الطقوس الكنعانية
«انبذ بالسيف ما تتحمل من ضلال. اطحن بين حجري الرحى ما تتحمل من ضلال. ابذرها في البحر.»
تشكل الطقوس والشعائر الدينية الركن العملي لأي دين، فهي تستمد مادتها الروحية من الأساطير، ومادتها النظرية الفكرية من اللاهوت؛ لكنها تحول كل هذه المادة إلى أفعال عملية تشعر الإنسان المتين بديمومة واستمرار حضور الدين في حياته التفصيلية اليومية.
ولا تختلف الطقوس والشعائر الكنعانية من غيرها؛ فهي تنقسم إلى أربع مجموعات أساسية؛ هي: الطقوس اليومية، وطقوس المناسبات، والطقوس الدورية، والطقوس السرية.
(١) الطقوس اليومية
(١-١) الاغتسال والتطهير
كان طقس الاغتسال والتطهير من الطقوس اليومية التي يقوم بها المتعبد أو الكاهن الكنعاني، وكان الاغتسال والتطهير يجري وفق أربعة أنواع معروفة؛ هي:
(أ) الماء
حيث التطهير بالماء هو الأساس، وكانت من المعتقدات السائدة أن عملية التطهير بالماء ترضي الآلهة فترسل المطر إلى الأرض.
وكان الاغتسال والتطهير بعد الحرب ضروري جدًّا؛ لأنهم يعتبرون الحرب جريمة لا بد من غسل آثارها. وكانت طقوس التطهير تجري لغسل البيت بجميع غرفه وجميع محتوياته وما تحتها.
وكانت هناك أنواع أخرى من الاغتسال كانت تتم بقصد الوقاية من الأمراض ووضع حد للأوبئة والأرزاء. كما أن التكريس بالماء يساعد على طرد الأبالسة وإبعاد السرية (المخطية) التي يبدو عليها الختل والكذب. كما أن دق الطبل يدخل في بعض الطقوس (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ٣٧).
(ب) الزيت (الدهان)
لم يكن طقس المسح بالزيت طقسًا مقتصرًا على الملوك والكهنة في بداية ظهوره عند الكنعانيين، فقد كان طقسًا عامًا لعامة الشعب يقوم به الإله إيل، تبدل هيئة الشخص لكي لا يقع عليه الشقاء. كذلك كان «دهان الأرجوان» مفضلًا عند الكنعانيين سحريًّا ضد بعض الأمراض، أو استرضاء لبعض الآلهة.
لكن الشائع هو أن استعمال الزيت كان يخص الملوك حيث تنتقل السلطة للملك بعد الدهان ويعتبر ابن الإله إيل، وكان الزيت يحفظ في أوعية خاصة، وربما كان القرن يستخدم لحفظ الزيت وهو قرن حيوان كبير مجوف تمامًا من الداخل.
(ﺟ) النار
كانت النار أعظم وسائل التطهير، فالذبائح تطهرها النار، والمعادن تطهرها النار عندما تصهر فيها، وكانت النار وسيلة التبخير، وكان طقس التطهير بالتدمير يجري عادة عن طريق النار. والنار مقدسة طقسيًّا لأنها تعود إلى الإله «ملكارت» وقبله الإله «أش».
وكان هناك في بعض المعابد أو خارجها ما يشبه المحارق التي تستعمل لطقوس الحرق.
(١-٢) الصلاة
تتضمن الصلاة بعض الحركات؛ مثل: التذلل أمام الإله، والارتماء على الأرض (السجود).
وهناك نمط خاص من «صلاة الشكاوى» التي تكرر شكواها فقط.
وقد تقام الصلاة من أجل الملك أو من أجل رفع مصيبة عن البلاد.
أما الصلاة إلى بعل، وعلى أقل تقدير بالنسبة للملك الكبير، فالاعتزال عن غير الواجب، وعلى المصلي أن يخلع ثيابه ويعلقها بجواره، فلا يجوز مثل هذه الصلاة إلا في حالة العري التام، ثم يشرع في البكاء والنواح ويشتم الآلهة الأخرى المعادية حتى يستجيب الإله بعل. وأثناء الصلاة يعلن المصلي إلى بعل «الأخبار السارة» التي كانوا عادة يحتفظون بها للإله إيل، ويخبره بعملية الصهر (صهر التماثيل)، وبعد ذلك يطلب المصلي أن يحصل على أجنحة (كالشياطين) يرتفع بها نحو بعل فوق الغيوم (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ٥٠).
(١-٣) صبُّ الخمور على الأرض
كان طقس صب الخمور على الأرض عاديًّا، وكان الكنعانيون يعتقدون أن السماء تلتذ به، ويمكن أن ينهي حالة الجفاف، وهو ترميز لسقوط المطر من السماء إلى الأرض.
(١-٤) العربون (النذور)
كانت النذور تختلف من إله لآخر ومن مناسبة لأخرى؛ ولكنها بشكل عام كانت توضع عند قدمي تمثال الإله في هيكله أو معبده للتأثير عليه.
(١-٥) دق الطبول
كان طقس دق الطبول تطهيريًّا، والغاية منه هي طرد الأرواح الشريرة.
(١-٦) صهر التماثيل
كان صهر التماثيل يعد طقسًا تطهيريًّا ونذريًّا في الوقت نفسه، فهو تطهيري لأنه يجعل النار تلامس المعادن التي تعرضت للرجس البشري، والتي أخذت شكل آلهة معينة مرفوعة من قبل صاهر التماثيل، وكان صهر التماثيل يعقُبه صب تمثال جديد لإله معبود؛ ولذلك كان زِق الحداد مكانًا أساسيًّا لصهر وصب التماثيل، ويعبر هذا الطقس عن ولاء العابد لمعبوده.
وتختلف قيمة التماثيل المصهورة والمصبوبة حسب نوع معدنها، فهناك التماثيل الذهبية والفضية والبرونزية والنحاسية والحديدية، وهي تماثل طبقات الناس وقدرتهم المالية على تقديم هدايا الآلهة.
(١-٧) تعرفات الذبائح
كشفت النصوص البونية المعروفة بهذا الاسم عن أهمية النذور المشفوعة بنصوص ونقوش توضح طبيعة هذه النذور المقدمة إلى إله محدد في معبد محدد، وتبين هذه النصوص حصة الكاهن وحصة الناذر، وأغلبها مقدم إلى الإله بعل حمون والإلهة تانيت (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٦٢-٦٣).
وكانت الذبائح نظريًّا تقوم على فكرة مثلثة أساسها أن الذبيحة تربط الإنسان بالإله وتوضح مدى وفاء ذلك الإنسان له، ثم إنها تحرره من أخطائه وتوحي بفكرة الفداء التي من أُسُسها أن يفدي الإنسان نفسه للإله؛ لكنه يقوم باستبدال حيوانًا بنفسه يقدم بديلًا عنه.
- (١)
الذبيحة المحرَقة: وهي التي تتلف كليًّا بالنار.
- (٢)
ذبيحة الاشتراك.
- (٣)
ذبيحة التكفير.
وهناك نوع آخر ظهر بشكل واضح في الطقوس البونية وهو «ذبيحة الأبكار»؛ حيث كان الأطفال الرضع والأولاد يقدَّمون كضحية ثمينة للآلهة، وخصوصًا «بعل حمون» عندما يدرك الناس الخطر الجسيم.
وقد كشف مذبح «سلامبو» في قرطاج عن مذبح يحتوي على عظام محروقة وتمائم.
وكانت طريقة تقديم ذبيحة الأبكار تتم بأن «يوضع الآجُرُّ داخل تجويف الصخر وتغطى بطبقة من الحصى الدقيقة، وعندما تصبح هذه القطعة المسورة ممتلئة تُغمر بطبقة من الرمل الأصفر، ثم تدفن فيها من جديد مجموعة من الآنية التي تحتوي على رفات المولودين الجدد، وكانت هذه الآنية تجمع كل ثلاثة أو أربعة منها ليعلوها لوح نقشي أو حجر كبير مقصب، وفي الطبقات العليا تحل الأنصاب محل الألواح النقوشية المزخرفة» (المرجع السابق، ٧٢).
(٢) طقوس المناسبات
(٢-١) طقوس بناء المعبد
لعل بناء الهياكل والأنصاب والمعابد كان يترافق مع مجموعة من الطقوس التي ما زلنا نفتقد صورتها الواضحة في النصوص الآثارية؛ لكن هدم المعبد كان نذيرًا بالشر.
(٢-٢) طقوس الزواج
لعل أسطورة زواج «نيكال» من «يرح» توضح لنا بعض طقوس الزواج الكنعانية القديمة.
كانت الإلهة عناة راعية الخطوبة والزواج وطقوسها تكرس القران الزوجي الشرعي، وهذا ما يعاكس بعلًا وطقوسه الإباحية التي كانت ترعى الحب المحرك (ميديكو، ١٩٨٠م، ٣٤).
وكانوا يرون في الحب والزواج تأثيرًا على قوة إخصاب الطبيعة وحفزًا لها على القوة والنماء. أما طقوس المداعبات والحب المحرم فكانت تضر بالطبيعة وخصبها.
كانت عناة ترعى خطوبة الرجل والمرأة، وكانت كوثرات ترعى حمل المرأة وولادتها، وكانت المرأة تحظى بنوع من التقديس عند الكنعانيين، ولها كل أنواع الاحترام. أما المرأة المومس (السُّرِّية) فكانت منبوذة ولا تسكن بيت الرجل؛ بل تسكن في خيمة. وكانت المرأة العاقر تحظى بالعطف ويُقدم لها الطعام والشراب.
ولم تكن عادةً التضحية بالأطفال شائعة؛ بل كانت في حالات نادرة جدًّا أثناء الأزمات؛ كالحروب والمجاعة … وغيرها، وقد كانت الإلهة تانيت ترعى الأطفال الصغار بشكل خاص.
وكانوا يرون أن من لم يستطع الزواج على الأرض فإنه يتزوج بعد الموت في مملكة الجحيم (العالم السفلي) عندما تصبح روحه ظلًّا، أي شيئًا مُعتِمًا وليس نورانيًّا (ميديكو، ١٩٨٠م، ١٢٣–١٣٤).
(٢-٣) طقوس الموت
كان الموت استراحة للإنسان بعد حياة مليئة بالآلام، وكان الموت في حالة الحياة الآثمة عقابًا سواء كانت بمشيئة الإله أو الشيطان.
وكان الموت نهائيًّا ولا مجال لحياة في العالم السفلي إلا ما تبقى عليه الروح من حال يُرثى لها، وهو ما يشابه العقائد العراقية القديمة.
وربما كانت عملية استحضار أرواح الموتى واردة في الطقوس الكنعانية حسب ما يرى ميديكو؛ ولكننا نعتقد أنها حالة خاصة ونادرة تشبه الحالة النادرة لعبادة الموتى؛ إذ لا يوجد ما يشير إلى أن الكنعانيين مارسوا «عبادة الموتى»، ولكن الطقوس الجنائزية المهيبة للميت كانت ترمي إلى ضمان حماية الميت من قِبل الآلهة في العالم الآخر «وتحمل بعض الألواح النقوشية التي اكتشفت في مذبح سلامبو زخارف تتعلق بخلود النفس، ومن هذه الزخارف الأوراق المصورة على شكل قلب، وأكاليل الورق، والآنية الخمرية. ويكتمل فن التصوير هذا ببعض المشاهد من الولائم الجنائزية» (ميادان، ١٩٨١م، ٧٣).
كان الكنعانيون والفينيقيون والبونيون يضعون الموتى في القبور المزينة بأنصاب جنائزية، وكانت هذه القبور تشبه الآبار الضحلة.
والأنصاب ذبيحة بشرية أو حيوانية (وخصوصًا في قرطاج)، وتوضع بقايا الذبيحة داخل جرة تدفن تحت النصب الذي يحمل في أغلب الأحيان نقشًا مُهدى إلى الإلهة تانيت والإله بعل حمون (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ١٠٠-١٠١).
- (١) الأنصاب الناووسية: وهي مربعة الشكل، مزينة بمشكاة مجوفة يعلوها إفريز وكورنيش مصري، ويسندها عمودان مستطيلان بارزان قليلًا، وفي داخل التجويف صورة إله، أو حجر مقدس، أو مسلة، أو رسم على شكل مومياء فوقه هلال غالبًا.
- (٢) الأنصاب المذبحية: وهي على شكل دلة المذبح المستطيلة الحاوية تجويفًا يوضع فيه الجرة التي تحتوي على الذبيحة.
- (٣) الأنصاب العرشية: والتي على شكل عرش إله، فهي قواعد مربعة يرتفع جانبها الخلفي على شكل مسند يتصل بمرفقين، ويلاحظ في وسطها تجويف معد لصورة الإله.
وأغلب هذه الأنصاب عثر عليها في مدافن قرطاج كما تذكر مادلين ميادان، وتحتوي على رموز إلهية ودينية وطقسية، وأحيانًا تُنقش الأضاحي الحيوانية في أسفل اللوح (الخراف، الطيور، الثيران … إلخ). أو صورة الكاهن أمام المذبح، أو الكاهن بثوبه الطويل وهو يحمل الطفل أو الحيوان المضحى به، أو المرأة التي تريق الخمر، أو الإلهة تانيت برموزها، أو وهي تحمل ولدًا وهلالًا.
وتظهر النواويس الحجرية من قرطاج متميزة وجميلة جدًّا؛ فقد استخرج من مدافن «سانت مونيك» في قرطاج ناووسان يعودان للقرن الرابع ق.م. يصور الأول في نقش بارز مستدير امرأة ممددة ويغطى رأسها الصغيرة حجاب ذو أطراف مزينة بصف من الشراريب، ويلتقي عند ركبتها جناحان طويلان مطويان، وتمسك بيدها اليمنى حمامة وبيدها اليسرى عُلبة حلي، ويتوهج الناووس بكامله بالألوان الفاقعة. والناووس الثاني لكاهن يحمل في يده اليسرى مجمرة بخور ويرفع يده اليمنى إشارة للصلاة (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٩٩).
وكانت المقابر الخاصة للحكام وأبناء الطبقة العليا، أما العامة فكانوا يدفنون في حفر عادية، وأحيانًا بشكل جماعي خصوصًا لقتلى الحروب.
(٢-٤) الألواح الجنازية
وهي أشبه ما تكون ﺑ «شواهد القبور» التي شاع استعمالها منذ القرن الرابع قبل المسيح حتى نهاية الحقبة الرومانية في قرطاج.
كانت تثبت قاعدة هذه الألواح فوق القبر بواسطة الطين، وكان أعلى اللوح عبارة عن زخرف مثلث. وكان بعضها يصور الميت من ناحية الوجه وهو في وضع الصلاة فاتحًا كفيه ومادًّا راحتيه إلى الأمام (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٩٨).
(٢-٥) طقوس الدفن أو الحرق
كانت الأجساد تكفن وتدفن أو تكفن وتحرق، وتتضح طقوس حرق الأموات وحفظ رمادهم في وعاء داخل القبور في قرطاج (القرن الرابع ق.م.) وكانت منصبة على الأطفال المضحى بهم؛ حيث يُحفظ رمادهم داخل جِرار في مذبح، كما في مذبح سلامبو.
وقد عثر في بعض المقابر البونية على أمواس حلاقة اتضح أنها كانت أدوات طقسية أو سحرية تدفن مع الميت قرب رأسه، ويمكن أن تشير إلى ضرورة حلق شعر جسم الميت كله أو بعضه بعد الموت مباشرة؛ لكي يتهيأ خاليًا من الشعر إلى حياة العالم الآخر.
أو ملكارت الذي يمسك بطاس من النار، أو بعل حمون، أو النخلة (دامور)، أو تانيت ترضع طفلها، أو الصقر المصري حوري … إلخ، ويقف الأشخاص المرسومون على ما يشير إلى العالم الأسفل مثل علامة «×» المتكررة الزخرفية، أو على طفل مدفون في العالم الأسفل. وتشير هذه الأمواس إلى اختلاط الفن الديني البوني مع نظيريه المصري والإغريقي. وقد عُثر على أغلبها في قرطاج وسردينيا وإبيزا.
(٣) الطقوس الدورية
الطقوس الدورية هي الطقوس التي تتبع نظامًا زمنيًّا متكررًا وثابتًا، وتظهر الطقوس الدورية على شكل أعياد جماعية كبيرة تحتفل بها الجموع لتعبر عن مخزونها اللاواعي الجمعي في صيغة استعادة لاواعية أيضًا لمثولوجيات قديمة حصلت أو اعتقد الإنسان أنها حصلت لمجمل الجنس البشري مع بداية الخليقة أو مع انطلاق الأصول التي كونت جذر العادات والتقاليد الدينية الكبرى.
وتشكل نظرية العَود الأبدي أساس فكرة الطقوس الدورية؛ حيث يصار إلى تمثيل العودة الدورية (أسبوعية، شهرية، فصلية، سنوية، أو كل سبع سنوات) إلى الزمن الأول، زمن الآلهة وزمن تحول الوجود من هيوليته الكاؤوسية إلى شكله الكوزموس المفضل.
إن هذا الحنين إلى الأصول الميثية هو الذي يدفع الإنسان إلى تذكر احتفالي لزمن الخلق والبدايات، وجعله في صيغة طقس خارج الزمن التدرجي التاريخي التقليدي، أي إن الطقس الدوري يضع نفسه في الزمن المطلق أو في الزمن «صفر»؛ ليعلن بدء السنة أو بدء الشهر أو بدء الفصل أو بدء السنوات السمان وغيرها.
(٣-١) الطقوس الأسبوعية والشهرية
لا نعرف على وجه التأكيد فيما إذا كان الكنعانيون يحتفلون في نهاية كل أسبوع أو كل شهر بالدورة القمرية أو الشمسية، وهو ما فعله السومريون عندما اتخذوا من نهاية الأسبوع عيدًا أسموه «إش إش»، وهو انتقال القمر من حجم إلى آخر؛ لكننا نرجح أن الكنعانيين عرفوا عيد القمر الأسبوعي بظهور الإله «يرح».
(٣-٢) الطقوس الفصلية والسنوية
(أ) الأدونيات (أعياد أدونيس)
لم تقتصر الأعياد الأدونيسية على الفينيقيين؛ بل شملت أقوامًا مجاورة، كاليونانيين والإيطاليين والمصريين، فقد كانت كل هذه الأمم تحتفل بعيد الإله أدونيس.
ونستطيع أن نصنف الأدونيات كأعياد فصلية؛ لأنها كانت تقام مرتين في السنة عند الفينيقيين والمصريين؛ أما الإغريق والرومان فكانوا يحتفلون به مرة واحدة عند موت الإله أدونيس؛ لأنهم لم يكونوا يقيمون وزنًا كبيرًا لمسألة البعث والعودة من الموت، وكانت تراتيل عيدهم التأبيني هذا موقَّعة على ضوء بحر شعري جنائزي خاص عرف باسم «بحر أدونيس»؛ لأنه يستعمل عادة في مراثي هذا الإله فقط.
وكان زمن الأدونيات يختلف من شعب لآخر؛ فقد كان يستغرق ثمانية أيام كما في الإسكندرية، وسبعة كما في بلاد كنعان، وأحيانًا ثلاثة أيام كما في جبيل، وربما يومين أحدهما للموت والآخر للبعث. وتنقسم أعياد أدونيس إلى قسمين؛ هما (انظر: جمعة، ١٩٨١م، ٥٨–٦١).
-
(١)
عيد الأفانيزم aphanisme: وهو عيد موت أدونيس؛ حيث يوقت موته الموهوم مع بدء الربيع في جبال لبنان عندما تذوب الثلوج وتحمل معها ذرات من التراب الأحمر فتختلط هذه الذرات مع مياه نهر إبراهيم (أدونيس)، وكأنها بمثابة إعلان وتذكير بموت أدونيس، فيسارع الفينيقيون بتأبينه والنواح عليه. وكان يتقدم الاحتفال كهنة يحملون تابوتًا وضعت فيه جثة رمزية للإله أدونيس، وتكون صفراء اللون يتدفق منها الدم، وتسير جنب الكهنة كاهنات (أو بنات الملك أو الحاكم) يحملن فراشًا منفردًا عليه تمثال عشتروت الباكية.
ويسير خلف الكهنة والكاهنات فتيات حاملات سلالًا مملوءة كعكًا وزهورًا وطِيبًا، ثم جمع غفير من النساء المتَّشِحات بملابس الحداد نائحات مُوَلْوِلات.
وعندما يصل الموكب الجنائزي إلى قبر الإله أدونيس عند مغيب الشمس يقومون بوضع الجثة المقدسة في القبر، وهنا تبدأ النساء بنثر شعورهن وقصها، وبالعويل والبكاء، ويكون هذا المكان عادة عند ضفة نهر أدونيس الجاري بمائه الأحمر. وفي مدينة الإسكندرية كان الموكب يسير في احتفال كبير إلى الشاطئ؛ حيث تُرمى جثة أدونيس في البحر ليصير البحر لها ضريحًا، وذلك تمثلًا بالشمس التي تأوي إليه.
وفي الشام ومصر كان الناس يصنعون ما يسمى ﺑ «جنائن أدونيس» التي هي عبارة عن سلال أو أصص تملأ بالتراب ويرش عليها الماء وتزرع فيها بذور القمح والشعير والخس والزهور، وتقوم النساء بشكل خاص بالعناية بها قبل بدء احتفالات العيد بثمانية أيام ووضعها تحت أشعة الشمس الربيعية الدافئة لتنمو بسرعة ترميزًا لأدونيس الجريح المسجى على فراش الموت، بعدها تذبل هذه النباتات لضعف جذورها، وتُحمل مع موكب ضريح أدونيس في نهاية أيامها الثمانية وبدء اليوم الأول لاحتفالات الأفانيزم، ثم تقذف في الماء مع ضريحه أو قربه.
وكانت طقوس الحزن تستمر سبعة أو ثمانية أيام تعُم خلالها مظاهر الحداد، وتُعرض خلالها أشكال شمعية وفخارية لأدونيس وتسجى أمام مداخل البيوت أو على سطوح المنازل، وفي الموعد المحدد يطاف بها في أسواق المدينة وشوارعها، ترافقها الباكيات يرثين موت الإله ومحاسن صفاته، والنادبات الناحبات يقرعن صدورهن، والراقصات والمغنيات ينشدن أناشيد الحزن والأسى ويُصعدن الأنات والزفرات على وقع الدف ونغمات الناي ويهتفن: «لقد مات أدونيس الجميل البهي، حقًّا مات!» (انظر: فريزر، ١٩٧٩م، ٢٠).
-
(٢)
عيد الهفريس hevrese: وهو عيد القيامة وبعث أدونيس، حيث يتم اكتشاف جثة أدونيس على ساحل النهر أو البحر، وفيه يتسلم أهل فينيقيا سلَّ البردي الذي كانت نساء الإسكندرية يلقين به في البحر رمزًا لامتنان إيزيس المصرية لأدونيس الفينيقي بعد أن عثرت إيزيس على جثة أزوريس في جبيل، حيث كان أدونيس يُعبد ويعيش. وفي ذلك إشارة لتطابق شخصيتَي أدونيس مع أزوريس، وإيزيس مع عشتروت ويحتوي سلُّ البردي على رأس مصنوع من الورق السميك ومعه رسالة لفينيقيا بنهاية الحداد وقيامة أدونيس من الموت، وكان هذا البردي يخص مدينة جبيل (ببلوس) أكثر من غيرها.
يبدأ الاحتفال بإطلاق أصوات الفرح والهرج وهتافات النشوة والانشراح التي تؤدي إلى تناول الخمور والرقص والغناء وممارسة الجنس الجماعي العلني معلنة انتصار الحياة على الموت، وصعود هتاف: «لقد قام أدونيس، حقًّا، قام». وهناك ما يكمل احتفال الهفريس ويقابل طقس «جنائن أدونيس» في احتفال الأفانزيم، وهو طقس إله القمح.
فقد كان من عادة الفينيقيين في تلك الأيام إقامة احتفال كبير لإله القمح؛ حيث تتسربل النساء المتزوجات بملابس بيضاء، ويقدمن إكليلًا من السنابل كباكورة للحصاد، وفي هذا الاحتفال تلتزم الزوجات بالعفاف وعدم الاقتراب من الأزواج لمدة تسعة أيام، حيث يغادرن بيوتهن ويعشن في ساحة الاحتفال التي كانت دائمًا خارج المدينة أو القرية. ويماثل هذا الطقس مثولوجيًّا وجود والدة مورا (جدة أدونيس) خارج دارها طوال الأيام التسعة، حيث تغوي أم أدونيس والدها لتحصل منه على نطفة أدونيس، وهذه بداية خلق أدونيس التي توافق زرع الحنطة وبداية القيامة (انظر: جمعة، ١٩٨١م، ٥٤).
ولقد كانت الأدونيات من ناحية أخرى أعيادًا شمسية ترمز إلى انتهاء فصل الشتاء وبدء فصل الربيع، ولذلك كان البعض يحتفل بموت أدونيس في الصيف (شهر تموز) في احتفال منفصل يعبر عن احتفال الأفانيزم. وتوضح هذه المسألة علاقة أدونيس ومعه الآلهة البعليم (البعول) بالشمس، ولذلك تكون تكنية «بعل سمائيم، وكان لكل البعليم علاقة مع بعض النجوم السيارة؛ إلا أن الإله «تموز أدونيس» معبود مدينة جبيل كانت علاقته مع الأجرام الفلكية أعظم من غيره» (اليسوعي، ١٩٨٢م، ٤٣).
ويرى بعض الباحثين أن أعياد أدونيس كانت أعيادًا خاصة بالشمس في حالات ضعفها وقوتها في فصول السنة.
ونحن نرى أن هذا الرأي يحمل قدرًا من الصحة في العصور المتأخرة الفينيقية ربما بسبب ضعف وظيفة الإخصاب الأدونيسية، والاتجاه بهذا الإله نحو عبادة شمسية ونارية كانت من اختصاص آلهة آخرين مثل ملكارت ورشف وأشمون، وهو ما يشير إلى تعاظم دور هؤلاء الآلهة في العصور المتأخرة.
ودليلنا على ذلك أن جذور الأعياد الأدونيسية تكمن في الطقوس التموزية الشعبية الرافدَينية والطقوس الأوزيرية الشعبية المصرية، وقد مارست هذه الطقوس تأثيرها القديم على بلاد كنعان ثم بهت هذا التأثير وحلت محله عقائد صحراوية وهوائية سببها ظهور الأموريين والآراميين.
(ب) أعياد ملكارت
ملكارت أو «سيد المدينة» هو إله مدينتَي صور وقرطاج، كما كانت عبادته شائعة في مدينتين إسبانيتَين هما «قادس» و«لكسوس» القائمتين على جانبي مضيق جبل طارق. وقد طابقه الإغريق مع الإله «هرقل» لتشابه صفاتهما ومغامراتهما «ويبدو أنه في أول الأمر كان يُعتبر إلهًا للشمس؛ لكنه بعد ذلك، وبعد أن أصبح الفينيقيون أهل ملاحة، اكتسب صفات بحرية أيضًا، وكانت لعبادته في قرطاجة أهمية كبرى؛ حيث إن هذه المدينة ظلت عدة قرون ترسل في كل سنة المكوس وتقدم الولاء لمعبد الإله «ملكارت» في المدينة الأم «صور».» (عصفور، ١٩٨١م، ١٤٥).
وكانت أعياد هذا الإله مرتبطة بالنار بحكم ارتباطه بالشمس، وخلفيته المثولوجية النارية التي شرحناها في الفصل الأول. وقد كان كهنة هذا الإله يعتنون بالنار في معبده، ويسيرون حفاة الأقدام بملابس كتانية.
ونرجح أن تكون طقوس موته وبعثه مشابهة للأدونيات، باستثناء إحراق النار المتصل في معابده.
كان عيده يجري في كانون الثاني من كل عام ويسمى «بعث ملكارت»، وكانت تنصب محرقة كبيرة يوضع عليها تمثال هذا الإله لوحده، أو وهو يركب حصان البحر، وربما كان أحد الكهنة يضحي بنفسه في النار، ثم يقوم الكهنة بحركات درامية تمثل قتال ملكارت ضد التنين «تيفون» ووضع طيور السلوى في النار (وهي تقابل جنائن أدونيس في الأدونيات). وتثير رائحة شواء هذه الطيور الإله الميت ملكارت فيقوم وسط النار ويُبعث، مما يستدعي بدء طقوس الفرح والقصف بعدها.
وتمثل طيور السلوى ترميزًا للطيور الشمسية التي تتحول إلى ما يشبه السبب في عودة ملكارت إلى الحياة، وكأنها قبس شمسي أعاد له الحياة.
(ﺟ) أعياد رشف
وهو إله العالم الأسفل، وإله النار والأوبئة، ويقابل الإله أبولو، ونرجح أن له أعيادًا تشبه أعياد ملكارت، وارتبط اسمه بالطيور «رشف الطيور»، أو التيوس «رشف التيوس» وربما كانت تعني قيامته من العالم الأسفل عودة العافية والصحة إلى العالم.
(د) أعياد ياشمون
وهي أعياد فصلية لإله الطب المرتبط بالنار والعالم الأسفل أيضًا، وهو إله مدينة صَيدا، وكانت شخصية هذا الإله تشير أيضًا إلى ما يشبه طقوس ملكارت النارية.
(ﻫ) طقس فتح طاقات السماء
ربما كان هذا العيد دوريًّا مع بدايات الخريف، وهو نوع من طقوس الاستسقاء وإنزال المطر القديمة التي مارسها الكنعانيون بواسطة السحر، ولا نعرف ما هي تفاصيل هذا الطقس أو العيد؛ لكن بعض الباحثين يرون في «عيد المظال» اليهودي تقليدًا لهذا العيد، حيث تُجلَب المياه من أحد الأحواض وسط موكب احتفالي ثم تسكب هذه المياه فوق المذبح، وتخرج المياه ثانية من فوهة في أسفل الوعاء وتسيل فوق الأرض (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ١٩٩١).
(٣-٣) الطقوس السبعية
وهي الطقوس التي كانت تجري كل سبع سنوات، وكانت في الماضي القديم تجري محوريًّا مع الإله إيل، ثم أصبحت تجري مع الإله بعل، وقد رجحنا أن تكون السبعية الإيلية هي أعياد الأكيتو الكنعانية، وفصلنا ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
أما الطقوس السبعية البعلية فربما كانت أعيادًا سنوية وسبعية معًا؛ فهي بين طقوس إيل السبعية وطقوس أدونيس السنوية؛ ولكننا لا نملك ما يفصل لنا هذه الطقوس إلا ما عرفناه من أعياد بَعث بعل أو موته وما يرافق ذلك من فرح أو حزن.
وخلاصة القول: إن الأعياد الدورية بشكل خاص كانت مناسبة لممارسة الطقوس والشعائر التي كان يغلب عليها الطابع الجنسي؛ بسبب ارتباطها بعقائد الخصب وتتخللها أعمال العهر والفجور التي كانوا يتقربون من خلالها إلى الآلهة التي كانت تمثل هذه المظاهر؛ ولذلك كانت النساء اللائي يمارسن هذه الطقوس الدينية لا يمارسنها خارج المعبد وخارج هذا الغرض.
أما الكهنة والكاهنات الذين يمارسون هذه الطقوس فكانوا يلبسون ملابس النساء ويطلون وجوههم باللون الأحمر (الغمرة) ويعرون أذرعهم ويشهرون السيوف ويصرخون ويرقصون كالدراويش، وبعضهم يزحف على الأرض بشعورهم المشعثة ويخدشون وجوههم ويشرحون أبدانهم ويطعنون بطونهم، فإذا سالت دماؤهم واصطبغت أجسامهم قدموا ذلك ضحية لآلهتهم (انظر: اليسوعي، ١٩٨٢م، ٤٥-٤٦).