الشرائع والأخلاق
لا نملك ما يساعدنا من معلومات على معرفة ما إذا كانت هناك شرائع كنعانية مدوَّنة، ولا نملك فكرة واضحة عن تطبيق الشرائع والقوانين؛ ولكننا في الوقت نفسه نستطيع استشفاف النسيج الأخلاقي الذي كان الدين الكنعاني قد أفرزه خلال عصوره الطويلة، ولأن الشرائع والأخلاق هي مكونات الدين الثانوية لذلك تُوجَب مناقشتها.
(١) الأخلاق الفردية
(١-١) العائلة والزواج والأطفال
كان الزواج القاعدة الأساسية لتكوين العائلة ثم المجتمع، وكانت الإلهة «عناة» ترعى الزواج والخطوبة وغيرها، وكانت هناك أعراف وتقاليد كثيرة لهذا الزواج.
وفي الغالب كان الزواج من امرأة واحدة هو الزواج الشائع، وكان معاشرة المحظيات أمرًا منفرًا.
وكان الإنجاب أمرًا محببًا ومفرحًا، وكانت الإلهة ترعاه، وكانت العائلة تكفل رعاية الأبناء ولا تفرط بهم. ويندر أن يكون الأطفال الكنعانيون ضحية الحروب؛ لأن الشعب الكنعاني كان مسالمًا ولا يحب الحرب.
وكان الأبناء يوشمون عادة لأغراض دينية والحماية من الأرواح الشريرة، أما الختان فكان يمارَس عند الكنعانيين والفينيقيين، فهو يرمز إلى دخول الطفل في دين آبائه وأجداده وإلى اندماجه في المجتمع (الجربي، ١٩٩٦م، ١١٠).
(١-٢) حرق الآثام
كان الكنعاني يحرق آثامه عندما يريد التوبة، فكانوا يكتبون خطايا وآثام الشخص على لوح من الطين ويقومون بحرقه وقطعه بالسيف وذَرِّه في البحر أو دفنه في الحقول أمام الجميع؛ ليكون طقسًا شاهدًا على التوبة وإنهاء السلوك الخاطئ والمنحرف. وقد ورِث اليهود هذه العادة؛ فكانوا يصطادون تيسًا من الصحراء ويذبحونه ويذرُّونه (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ١٢٥).
(١-٣) التسامح والتواضع والأمانة والصدق
كان المجتمع الكنعاني يزرع المثل النبيلة في أفراده، وكان التسامح أحد هذه المثل حيث يرِد على لسان الإلهة عناة في ملحمة اللآلئ: «إن عدم التسامح لا يقود إلا للخراب». وكان ارتكاب الأخطاء والآثام أمرًا مُشينًا؛ لكن المجتمع كان يسامح المخطئ عن طريق توبته.
وكان التواضع سبيل الكنعاني إلى الحياة المزدهرة، ولولا الأمانة والصدق لما تمكن الكنعاني أن يتحول إلى أكبر تجار العالم القديم، فالتجارة كانت تستوجب الأمانة والصدق.
كل هذه الصفات التي منبعها حب السلام وكره الحروب كانت تتوافق مع الطبيعة المرنة للعبادة الكنعانية.
(٢) الأخلاق الاجتماعية
(٢-١) الإيمان والخوف من الآلهة ونبذ الشياطين
كان المجمع الكنعاني مجتمعًا متدينًا مؤمنًا يخشى آلهته (مخافة الإله دليل على نهاية الشموخ)، وكانت الآلهة (التي تمثل القيم العليا) محترمةً ومُهابة عندهم، إضافة إلى أنهم يحترمون تفاصيل الأساطير في حياتهم؛ فمثلًا عندما كان الملك الكبير يتقرب من بعل ويترك عبادة إيل (وكان ذلك يظهر على شكل توغل أعمال بعل الشهوانية في حياة الناس) كان الناس يذهبون إلى معبد الإله إيل يتوسلونه لكي يبني للإله بعل بيتًا لكي يهدأ ويقلل من دعمه الشهواني للملك الأكبر. وفي هذا السلوك صدًى لتداخل تفاصيل أسطورة بناء بيت بعل في حياة الناس واعتقادهم أنه طالما كان بعل هائمًا على وجهه فإنه سيقوم بأعمال طائشة وسيسبب للناس الأذى.
وإذا كان بعل قد وُضع في تناقض مع إيل فهذا لا يعني نبذ بعل الكلي؛ بل إن احترامه سوف يجري كاملًا عند إقامة طقوس الخصب ونهاية الجدب، فهم ينتصرون لبعل في صراعه مع «موت» أملًا في رفاه العالم وسعادة الناس.
وفي كل الأحوال كان المجتمع الكنعاني ينبذ الشياطين والأبالسة والعفاريت، وهو عندما يعبد بعلًا فإنه لا يرى فيه شيطانًا أو رئيسًا لطائفة الأبالسة كما حاول «العهد القديم» أن يصور ذلك، وكما كان يدعي العبريون إزاء الكنعانيين؛ لأن عبادة بعل هي عبادة ابن إيل أو ابن داجون، وهي عبادة إله كان له الوزن الأكبر في العقائد الكنعانية. وما كان التشويه الذي مارسه العبريون يبدو عنيفًا وقاسيًا ضد الكنعانيين إلا لأن العبريين كانوا لا يريدون لبعل أن ينافس يَهْوا إلههم، وإذا كان إلههم يهوا خيرًا عظيمًا (في نظرهم) فإن منافسه (بعل) سيكون بالضرورة شريرًا هامشيًّا (في نظرهم).
إن كره الكنعانيين للشياطين والأبالسة يتجلى في نبذهم ﻟ «موت» ولأتباعه من الكروبيم سَكَنة العالم الأسفل.
(٢-٢) الحرب والسلام
كان المجتمع الكنعاني محبًّا للسلام وكارهًا للحرب، وقد تجلى ذلك في ميل الكنعانيين إلى التجارة وإقامة العلاقات الطيبة مع الأمم الأخرى. وقد دفعهم كرههم للحرب إلى الانتشار خارج بلاد الشام. وكذلك ظلوا بسبب ذلك محافظين على نظام دولة المدينة دون أن تغلي في عروقهم نزعات التوسع والتوحد وإقامة الدولة والإمبراطوريات الكبرى.
(٢-٣) مكانة المرأة الكنعانية
كانت المرأة الكنعانية تتمتع بقدر وافر من الاحترام والنظرة الرفيعة المستوى؛ ولذلك جاءت دعوات الزواج وتكاثر النسل كثيرة في النصوص الكنعانية، وكانت الإلهة عناة ترعى المرأة والزواج الشرعي، وكان ظهور عدد كبير من الإلهات يعكس نظرة الإنسان الكنعاني إلى الكون وأهمية الأنوثة.
إن الأخلاق الجماعية التي رسمت ملامحها الأساطير والحكايات والقصص التاريخية تشير بوضوح إلى أن المجتمع الكنعاني كان مجتمعًا متوازنًا حكيمًا محبًّا للخير والسلام.
إن عدم وجود نصوص تشريعية واضحة في المجتمع الكنعاني لا يعني مطلقًا غياب العدالة، ففي أوغاريت، مثلًا، كانت هناك محاكم يرأسها القاضي الذي يسمح بالمحاكمات العلنية؛ حيث يعرض المتخاصمون قضاياهم ويحكم هو بينهم، وقد يضطرهم إلى أداء اليمين والقَسَم بالآلهة «لقد انطلق المجتمع في ممارسة التشريع وأعمال القضاء من أن الإنسان الحر هو القانون ذاته، وأنه في المقام الأول عضو في مجتمع معين: جماعة عائلية، عشائرية، مشاعة، ناس. ولم يعترف بأنه يمكن للإنسان أن يوجد خارج هذه العلاقات والمؤسسات، فهو مضطهد وليس له أية حقوق خارج الجماعة، جماعته نفسها والوثائق الأوغاريتية …» (شيفمان، ١٩٨٨م، ٤٣).