عشتروت، ريا، بعلتيس، أنوبرت)، كذلك فقد قفزنا إلى الآلهة المجايلة لإيل من الإله «أوسوس»، وهما الإلهان دامور وملكارت.
(٣-٣) أساطير بعل
(أ) تطور شخصية بعل
قبل الدخول في دورة الأساطير البعلية علينا معرفة هذا الإله بشكل دقيق؛ لأنه يشكل جوهر العبادة الكنعانية.
- (١) ألين: أي العظَمة والقوة: وقد ورد لفظ «ألين قردم» أي أقوى الأبطال.
- (٢) راكب الغمام (السحاب): وهو لقب مألوف رافدينيًّا.
- (٣) ذيل: الأمير وقد ورد بصيغة «ذيل بعل أرض»، أمير وسيد الأرض، ومنها جاء بعل ذبوب أي سيد الذباب أو صائد الذباب.
- (٤) علي: المرتفع ويقصد به السحاب. ورد في ملحمة كرت، ومنه جاء لقبا «عليون» و«عاليان».
- (٥) جمر: وكان يرد بصيغة «جمر هدد» و«جمر علي».
- (٦) هدد: بمعنى الطقس أو المطر، وهو لا علاقة له بالإله السومري «أدد».
- (٧) ابن داغون: يرد أحيانًا بهذا النسب، حيث ينسب إلى الإله داغون إله الغيوم والحبوب والأسماك الذي يناظر الإله إيل، ولكي يتم التفريق بين عبادة إيل الخيرة، وعبادة بعل المدنسة بشكل خاص عند الأوغاريتيين.
لقد حصل خلط كبير في شخصية الإله بعل سببه جهل الكثير من الباحثين وعدم دقتهم في تناول شخصيته، ولعل أهم أشكال هذا الخلط دمجه المبكر مع الإله «هدد»، وهو الإله الآرامي، والذي لم يحصل إلا في عصور متأخرة جدًّا، وربطه بالثور أو الأسد وهو ما نتحفظ عليه تمامًا.
وفي حدود منتصف الألف الثاني قبل الميلاد (حوالي ١٥٠٠ق.م.) لا يظهر مع بعل أي حيوان كالثور أو الأسد، بل نشاهد الشكل العنيف القاسي لبعل (وهو ما يناسب صفاته)، ويسمى عادة «بعلو الجبار» حيث يظهر بخوذة مدببة أو مخروطية، ويبدو قصيرًا. ويقف غالبًا وهو يمد يده اليسرى ويرفع يده اليمنى. ويبدو وجه الإله بعل شيطانيًّا بعيون غائرة أو جاحظة مشوهة وفم مفغور.
ونرى الصورة الشائعة جدًّا عن بعل (الكنعاني/الأوغاريتي) في نصب اكتشف في رأس شمرا (أوغاريت)؛ حيث يظهر الإله بعل وهو يحمل باليد اليمنى هراوة وباليسرى الرمح المورق، حيث يظهر قسمُه الأسفل كرمح نابت على الأرض أما الأعلى فيظهر كغصن مورق، ولا نميل إلى الخلط بين الرمح المورق ورمز الصاعقة (البرق) الذي اعتاد أن يظهر به هدد وليس بعل.
أما القبعة المخروطية الشكل فيظهر لها قرنان يرمزان إلى الألوهية، وربما الخصب. ويتدلى شعر الإله من تحت الخوذة على شكل جديلتين معقوفتين. ويظهر شعر لحيته كثيفًا فوق صدره. ويظهر بعل بتنورةٍ قصيرة مخططة تحمل خنجرًا تصل نهايته عند رأس تمثال صغير لا يعرف مغزاه، ويقف بعل على أرض تشير تلولها المخططة على أنها العالم الأسفل. ونرى أن هذا النصب يمثل الصورة المثالية لبعل الكنعاني قبل اختلاطه بأشكال أخرى.
منذ بدايات الألف الأول قبل الميلاد طرأ تغيير جوهري على شخصية بعل الكنعانية عندما بدأت بالاختلاط بآلهة الطقس والعاصفة المشابهة له، وخصوصًا الإله الآرامي هدد (حدد)، الذي اندمج معه وشكل الإله «بعل حدد» الذي ركب ثورًا وأمسك صاعقة شوكية مفردة أو مزدوجة. وفي الشكل نلاحظ إله العاصفة يتشوب وهو يقف على ثور، ويمسك شوكة مفردة قصيرة، ويرفع بيمناه فأسًا، ونرى فوقه قرص الشمس المجنحة. كذلك نرى الإله حدد الآرامي يمسك شوكة مفردة طويلة، ويقف على ثور، ثم نراه يمسك شوكتين مزدوجتين في أرسلان طاس شمال سوريا. هذه الصور الثلاثة ليست للإله بعل بل لآلهة مجاورة تشبه بعلًا ستختلط صورتها مع بعل لاحقًا.
وعندما تظهر هذه الآلهة ممتطية الثور فإن بعل يبقى دون حيوان يرافقه أو يركب عليه. وهذه فروق آثرنا توضيحها بالصور بسبب الخلط الكبير الذي تسببه النظرة العامة، والتي تطمس ملامح بعل بملامح غيره من الآلهة القريبين منه عند الأقوام الأخرى مما يسبب لبسًا خطيرًا في دراستنا له.
(ب) دورة أساطير بعل
من أجل تتبع منطقي لأساطير بعل سنقوم برسم مخطط فرضي يناسب أساطير بعل ويحصيها بشكل متسلسل:
(١) أساطير مرحلة القوة
لا نملك أسطورة محددة عن ولادة الإله بعل؛ ولكننا بشكل عام نعرف أن هذا الإله ولد من تزاوج الإله إيل مع عشيرة، وقد وصفته إحدى النصوص: الثور إيل أب بعل. وهكذا يكون بعل عجلًا في صباه وثورًا في نضجه. وإذا كانت بعض النصوص تصف بعلًا بأنه ابن داجون (دجن) فمرد ذلك هو المساواة بين «إيل وداجون»، أو جعل بعل «الشرير» من غير نسل إيل «الطيب». ويظهر بعل الكنعاني/الأوغاريتي واقفًا على العالم الأسفل وبيده رموز قوته، وهما الرمح المورق والهراوة والخنجر في حزامه.
ويظهر الإله بعل برفقة الثور في بعض المنحوتات الكنعانية؛ لكنه يظهر واقفًا على رموز العالم الأسفل في أوغاريت، ورغم ذلك كان بعل يقوم بمعاشرة البقرة جنسيًّا وينجب منها البعول، وهذا يشير إلى قدرته الجنسية وأثرها على إخصاب النباتات والحيوانات والإنسان.
(أ) بعل الفتى
انتزع بعل لقب الثور من أبيه إيل بعد أن احتل عرشه، وهناك ما يشير إلى أن بعلًا خطط للهجوم على إيل وانتزع منه العرش، إلا أن إيل خطط هجومًا مضادًا وكسب إلى جانبه إله البحر «يم» الذي سمح ببناء قصر له واعترف به من أبنائه.
هكذا يشب بعل ويدخل هو وأخته «عناة» المعارك ويكسبانها؛ حيث تذكر إحدى الأساطير أن الإلهة عشيرة كانت منهمكة بإعداد أحد الطقوس الدينية حيث تدير رأس مغزلها وتتعرى لترمي بثيابها المتساقطة إلى البحر، ثم ترتب صفًّا من الآنية على النافذة وتبتهل إلى الإله «إيل» الغائب عنها. وعندما يطول انتظارها تتوجه إليه، وفي وقت لاحق يفاجئانها «بعل وعناة» بحضورهما إليها فيسقط المغزل من يدها وتصاب بنوبة صرع خوفًا من الأخبار السيئة؛ لكنها تستعيد وعيها عندما ترى الذهب والفضة مقدمان إليها من بعل عناة، وعندها تهلل فرحًا (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ١٦٥).
ومعروف أن اسم بعل مأخوذ من كلمة «بل» التي كان يلقب بها الإله البابلي «مردوخ» وتعني «السيد» أو «الزوج»، وأصبح «بعل» مناظرًا للإله مردوخ في صفاته، حيث أصبح إله طقس كنعانيًّا، وهو يذكرنا بجذر مردوخ الطقسي، وهو الإله إنليل السومري إله الهواء والطقس.
(ب) أسطورة صراع «بعل» و«يم»
وهكذا يقتل بعل يم ويقوم عشترتي بتعنيف بعل لأنه قتل يم. وينتزع منه ملكية الآلهة التي كاد يأخذها من إيل ويحرمه منها، وقد كان «يم» مقربًا من «إيل»؛ حيث تصفه النصوص ﺑ «حبيب إيل»؛ حيث كان يعده إيل لمواجهة طموحات ابنه الشاب «بعل». وبذلك يكون انتصار بعل خذلانًا لإيل وتنحيًّا منه لملوكية بعل. وهذا يعني أنه لم يتم قتل «إيل» كما فعل هو مع أبيه؛ بل كان هناك تنازل عن العرش ثم تشعرنا النصوص أن إيل قد غاب نهائيًّا في الجزر النائية أو في العالم الأسفل. ربما!
وقد نوهنا أكثر من مرة أن هذه الأسطورة وأسطورة بناء بيت بعل تشكلان جزءًا من ملحمة الخليقة الكنعانية المفقودة، والتي شُوهت وحصلنا على بعض ألواحها التي تبدو مستقلة عن الخليقة الكنعانية التي فصلناها في بداية هذا الفصل.
بعل يدعو عناة لزيارته (الكشف عن سر الطبيعة)
رغم أن عناة ترافق سيرة بعل بأكملها؛ فهي أخته وزوجته وعشيقته، لكن عناة كانت تظهر مزاجًا حادًّا وعنيفًا، ورغم أنها تمثل الزواج الشرعي وتسمى «عناة الخطابة» حيث تمثل عشتروت أو عشتارت المعاشرة الجنسية الإباحية رغم كل هذه الصفات، لكن عناة تحتفظ إلى النهاية بقوتها الخاصة الماحقة.
ونرى أن اسم عناة مشتق من اسم «إنانا» حيث تم تحويل حرف الخاء حيث يشتركان في مخرج صوتي واحد، ثم تم تأنيثها بإضافة «ت» فأصبحت عنانات، التي اختصرت فتحولت إلى «عناة»، وأنانا إلهة الحب والجنس السومرية الشبقة، التي كانت تظهر أيضًا صفات حربية قاسية في وجهها الآخر كما عناة. ولا نرى في تفسير معنى اسم عناة عبريًّا «عنوة» بمعنى العناية والتبصر، أو الغاية والهدف، وآراميًّا بمعنى الشأن والمهمة والعمل، وعربيًّا بمعنى العناية دلالة على عنايتها بحبيبها وأخيها بعل، كما يذهب إلى ذلك أذزارد، لا نرى في كل هذه المرجعيات دقةً؛ لأن الجذر السومري للاسم هو الأبعد وهو الأقوى؛ بل هو الدال على «ملكة السماء»، وهو ما يتطابق مع صفات «عناة».
لقد كانت أسطورة عناة وبعل تتجلى في تلك الألواح التي تتحدث عن عناة كربَّة للصيد والحرب (مثل أرتميس أو ديانا عند الإغريق والرومان)، فقد كانت رائحة الصيد تملأ أجواء وأبواب بيت عناة، وهكذا تنطلق بداية النص من عزم على إبادة أهل المشرق وأهل المغرب لسبب نجهله، وهي تشبه في سلوكها هذا الإلهة المصرية «سخمت» في أسطورتها عن إبادة البشر.
حاول العلماء تفسير عناة بأكثر من رأي «فمنهم من فسرها على أن القتلى هم رسل وأتباع إله الموت والجفاف، وبعضهم الآخر، وعلى رأسهم الأستاذ «دومر»، الذي رأى في حمام الدم هذا طقسًا من طقوس الولادة الجديدة، وتعبر عن ظاهرة التضحية بالبشر التي كانت تقوم بها النساء بشكل أساسي في عصور أقدم، ولا يبتعد الأستاذ «غرابي» في تفسيره للحادثة عما سبق؛ إذ إن المذبحة التي قامت بها عناة حسب رأيه لا يمكن أن تكون بلا سبب ولمجرد إرضاء نزعة بواسطة فعل طائش من طقوس العبادة التي كانت تقام سنويًّا في نهاية فصل الخصب لتجديد دماء الحياة» (أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٣١).
ونحن نرجح الرأي الأخير، فهذا هو الوجه المحارب والقاسي من وجوه الإلهة الأنثى تظهره عندما يختل توازن الطبيعة ويسود الشر أو الجدب؛ لأن الحياة المعبر عنها بالدم تمثل الخصب رمزيًّا.
وتمضي الأسطورة عندما تستقبل عناة رسولَي بعل «جوبان» و«أوجار» اللذَين يُبلغانها برغبة بعل في لقائها؛ لكنها ترتاب أولًا ثم تبدأ بذكر انتصاراتها على أعداء بعل ومؤازرتها له ضد «يم، النهر، التنين، الأفعوان الأعوج، الوحش ذي الرءوس السبعة، إيل زبوب» الذين سنذكر أساطيرهم مع بعل لاحقًا. ثم تقبل دعوة بعل وتتوجه حالًا إلى جبل صفون، وهو مقر بعل، وتصل إلى هذا الجبل ويكرمها بعل بثور مشوي وذبح سمين، فتستنبط الماء وتغتسل بندى السماء ودهن الأرض، الندى الذي تصبه السماء والمطر الذي تصبه النجوم، ويتقاطر حيوان الصيد لسعادتها لأنها سيدة الخصب والصيد.
ثم يكشف لها بعل «سر الطبيعة» وهذا يتفق مع بداية الأسطورة ويفسرها أيضًا، فبعد أن عمدت عناة الطبيعة المجدية بالدم الحي الذي هو شكل الحياة، أي بعمل شعائري مباشرة يعتمد على الأضاحي البشرية يدعوها «بعل» إلى الكشف عن سر الطبيعة سلمًا، وعن قوتها المخصبة الأبدية، وربما كان ذلك عن طريق الجنس الذي يشكل نمطًا معرفيًّا طبيعيًّا في العالم القديم. ولكن بعل يطلب منها في مقابل ذلك أن تتوسط له عند أبيها «إيل» ليبني بعل قصره الذي يريد، فهو ما زال يسكن جبل صفون ولكنه يحتاج إلى بناء قصر له يتناسب مع مكانته ويساويه مع بقية الآلهة.
(ﺟ) بناء قصر بعل
تستجيب عناة لطلب بعل وتؤكد له أنها ستفعل ذلك وستذكر «إيل» بأن لكل الآلهة قصورًا، ولذلك يجب بناء قصر للإله بعل وإذا رفض إيل ذلك فإن عناة ستهدده بأن تدوسه كالشاة على الأرض وستجعل شعره الأشمط يقطر دمًا وتخضب لحيته بالدم.
وفي النهاية يذعن إيل لمطالب الإلهة ويأذن ببناء قصر بعل … وإذا عدنا إلى أسطورة الخليقة البابلية فإننا نرى أن مردوخ بعد انتصاره على تيامت يتوج ملكًا على الآلهة، ويطالب مباشرة ببناء قصر له يكون منزل سعادته وفي داخله يؤسس مكان العبادة والحجرة المقدسة حتى يتاح له تأكيد ملوكيته، واستقبال الآلهة، وأن يكون اسم القصر هذا هو اسم بابل نفسه، الذي يعني «باب الآلهة» أو «حي الآلهة» (انظر: لابات، ١٩٨٨م، ٥٩).
وهكذا ينقل الآلهة أوامر إيل إلى الإله الصانع «كوثر وخاسيس» ليقوم ببناء القصر لبعل.
- (١) جميع المواد الأولية والأثاث: حيث نشاهد مجموعة من آلهة البناء تقوم بجمع هذه المواد، مثل الذهب والفضة واللازورد وشجر الأرز والموائد والآنية والكراسي … وغير ذلك. وهنا نشاهد الطبيعة هي التي تأتيه بهذه المواد:«حتى تأتيك الجبال بالفضة الكثيرة،والتلال بأحسن الذهب،وتبني بيتًا من الفضة والذهب؛بيتًا من اللازورد» (جوردن، ١٩٧٤م، ١٨٢).
- (٢)
حفلة ما قبل البناء التي يحضرها «كوثر وخاسيس» مع الإله بعل، حيث تذبح الماشية وتصب الكئوس، وبعد شرب النبيذ والعشاء يأمر بعل إله البناء ببناء القصر في الحال وسط مرتفعات صفوان، على أن تكون مساحة المكان ألف فدان، والقصر عشرة آلاف هكتار «وتذكر نصوص أوغاريت أن جبل صفون هو مقر الإله بعل، وقد بنى له الإله كوثار قصرًا فوقه، ومن علياء سكناه كان يدير شئون العالم، وهناك وارته الثرى أخته عناة عندما تمكن منه الإله «موت» وأرداه قتيلًا، ويرى كثير من الباحثين في جبل الأقرع، الذي يبعد حوالي ٥٠ كم شمال أوغاريت عند مصب نهر العاصي جبل صفون، المقصودَ في الأساطير» (أذزارد: ١٩٨٧م، ١٨٥).
وقد تحول اسم هذا الجبل عند الحيثيين إلى جبل «حازي»، وتدور عليه أسطورة إله الطقس الحيثي «أوللي كومي»، وتحول «حازي» إلى «كاتيوس» في المرحلة الهيلنستية، ودارت عليه أسطورة إله العاصفة «زيوس كاسيوس»، واستمر كذلك في المرحلة الرومانية ثم احتفظ بقدسيته في الديانة المسيحية حتى العصور الوسطى.
ويظهر جبل صفون كإله مقدس تقوم له الذبائح ويذرف الدموع على الملك المريض. كذلك يظهر اسم بعل مرتبطًا به باسم «بعل صفون» الذي وصلت عبادته إلى مصر.
ونرى أن العبريين اتخذوا لإلههم القومي «يهوه» جبلًا يقترب اسمه من صفون هو «جبل صهيون» ومعروف أن يهوه شكل من أشكال بعل، أو إله من آلهة الطقس والعاصفة في بلاد الشام.
- (٣)
بناء القصر والخلاف على نافذته: يبدأ الإله كوثر ببناء القصر، ويبنيه كوثر على طراز القصر ذي النافذة؛ ولكن بعل يرفض ذلك خوفًا من قيام الإله المقتول «يم» ودخوله من النافذة، وخوفًا من تعريض بنات بعل (بدراي، طلاي، أرضاي) لأجنبي قد يطمع فيهن؛ ولكن كوثر يقول لبعل بأنه سيعود ويصنع نافذة لقصره، وبعد الانتهاء من القصر توقد النار فيه لمدة سبعة أيام دون أن تُطفأ، وبعد انطفاء النار تطلى جدران القصر بالذهب والفضة.
- (٤) حفل ما بعد البناء: وبعد الانتهاء من بناء القصر يدعو بعل أصدقاءه من الآلهة لمأدبة عظيمة احتفالًا بالحادث، ويتحول العجول والشياه والماعز والذبائح السمينة والعجول الحولية تكريمًا لضيوفه، ويَحضر أبناء عشيرة السبعون، وكذلك آلهة الحيوانات والأشياء المشخصة. ويسقيهم بعل النبيذ:«سقى «بعل» الكباشي من الآلهة نبيذًاوسقى الشاة من الآلهة نبيذًا،وسقى العجول من الآلهة نبيذًا،وسقى الكراسي من الآلهة نبيذًا،وسقى العروش من الإلهات نبيذًا،وسقى الجرار من الإلهات نبيذًا» (جوردن، ١٩٧٤م، ١٨٤).
- (٥)
بعل يستولي على تسعين مدينة: بعد انتهاء الحفل يهيمن بعل على الأرض ويستولي على ٩٠ مدينة. وهو ما يجعله يزداد ثقة بنفسه وأمانًا من حوله، فيأمر كوثر بفتح نافذة في القصر فيذكره كوثر بأن رأيه كان هذا منذ البداية، ولعل وظيفة النافذة هنا والإطار وسط القصر مرتبطان بوظيفة بعل الطقسية السماوية، حيث يفتح بعل طاقات السماء، وكانت تجري طقوس حقيقية في معبد لأجل ذلك.
(٢) أساطير مرحلة الضعف
(أ) أسطورة صراع «بعل» و«موت»
تبدأ هذه الأسطورة من حيث انتهت أسطورة بناء القصر، فبعد أن فتح بعل النافذة والإطار تَظهر النُّذُر الكارثية بسقوط المطر وظهور الرعد والعواصف. وكأن سطوع قصر بعل يغيظ أعداءه فيقومون بالاستيلاء على الغابة وسفوح الجبال، ويظهر صوت الإله «موت» إله العالم الأسفل وهو يصرخ: «أنا وحدي الذي سيحكم الآلهة؛ بل ويقود الآلهة والناس ويسيطر على شعوب الأرض». ويخاف بعل من تهديد «موت» ويرسل رسولَيْه «جوبان» و«أوجار» إلى «موت» للتفاوض معه ويحذرهما من أن يبتلعهما موت أحياء.
وموت هذا هو إله الموت الكنعاني، والذي نرى أن اسمه مشتق من اسم «تيامت» وأنه مع اسم «يم» وجهان لاسم تيامت، فبينما يمثل اسم «يم» الماء والحياة يمثل «موت» الجفاف والموت.
ويدعى المكان الذي يسكن فيه «موت» في العالم الأسفل «حمري»، والتي ظهرت فيما بعد في الدين العبري تحت اسم «محمروت» أي «نار الجمر»، وتقابلها في العربية «جهنم الحمراء».
ولا نعرف السبب الرئيسي الذي جعل موت يهدد بعلًا، ولكن هناك إشارات تقول إن بعل بعد استقراره في قصره المحتفى به مع زوجته عناة وبناته الثلاث ينطلق صوته من نافذة قصره مجلجلًا مدويًّا يهز أركان العالم ويبث الرعب في قلوب أعدائه، وعند ذاك يعلن بعل بأنه لن يدفع من الآن فصاعدًا الجزية إلى الإله «موت»، ويقوم بإرسال هذه الرسالة إلى الإله «موت» عبر رسولَيْه «جوبان وأوجار»؛ ولكنه يحذرهما بأن موت يمكن أن يبتلعهما كما يبتلع الخروف. ويتضح نهم «موت» في جوابه للإله بعل عندما يقول بأن شهيته لا يمكن إشباعها، وأنه سوف يبتلعه كما يبتلع حبة الزيتون، ثم يفتح فاه من أقاصي الدنيا إلى أقاصي السماء، ويلعق بلسانه نجوم المساء (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٢٤).
وهكذا ينزل بعل إلى العالم الأسفل ومعه سحبه ورياحه وأمطاره وسبعة من خدمه وثمانية خنازير وثلاث زوجات؛ ولكنه قبل أن يصل إلى أرض العالم الأسفل يضاجع عجلة وينجب منها عجلًا … ثم ينقطع النص ونرى بعل ملقًى على أرض «حمري»، أي العالم الأسفل الكنعاني.
يحمل الرسولان الخبر إلى الأب «إيل» فينزل من عرشه ويجلس على موطئ القدمين، ثم على الأرض ويصب رماد الحداد على رأسه، ويتشح بثوب خاص للحداد، ويهيم حزنًا وسط الجبال والغابة.
أما عناة، أخته وحبيبته وزوجته، فتهيم حزنًا حتى تعثر على جثة بعل القتيل، وتقيم مراسيم التعازي والحداد، وتخدش وجهها وذراعيها بمرارة ولوعة، ثم تساعدها إلهة الشمس «شبش» لتنقل جثمان أخيها إلى جبل صفون لتدفنه مع الأضاحي تكريمًا له، ثم تتقدم عناة إلى مسكن إيل وعشيرة وتصرخ بسخرية ومرارة: «لتفرح عشيرة وابنها وأقاربها؛ فقد مات بعل وهلك سيد الأرض».
وهكذا يفرغ مكان بعل ولا بد من اختيار إله بديل مكانه، فيقع الاختيار على «عثتر» أحد أبناء عشيرة ليكون خليفة بعل على عرشه، فيصعد إلى جبال صفون ويجلس على عرش بعل فلا تصل قدماه إلى موطئ القدمين، ولا يصل رأسه إلى قمته فلا يستطيع ملأ الفراغ الذي أحدثه غياب بعل.
تطلب عناة من «موت» أن يعيد «بعلًا» فيسخر منها ويُعرض عنها فتصعد روح الانتقام فيها وتنقض فجأة عليه، وبسرعة خاطفة تشطره بسيفها وتحرقه بنارها وتطحنه برحاها، ثم تنثر رماد جثته على الحقل وتزرعه، ويكون جسد موت بمثابة سماد الأرض الذي يبث الحياة في الأرض ويكون مقدمة لبعث بعل.
يتخيل إيل حُلمًا يتضمن عودة بعل إلى الحياة وعودة خصوبة الأرض، وكأن هذا الحلم هو نبوءة لبعث بعل وعودة خصوبة الأرض. ثم ينقطع النص ويظهر الإله بعل بعد ذلك وهو يخوض معارك عدة ضد بعض الآلهة في محاولة لاستعادة عرشه.
وبعد أن يستنفد الإلهان قوتيهما تشرق الشمس وتظهر الإلهة «شبش» وتتدخل بينهما وتخبر موت موبخة إياه بأن إيل سينتزع منه دائم عرشه، ويكسر صولجان حكمه إذا استمر في قتال بعل، فيترك موت قتال بعل، ويستعيد بعل عرشه وتعود، سبع سنوات من الخير والوفرة والخصوبة.
ويبدو أن الكنعانيين قد توصلوا من خلال مراقبتهم للحياة الزراعية في أرضهم أن دور الخصب كان يدوم سبع سنوات فربطوها بموت «موت» وعجزه عن مجابهة بعل، وبعد انقضاء هذه المدة يعود القتال بين بعل وموت من جديد، وينتصر موت على بعل الذي يختفي في العالم السفلي، فتنحبس الأمطار وتجف الأرض ويموت البشر والحيوان ويسود القحط ويحل الجفاف والجدب مدة من الزمن تطول أحيانًا أو تقصر، وهكذا يتناوب الدَّوْران اللذان يسود في كل واحد منهما بعل أو موت (انظر: هبو، ١٩٩٩م، ٢٣٥).
(٣) صراع بعل مع قوى العالم الأسفل
يخوض الإله بعل صراعات أخرى مع قوى العالم الأسفل التي تحاول جره نهائيًّا إلى الموت؛ لكنه ينتصر عليها، وقد أحصينا سبعة صراعات أساسية مذكورة في سبع أساطير كنعانية ينتصر بعل في ستة منها؛ لكنه يموت في الأسطورة السابعة في صراعه مع «أكليم وعقيم»؛ ولذلك وضعناها ضمن أساطير الغياب التي تنذر باختفاء بعل من الوجود. ولا شك أن هذه الأساطير هي وجوه أخرى من أسطورة صراع بعل مع موت؛ ولكنها تختلف قليلًا، فهي تشبه الأساطير البابلية الخاصة بالصراع مع مردوخ، مثل إيرا وزو واللابو … وغيرهم، وهي أساطير توضح الغياب المؤقت لمردوخ في العالم الأسفل.
كذلك هذه الأساطير تفسير الغياب المؤقت لبعل من على وجه الأرض، وربما كانت تبرر فترات الجفاف القصيرة أو الانحباس المؤقت والقصير للمطر أثناء فترات الخصوبة والوفرة.
(أ) صراع بعل مع لتن (لوثان)
هناك إشارات سريعة لصراع بعل مع تنين مائي له سبعة رءوس يعتقد أنه «لتن» أو «لوثان»، وهو مقابل التنين العبري الذي يرد في أسفار العهد القديم «لوياثان» (مزمور ١٤: ٧٤) «أنت رضضت رءوس لوياثان»، والمقصود به هنا الإله «يهوه» وهو المقابل العبري للإله بعل الكنعاني.
«وفي أحد النصوص تتحدث الإلهة عناة عن انتصار بعل على النهر والتنين ذي السبعة رءوس، كما يحدثنا الإله «موت» عن انتصاره على تنين مشابه يرد ذكره في أسفار العهد القديم باسم لوياثان» (أذزارد، ١٩٨٧م، ١٨٩).
والتنين المائي ذو الرءوس السبعة مشهور في العالم القديم، فهو يرتبط قديمًا بالإلهة «تيامت» البابلية، وﺑ «هيدرا» ذات الرءوس السبعة التي قتلها هرقل وغيرها.
وفي كل الأحوال نلمح صراعًا مع «لتن» وانتصار بعل عليه، سواء أكان «لتن» هذا تابعًا ﻟ «يم»، أو «موت»، أو تنينًا من تنانين العالم الأسفل.
(ب) صراع بعل مع شليط
توصف شليط بأنها الأفعى ذات الرءوس السبعة، ويحتمل أنها تنين آخر مائي يشبه «لتن».
(ﺟ) صراع بعل مع أرش
يحتمل أن تكون هذه الإلهة هي «أرشكيجال» نفسها، إلهة العالم الأسفل السومرية والبابلية الشهيرة، وتعني «سيدة الأرض الكبيرة»؛ حيث «أرش» معناها «الأرض الكبيرة»، والمقصود بها «العالم الأسفل»، وهي حاكمة هذا العالم واسمها يرتبط بالموت. وهي زوجة إله العالم الأسفل «نرجال» إله الأمراض والأوبئة.
وربما حشرتها الأساطير الكنعانية كإلهة شريرة للعالم الأسفل وجعلتها تصارع «بعلًا».
(د) صراع بعل مع عتك
يوصف «عتك» بأنه «عجل إيل» ولا نعرف شيئًا عن هذا الكائن؛ لكنه بالتأكيد خاض صراعًا مع بعل وانتصر بعل عليه، ويمكن أن يناظر هذا الإلهُ «عجل بعل»، وهو إله القمر، وربما كان في مصلحته السفلى قبل البزوغ.
(ﻫ) صراع بعل مع إيل زبوب
هناك إشارة في أسطورة بناء بيت بعل تشير إلى أن عناة وقفت مع بعل في القضاء على «إيل زبوب» وتدمير بيته، وواضح أن هذا الإله يشبه «بعل زبوب»، فكلاهما إله الذباب والأمراض، ويمكن أن يناظر هذا الإله «نرجال» الذي كان الذباب رمزًا له كناية عن المرض.
(و) صراع بعل مع أشت
عرفنا أن الإله «أشت» هو إله النار القديم، ولا شك أن «إشت» هو الاسم المؤنث لهذا، وهي بذلك تكون إلهة النار التي دفنتها الذاكرة الكنعانية في العالم الأسفل وأصبحت تدل على «النار كلبة الآلهة» كما تصفها النصوص. وهو وصف دقيق؛ فلهب النار يبدو وكأنه نباح كلب بسبب تقطعه واتصاله.
(ز) صراع بعل مع الإله زيب
توصف زيب بأنها النار الملتهبة ابنة إيل، وهي ترافق الإلهة أشت لتوحُّد وظيفتهما، وربما دلَّا على نار الصيف الملتهبة التي تسبب الجفاف وهو يصارع الخصوبة (بعل).
(٤) أسطورة الغياب
ربما كانت أشهر هذه الأساطير هي صراع بعل مع المواشي المتوحشة «أكليم» و«عقيم»، حيث يقترح الإله إيل خلق مواشي متوحشة من وصيفتي الإله «يرح» إله القمر والإلهة عشيرة «زوجة إيل»، وهما «تاليش» و«دمجي»، وبعد أن تولد الوصيفتان الماشية المتوحشة «أقليم» و«عتيم» التي تشبه الثيران والجواميس ذات القرون يقرر الإله بعل الذهاب لاصطيادها؛ لكنه يصطدم بها فتصرعه ويسقط في الأوحال وتنتابه الحمى التي تهد جسده لمدة سبعة أو ثمانية أعوام (لنتذكر صراع بعل مع موت)، ويبدو أن هذا العقاب قد حصل بسبب أن الإله بعلًا ارتكب خطيئة ما (لأنه يحمل دم أخيه في رقبته مثل الثوب الذي يرتديه، مثل ثوب دم عشيرته)، ونرى بعدها يعثر على الإله المفقود وتقام له الطقوس والتعاويذ على الماء، وتفسر هذه الأسطورة من منظور آخر غياب بعل وجفاف الأرض.
ونرى أن هذه الأسطورة هي الأقرب إلى أسطورة أدونيس حيث يقتل الخنزير الإله أدونيس. ويمكن أن تكون هذه الأسطورة هي جذر أسطورة أدونيس لأنها الأقدم، حيث يستبدل بعل بأدونيس، خصوصًا أن اسم كليهما يعني «السيد». لكن أسطورة بعل تجسد صراع الإله الرسمي الكبير، أما أسطورة أدونيس فتجسد صراع الإله الشعبي. وهو ما يذكرنا أيضًا بأسطورة مردوخ الرسمي في مقابل تموز الشعبي في وادي الرافدين أو أسطورة رع الرسمي في مقابل أوزيريس الشعبي في وادي النيل.
•••
البعول (البعليم)
لا شك أن نظرة متفحصة لشجرة الآلهة تعطينا صورة كاملة وواضحة لأشكال، وربما لأبناء، بعل الذين اتخذوا لهم ما يناسبهم من المدن والصفات والمياه والمنار والكواكب والحرب، وهناك بنات لبعل أيضًا. ولا نريد هنا أن نتوسع في دراسة كل منهم، إلا أننا سنمرُّ سريعًا على بعضهم.
ومن بعول الصفات نتعرف على بعل أدير (بعل القدير) الذي كان أحد آلهة جبيل منذ القرن الخامس ق.م. ونراه في شمال أفريقيا كإله حرب.
أما بعل مرقد فهو «بعل الرقص» الذي كان له معبد في دير القلعة ببيروت ونبع يشفي من الأمراض. وربما كان له علاقة بإله الرقص المصري «بيس» واسمه الآخر «ملك المآدب والولائم»، أي إن هيكله كان للقصف والمرح والمتعة، وشيد له الرومان معبد جوبيتر «المشتري بعل مرقد»، وكانت زوجته الملكة جونون وهي هيرا إلهة الأسرة والزواج، وتقابل تانيت عند الفينيقيين الغربيين وعشتروت عند الفينيقيين الشرقيين. وتذكره النقوش اليونانية واللاتينية على شكل «بلمركوس»، أي إن ماركوس أو ماركس تقابل مرقد التي تعني مرقص.
أما من بعول المياه فنشاهد عليان أو عاليان الذي يوصف بأنه ابن الإله بعل ويختص بالينابيع.
ولبعل عدة بنات منهن الثالوث «أرصاي، بدراي، طلاي»، وهن آلهة «الأرض، البدر، الندى» وثالوث آخر … إلخ.
وهكذا نرى هذا السيل الكبير من الآلهة التي كانت تسمى باسم بعل «والسؤال الذي ما زال قائمًا هو: هل أسماء بعل الكثيرة والمختلفة تشير إلى آلهة عدة متباينة؟ أم أنها تصف ظواهر الإله الواحد في كل موقع أو مدينة، والاعتقاد السائد حتى اليوم أن اسم بعل كان يطلق على كل إله باستثناء «بل»، الرافدي، ولم يتحول إلى اسم علم إطلاقًا» (أذزارد، ١٩٨٧م، ١٨٢).
ولا نتفق مع هذا الرأي؛ لأن كُتاب العهد القديم هم الذين كرسوا تعميم بعل هذا، فهو إله محدد قائم بذاته ساد في الديانة الكنعانية منذ بداياتها المبكرة، رغم أنه ظهر بعد إيل، أما كثرة ذكره مع آلهة أخرى فهي أشكال متعددة له حسب الأماكن والمدن والصفات والحالات كما أوضحناه أعلاه وفي شجرة الآلهة الكنعانية.
(٤) أسطورة عناة
- (١)
بتلت: أي البتول أن العذراء.
- (٢)
رحم: العذراء الرحيمة والحنونة.
- (٣)
عت أم: أي «عناة أمي» أو عناة الأم.
- (٤)
عت نر: أي «عناة نوري» وعناة نورنا.
- (٥)
عت نتن: أي عناة العاطية أو المانحة.
- (٦)
عت كبر: عناة الكبيرة.
- (٧)
يكون عت: عناة قوية كالوجود.
- (٨)
عناة هرتي: عناة السعيدة (لقب مصري).
- (٩)
عناة تحمي.
- (١٠)
عناة المنتصرة.
- (١١)
يمامة الشعوب.
وتظهر الإلهة عناة في أقدم منحوتاتها الأوغاريتية من الفضة بصفة امرأة ذات شعر قصير وأنف منقاري يشبه أنف بعل في أقدم منحوتاته، ويدين تمتدان إلى الأمام. كذلك تظهر وهي مسلحة بأسلحتها المختلفة، وتظهر جالسة على العرش.
- (١) أناهيت: وهي الإلهة التي شاعت عبادتها بصيغ مختلفة في إيران والعراق والشام، ففي إيران سميت «أناهيت» زوجة الإله أهورامزدا إله النور الأكبر. وفي العراق، ظهرت بصيغ مختلفة تدل عليها مدينة «عانة» الحالية في العراق والتي كان اسمها باللغة السومرية «أناثا Anatha»، أنات Anat، An-At-، أ-نا-أت (انظر: علي، ١٩٨٠م، ٨٢).
ويقال إن اسم «أناهيت» أطلق على اسم مدينة واحدة كانت تضم عانة وهيت، فلما انتهت عبادة أناهيت انقسمت المدينة إلى مدينتين هما «عانة» و«هيت» العراقيتين.
كذلك تظهر أناهيت عند الآراميين تحت اسم «أنحت» و«أنهت» وهي زوجة ورفيقة الإله حدد. ويمكن أن تكون هذه الإلهة قد نشأت مباشرة من اسم «إنانا».
- (٢) تأنيت: وهي الإلهة التي شاعت عبادتها في شمال أفريقيا عند البربر أولًا ثم عند البونبيني، وكانت رفيقة الإله بعل حمون، وقد ظهر رمزها الشهير في بعض المدن الفينيقية الشرقية مثل بيروت. وتظهر صفاتها مشابهة لصفات الإلهة «عناة» مع ميل أمومي أكثر.
- (٣) أثينا: وهي إلهة الحكمة وسيدة عاصمة الإغريق التي نرى أن أصولها المثولوجية هي أصول مشرقية تمتد إلى «عناة» التي تمتد بأصولها إلى «أنانا».
ويرى مارتن برنال في كتابه «أثينة السوداء» أن هناك علاقة كبيرة بين أثينا والإلهتين المصريتين «نت» و«نيت»، وهما إلهتان عذراوان للحرب والنسيج والحكمة. كانت عقيدة الإلهة نيت متمركزة في مدينة سايس في غرب الدلتا، وقد كان اسم «سايس» هو الاسم المدني للمدينة، بينما كان اسمها الديني هو «حت نت» أي معبد أو بيت نت، والذي تحور إلى آث-نت، ثم اختفت التاء في العصور المتأخرة في كل من اللغتين الإغريقية والمصرية (انظر: برنال، ١٩٩٧م، ١٤١-١٤٢).
ونرى أن الإلهة أثينا اشتقت من «عناة»، وهو ما كان يشير إليه المؤرخون السوريون القدامى وما تشير له التشابهات الواضحة بين تماثيل «عناة» وأثينا من خوذة الراس إلى الأسلحة، وحتى ملامح الوجه (انظر: المخطط (٧))، وبذلك يمكننا وضع المخطط التالي لاشتقاق هذه المنظومة من الأسماء المتداخلة والمتشابهة.
(٥) أسطورة أدونيس
مع ظهور الفينيقيين الواضح في بداية الألف الأول قبل الميلاد، وصعود المدن اللبنانية الساحلية كانت أسطورة بعل تتوارى في السهول والوديان، وتنشأ محلها أسطورة أدونيس ذات الإيقاع المحلي والمتاخم لمناخَي الرافدين والنيل.
كان الكنعانيون يسمون إله مدينة جبيل «آدون» ومعناه «السيد» أو «الرب» وهو يطابق في معنى اسمه ذات الإيقاع المحلي والمتاخم لمناخي الرافدين والنيل.
وأدون هو إله رافدَيني الأصل يمثله دموزي السومري وتموز البابلي، وهما إلها المراعي والخصب والجمال، وقد ارتبطا بعلاقة عشق مع إلهتين؛ هما: إنانا مع دموزي، وعشتار مع تموز، وكان هذا الثنائي العاشق أصل أساطير الحب في العالم القديم.
كذلك يرتبط أدون بعلاقة متناظرة مع أوزيريس الإله المصري وزوجته إيزيس، وقد رحلت عبادة أدونيس إلى مصر وكان له معبد في مدينة فاروس «الإسكندرية» القديمة، وبالمقابل امتد أثر أسطورة أوزوريس إلى مدينة جبيل وكان له ولزوجته معبد فيها.
وما زلنا نفتقد الأسطورة الأصلية الكنعانية أو الفينيقية للإله أدون؛ ولكن الرواية الرومانية لها هي التي بين أيدينا، وهي على لسان الشاعر الروماني أوفيد في «مسخ الكائنات. الكتاب العاشر».
ويبدو أن عبادة أدونيس في سوريا ولبنان كانت متأخرة نسبيًّا؛ لكننا نعثر على ما يشير إليه إغريقيًّا في القرن الخامس قبل الميلاد.
وتتحدث الوثائق عن الاحتفالات السنوية التي كانت تقام من أجله، حيث يكثر فيها البكاء والنحيب في كل من أثينا والإسكندرية في عصر البطالمة (بطليموس الثاني)، ثم في جبيل وأنطاكيا حوالي القرن الثاني للميلاد، وقد وصلت عبادته إلى روما حوالي القرن الأول قبل الميلاد.
وسنقوم بتلخيص أسطورة أدونيس كما وردت عند أوفيد (انظر: أوفيد، ١٩٧١م، ٢٩٦–٣٠٣).
ولادة أدونيس
كانت مورا (مورها) فتاة جميلة جدًّا تفاخرت ذات يوم مع الإلهة فينوس بنعومة شعرها فحقدت عليها فينوس وحكمت عليها بأن تقع في حب آثم لوالدها، فوجهت ملاك الحب كيوبيد ليرشقها بسهام الحب وهي نائمة، فرشقها وإذا بها تتعلق بحب والدها.
وبدأ الخطاب يتقاطرون عليها لكن «مورا» كانت ترفضهم جميعًا، وكان حب أبيها ينمو بين جنباتها حتى أسرَّت به ذات يوم إلى مربيتها التي دبرت لها حيلة لتلتقي بأبيها وتمارس معه الحب.
وانتظرت حتى ثمل الأب فدخلت المربية عليه وأخبرته بأن هناك جارية من جواريه تريد أن تعاشره فوافق الأب، ودخلت عليه ابنته «مورا» واضعة وشاحًا على وجهها حتى لا تسمح لأبيها بالتعرف عليها، وهكذا مارست الحب معه. وبعد وقت حملت من هذا الحب المدنس جنينًا، ثم عاودت ممارسة الحب عدة مرات مع أبيها حتى كشفها ذات يوم فنهض من فراشه وأمسك بيده السيف يريد قتلها؛ لكنها هربت في الظلام وخرجت من القصر هائمة على وجهها.
ولما يقرب شهور حملها التسعة ظلت هاربة في القِفار، ولما اقترب موعد ولادتها تضرعت للآلهة بأن تصبح بين الحياة والموت وتتحول إلى شجرة.
وكان لها ما أرادت فإذا بالأرض تتجمع حول قدميها وأصابعها تمتد وتتحول إلى جذور رفيعة تحفر الأرض وتتحول ساقها إلى ساق شجرة وارفة، ثم تتحول أيديها إلى أغصان متشعبة وعظامها إلى خشب ودمها إلى عصارة نباتية ويتحول جلدها إلى لحاء، وهكذا تحولت إلى شجرة اﻟ «مر» التي تستخدم كبخور في أعياد أدونيس.
(ب) خلاف فينوس وبرسفونة على أدونيس
كانت فينوس تراقب مشهد ولادة أدونيس، فتعلق فؤادها به لجماله فهبطت من السماء وأخذت الطفل ووضعته في صندوق وأرادت أن تخفيه عن عيون الناس والآلهة، فهبطت به إلى العالم الأسفل وطلبت من أختها «برسفونة» ملكة الجحيم وإلهة العالم السفلي الاحتفاظ به والعناية بتربيته.
كبر أدونيس في أحضان برسفونة فتعلقت به هي الأخرى، وتخاصمت الأختان ورفعتا شكواهما إلى رب الأرباب «زوس» أو «جوبيتر» حتى يحكم بينهما، فأمر بأن ينقسم عام أدونيس إلى ثلاثة أقسام (كل قسم في أربعة أشهر)؛ فيكون الثلث الأول مع فينوس، والثلث الثاني مع برسفونة، والثلث الأخير يترك لأدونيس يقضيه بحريته مع إحداهما، فاختار أدونيس أن يقضيه مع فينوس في العالم الأرضي.
(ﺟ) فينوس وأدونيس
كان أدونيس يقضي ثلث العام مع فينوس، وكانت هواية أدونيس هي الصيد وكان يصيد دون مبالاة بشيء؛ ولكن فينوس كانت تراقبه من مركبتها السماوية فتعلقت به حبًّا وكانت تحاول إغواءه؛ لكنه لم يكن يبالي بها، فاشتعل حبها له حتى استطاعت أن تجره إلى حب جسدي شهواني عنيف، وكانت تحذره من الحيوانات التي يصطادها وحكت له ذات يوم قصة أتلانتا التي غلبها في العَدْو هيبومينيس فتزوجته؛ لكنهما ارتكبا خطأً كبيرًا عندما مارسا الحب في أحد المعابد ودنسا محرابه فتحولا إلى أسدين يسكنان الغابة.
(٥) دم أدونيس
سمعت فينوس أنين أدونيس وكانت فوق عربتها التي تقودها البجعات المجنحات نحو قبرص (حيث قصرها في بافوس) فأدارت طيورها البيضاء نحو جبيل في لبنان، وعندما وصلت إلى هناك شقت ثوبها ولطمت وجهها وجرَّت شعرها وهالها منظر دماء أدونيس، فقررت أن تحول دم أدونيس إلى حمرة تجتاح الزهور البيضاء (نكاية بما فعلته أختها برسفونة التي حولت مورا إلى شجرة عطرة) وهكذا صبت فينوس على دم أدونيس رحيق زهرة عطِرة، فغلى الدم وتصاعدت منه فقاعات صافية ثم انبثقت من بين الدماء زهرة بلون الدم تشبه زهرة الرمان، وهي زهرة شقائق النعمان.
ولتحليل هذه الأسطورة الرومانية الرواية وإرجاعها إلى الأصل الكنعاني سنقوم بمجموعة من المقارنات التي تعيننا على تلمس ذلك، والتي ستهم في تعميق شخصية أدونيس ومعرفة أغواره.
-
• أدونيس وعلاقته
بالسماء: لا يمكننا المرور عابرين على اسم والدة أدونيس «مورا» أو
«مورها»؛ فهذا الاسم يذكرنا باسم «مورا» وهو الاسم الذي كان
يطلق على أرض فلسطين، وهو في رأينا اسم له علاقة كبيرة
بالأموريين، الذين كان إلههم «مارتو» هو الإله القومي لهم. إضافة
إلى أن اسم «مر» كان يدل على إله السماء القديم عند الأموريين.
ويؤكد هذا أيضًا أن أم أدونيس تحولت إلى شجرة اﻟ «مر».
فأدونيس والحالة هذه يبدو لنا وكأنه ابن السماء، وهي صفة تنسحب أيضًا على بعل وإيل قبله.
-
• أدونيس وعلاقته
بالشمس: نرى أن «أدون» هو تصحيف عميق لكلمة «أتون» التي تعني الشمس،
وأصلها إله الشمس السومري «أوتو» صديق دموزي (الإله الراعي)،
وهو إله الشمس المصري الذي رفعه إخناتون لمستوى التوحيد المطلق
«أتون».
وهناك ما يشير إلى علاقة أدونيس بالشمس في ظهوره واختفائه كل ستة أشهر؛ حيث يبدو خلال فصلي الربيع والصيف قويًّا ساطعًا ويختفي أو يقل ضوءُه خلال فصلي الخريف والشتاء، وهو ما يفسر الظهور الدوري لأدونيس كل ستة أشهر، فإذا كان بعل يفسر دورة خصب الأرض السبعية فإن أدونيس يفسر دورة الفصول الأربعة.
وهناك من يرى أن «ظهور أدونيس في الستة أشهر الأولى كظهور الشمس قوية على نصف الكرة الشمالي، حيث المنطقة التي عُبد فيها أدونيس، أما اختفاؤه فيعني انتقال الشمس إلى نصف الكرة الجنوبي، واتسامها بالضعف والاختفاء وراء الغيوم في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وهكذا تكون دورة الشمس بين شمال وجنوب، أو بين قوة وضعف، وما ينتج عن ذلك من تعاقب الفصول» (جمعة، ١٩٨١م، ٥٥-٥٦).
-
• أدونيس وعلاقته
بالنباتات: يمثل أدونيس من وجهة نظر الكثير من الباحثين روح النبات؛ فقد
ولدته أمه شجرة المر، وكان يتغذى قبلها على عصارة النباتات.
ودورة حياته تمثل دورة حياة النبات؛ عندما يكون بذورًا في باطن
الأرض، ثم يظهر في الربيع وحتى يأتي الخريف فيذبل وتتساقط بذوره
على الأرض … وهكذا. وكان الناس يعبدون أدونيس ويفرحون بولادته
ويبكون لمماته حبًّا في النباتات، وخصوصًا القمح الذي يشكل مصدر
طعامهم الأول.
كذلك تشير شقائق النعمان إلى اتحاد دم أو روح أدونيس مع النباتات، وتحوله إلى لون أحمر، وتذكر الأسطورة أن دماء أدونيس قد سالت إلى نبع أفقا؛ حيث ينبع هناك نهر إبراهيم الذي كان يسمى «نهر أدونيس» حيث تختلط دماء أدونيس بمياه النهر فتتحول مياه النهر إلى حمراء (وهي إشارة إلى الظهور الموسمي للطمي الأحمر بعد ذوبان الثلوج) (انظر: جمعة، ١٩٨١م، ٥٥).
-
• جذور أدونيس التموزيَّة
والأوزيريَّة: وقد أشرنا إلى هذا الأمر مرارًا؛ حيث اكتسب أدونيس أسطورته من
أسطورة تموز وعشتار (السومرية الأصل: دموزي وإنانا)؛ إذ يغيب
تموز في العالم الأسفل وتبحث عنه عشتار عندما تنزل إلى هذا
العالم فتقتلها أختها أرشكيجال، ثم تقضي الإلهة بأن يبقى تموز
ستة أشهر على وجه الأرض وستة أشهر تحت الأرض، حيث تنوح عشتار
على حبيبها عندما يغيب:
«ترفع صوتها في النواح إذا فارق الدنياترفع صوتها في النواح قائلة: وا ولداه!ترفع صوتها في النواح إذا فارق الدنيا قائلة: أواه يا دامو!ترفع صوتها في النواح لتقول: يا ساحري، يا كاهني!هناك حيث أرسلت شجرة الأرز المشرقة جذورها في المكان الفسيح في «عيانا» في التلال والوهاد، ترفع صوتها في النواح.وهي تنوح نوحها على الحشيشة التي لا تنمو في تربتها، تنوح نوحها على القمح الذي لا ينبت في سنابله» (فريزر، ١٩٧٩م، ٢٠-٢١).
وتشكل أسطورة أوزيريس وإيزيس المصرية جذرًا آخر من جذور أسطورة أدونيس كما علمنا.
- • أدونيس وعلاقته بعمون ومؤاب: تذكرنا أسطورة أدونيس بقصة لوط في العهد القديم، حيث تلد ابنتا لوط من أبيهما (بعد أن أسكرتاه) ابنين هما بنعمي ومؤاب، وهما على التوالي أبو العمونيين وأبو المؤابيين. وفي قراءتنا للمثولوجيا الأردنية القديمة نرى أن الإلهين ملكون وبعل هما إلها عمون ومؤاب، وهما صورتان من صور الإله أدونيس، ويشترك بنعمي ومؤاب مع أدونيس بأصلهم الخاطئ، حيث ضاجع أبو مورا ابنته وأنجب بذرة خاطئة هي أدونيس، وكذلك فعل لوط مع ابنتيه.
-
• أدونيس وعلاقته بالإله
«أدد»: كان الإله أدد يسمى أيضًا «أد» أو «أدد»، وهو إله المطر
والصواعق السومري والذي له علاقة بالخصب والزراعة، ويمكن أن
يكون هذا الاسم قد تحول إلى «أدون»، وهو بذلك يلتقي مع البعل في
أن البعل هو المقابل الكنعاني للإله الآرامي أدد أو حدد الذي
التحم به فيما بعد وأصبح يعرف ﺑ «بعل حدد».
والجدير بالذكر أن هناك منحوتات وتماثيل كثيرة في لبنان جسدت أسطورة أدونيس أو بعض مشاهد منها تلك النقوش التي عثر عليها في «غينة» وفي «المشنقة» قرب وادي نهر أدونيس أو نهر إبراهيم. ففي آثار غينة نشاهد نقشًا بارزًا لبطل يصارع حيوانًا يُعتقد أنه أدونيس يصارعُ الخنزير، وهناك نقش لامرأة حزينة بالقرب منه (شكل ٢-٤١، ٢-٤٢).
-
• أدونيس وعلاقته بالإله
«هاي-تاو Hay-Tau»: في مدينة جبيل «ببلوس» عثر على أسطوانات أو أختام تختم بها
صفحات الكتابة في العصر التيني المصري حوالي (٣٠٠٠ق.م.) وعلى
هذه الأختام الأسطوانية صور مصرية الطراز للإلهة جبيل، وهي إلهة
بملامح إيزيس-حاتحور، وقد جعلت على رأسها قرني بقرة وجلست إلى
جوار إله يدعى هاي-تاو، وهو الذي دعاه الإغريق فيما بعد أدونيس
(انظر: بنت بطوطة، د.ت، ٩٢).
وقد استحال هذا الإله إلى شجرة صنوبر كما في أسطورة أوزيريس الذي ليس جثمانه بمعجزة جذع شجرة الأثل، ونرجح أنه يكون اسم هاي-تاو شكلًا مذكرًا من اسم حاتحور أو هاتحور، وربما كان مقطع تاو Tau يشير إلى إله الكتابة تاؤوس الذي هو تحوت المصري، الذي وُصف بإله القمر، والذي ربما لاقى مصيرًا يشبه مصير أدونيس.
-
• أدونيس وعلاقته بالإلهة
«أشمون»: وهو إله الطب الذي يشبه إسكلابيوس الإغريقي، وله علاقة بروح
الأعشاب والنباتات الأرضية وخصوصًا الأشجار.
وكان لتشبيه أدونيس بأشمون وما رآه الإغريق من تحويله إلى أدونيس صدًى بعيد الأثر ملفت النظر فيما تخلف من كتابات جنائزية من عصر بيبي الأول من فراعنة الأسرة السادسة، فإن بيبي في ناووسه الخشبي قد قارن نفسه بالإله هاي-تاو أي أوزيريس (انظر: بنت بطوطة، د.ت، ٩٢-٩٣). وتمثل علاقة أشمون بأدونيس مظهرًا من العلاقة المشتركة بينهما وبين النباتات.
(٦) أسطورة أشمون
تناظر شخصية الإله أشمون وتتماهى مع شخصية الإله «ملكارت»، فهو إله النار، وهو إله صيدا أو صيدون.
وعُبد هذا الإله في قرطاج وبُني له فيها معبد يقع على قمة بيرسا، وباتت أسماء العلم التي تضم لفظة أشمون كثيرة الاستعمال، وفي قرطاج، كما في صيدون، ماثل هذا الإله أسكولاب (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٦٥).
وتشير الآثار إلى أن بيروت كانت المكان الأول لعبادة الإله أشمون، ثم انتقل إلى صيدا ومنها إلى قبرص وسردينيا وأفريقيا وقرطاج، وكان اسمه في صور «ياسومون» وهو إله الطب والشفاء، ويشير لهذا مقطعُ «ياسو» أو «آسو» في اسمه، والذي يشير إلى الطب، وهو ذات المقطع الذي في أسكولاب إله الطب اليوناني، حيث كان إله الطب السومري اسمه «ننازو» أو «نناسو» أي سيد الأطباء، وربما كان اسم «ياسمين» للدلالة على هذه الزهرة العطرة له علاقة بكونها عشبة طبية.
وقد ظهرت التفسيرات القديمة التي حاولت تفسير اسم أشمون غير دقيقة، تلك التي قام بها فيلون «مسكيوس على اعتبار أن اسمه يعني الثامن «شامون» معتمدين على أساس أن أسكولاب هو الابن الثامن للإله إيل من صديقه، وهو أمرٌ غير دقيق» (انظر: أذزارد ١٩٧٨: ١٧٤).
وتتدخل أسطورة وشخصية أشمون مع شخصيتَي أدونيس وبعل. ويذكر المؤرخ دمسقيوس (من القرن الرابع الميلادي) مقارنة بين أسطورتي أدونيس وإسكلابيوس (إله بيروت) ويقول: «ليس أدونيس مصريًّا ولا يونانيًّا بل فينيقيًّا، وإنه يسمى إيسمونوس وإنه ابن صاديقوس، وربما كان اسم أدونيس غطاءً أو لقبًا وُضع فوق اسم أشمون على نحو يخفي لقب «بعل» وهو الاسم الحقيقي الذي يسمى به الإله الأعظم، وأما ارتباط مولده بشجرة فهو تصور طبيعي في بلد ذي غابات» (انظر: عصفور، ١٩٨١م، ١٥).
أما الأسطورة التي تروى عن أشمون فتقول إن أشمون كان شابًّا فتيًّا يحب الصيد، وبينما هو في رحلة صيد وقعت بحُبه الإلهة «أسترونه»، وهي إحدى مظاهر الإلهة عشتار، وبدأت تلاحقه بلهفة دون هوادة، مما اضطره لأن يخصي نفسه فيموت أثر ذلك، ولكن الإلهة تمكنت من إعادته إلى الحياة بحرارة الدفء الإلهي وجعلت منه إلهًا، ومن هنا جاءت تسمية أشمون حيث أن كلمة «إش» تعني النار (أذزارد: ١٩٧٨م، ١٧٤).
وجوهر هذه الأسطورة لا يختلف عن أسطورة أدونيس. وفي رأينا أن آلهة الخصب والزراعة تتماهى دائمًا مع وظيفة الطب والشفاء والنار، ونجد في الأساطير السومرية أصدق الأمثلة على ذلك؛ فشخصية دموزي «أصل أدونيس» ترتبط دائمًا بشخصية نذكشزيدا إله الطب السومري، وإلهات الزراعة (باو، كولا، ننتي ننسينا … إلخ) كلهن إلهات طب وشفاء … وهكذا.
وكان لأشمون معبد كبير في قرطاج على قمة بيرسا، استبدل في العهد الروماني بمعبد إله الطب «إسكلابيوس».
(٧) أسطورة شدرافا
وهو إله الطب والشفاء أيضًا، ويتماهى مع ملكارت وأشمون، وقد فسر اسم شدروفا أو شدرافا بمعنى «شد الشافي» وكلمة شد أو شيدو أو شدو هو الإله الحامي، وهو إله شفاء متخصص بالشفاء من لسعات الثعابين والعقارب والحشرات. ولذلك كانت المنحوتات تصور شدرافا مع الثعابين والعقارب، ويعتقد أن له علاقة بالإلهة «سديد».
ربما كانت له علاقة كبيرة مع كائنات تدعى «رفائيم» أو «رفوم» التي لها علاقة بالشفاء والإخصاب، وهي كائنات أو عفاريت عملاقة؛ ولذلك جاء أول ذكر لهذا الإله مع عمريت (في القرن الخامس قبل الميلاد). وأهم المدن التي عُبد فيها هي صور وصيدا وإيليس ومعد وقرطاج.
ونرجح أن أسطورة شدرافا لا تختلف في جوهرها عن أسطورة أدونيس أو أشمون؛ ولكننا لا نملك نصًّا صريحًا عن هذه الأسطورة، ويظهر الإله شدرافا (شدوفا) في نقوش أنصاب عمريت على الساحل السوري بهيئة قريبة من هيئة الإله «بعل»؛ ولكنه يحمل، في أحد النصبين، بيده اليمنى سلاحًا غير واضح المعالم، أما في النصب الآخر فيحمل ما يشبه البلطة أو الفأس على شكل مرآة مثلومة. في حين حمل بيده اليسرى في النصب الأول حيوانًا صغيرًا، ربما كان جديًا أو أرنبًا أو شبل أسد، ويعتمر الإله في النصبين بغطاء رأس مخروطي له ذيل اتضح طوله في أحدهما، ويقف على أسد يظهر في أحدهما واقفًا على تلول العالم الأسفل الرمزية. ويظهر الشمس والقمر وفوقهما جناح الأفق أعلى رأس شدرافا في أحد النصبين. ونرى أن ظهور الأسد له علاقة بالألوهة المؤنثة التي ربما كانت لعناة بشكل عام؛ ولكنها هنا مأخوذة من رفيقة شدرافا وهي الإلهة «سديد» التي تظهر هي الأخرى واقفة على أسد في أحد منقوشاتها متخذة شكل عناة وهي تمسك البردي واللوتس (ربما الريحاني).
(٨) أسطورة حرون
كانت كلمة «حر» و«حور» التي اشتق منها اسم الإله حرون مرتبطة بالشمس، وكذلك تعني كلمة «حور» حفرة أو جوف، وكان العرب يشيرون إلى كوكب المشتري بهذه الكلمة. وكان الطائر الصغير القصير الذنب المائل إلى الخضرة والذي كان يرتبط بالشمس يسمى «حُر». وكان الإله المصري «حور» أو «حورس» ملك الآلهة المصرية وابن إيزيس وأزوريس ووريث «رع» وهو إله الشمس وكان الصقر رمزه الأعظم.
والإله الكنعاني «حورون» يرتبط بالقوة والحرب والشمس، ويعتقد أن اسمي «حوران» و«حران» لهما علاقة بهذا الإله. وهناك من يرى أنه إله العهود والمواثيق لأنه «لا ينطق إلا بالحق»، كما تروي بعض النصوص ذلك.
وكذلك ظهر هذا الإله مرتبطًا بالإله «رشف» والإله «شلمان أو شاليم» والإلهة «عناة»، ويشبه في صفاته صفات الإلهين السومريين «نرجال» و«ننورتا»، وهما إلها العالم الأسفل والعاصفة.
وفي مصر ظهر الإله «حورون» مصوَّرًا على شكل عقاب كإلهٍ أمام الفرعون رمسيس الثاني فوق أحد تماثيله المكتشفة في عاصمته «ممفيس» في الدلتا، وكان تمثال أبو الهول الكبير في الجيزة من عصر السلالة الثامنة عشر يُعبَد على أنه الإله «حورون» (انظر: أذزارد ١٩٨٧م، ٢١٠).
ونرى أن مدينتي حوران (جنوب سوريا) وحَران (شمال سوريا) لهما علاقة بعبادة قديمة كانت قائمة للإله «حورون» فيهما.
ويعبتر «حورون» إلهًا رئيسيًّا في مدينة يمينا «حورون يبن» في القرن الثالث ق.م. كما اقترن اسمه مع هرقل «ملقارت» في نص مدون باللغة اليونانية فوق مسلة عثر عليها في جزيرة «دلوس». وتسميه النصوص الأدبية المندائية ﺑ «عبقري حوران وظل الوجود» (انظر: المرجع السابق، ٢١١).
وظهر الإله «حورون» على مسلة شيحان في مؤاب (في منطقة رجم العبد) حوالي القرن الثاني عشر أو الثالث عشر؛ بصفة إله محارب يمسك رمحًا بيديه، ويأتزر بتنورة المحاربين، ويعتمر بكبوس ظهر منه الذيل المعقوف المدلى خلف ظهره وهو يشبه كبوس الإله بعل، ويظهر إلى جانبه صورة الإله حورس وقد اتخذ شكل العُقاب (رمزه الشمسي)، وهكذا تترسخ الصفات الشمسية والسفلية والحربية لهذا الإله وتضعف عنده الصفات الخصيبة.
ولذلك نرجح أن تكون أسطورته مختلفة كليًّا عن منظومة أسطورة أدونيس التي شملت أشمون ورشف وشدرافا. ونعتقد أنها أقرب لأسطورة إله شمسي أو سفلي.
(٩) أسطورة شبش
لكن النزعة الشمسية في الديانة الكنعانية ظهرت في نهاياتها، وتحديدًا في المرحلة الهيلنستية، فصارت الشمس تغمر بصفاتها حتى الثالوث الإلهي (بعل حدد، أترغاتس، سيمسو)، وصارت بعلبك مدينة الشمس، وظهرت مظاهر أخرى مع طغيان الديانة الرومانية.
لقد كانت عبادة الطبيعة المخصبة المباشرة هي الأساس في الديانة المصرية ذات الطابع الشمسي، أو من الديانة الأكدية ذات الطابع الشمسي أيضًا؛ بل ظلت أمينة لبيته أو إيقاعه الخصيب.
ويظهر دور الإلهة «شبش» في صراع بعل مع موت عندما تعثر على جثة بعل، وعندما تهدد بعنف «موت» حين يعود لصراعه مع بعل.
(١٠) أسطورة يرح (القمر)
كان القمر أوفر حظًّا من الشمس في حضوره الأسطوري (على قلته). ومن الطريف أن يأخذ القمر شكلين مختلفين عند الكنعانيين؛ أولهما أنثوي، والآخر ذكري.
كان الشكل الأنثوي للقمر هو الإلهة «نيكال» التي هي من أصل رافديني معروف، فهي إلهة القمر السومرية التي يرد اسمها على شكل «نتكال»، أي السيدة العظيمة، ويرد اسمها كثيرًا في قوائم الأضاحي في أوغاريت. «ويُعتقد أن الإلهة كانت تتمتع بطقوس شعبية لائقة في أوغاريت، ومن المحتمل أن مركز عبادتها الأساس كان في حران، التي كانت إحدى مراكز عبادة إله القمر الرافديني «سن» الرئيسية، وانتقلت عبادتها من هناك في وقت مبكر إلى سورية» (أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٤٨).
أما الشكل الذكري للقمر فهو الإله «يرح» ويسمى أيضًا «ياريش»، وسنرى كيف يكون الإله «يرح» مصدر العبادة القمرية في جزيرة العرب واليمن من خلال الإله «ورخ». وهناك أسطورة زواج يرح من نيكال توصف فيها الإلهة العروس على أنها ابنة إله يلقب ﺑ «ملك ثمار الصيف»، وتحضر حفل الزواج الإلهات المسئولات عن الحمل والولادة «كوثرات»، ويهتم القسم الأول بخطبة العريس وطقوس عقد القران وحفل الزواج حسب التقاليد الكنعانية القديمة. أما القسم الثاني من الأسطورة فيخص مرحلة ما بعد الزواج، وكيف أن الإلهات كوثرات يتهيأن لاستقبال الطفل الجديد من هذا الزواج، الذي هو ثمرة مباركة تنبئ بخصب الأرض والطبيعة أيضا.
وهكذا تصبح أسطورة القمر أسطورة هامشية على متن الفاعلية الخصبة التي يشكل أساسها إيل وبعل وعناة بالدرجة الأساس. وهو أيضًا ما يعكس عدم اهتمام الكنعانيين بالشمس والقمر والكواكب بشكل عام في أساطيرهم وحياتهم؛ لعدم أهميتها المباشرة قياسًا إلى دورات الخصب والجفاف والمطر والري.
(١١) أسطورة حمون
لا نملك نصًّا صريحًا يشرح لنا بدقة أسطورة حمون وتانيت في شمال أفريقيا، رغم وجود إشارات كثيرة إلى وجود مثل هذه الأسطورة؛ لكننا نستطيع أن نخمن أنها مزيج من أسطورة بعل وعناة وأسطورة ملكارت؛ وذلك بسبب من الطبيعة النارية للإله حمون.
كان الإله حمون، أو «بعل حمون» إلهًا كنعانيًّا/فينيقيًّا انتقلت عبادته مبكرًا إلى شمال أفريقيا، وساعد على ترسيخ وجوده اتخاذ صفاته مع صفات الإله المصري «آمون» الذي كان له معبد كبير ومشهور في واحة سيوة الغربية باتجاه الصحراء الليبية «وقد اقترح الأستاذ ستاركي تفسيرًا لمعنى الاسم «سيد المباخر» معتمدًا في تفسيره على وجود عدد كبير من الأنصاب في قرطاجة عليها مشاهد تقدمه البخور» (أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٠٢).
ويبدو أن الإله بعل حمون عُبد من قِبل البربر كإله قومي خالق، وكانت أنصابه في قرطاج قبل القرن الخامس قبل الميلاد تذكره لوحده، ثم تغيرت العقيدة الدينية القرطاجية واستبدلت ملكارت وعشتار ببعل حمون وتانيت، وأصبح يحتل المرتبة الثانية بعد تانيت.
وكان حمون في شمال أفريقيا ينبع من علاقته المقربة مع «آمون» المصري «وربما كان ذلك لأن الإله آمون كان له معبد ذائع الصيت بالنسبة للساحل الأفريقي الشمالي بأسره، وهو المعبود الموجود في واحة سيوة، ومما يزيد في تأكيد هذا التشبيه أن الإله بعل حمون كان يُمثَّل بقرني الكبش وملتحيًا مثل الإله آمون المصري» (عصفور، ١٩٨١م، ١٤٧).
وقد عبد البربر هذا الإله قبل مجيء الفينيقيين إلى شمال أفريقيا.
كان «حمون» سيد البانثيون البوني ومطابقًا للإلهين «زوس» و«أبولو» والإله «ساتون» في الحقبة الرومانية حيث عرف بهذا الاسم.
وقد تعني كلمة «بعل» سيد الألواح النقشية، وربما اشتقت كلمة حمون من كلمة حمامين التي تدل على الألواح النقشية كما ترى ذلك ميادان (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٦٤).
ولكننا نرى العكس؛ حيث يمكن أن تكون كلمة الألواح النقشية مشتقة من «حمون» لارتباط هذه الألواح به بصورة مركزة.
ثم تحول اللقب إلى «إيل» الذي لقب أيضًا ﺑ «سيد الألواح النقشية».
وارتبط «حمون» بالأضاحي البشرية، وخصوصًا الأطفال الذكور والإناث، للتقرب منه وكف غضبه، وقد عرف حمون في الفترة الرومانية باسم «ساتورن» وكانت تقدم له الألواح النقشية. وأحيانًا الذبائح البشرية سرًّا.
(١٢) أسطورة تانيت
تطرقنا سابقًا إلى الجذور القديمة التي شكلت اسم تانيت وشخصيتها، ونرى أن الإلهة عناة هي أصل تانيت، فقد جلبتها الهجرات الكنعانية المبكرة جدًّا (ربما في الألف الثاني قبل الميلاد) إلى شمال أفريقيا. وتحور الاسم عندما تداوله المهاجرون الذين صاروا فيما بعد بربر شمال أفريقيا. حيث يرد اسم «أناتا» في أسماء الآلهة الكنعانية، ولأن البربر يؤنثون الاسم بتاء متقدمة، فإن الاسم يتحول إلى تاناتا أو تانيت.
ولكننا نرجح رسوخ الاسم في شمال أفريقيا بتأثير مصري أيضًا؛ حيث عُبدت في الواحات الغربية، ثم في مدينة «سايس» ذات المناخ الصحراوي الإلهة «نيت»، وهي الإلهة التي ورد ذكرها في مصر منذ عصر ما قبل الأسرات على فخار نقادة، واعتبرت في الدولة القديمة ابنة رع. وقد شبهها الإغريق بمعبودتهم «أثينا» ذات الصلة بعناة أيضًا. وكان ظهور رمزٍ مبكرًا منقوشٍ على الصخور الليبية موحيًا بالعبادة المبكرة للإلهة الأنثى دون أن نعرف لفظ اسمها الدقيق.
وهكذا اجتمعت كل هذه المرجعيات لتشكيل شخصية تانيت ورمزها واسمها … وأصبحت الإلهة الأم الخالقة.
أما الصفة السماوية لتانيت فنعتقد أنها أتت من «نوت» إلهة السماء المصرية (القريبة من اسمها)، إضافة إلى الجذر السومري البعيد لملكة السماء إنانا، التي نرى أنها أصل كل هذه الألوهة المؤنثة.
وتظهر السماء في اسم تانيت مع حرف «ن» الذي يدل على السماء «آن». هكذا إذن ترسخت شخصية تانيت في شمال أفريقيا عبر البربر أولًا، ثم عبر البونيين. وقد عبَّر البربر والقرطاجيون عن تقديسهم لهذه الإلهة، فقد عثر على تمثال مجسم يجسدها مثل سيدة تحمل طفلًا بين ذراعيها وعلى حِضنها (شكل ٥٤)، فهي إلهة الأمومة والخصوبة عندهم، وكان قرينها الدائم هو الإله بعل حمون.
تانيت القرطاجية
سميت تانيت القرطاجية ﺑ «تانيت بانيبال» أي «تانيت المواجهة لبعل»، أو (تانيت وجه بعل). وكانت تُعبد عندهم منذ القرن السادس والخامس ق.م.
وبرغم أنها كانت قرينة الإله بعل حمون، إلا أنها كانت تقترن أحيانًا مع الإله «أشمون» إله الشفاء، وهو إسكولاب الإغريقي، ويجاور معبدها معبده في قرطاج عند خليج بيرزة.
وإضافة إلى أن الإلهة تانيت كانت إلهة أم؛ لكنها كانت «في تصور العابدين عذراء، رغم أنها إلهة من إلهات الخصب، ومن رموزها ثمر الرمان، والتين، وسنابل القمح، والسمكة، وتلعب دورًا كإلهة من إلهات السماء، وتتميز عن عشتار — نجم الزهرة — بأن مجال عملها كان على الكواكب — الأقمار — وقد استمرت عبادتها حتى القرن الثالث الميلادي في شمال أفريقيا وإسبانيا، وبنى لها القيصر «سبتموس سفيروس»، الذي هو من أصل أفريقي، معبدًا في روما» (أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٠٨).
وظلت عبادة تانيت صامدة قوية في قرطاج حتى بعد سقوطها، فعندما رحل «غراكشوس» سنة ١٢٢ق.م. إلى قرطاج ونزل في خرائبها حاول أن يسميها «جونون»، وهو الاسم الروماني المقابل لتانيت، والذي كان يستعمل في الشرق الفينيقي الذي خضع للرومان أيضًا. ويشير إلى زوجة بعل (وبشكل خاص بعل مرقد إله الرقص). وجونون (جونو) هو اسم إلهة الأسرة والزواج عند الرومان وزوجة كبير الآلهة «جوبيتر»، وتقابل الإلهة هيرا الإغريقية زوجة «زوس».
وفي حدود القرن الثالث الميلادي لاقى معبد الإلهة «جونون-كايلتس» (وهي تانيت اليونانية) شهرة عالمية، ونافست كاهناتُها كاهنات معبد دلفي في استكشاف الغيب، وتكاثر عبادها من الرومان، وأُكرم تمثالها في الكابيتول. وبقي معبدها الملجأ الأخير للدين الوثني الرسمي ولم يُهدم إلا في سنة ٤٢٦م (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ١٢٥).
(٤) المبحث الرابع
ظهرت الكائنات الأسطورية الأولى، أو القديمة في بداية شجرة الآلهة، ومنذ أول اتصال للسماء مع الأرض فقد ظهر عماليق الجبال وعماليق الحضارة وعماليق الممالك، وظهر أيضًا الشياطين وكان على رأسهم «تيفون» الذي كان يقاتل ملكارت بشكل خاص.
ثم ظهرت أنواع أخرى من هذه الكائنات الأسطورية مع ظهور الإلهين إيل وبعل، وكانت لها بعض الصفات الإلهية الشريرة أو الخيرة؛ ولكنها لا ترقى إلى مستوى الآلهة، ويمكننا فرز هذا الكائنات إلى ثلاثة أنواع هي:
(٤-١) أبناء إيليم
وينسبون إلى الإله إيل، وعندما يحجم إيل عن التدخل كان يكلف أبناء إيليم أن يحملوا غيوم الشقاء، وكان الموت بيَدِ أبناء إيليم، وكان الموت الذي يحملونه يسمى «الموت الأبيض» و«الموت الأحمر»، وحين يصل إلى الأرض يكسر شوكة المجد والكبرياء؛ لأن روح الحي يمكن أن تكون مركزَ بعض الشياطين حيث يتمجدون بالكبرياء (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ١٢٦).
(٤-٢) الكروبيم
وهم قوى طبيعية تأتمر بواسطة بعل، ويسمَّون الأبالسة الذين يمكن أن يتغلبوا على البلاد الأجنبية بواسطة «الأيدي الخفية»، ويسحقون كل شيء تحت أقدامهم. وكانوا كثيري العدد ويحاربون كالجيوش، وزعيمهم المباشر كان يسمى «حارس الأموات» و«دليل المتوفَّين»، وهو سفير بعل، وكان البعض يدعونه إلى المائدة ويتذللون إليه ويقدمون إليه الذبائح كما لو كان إلهًا. وشكله قاسٍ يمكن أن يتبدل بعدة أشكال، ولا تؤثر فيه اللعنة، وإذا ما أسدى النصح لأحد فيجب أن يعمل بعكس نصيحته؛ لأنه كاذب. ولحارس الأموات ودليل المتوفين طقس خاص به يمتاز بخاصية المكر المؤدي إلى تدنيس المقدسات، وهو يفرح للخزي، ويضحك ممن يتخبط في سبيل التخلص منه (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ٨٧).
وكان الكروبيم أبالسة يقال إنهم أبناء الإله إيل والإلهة ريا إلهة الأرض، ومنهم الإله «موت» الذي هو بمرتبة إله.
وهناك أسماء كثيرة لبعضهم مثل «الذي يُعمي البصيرة» و«الذي يجعل الشفاء مستحيلًا» و«الذي يسحق بعملية تدمير مظهره» … إلخ، وكان هؤلاء الأبالسة يظهرون بشكل طبيعي في العالم الآخر، حيث تكون مهمتهم السهر على الأموات وتعليمهم عادات الحياة بعد الموت.
وكان فعل الموت الذي يقوم به الأبالسة يسمى «التطهير بالتدمير»، أي إن الفناء هو نوع من تطهير الإنسان أو الوجود من هذا الإنسان؛ حيث يذهب الإنسان ليستريح قرب الأرض أُمِّه الكبرى.
(٤-٣) الرفائيم
وهم كائنات طيبة تمثل جنس العمالقة في عصر جيل إيل، وكان اسمها الكنعاني «رفوم» والعبري «رفائيم». ولهذه الكائنات علاقة بأمور الشفاء من الأمراض، وخصوصًا أمراض العقم، وقد تشير مفردة رفائيم إلى مجموع سكان العالم الأسفل.
وخلاصة أسطورة الرفائيم، التي تدور حول حفل تتويج ملكي إلهي، هي: أن الإله إيل يوجه دعوة إلى الرفائيم ليحضروا حفلة في الهيكل؛ لكنهم يتباطئون، فيلح عليهم فيسرجون خيولهم ويسيرون حتى يصلوا البيدر في مزرعة إيل، فيرحب بهم دانيال ويقدم لهم فاكهة.
وفي الهيكل ينحرون عجلًا ويقدمون شرابًا، ويعلن إيل أن البعل سيتوج ويجلس على العرش ملكًا، ويصادفون إلهين هما «رفأ-بعل» و«حيلي» فيشكرهما إيل لحضورهما حفلة «سكب الزيت» على رأس بعل والتي تتوج بعلًا ملكًا.
وفي آخر الأسطورة يظهر شخص (ربما كان إلهًا) يخاطب قائلًا معلنا اكتمال بناء بيته، وأن عناة ستقبل شفتيه وتقوده إلى الهيكل؛ حيث يجد هناك من يسبح بذكر إيل وحمده، وتغادره عناة بعد هذا وتطير إلى السماء، ونحن نرجح أن هذا الفتى هو «بعل» نفسه، وأن والده «إيل» هو الذي خاطبه.
ثم يقوم سدنة الهيكل بنحر الذبائح وسفح الخمور، ويستمر الحفل لسبعة أيام. لكننا لا نعرف ما الذي حصل بعد ذلك (انظر: فريحة، ١٩٨٠م، ٣٣٧–٣٤٦).
هذه الأسطورة الناقصة للرفائيم لا تتفق مع كونها جزءًا من قصة دانيال؛ بل هي أسطورة بعل وبناء بيته وتتويجه ملكًا؛ لكن الرفائيم فيها أصحاب حضور قوي، ويفهم من النص أنهم أشبه بخُدَّام الإله إيل؛ يحضرون له حفلاته وولائمه وأنهم يعملون على إنجاح هذه الحفلات وضبطها.
(٤-٤) أقنعة الشياطين
انتشرت في قرطاج بشكل خاص صناعة الأقنعة التي استعملت لأغراض سحرية ودينية، في محاولة لطرد الأرواح الشريرة والتغلب عليها، ولذلك كانت هذه الأقنعة بمثابة الأشكال والمسوخ الشيطانية التي كان الإنسان يستعملها في طقوسه الخاصة بطرد الأرواح الشريرة، أو التي يحتفظ بها في مقبرته لأغراض ما بعد الموت وإضافة الأرواح الشريرة وطردها.
ويعتقد أن مثل هذه التقاليد أتت من التراث الزنجي الأفريقي، الذي كان يعتني باستعمال هذه الأقنعة.
(٤-٥) الكائنات الخرافية
-
(١)
أبو الهول الكنعاني: يظهر أبو الهول الكنعاني (وهو رجل بجسد أسد) متأثرًا بأبي الهول المصري إلى حد كبير؛ فقد وصلتنا من مدينة أرواد (في حدود القرن التاسع قبل الميلاد) نقش مرمري جميل مزين من الأعلى بنقش زخرفي رائع، ويظهر أبو الهول مجنحًا يلبس التاج المزدوج المصري، وفي أسفل اللوحة مذبح منخفض أو منضدة (انظر: عصفور، ١٩٨١م، ١٦٣) (شكل ٢-٥٣). وهناك نقش آخر لأبي الهول على تاج لولبي من الأعمدة الأيونية المبكرة، عثر عليه في قبرص، يظهر لنا شكلًا متناظرًا لأبي الهول تتوسطه شجرة الحياة.
-
(٢)
العنقاء أو الفينيق: وقد تحدثنا عنها طويلًا في المبحث الأول، وقلنا: إنها طائر بجسد حيوان، قد يكون أسدًا، ولها علاقة بالنار والانبعاث من الرماد.
-
(٣)
الجن: وهي عمومًا الكائنات المجنحة التي تظهر في المنحوتات والنقوش الكنعانية، ومنها الجن الذي يمسك سوطًا بيده اليسرى وكُرة بيده اليمنى، وله رأس طير وجسد بشري ومزوَّد بأجنحة. وكانت مثل هذه الكائنات تتكرر مرارًا في التراثين الآشوري والآرامي، وتدل على كائنات شبه إلهية.
أخذت شكلًا آخر؛ حيث لها رأس الطير وتمتلك أجنحة وجسدًا بشريًّا، وهي أشكال مختلفة لأبي الهول والعنقاء كما في الشكل أدناه: