أصداء السيرة الذاتية
دعاء
دعوتُ للثورة وأنا دون السابعة.
ذهبتُ ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسًا بالخادمة. سِرتُ كمن يساق إلى سجن، بیدي کراسة وفي عينَي كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقَيَّ شبه العاريتَين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفرَّاش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضًا.
غمرَتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة.
ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!
رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتي. كان الموت ما زال جديدًا، لا عهد لي به عابرًا في الطريق. وكنتُ أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفرَّ منه، أمَّا عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيدًا بُعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طُمأنينتي، فأدركتُ أنه تسلَّل في غفلة منا إلى تلك الحجرة التي حكَت لي أجمل الحكايات.
ورأيتُني صغيرًا كما رأيتُه عملاقًا، وتردَّدَت أنفاسه في جميع الحجرات؛ فكل شخص تذکَّره وكل شخص تحدَّث عنه بما قسم.
وضِقت بالمطاردة، فلُذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يُفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبقَ وحدك.
واندلعَت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضتُ على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
دَین قدیم
في صباي مرضتُ مرضًا لازمني بضعة أشهر. تغيَّر الجو من حولي بصورة مذهلة، وتغيَّرت المعاملة. ولَّت دنيا الإرهاب، وتلقَّتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني، وأبي يمر عليَّ في الذهاب والإياب، وإخوتي يُقبلون بالهدايا. لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.
ولمَّا تماثلتُ للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خُلق بين جوانحي شخص جديد. صمَّمتُ على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة. إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة؛ فلْأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء. وجعلتُ أثِب من نجاح إلى نجاح، وأصبحَ الجميع أصدقائي وأحبائي.
هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي!
الحركة القادمة
قال برجاء حار: جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.
فقال العجوز باسمًا: هذا يعني أنكَ تحمل رجاءً جديدًا.
– تَقرَّر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة.
– ألم تقضِ مُدَّتك القانونية بها؟ هذه هي تقاليد وظيفتك.
فقال بضراعة: النقل الآن ضارٌّ بي وبأسرتي.
– أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم.
– الحق أن المحافظة أصبحَت وطنًا لنا ولا غنى عنه.
– هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدَّم ولا يتأخَّر.
فقال بحسرة: يا لها من تجرِبة قاسية!
– لمَ لم تُهيِّئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه؟
مفترق الطرق
عرفت في بيتنا بأم البيه، حتى اليوم لم أعرف اسمها الحقيقي؛ فهي عمتي أم البيه. تجلس في حجرتها فوق الكنبة مُتحجِّبةً مُسبِّحة. كلما طمعتُ في مصروف إضافي تسلَّلتُ إلى مجلسها. وعلى فترات متباعدة تقف سيارة أمام بيتنا الصغير فيُغادرها البيه، قصيرًا وقورًا مَهیبًا، يلثم يد أمه ويتلقَّى دعاءها.
زيارته تنفخ في البيت روحًا من السرور والزهو، وقد تحمل إليَّ علبةً من الحلوى. رجل آخر يتردَّد على أم البيه كل يوم جمعة، صورة طِبق الأصل من البيه، غير أنه يرتدي عادةً جلبابًا ومركوبًا وطاقية، وتلوح في وجهه أَمَارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب، وتُجلسه إلى جانبها في أعز مكان.
حيَّرني أمره.
وحذَّرَتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده.
ولكنها لم تجِد بُدًّا في النهاية من أن تهمس لي: إنه ابن عمتك!
تساءلتُ في ذهول: أخو البيه؟!
أجابت بوضوح: نعم … واحترمه كما تحترم البيه نفسه!
وأصبح يُثير حبَّ استطلاعي أكثرَ من البيه نفسه.
الأيام الحلوة
كنا أبناء شارع واحد، تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة. وكان يتميَّز بقوة بدنية تفوق سِنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال. وكان فظًّا غليظًا شرسًا مستعدًّا للعراك لأتفه الأسباب. لا يفوت يوم بسلامٍ ودون معركة، ولم يَسلَم من ضرباته أحد مِنَّا، حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسألْ عن فرحتنا الكبری حين علمنا بأن أُسرته قرَّرت مغادرة الحي كله. شعرنا حقيقةً بأننا نبدأ حياةً جديدةً من المودة والصفاء والسلام. ولم تغِب عنا أخباره تمامًا؛ فقد احترف الرياضة وتفوَّق فيها وأحرز بطولات عديدة، حتى اضطُرَّ إلى الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد.
وكنتُ جالسًا بمقهًى بالحسين عندما فوجئت به مقبلًا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي.
ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة. وبدا عليه التأثُّر، فراح يحسب السنين العديدة التي فرَّقت بيننا، ومضى يسأل عمن تذكَّر من الأهل والأصحاب، ثم تنهَّد وتساءل في حنان: هل تذكر أيامنا الحلوة؟
النسيان
من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلًا؟
إنه الشيخ مدرِّس اللغة العربية الذي أُحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عامًا.
كلما أدركه التعب جلس على الطِّوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزًا على عصاه، مُجفِّفًا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض.
الحي يعرفه والناس يُحبُّونه، ولكن نادرًا ما يُحيِّيه أحد لضعف ذاكرته وحواسه. أمَّا هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.
المطرب
قلبي مع الشاب الجميل. وقف وسط الحارة وراح يُغنِّي بصوت عذب:
وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خَصاص النوافذ، وقدحت أعين الرجال شررًا، ومضى الشاب هانئًا تتبعه نداءات الحب والموت.
قُبيل الفجر
تتربَّعان فوق كنبة واحدة. تسمران في مودة وصفاء. الأرملة في السبعين، وحماتها في الخامسة والثمانين. نسيتا عهدًا طويلًا شُحن بالغَيرة والحقد والكراهية. والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه، ولا استطلاع أن يتنحَّى. وذهب الرجل فاشتركَت المرأتان لأول مرة في شيءٍ واحد، وهو الحزن العميق عليه.
وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة.
الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر.
والأرملة تسأل الله أن يُطيل عُمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة.
السعادة
رجعتُ إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة.
لم يبقَ من صورته الذهبية أيُّ أثر يُذكر.
على جانبَيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظَّ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.
تذكَّرتُ بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.
وتذكَّرتُ الجميلة تلوح في النافذة باعثةً بشعاعها على السائرین.
تُرى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟
ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم: «ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلین.»
الطرب
اعترض طریقي باسمًا وهو يمد يده. تصافحنا وأنا أسأل نفسي عمن يكون ذلك العجوز، وانتحی بي جانبًا فوق طِوار الطريق وقال: نسيتني؟!
فقلتُ في استحياء: معذرة، إنها ذاكرة عجوز!
– کنا جيرانًا على عهد الدراسة الابتدائية، وكنتُ في أوقات الفراغ أُغنِّي لكم بصوت جميل، وكنتَ أنت تحب التواشیح …
ولمَّا يئس مني تمامًا مدَّ يده مرةً أخرى قائلًا: لا يصِح أن أُعطِّلك أكثر من ذلك …
قلت لنفسي: يا له من نسیان کالعدم، بل هو العدم نفسه! ولكنني كنتُ وما زلتُ أُحب سماع التواشیح.
المرح
نظرَت إليَّ بعينَين باهتتَين ذابلتَين. النظرة تشكو مُرَّ الشكوى، وتُريد أن تبوح، ولكن اللسان عاجز.
كنت أعودها والحجرة خالية.
الجلد متهرِّئ، والعظام بارزة، والأركان تفوح منها رائحة الموت.
یا صاحبة المداعبات التي لا تُنسى.
طفولتي عامرة بمداعباتك اللطيفة.
لم يكن يَعيبك إلا الإغراق في المرح.
أي نعم … الإغراق في المرح.
رسالة
وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرتُ عليها وراء صفٍّ من الكتب وأنا أُعيد ترتيب مكتبتي.
ابتسمت. انحسرَت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.
وأفلتَ من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمسًا.
وندَّ عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكَّرتُ قول الصديق الحكيم: «قسوة الذاكرة تنجلي في التذكُّر كما تنجلي في النسيان.»
عتاب
هِمت على وجهي حاملًا طعنة الغدر بين أضلعي.
وقال الصديق الحكيم: «لستَ أول من كابد الهجران.»
فسألته: أليس للشيخوخة مقام؟
فقال: «غِرٌّ من يعشق قصةً مُعادةً قديمة.»
ووقفتُ تحت شجرة الكافور أرنو من بعيد إلى الملهى.
وهي تجلس وسط الشرفة يَشع منها نور الإغراء المبين.
لا يدركها كبر، ولا يمسها انحلال.
وتتخطاني بنظرة لا مبالية فليس لقرارها تبدیل، بل وسوف أرجع وحيدًا كما بدأت.
التلقين
جلستُ فوق السرادق أنتظر تشييع الجنازة.
خيمَت فوقنا ذكريات ذلك العهد القديم.
وجاء رجال ذلك العهد يسيرون رجلًا وراء رجل. كانت الأرض تزلزل لأي منهم إذا خطا.
اليوم هم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد.
وجاء خلفاؤهم تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم. تقول نظراتهم الثابتة إنهم ملكوا الأرض والزمن.
أخيرًا، هلَّ النعش فوق الأعناق فتخطَّى الجميع وذهب.
الوظيفة المرموقة
أخيرًا مثلت بين يدَي مدير مكتبه. وصلت بفضل اجتهاد مضنٍ وشفاعة الوجهاء المكرمين.
ألقى نظرةً أخيرةً على التوصيات التي قدَّمتُها، ثم قال: لشفعائك تقدير وأي تقدير، ولكن الاختبار هنا يتم بناءً على الحق وحده.
فقلتُ برجاء: إني على أتم استعداد للاختبار.
– أرجو لك التوفيق.
فسألتُه بلهفة: متی نُدعى للامتحان؟
فتجاهل سؤالي وسألني: ولماذا هذه الوظيفة بالذات على ما تتطلَّبه من جهد خارق؟
فقلتُ بإخلاص: إنه الحب، ولا شيء سواه.
فابتسم ولم يُعلِّق.
ورجعتُ وأنا أتذكَّر قول صديقي الحكيم: «من ملك الحياة والإرادة؛ فقد ملك كل شيء، وأفقر حي يملك الحياة والإرادة.»
الصور المتحركة
هذه الصورة القديمة جامعة لأفراد أسرتي …
وهذه جامعة لأصدقاء العهد القديم.
نظرتُ إليهما طويلًا حتى غرقتُ في الذكريات …
جميع الوجوه مشرقة ومطمئنة وتنطق بالحياة.
ولا إشارة ولو خفيفةً إلى ما يُخبِّئه الغيب.
وها هم قد رحلوا جميعًا فلم يبقَ منهم أحد.
فمن يستطيع أن يُثبت أن السعادة كانت واقعًا حيًّا، لا حلمًا ولا وهمًا؟
العدل
ذهبتُ إلى محامٍ معروف بلا تردُّد. ما أجمل صراحته حين قال لي: أنت صاحب حق، ولكن خصمك أيضًا صاحب حق!
فقلتُ له: عرضتُ عليه أن نحتكم إلى شخص يكون موضع ثقتنا معًا.
– هيهات أن يوجد هذا الشخص في زماننا.
– لديَّ خطابات مُسجَّلة ستعرف منها المحكمة حسن نیتي.
– قد يطعن فيها بالتزوير.
– الحق أني بريء مائةً في المائة.
– لا يوجد إنسان بريء مائةً في المائة.
– ليس الأمر بالمستحيل.
– ألم تُهدِّده في لحظة غضب بالقتل؟
– هو نفسه لم يأخذ كلامي مأخذ الجِد.
– بل قام باحتياطات كثيرة، وزار الأضرحة ونذر النذور.
فهتفتُ ضاحكًا: هذا هو الجنون!
– عليك أن تُثبت أنه مجنون، خاصةً أن محاميه سيحاول من ناحيته أن يُثبت جنونك.
فأغرقتُ في الضحك حتى قال المحامي: لا يوجد ما يدعو إلى الضحك.
– اتهامي بالجنون مثير للضحك.
– بل إنه يدعو للأسى.
– لماذا يا سيدي؟
– الجنون يدعو للأسى.
– طالما أني عاقل فلا أهمية للاتهام.
– ولكن عدم الاهتمام قد يعني الجنون نفسه.
فسألته بذهول: هل يُداخلكَ شك في عقلي؟
– بل إني على يقين. اختلافكما المزمن يدل على جنونكما معًا.
– لكنك أبديت استعدادًا طيبًا للدفاع عني؟
– إنه واجبي!
وتنهَّد المحامي من أعماقه وواصل: ولا تنسَ أنني مجنون مثلكما …
من التاريخ
في ذلك الوقت البعيد قيل إنه هاجر أو هرب، والحقيقة أنه كان يجلس على العشب على شاطئ النيل مشتملًا بأشعة القمر، يناجي أحلامه في حضرة الجمال الجليل.
عند منتصف الليل سمع حركةً خفيفةً في الصمت المحيط، ورأى رأس امرأة ينبثق من الماء أمام الموضع الذي يفترشه. وجد نفسه أمام جمال لم يَشهد له مثيلًا من قبل. تُرى أتكون ناجيةً من سفينة غارقة؟ لكنها كانت غايةً في العذوبة والوقار؛ فداخله الخوف، وهمَّ بالوقوف تأهُّبًا للتراجع، ولكنها قالت له بصوت ناعم: اتبعني.
فسألها وهو يزداد خوفًا: إلى أين؟
– إلى الماء لترى أحلامك بعينَيك.
وبقوة سحرية زحف نحو الماء وعيناه لا تتحوَّلان عن وجهها.
الأشباح
عقب الفراغ من صلاة الفجر، رُحت أتجوَّل في الشوارع الخالية. جميل المشي في الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف. ولمَّا بلغتُ مشارف الصحْراء جلستُ فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام.
وسرح بصري في متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة. وسرعان ما خُيِّل إليَّ أن أشباحًا تتحرَّك نحو المدينة. قلت: لعلهم من رجال الأمن. ولكن مرَّ أمامي أولهم، فتبيَّنتُ فيه هيكلًا عظميًا يتطاير شرر من محجرَيه.
واجتاحني الرعب فوق الصخرة، وتسلسلت الأشباح واحدًا إثر آخر.
تساءلتُ وأنا أرتجف عمَّا يُخبِّئه النهار لمدينتي النائمة …
قطار المفاجآت
في عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب. وقفنا جماعةً من التلاميذ في بَهو المحطة بالبنطلونات القصيرة، وبيد كُلٍّ سلةٌ من القش الملوَّن مملوءة بما قُسم من طعام. وكان علينا أن نختار بين رحلتَين وقطارَین؛ قطار يذهب إلى القناطر الخيرية، وآخر يمضي إلى جهة مجهولة يُسمَّى بقطار المفاجآت.
قال أحدنا: القناطر جميلة ومضمونة.
فقال آخر: المغامرة مع المجهول أمتع.
ولم نتفق على رأي واحد.
ذهبَت كثرة إلى قطار القناطر.
وقلة جرَت وراء المجهول.
حمَّام السلطان
حلمت مرةً أنني خارج من حمَّام السلطان، تعرَّضَت لي جارية ودَعتني إلى لقاء سيدتها، ومالت بي في الطريق إلى حجرتها لتهيئني للقاء كما يملي عليها واجبها. وألهاني التدريب عن غايتي حتى كدت أنساها. ولمَّا وجب الذهاب، وذهبت إلى السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية. ووقفت بين يدَيها منهزمًا وقد علاني الصدأ.
هكذا تحوَّل الحلم إلى كابوس.
وكان لا بد من معجزة لتشرق الشمس من جديد.
العقاب
رآه ماثلًا أمامه كالقدر. غاب طويلًا، ولكن لم ينحنِ له ظهر أو يرق بصر. بسرعة انقضاض الزلزال جرى شريط الذكريات الدامية، وسحب وراءه صورة أسرته البريئة التي عرفته مثالًا للاجتهاد والرزق الحلال، جاهلةً ما وراء ذلك.
– اتفقنا على أن نفترق إلى الأبد.
فقال له الزائر بهدوء: للضرورة أحكام وإني مُهدَّد بالإفلاس.
وقال لذاته: إن طوفان الابتزاز يبدأ بقطرة.
– کنا شريكَين فما يُصيبني يُصيبك.
فقال الزائر: عند اليأس أقول: عليَّ وعلى أعدائي يا رب!
أسرته هي ما يهمه، حتى إذا كان الانتحار هو الحل.
فرصة العمر
صادفتها تجلس تحت الشمسية، وتُراقب حفيدها وهو يبني من الرمال قصورًا على شاطئ البحر الأبيض.
سلَّمنا بحرارة. جلستُ إلى جانبها. عجوزَین هادئَين تحت مظلة الشيب.
وضحكَت فجأةً وقالت: لا معنى للحياء في مثل عمرنا، فدعني أقص عليك قصةً قديمة.
وقصَّت قصتها وأنا أُتابعها بذهول حتى انتهت. وعند ذاك قلت: فرصة العمر أفلتت، یا للخسارة!
هیهات
ما ضنَّت عليَّ بشيء جميل ممَّا تملك.
فنهلتُ من ينبوع الحسن حتى ارتویت.
ولكن البطر بالنعمة قد يرتدي قناع الضجر.
ومن أَمَارات خيبتي أني فرحتُ بالفراق.
وعلى مدى طريقي الطويل لم يُفارقني الندم.
وحتى اليوم يرمقني هيكلها العظميُّ ساخرًا.
رسالة لم تُكتَب
في عام واحد علمتُ بتعيين همَّام رئيسًا لمحكمة استئناف الإسكندرية، كما قرأتُ خبر تنفيذ حكم الإعدام في سيد الغضبان لقتله راقصة. كنا — أنا وهمَّام والغضبان — أصدقاء طفولة. وكان الغضبان بؤرة الإثارة لجمال صوته ونوادره البذيئة. وافترقنا قبل أن نبلغ التاسعة، فمضى كلٌّ إلى سبيله. عرفتُ من بعض الأقارب بانخراط همَّام في سلك الهيئة القضائية، وتابعتُ أنباء الغضبان في الصحف الفنية كبلطجي من بلطجية الملاهي الليلية.
والحق أن خبر الإعدام هزَّني، وطار بي على جناح التأمُّل إلى العهد القديم. وفكَّرتُ أن أكتب رسالةً إلى همَّام أُضمِّنها تأثُّري وتأمُّلاتي. وشرعتُ في الكتابة، ولكنني توقَّفتُ وفتر حماسي أن يكون قد نسي ذلك العهد وأهله، أو أنه لم يعُد يُبالي بهذه العواطف.
الزيارة الأخيرة
لولا المعلم عبد الدائم لضاع كل وافد على المدينة القديمة. يستقبل الوافدين في مقهى المعز، ثم يفتح لكل مغلق الأبواب. وكان عبد الله أحد أولئك الوافدين.
ما لبث أن ألحقه بوظيفة مُساعد بواب، فحمد الرجل ربه على الرزق والمأوى. وحثَّه على الرشد والتدبير حتى زوَّجه من بنت الحلال. وجعل عبدُ الله يزوره في المقهى من حين لآخر اعترافًا بفضله وإحسانه، غير أنه لما استغرقه العمل وتربية الأولاد، ندرَت زیاراته حتى انقطعت. وَبَلا الرجل الحياة بحلوها ومرها، وتصبَّر حتى وقف الأولاد على أقدامهم، وانطلق كلٌّ في سبيل. ومع تقدُّم السن شعر عبد الله بأنه آن له أن يستريح وينفض عن رأسه الهموم. وفي فراغه تذكَّر المعلم عبد الدائم، فشعر بالخجل والندم، وصمَّم على زيارته، داعيًا الله أن يجده متمتعًا بالصحة والعافية. وقصد مقهى المعز وهو يُعِد نفسه للاعتذار وطلب العفو. لاحظ من أول نظرة ما حل بالمقهى من تجدید وفرنجة في الأثاث والخدمة والزبائن، ولم يعثر لصاحبه على أثر. ووضح له أن أحدًا لم يسمع به. وظهر عجوز يسرح بالمسابح والبخور، وكان الوحيد الذي تذكَّره، والوحيد الذي يعرف منزله بالإمام، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك. ولم تحُل تلك الصعوبات بين الرجل ورغبته، فمضى من فوره إلى الإمام. كان يقوده شعور قوي بالوفاء، وبأنه ذاهب إلى غير رجعة …
ليلى
في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة، تألَّقَت ليلى في هالة من الجمال والإغراء.
قال أُناس: إنها رائدة مُتحرِّرة.
وقال أُناس: ما هي إلا داعرة.
ولمَّا غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار في الظل، هاجر من هاجر إلى دنيا الله الواسعة.
وبعد سنين رجعوا، وكلٌّ يتأبَّط جرةً من الذهب وحمولةً من سوء السمعة.
وضحكت ليلي طويلًا وتساءلَت ساخرة: تُری ما قولكم اليوم عن الدعارة؟
الرحمة
البيت قديم وكذلك الزوجان.
هو في الستين وهي في السبعين.
جمعهما الحب منذ ثلاثين عامًا خلت، ثم هجرهما مع بقية الآمال.
ولولا ضيق ذات اليد لفر العصفور من القفص.
يعاني دائمًا من شدة نهمه للحياة، وتعاني هي من شدة الخوف.
ويُسلِّي أحلام يقظته بشراء أوراق اليانصيب لعل وعسى.
كلما اشتری ورقةً غمغم: رحمتك يا رب.
فيخفق قلب المرأة رعبًا وتغمغم: رحمتك يا رب.
البحث
لدى المساء قصد المدفن الذي يجتمع فيه مع بعض الأقران للسمر والمرح وتبادل أنَّات الشكوى. وسأله أحدهم: كيف انتهى سعيك هذا اليوم؟
فأجاب بفتور: کالأيام السابقة.
فقال آخر: إنك تُضيع وقتك بين أوغاد، وعندنا أقصر طريق للرخاء.
فقال بامتعاض: وهو أقصر طريق إلى السجن أيضًا!
فقال الآخر ساخرًا: الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم.
سؤال وجواب
سأل العجوز السيدة: معذرةً يا صديقة العمر، لماذا تبذلين نفسك للهوان؟
فأجابت بوجوم: من حقك عليَّ أن أُصارحك بالحقيقة؛ كنتُ أبيع الحب بأرباح وفيرة، فأمسيتُ أشتريه بخسائر فادحة، ولا حيلة لي مع هذه الدنيا الشريرة الفاتنة.
التحدي
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزیرًا: هل تستطيع أن تدلَّني على شخص طاهر لم يُلوَّث؟
فأجاب الوزير متحديًا: إليك — على سبيل المثال لا الحصر — الأطفال والمعتوهین والمجانين؛ فالدنيا ما زالت بخير …
المليم
وجدتُ نفسي طفلًا حائرًا في الطريق. في يدي مليم، ولكني نسيت تمامًا ما كلَّفَتني أمي بشرائه. حاولتُ أن أتذكَّر ففشلت، ولكن من المؤكَّد أن ما خرجتُ لشرائه لا يُساوي أكثر من مليم …
دموع الضحك
قلت له: الحمد لله، لقد أدَّيتَ رسالتك كاملة، وبلغتَ بأسرتك بر الأمان، وانتزعتَ من وحش الأيام أنيابه الضارية، فآن لكَ أن تخلد إلى الراحة والسكينة في الأيام القليلة الباقية.
حدجني بارتياب وسألني: هل تذكر أيامنا الطاهرة في الزمان الأول؟
قرأتُ هواجسه فقلت: ذاك زمان قد مضى وانقضى.
فقال بنبرة اعتراف: يا صديقي الوحيد، في عز النصر والرخاء، كثيرًا ما بكيتُ الكرامة الضائعة.
الحوار
رجع الأب إلى البيت فوجد الأبناء في انتظاره، أخرج حافظة نقوده مُتجهِّمًا وغمغم: الأب في زماننا شهيد.
فالتزَموا الصمت.
ثم تفرَّقوا تفرُّق الشهداء.
المتسوِّل
إنه يسبح في بحر الماضي فتغمره موجة مخضبة بلون قاتم، وصداها ينداح في نغمة حزينة لا تتلاشی.
عندما يكون المرء في العشرين وجارته فوق الخمسين، وقد وهبته من الذكريات الحنان والأمومة.
وفي خلوة بريئة تهل خواطر من عالم الرغبات المتوهِّجة.
وتند عن لمعة العين حرارة النداء.
يشكمه الحياء قليلًا وشيء كالخوف.
يرافقه بعد ذلك الندم.
ويتسوَّل النسيان.
الوحدة
لزق المنظرُ البشع بذاكرتها لا يتزحزح. منظر كَفِّ الضابط العمياء وهي تَهوي على خد أبيها العليل. وبقدر ما كانت تُحب أباها وتُقدِّسه، بقدر ما خاصمت كل شيء، نفسها والعالم من حولها. وتتقدَّم بها السن وهي وحيدة ترمقها ثقوب الكون برثاء.
عيد الميلاد
ما أكثر ما يسير بلا هدف! وإذا التعب نال منه توقَّف، لكنه لا يكف عن مناجاة الأشياء الثابتة والمتحرِّكة.
في نهاية هذا العام يبلغ الثلاثين من عمره …
سؤال بعد ثلاثين عامًا
بعد انقطاع عشرين عامًا عن حي الشباب، دعتني مناسبة إلى عبوره. لولا ما جاش في صدري من عواطف نائمة ما عرفته في عمائره الجديدة وزحامه الصاخب. وثبتت عيناي على بيت قدیم بقي على حاله، فشعرتُ بابتسامة ترف على الروح والجسد. إنها اليوم وحيدة في الثمانين، وآخر لقاء جمع بيننا بالمصادفة كان منذ ثلاثين عامًا، حين أخبرَتني بهجرة وحيدها إلى الخارج بصفة نهائية. طويتُ مظلتي وقصدتُ الباب بعد تردُّد، وضغطتُ على الجرس. فُتحت شُرَّاعة الباب عن وجه امرأة غريبة، فداريتُ ارتباكي بسؤال: ألَا تُقيم ست سامية هنا؟
فأجابَت بسرعة: نحن نقيم هنا منذ ثلاث سنوات!
تحوَّلتُ عن موقفي في حيرة، وذهبتُ إلى مشواري وأنا أتساءل: تُرى أين هي؟ هل تُقيم في حي آخر؟ هل لحقَت بابنها في الخارج؟ هل رحلَت عن دنيانا دون أن نعلم رغم القربی؟ وهل يصلح ذلك نهايةً لذلك التاريخ المؤجَّج بالعواطف والأحلام؟
وجمعني في نفس العام مأتم مع الباقين من الأسرة، فسألتُ أحدهم: ماذا تعرف عن ست سامية؟
فرفع حاجبَيه بدهشة، وقال: أعتقد أنها ما زالت تُقيم في البيت القديم.
وجه من الماضي
رأيتُ ست نفوسة في المنام. ماذا جاء بك بعد غياب سبعين عامًا بل يزيد؟ كانت طلعتك بهية، وبشرتك صافية، وشعرك غزيرًا. وكان بيتك يُطل على النيل. وكنا نزورك كثيرًا، وكنتُ أعتبر أوقات زیارتك من أسعد الأوقات. ومن نافذة الحجرة كنتُ أغوص ببصري في الأمواج الهادئة فيسبح حتى الشاطئ البعيد.
ولم يبقَ من الحلم إلا وجهك، وتساؤلي: تُرى أمَا زالت على قيد الحياة؟
أمَّا وقائع الحلم فقد تلاشت بعد استيقاظي مباشرة.
المطر
دفعَنا المطر إلى مدخل بيت قديم. في الخارج صوت انهلال المطر وهزيم الرعد، وفي الداخل لون المغيب. وقفنا متقابلَين في المدخل الضيق، وليس معنا إلا بئر السلَّم وأفكارنا الخفية. قلت لنفسي: يا لها من امرأة! وسرحَت هي في الجو البارد معتزةً محتشمة.
قالت وكأنما تُحدِّث نفسها: هذا المطر مَقلب ما بعده مَقلب.
فقلت وأنا حائر بخواطري: إنه رحمة للعالمين.
رجل الساعة
دائمًا هو قريب مني، لا يبرح بصري أو خيالي، يُريق عليَّ نظراته الهادئة القوية، من وجه محايد فلا يُشاركني حزنًا أو فرحًا. ومن حين لآخر ينظر في ساعته موحيًا إليَّ بأن أفعل مثله. أضيق به أحيانًا، ولكن إن غاب ساعةً ابتلاني الضياع. جميع ما لاقيتُ في حياتي من تعب أو راحة من صنعه. وهو الذي جعلني أتوق إلى حياة لا توجد بها ساعة تدق.
الساحرة
مرَّت بي في خلوتي كالوردة اليانعة فوق الغصن النضير. وانهمرَت ذکریات تلك الأيام الباهرة. وذُهلت لسرعة الزمن. وكنتُ شكوتُ إلى صديقي الحكيم بعض ما لقيت، فعقَّب على شكواي قائلًا: هل تُنكر حظك من دفء الدنيا ونشوتها؟
فعَدَدت الحسنات إقرارًا مني بفضل الوهَّاب، فقال: جميع تلك الحظوظ ثمرة لإعراضها.
وبعد صمت قصير سألني: ألَا تذكر إثارةً من إقبالها؟
فقلت: نظرة رضًا عابرة تحت النخلة!
– هل تذکر مذاقها؟
– أطيب من جميع الحظوظ مجتمعة.
فقال بهدوء: لذلك أقول لكَ إنها سر الحياة ونورها.
شق الطريق
كنتُ أنتظر لصق جدار بالطريق الضيق المكتظ بالناس والدكاكين. في ذلك التاريخ كنت مُعذَّبًا في مقام الحيرة تتجاذبني رياح متضاربة. وجذبتني قوة خفية إلى ناحية ما، فرأيت عجوزًا وقورًا يَشع طيبةً وصفاءً.
أقبَل نحوي حتى صار على بعد شبر مني، وهمس: إنها لا تساوي شيئًا …
أيقنتُ أنه قرأ هواجسي، وأنه يدعوني إلى قطع الروابط.
ارتجفَت جوارحي وخفق قلبي بشدة.
وتبدَّى لي الإغراء في صورة حسناء لم أشهد لجمالها مثيلًا من قبل.
لكني تردَّدت.
وفي تلك الآونة رجعَت زوجتي حاملةً قراطيس العطارة، جارَّةً أبنائي الثلاثة.
وأفقتُ من غشيتي، وحملتُ الأصغر بين يدَي، وتقدَّمتُ أسرتي أشق لها طريقًا وسط الزحام.
سر الرجل
كان يمر بمجالسنا وهو يصيح: إنها آتية لا ريب فيها.
ثم يمضي مهرولًا فلا يبقى منه إلا منظر ثيابه المهلهلة ونظرته الشاردة.
ووقعت الكارثة …
قوم قالوا: إنه ولي من الأولياء.
وقوم قالوا: ما هو إلا عميل من العملاء.
رجل يحجز مقعدًا
بدأ الأوتوبيس مسيرته من الزيتون في نفس اللحظة التي انطلقت فيها سيارة رجل من مسكنه في حلوان.
غيَّرت كلٌّ منهما سرعتها، أسرعت وأبطأت، وربما توقَّفَت دقيقة أو أكثر تبعًا لِمَا لاقته في سيرها من ظروف الطريق.
ولكنهما بلغا میدان المحطة في وقت واحد، بل ووقع بينهما صدام خفيف، أتلف مصباح الأوتوبيس، وكشط مقدَّم السيارة.
وكان رجل يمر فانحصر بين السيارتَين، وسقط فاقد الحياة.
كان يعبر الميدان ليحجز مقعدًا في قطار الصعيد.
هدية
في عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمُّل مثل عبير البخور … وقال لصاحبه العاكف على العبادة وكأنه يعتذر: في زحمة هموم أسرتي ومطالب الشئون العامة ضاع عمري؛ فلم أجِد وقتًا للعبادة.
في تلك الليلة زاره في المنام من أهدى إليه وردةً بيضاء وهمس في أذنه: هدية لا يستحقها إلا العابدون الصادقون!
القبر الذهبي
رأيتُ في المنام قبرًا ذهبيًّا قائمًا تحت أغصان شجرة سامقة مغطاةٍ بالبلابل الشادية.
وعلى صدره نُقشت بأحرف جميلة واضحة كلمات تقول: «هنيئًا لمن كانت نشأته في بوتقة الهجران».
الرسالة
عثرتُ يومًا على وردة مطروحة تحت قدمي. لم تخلُ من إثارة ورونق، فالتقطتها.
وإذا بورقة مطوية مربوطة بخيط أبيض حول عودها الأخضر. بسطتها بفضول فقرأت: «تعالَ. ستجدني كما تحب».
سرحتُ في ابتسامة وتساءلت: كيف أخطأَت الرسالة هدفها؟ لماذا أُلقي بها في التراب؟
وهِمتُ حينًا في وادي الفروض والاحتمالات، ولكني أثنيتُ على الدنيا التي لا ينضب فيها مَعين الحب.
ونسمت عليَّ نسائم من الماضي البعيد، فخفق القلب بقدر ما أُتيح له.
وفجأةً تجاوزتُ تردُّدي القديم.
وعزمتُ على أن أبدأ الإجراءات ليكون لي مدفن في هذه المدينة المترامية.
النداء
أحيانًا يظهر لي بوجهه الجميل فيُلقي إليَّ نظرةً رقيقةً ويهمس: «اترك كل شيء واتبعني.»
قد يلقاني وأنا في غاية الإحباط، وقد يلقاني وأنا في نهاية السرور، ودائمًا ينتزع من صدري الطرب والعصيان.
وكلانا لم يعرف اليأس بعد.
المنشود
في غمار شيخوخة وعزلة وأفكار يقطر منها ماء الورد، تردَّدت أنفاس الوعد المنشود، ودقَّ الجرس على غير توقُّع، وجاءَت الجارة مستأذنة.
واندمجت فيما أنا مندمج فيه حتى آمنتُ بأنها الوعد المنشود.
الغوص في الماء
شهد ذات ليلة خسوف القمر. وتلقَّى من تعاسته المتوارية خلف الغلالة المظلمة كآبةً قطعت ما بينه وبين الأشياء. لم يعُد يأنس لشيء، واحتار الأطباء فيه. ونُصح بالهجرة إلى مكان ناءٍ لتغيير المنظر والمخبر. ذهب يائسًا يتجوَّل على شاطئ البحر. وعلى بُعدٍ رأى شمسيةً تستكين فيها امرأة شبه عارية غاية في الجمال والسكينة. انجذب نحوها كأول شيء يلقاه، فلا يبعث في نفسه الكآبة والوحشة، وشعر بأنها تُرحِّب به دون كلمة أو حركة فاستخفَّه الطرب. وقامت متوجِّهةً نحو الماء، فتجرَّد من ثيابه وتبعها. وغاصا في الماء معًا دون أن يُلقيا على ما وراءهما نظرةً واحدة.
التوبة
مرَّت أمامي الجميلة الفاتنة وهي تتأوَّد وتتنهَّد، فلم ألتفت إليها.
نعمت في ذلك الوقت الجاف بإرضاء كبرياء الزهد والإعراض عن مغريات الدنيا.
وثَبْت إلى طبيعتي في ليلة قمرية ذات بهاء.
وسعيتُ وراء الجميلة الفاتنة وأنا مشفق من العقاب، ولكنها تلقَّتني بابتسامة وقالت: لتهنأ بمصيرك فإنني أقبل التوبة.
التسبيح
في وضَح النهار والحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والأطفال، والدكاكين على الصفَّين تستعد لاستقبال الزبائن.
في وضح النهار سقط رجل ضعيف ضحيةً لعملاق جبار.
وشاهد الناس الجريمة، وتوارَوا في برج الخوف.
لم يشهد منهم أحد، ومضى القاتل آمنًا.
وشهد الدرويش الحادث، ولكنه لم يُسأل للاعتقاد الراسخ في بلاهته.
وغضب الأبله غضبًا كونيًّا؛ فعزم على الانتقام من الجميع.
كلما واتته فرصة قضى على رجل أو امرأة وهو يُسبِّح لله.
النصيحة
كان لنا جار من المريدين، وكان يدعو شيخه كل ليلة خميس لإقامة الذكر والإنشاد.
وكنتُ أقف مع الصبية المتجمِّعين وراء المدعوِّين المتربِّعین على الأبسطة.
وكان الذِّكر يُمتِّعنا والإنشاد يُطربنا.
ومرةً سأل الشيخَ سائلٌ من المریدین: نراك وجيهًا في منظرك، بادي الصحة والعافية، تُحب الأكل والشرب، ولستَ كالشيوخ الزاهدين!
فقال الشيخ بصوت سمعه الجميع: نحن قوم نعمل لنرتزق ولا نتسوَّل. نُقبل على دنيا الله ولا نُعرض عنها. قُرة أعيننا في العشق والسكر، وسیاحتِنا الليلية من التأمُّل والذِّكر.
الدرس
كنت منطلقًا مهرولًا لأشهد حلقة الذِّكر. مررتُ في طريقي بعجوز رثِّ الملبس، تعيس المنظر وهو يبكي. صرفتُ نفسي عن الانشغال به أن يفوت عليَّ قصدي. ولمَّا احتلَّ الشيخ مكانه وسط حلقة الذِّكر، نظر فيما حوله حتى وقع بصره عليَّ، فأومأ إليَّ لأقترب منه، ومال على أذني هامسًا: أهملتَ العجوز الباكي فأضعتَ فرصةً للخير لن تحظى بمثلها باستماعك إلى درسي اليوم …
ليلة القدر
زَینَّا حجرة الاستقبال بالورود، وتسلَّل البخور من نوافذ بيتنا إلى عرض الطريق، وأعددنا من أسباب السرور ما يلذ السمع والبصر والذوق.
وأملنا كالآخرين أن ينزل الشيخ في ضيافتنا ويسهر عندنا ليلة القدر. واستغرق والداي في التلاوة، وجعلتُ أذهب وأجيء بين النافذة والباب المفتوح.
وفجأةً تعالت في جلال الليل زغرودة من بيت أحد الجيران.
وتبادلنا نظرات الأسى في صمت.
وقال أبي متنهِّدًا: لا يريد الحظ أن يبتسم بعد.
همسة عند الفجر
في مرحلة حاسمة من العمر، عندما تسنَّم بي الحب ذروة الحيرة والشوق، همس في أذني صوت عند الفجر: هنيئًا لك فقد حُمَّ الوداع.
وأغمضتُ عينَي من التأثُّر، فرأيتُ جنازتي تسير وأنا في مقدَّمها أسير، حاملًا كأسا كبيرة مُترعة برحيق الحياة.
الهجر
لم أشعر بأنه مات حقًّا إلا في مأتمه.
شُغلت المقاعد بالمعزين، وتتابعت تلاوة القرآن الكريم. وانهمك كلُّ متجاورَين في حديث، فذُكرت حوادث لا حصر لها، إلا الراحل فلم يذكره أحد.
حقًّا لقد غادرتَ الدنيا أيها العزيز، كما أنها قد غادرتك.
البلهاء
كانت الخادمة بلهاء ويدعونها الشيخة. وكانت الست وحيدة في الحلقة السادسة. وكان البيت يضطرب أحيانًا تحت وطأة الرغبة. وتسلَّل الاضطراب إلى روح الخادمة البلهاء؛ فاستحوذت عليها الكآبة. وسألتها الست وكانت تعطف عليها: ما لك يا شيخة؟
فأجابت بتأفُّف: أنا ذاهبة …
فانزعجت الست وتساءلت: وتتركينني وحدي يا شيخة؟!
فقالت بحدة: لستِ وحدكِ يا فاجرة.
الطاهر
رأت الشيخة رجلًا حائرًا وهي تسير في السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فسألته: عَمَّ تبحث یا رجل؟
فأجاب بصبر نافد: أبحث عن ماء طاهر.
فقالت بلهجة لم تخلُ من عتاب: لا يوجد ما هو أطهر من عَرق المرأة.
الحياة
أجبرتني ظروف الحياة يومًا لأكون قاطع طريق. وبدأَت أُولى ممارساتي في ليلة مظلمة، فانقضضتُ علی عابر سبيل.
وارتعب الرجل بشدة شارفت به الموت، وهتف برجاء حار: خذ جميع ما أملك حلالًا لك، ولكن لا تمس حياتي بسوء.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أحوم بروحي حول سر الحياة!
في الحجرة الواسعة
في المنام رأيتُني في حجرة واسعة عالية السقف، خالية من الأثاث عدا مائدة مستديرة في الوسط حولها کرسیان متقابلان. جلستُ على کرسي، وجلس على الآخر صديق حميم، وأمام كلٍّ منا فنجان قهوة. وثمَّة باب يُفضي إلى حجرة أخرى مظلمة جدًّا، لا أدري شيئًا عمَّا بداخلها.
وقال صديقي: علينا أن ننجز المهمة.
فقلت موافقًا: لا بد من إنجازها.
وفجأةً قام صديقي فمضى نحو الحجرة المظلمة واختفى، وتبيَّن لي بعد ذهابه أن القهوة اختفت من فوق المائدة، فناديتُ عليه.
لم أسمع ردًّا، ولكن ظهر شخص غريب فجلس مكانه، وقد لفت انتباهي بعباءته البيضاء. ورغم أنني لم أكن أعرفه، فإنني قلتُ لنفسي إن وجوده خير من عدمه. أمَّا هو فقد وضع أمامه كأسًا، وكأسًا أمامي، وقال: لنشرب نخب الضوء والظلام.
فرفعت الكأس لأشرب، ولاحت مني التفاتة إلى داخلها، فرأيتُ وجه صديقي الغائب يرنو إليَّ، فارتعشَت يدَي وقلت للجالس أمامي: لا بد من إنجاز المهمة.
اللحن
في حلم ثانٍ وجدتني في حجرة متوسِّطة يُضيئها مصباح غازي يتدلَّى من سقفها. في ركن منها جلس جماعة من الرجال والنساء على شِلت متقابلة، يتسامرون ويضحكون بأصوات مرتفعة. لم يكن في الجدران باب ولا نافذة إلا فتحة صغيرة في اتساع عین منظار، مرتفعة بعض الشيء، فلم أرَ منها إلا سماءً تتواری وراء المساء. شعرتُ برغبة شديدة في العودة إلى أهلي وداري، ولم أدرِ کیف يمكن أن يتيسَّر لي ذلك، وسألت السُّمار: أكرمكم الله، كيف أستطيع الخروج من هنا؟
فلم يلتفت إليَّ أحد، وواصلوا السمر والضحك. وغزت الوحشة أعماقي. عند ذاك لاح من خلال الفتحة وجه غير واضح المعالم وقال لي: إليك هذا اللحن، احفظه مني جيدًا، وترنَّم به عند الحاجة، وستجد فيه الشفاء من كل هم وغم.
الفتنة
كنتُ أتمشَّى عند الباب الأخضر، فصادفتُ درویشًا منتحيًا جانبًا بامرأة. كانت وسيطة العمر، ريانة الجسم، فواحة الأنوثة، محتشمة النظرة.
ولمَّا اقتربتُ منهما سمعتها تقول: یا سیدنا، إني أرملة، أعيش مع شقيقتي، مستورة والحمد لله، ولكني أخاف الفتنة.
فقال لها: أدِّي الفرائض.
فقالت بصدق: لا تفوتني فريضة.
وأضافت: وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة.
فقال: لن يمسَّك الشيطان.
فقالت: ولكني أخاف الفتنة.
المعركة
رجعتُ إلى الميدان بعد زيارة للمشهد الحسيني. رأيتُ زحامًا يُحدِّق براقصة وزَمار. الزمار يعزف، والراقصة تتأوَّد لاعبةً بالعصا، والناس يُصفِّقون، والوجوه تتألَّق بالسرور والنشوة. فكَّرتُ غاضبًا كيف أفض الجمع، ولكن في لحظة نور رأيتُ في مرمى الزمن الجميع وهم يهرولون نحو القبر، كأنهم يتسابقون حتى لم يبقَ منهم واحد.
عند ذاك وليتهم ظهري وذهبت.
الأضواء
استعدَّت الكاميرا في موقعها، وضُبطت الأضواء، وأشار المخرج ببدء التصوير.
تلاقی حبیبان ودار حوار. انتهى تصوير اللقطة.
همس الموزِّع للمنتج وهما يجلسان على مبعدة يسيرة وراء الكاميرا: لن تَصلح لأدوار الحب بعد اليوم. قلبي معها …
أشعلت الممثِّلة سيجارةً لتريح أعصابها من عناء التمثيل.
ووقف المؤلِّف في زاوية بعيدًا عن الأضواء يُصغي ويُتابع، لا يُبالي به أحد.
على مائدة الرحمن
عُمرت مائدة الرحمن بالصائمين. ولمَّا ترامى إليهم الأذان تأهَّبوا وبسملوا، وهتف رجل ذو شأن: طعامنا حرام على من بقلبه زيغ.
وندَّت عن رجل ضحكة عالية لفتت إليه الأنظار.
أمسك عن الضحك وقال: عِندي غذاء أجمل فأصغوا إليَّ.
ولكنهم أقبلوا على الطعام وهم يسخرون من الرجل.
ولمَّا امتلأَت البطون وثقلت الأجفان؛ فغفَوا إغفاءةً قصيرة، ورأَوا في نومهم عالمًا يَفتن ويسحر. ولمَّا استيقظوا توجَّهوا نحو الرجل الضاحك، فلم يجدوا له أثرًا.
وترك الغائب في كل قلب لوعة …
البلياردو
جلستُ في ركن المقهى الذي تقوم فيه مائدة البلياردو.
وجاء رجل نشط وراح يلاعب نفسه فيرمي الكرة مرة، ويرد في الأخرى.
وقلت له بأدب: هل تسمح لي أن أُلاعبك؛ فهو أَجلَب للمتعة.
فقال دون أن ينظر إليَّ: بل المتعة أن ألعب وحدي وأن يتفرَّج الآخرون.
ونظرت حولي فرأيت جميع الزبائن يغطون في النوم.
اللؤلؤة
جاءني شخص في المنام ومدَّ لي يده بعلبة من العاج قائلًا: تقبَّل الهدية.
ولمَّا صحوت وجدت العلبة على الوسادة.
فتحتها ذاهلًا، فوجدت لؤلؤةً في حجم البندقة.
بين الحين والحين أعرضها على صديق أو خبير وأسأله: ما رأيك في هذه اللؤلؤة الفريدة؟
فيهز الرجل رأسه ويقول ضاحكًا: أي لؤلؤة؟ العلبة فارغة …
وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعينَي.
ولم أجد حتى الساعة من يُصدِّقني.
ولكن اليأس لم يعرف سبيله إلى قلبي.
المصادفة
تحت التمثال تُقابلنا مصادفة.
توقفتُ عن السير. إنه يبتسم، وأنا أرتبك. صافحته بالإجلال الذي يستحقه فسألني: كيف الحال؟
فأجبت بأدب وحياء: الحمد لله، فضلك لا يُنسی …
فقال بصوت لم يخلُ من عتاب رقیق: حسن أن تعتمد على نفسك، ولكن خُيل إليَّ أنك نسيتني!
فقلت بحياء: لا أحب أن أُثقل عليك، ولكن لا غنى عنك بحال. وافترقنا وقد أثار شجوني … تذكَّرتُ عهدي الطويل معه عندما كان كلَّ شيء في حياتي، كما تذكَّرتُ فضله وأياديه. تذكَّرتُ أيضًا أطواره الأخرى مثل إعراضه وجفائه ولا مبالاته دون تفسير يَطمئن إليه القلب.
رغم كل شيء اعتبرت اللقاء مصادفةً سعيدة.
الحنين
كنتُ ألقاه في الخلاء وحيدًا يُحاور الناي، ويعزف لجلال الكون.
قلتُ له يومًا: ما أجدر أن يسمع الناس ألحانك.
فقال بامتعاض: إنهم منهمكون في الشجار والبكاء!
فقلت مشجِّعًا: لكل امرئ ساعة يحن فيها إلى الخلاء.
الطاعة
لم ترفض في حياتها طلبًا أو تتجاهل إشارة.
وكانت تلبِّي نداء الشوق دون مبالاة بالثمن.
وأنذرها منذر بسوء العاقبة.
ولكنها كانت شديدة الإيمان بالغفور الرحيم.
ساعة الحساب
جلس يتناول طعامه في المطعم الصغير بهدوء وشهية.
ذو مظهر مقبول ووجه مرهق.
ولمَّا حان وقت الحساب قال لصاحب المطعم: لا تؤاخذني ليس في جيبي مليم واحد، وكنتُ جائعًا لحد الموت.
بُهت الرجل ولم يدرِ ماذا يصنع.
وكأنه حرص على أن تبقى الواقعة سرًّا لا يدري به أحد.
الغفلة
کالعصافير يمرحون في كنَف الوالدَين. البيت صغير والرزق محدود، ولكنهم لم يتصوَّروا نعیمًا يفوق النعيم الذي ينعمون به. وتمادی يوم حار من أيام الصيف بأنفاسه المحمَّلة بالرطوبة، فهتفَت عصفورة: أف … متى يجيء الخريف؟
وغمغم وهو يراقبهم من بعيد: لماذا تُفرِّطون في الأيام المتاحة الطيبة؟
دعابة الذاكرة
رأيتُ شخصًا هائلًا ذا بطن يسع المحيط، وفم يبلع الفيل، فسألته في ذهول: من أنت يا سيدي؟
فأجاب باستغراب: أنا النسيان، فكيف نسيتني؟
البلاغة
قال الأستاذ: البلاغة سحر.
فأمَّنَّا على قوله ورحنا نستبق في ضرب الأمثال.
ثم سرح بي الخيال إلى ماضٍ بعيد يَهيم في السذاجة.
تذكَّرتُ كلمات بسيطةً لا وزن لها في ذاتها مثل: أنت … فيمَ تفكِّر؟ طيب … يا لك من ماكر! …
ولكن لسحرها الغريب الغامض جُن أناس … وثمل آخرون بسعادة لا توصف …
الطرب
يا له من زمن؛ زمن الطرب!
تُرسل الحناجر الذهبية أنغامها فتنتشر النشوة كالشذا الطيب النفاذ.
وتتخلَّق في هالة الطرب امرأة جميلة تعشقها القلوب البيضاء، ولكنها لا تعثر لها على أثر في غير دنيا الطرب … لقد اختارَت قلب الطرب مقامًا لها لا تبرحه.
على الشاطئ
وجدتُ نفسي فوق شريط يفصل بين البحر والصحراء. شعرتُ بوحشة قاربَت الخوف. وفي لحظة عثر بصري الحائر على امرأة تقف غير بعيدة وغير قريبة. لم تتضح لي معالمها وقسَماتها، ولكن داخلني أمل بأنني سأجد عندها بعض أسباب القربى أو المعرفة. ومضيتُ نحوها، ولكن المسافة بيني وبينها لم تقصر ولم تُبشِّر بالبلوغ. ناديتها مستخدمًا العديد من الأسماء والعديد من الأوصاف؛ فلم تتوقَّف ولم تلتفت.
وأقبل المساء، وأخذَت الكائنات تتلاشى، ولكنني لم أكفَّ عن التطلُّع أو السير أو النداء.
سر النشوة
حلمتُ بأنني صحوتُ من نوم ثقيل على أنفاس رقيقة لامرأة آية في الجمال، رنت إليَّ بنظرة عذبة وهمست في أذني: إن الذي أودع فيَّ سر النشوة المبدعة قادر على كل شيء، فلا تيأس أبدًا.
الانبهار
ذاع عنه أنه عالِم بكل شيء. وقصدَته الجموع في ركن الطريق الذي يجلس على أريكة فيه. وقال وسيط خير: لا وقت للأسئلة السهلة. هاتوا ما لديكم من أسئلة مستعصية.
وانهالت عليه الأسئلة المستعصية حقًّا.
وساد صمت عميق ليَسمع كلٌّ الجواب الذي يعنيه.
لم أرَ حركةً تدب في شفتَيه، ولم أسمع صوتًا يند عن فِيه.
ورجعتُ من عنده وسط جموع قد انبهرَت بما سمعت لحد الجنون …
الذكرى
في يوم السوق بحارتنا، اخترقَت الجموع امرأة عارية تتهادی، تسير في ترفُّع، وتُذيب مفاتنها الصخور.
كَفَّ الناس عن البيع والشراء ووقفوا ينظرون بأعين ذاهلة. كذلك مضت حتى غيَّبها المنعطف الأخير، وأفاق الناس من ذهولهم فركبتهم حال جنون، واندفعوا نحو المنعطف. فتشوا في كل مكان، ولكنهم لم يعثروا لها على أثر.
كلما خطرت ذكراها على القلوب أكلتها الحسرة …
الندم
حملت إليَّ أمواجُ الحياة المتضاربة امرأة، ما إن رأيتها حتى جاش الصدر بذكريات الصِّبا. ولمَّا ذابت حيرة اللقاء في حرارة الذكريات سألتها: هل تتذكَّرين؟
فابتسمَت ابتسامةً خفيفةً تُغني عن الجواب.
فقلتُ متهوِّرًا: التذكُّر يجب أن يسبق الندم.
فسألتني: كيف تجده؟
فقلت بحرارة: ذو ألم كالحنين …
فضحكت ضحكةً خافتة، ثم همست: هو كذلك، والله غفور رحيم!
المعركة
في عهد الصبا والصبر القليل، نشبَت خصومة بيني وبين صديق. اكتسح طوفان الغضب المودة، فدعاني متحديًا إلى معركة في الخلاء حيث لا يوجد من يُخلِّص بيننا. ذهبنا متحفِّزين. وسرعان ما اشتبكنا في معركة ضارية حتى سقطنا من الإعياء، وجراحنا تنزف بغزارة.
وكان لا بد من أن نرجع إلى المدينة قبل هبوط الظلام.
ولم يتيسَّر لنا ذلك دون تعاون متبادل.
لزم أن نتعاون لتدليك الكدمات، ولزم أن نتعاون على السير.
وفي أثناء الخطو المتعثِّر، صفت القلوب، ولعبت البسمات فوق الشفاه المتورِّمة.
ثم لاح الغفران في الأفق.
حوار الأصيل
إنه جارنا فنِعم الجيرة ونِعم الجار.
عند الأصيل يتربَّع على أريكة أمام الباب مُتلفِّفًا بعباءته.
بذلك يتم للميدان جلاله وللأشجار جمالها، وعندما تُودِّع السماء آخر حَدَأة يرجع أبناؤه الثلاثة من أعمالهم.
وعشية السفر إلى الحج نظر في وجوههم وسألهم: ماذا تقولون بعد هذا الذي كان؟
فأجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون.
وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب.
وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحب.
فابتسم الأب وقال: لا بد من شيء من الفوضى كي يُفيق الغافل من غفلته.
فتبادل الإخوة النظر مليًّا، ثم قالوا في نفَس واحد: الحق دائمًا معك!
الرحلة
بقضاء لا رادَّ له حملني الإذعان إلى أرض الغربة.
وعلمتُ أن الواقعة آتية لا ريب فيها، غدًا أو بعد غد.
انتظِر قليلًا ولا تتعجَّل المجهول.
وقال الطيبون: لا تخَف فقد سبقناك في نفس الطريق.
تنبسط أمامي حديقة مترعة بالحسن، وتذهب الفاتنات وتجيء.
ودُعيت للغناء، ولكني شُغلت بالخواطر، والهواجس.
وانتزعتُ حواسي لاجتياز الغابة الدامية.
لم يبقَ لي منها إلا ذكريات أشباح وأصداء كوابيس خانقة، وأثر باقٍ لمعركة طاحنة.
وقالوا: آن لك التجوال في رياض الشمال. ولكن قلبي نازعني إلى الملعب بين السبيل والتكية.
وصلتُ وأنا ألهث.
الوجه والإهاب والنظر، كل شيء تغيَّر.
وتلقاني الأحبة، ومن حولهم ترامى الجليل بهوائه وضجيجه.
وقال لي قلبي: استقر في ظله، وليحفظه الصمد.
الشذا
نظر إلى الوراء طويلًا فلم يبقَ منه إلا ما يبقى من الورد بعد جفافه؛ اللهو وصفاء الأحلام ودفء السيدة الحنون.
هي دائمًا كبيرة، ولكن لا تجوز عليها الشيخوخة، ودائمًا تلهج بالدعاء.
وتعرَّض ثقب الظلام ناشرًا لواء الفراق.
وتحرَّك طابور الوداع، وتأوَّه العريس الذي لم يتم زفافه.
وتلاشت وجوه الحب، وعبق الجو بالشذا الطيب.
الثابت والمتغيِّر
ذهبوا إلى السوق، وبقيتُ في البيت وحدي.
وجاءت صغيرة ذات ضفيرتَين تتضوَّع منها رائحة القَرنفل، تحمل طبقًا فارغًا، مُرسَلة من قِبل أمها بمهمَّة خاصة.
ولمَّا لم تجِد أمي همَّت بالذهاب، ولكني دعوتها للانتظار، فانتظرَت.
وذاب المتسوِّقون في السوق، وزقزقت العصافير طويلًا، يُظهرها الصيف ويُخفيها الشتاء.
وقلتُ لها لأملأ الزمن: تَخفَّفي من ثيابك فهو أطيب لك.
فقالت بحياء: عندما يحين الموسم.
وهكذا جمعنا الزمان والمكان والشوق.
أمَّا الزمان والمكان فلا ثبات لهما، وأمَّا الشوق فلا يورث إلا الحزن.
المهمة
قالت لي أمي: اذهب إلى جارتنا وقل لها هاتي الأمانة.
فسألتها وأنا أهم بالذهاب: وما الأمانة؟
فقالت وهي تُداري ابتسامة: لا تسأل عمَّا لا يعنيك، ولكن احفظها عندما تتسلَّمها كأنما هي روحك.
وذهبتُ إلى جارتنا وبلَّغتها الرسالة، فحرَّکت أعضاءها لتطرد الكسل، وقالت: يجب أن ترى بيتي قبل ذلك.
وأمرتني أن أتبعها، ومضت أمامي وهي تتبختر.
وانقضى الوقت مثل نهر جارٍ.
وكانت أمي ترد على خاطري أحيانًا، فأتخيَّلها وهي تنتظر.
في العاصفة
زلَّت قدمَي في ليلة عاصفة ممطرة، فآويت إلى دُكان عطار. وسألت العطار: متى تهدأ العاصفة؟
فأجاب بهدوء: ربما بعد دقيقة واحدة، وربما استمرَّت حتى مساء الغد.
ولمحتُ على ضوء مصباح الدكان شخصًا يُهروِل في الخارج، ناشرًا فوق رأسه مظلةً سوداء. شعرت بأنني لا أراه لأول مرة رغم أنني لا أعرفه، والحق أنني لم أرتَح إليه. وقال له العطار: لا لوم على من يؤثر السلامة في هذه الليلة.
فقال الرجل وهو يمضي دون توقُّف: أنا لا أُخلف المعیاد.
وجاءت سيدة جميلة لتلوذ بالدكان، فنسينا الرجل ومظلته.
الظاهر أن المرأة رأت أن تنتهز الفرصة لتتسوَّق فسألت العطار: هل عندك دواء للوساوس والأرق؟
فأشار الرجل إلى برطمان وقال: ليس في الدنيا ما هو أجمل من الصحة وخُلُو البال.
المُخبر
كنت أتأهَّب للنوم عندما طرق الباب طارق. فتحت الشُّراعة فرأيتُ شبحًا يكاد يسد الفراغ أمام عينَي وقال: مُخبر من القسم.
ومدَّ لي يده ببلاغ يأمرني بالحضور مع المُخبر لأمر هام.
أصبح من المألوف في حَيِّنا أن يذهب هذا المُخبر إلى أي ساكن لاستدعائه. يذهب في أي وقت ودون مراعاة لأي اعتبار، ولا مناص من التنفيذ ولا مفر.
ولم أجِد جدوى في المناقشة؛ فرجعتُ إلى غرفة نومي لارتداء ملابسي.
سِرت في إثره دون أن نتبادل كلمةُ واحدة.
ولمحتُ في النوافذ أشباح الناس يُتابعوننا ويتهامسون.
وإني أعرف ما يتهامسون به؛ فقد طالما فعلتُ ذلك وأنا أتابع السابقين.
الريح تفعل ما تشاء
قد ضجرَت الساعة من دقة عقاربي في الزمان الأول.
وعقدتُ حبال العزيمة حول ذراع الأمان ونمت.
ولكن حملتني ريح الغربة فوق السحاب صادعةً بأمر المجهول.
لم يكن في نيتي ما أفعل، ولا فعلتُ ما کنتُ نویت. وأيقظني رفيقي الرقيق من غفوتي قائلًا: غدًا نسفك الدماء.
فقلت مُشهدًا الكون على استسلامي المطلق: لتكن مشيئة الله.
المرشد والبائعة
من أول يوم اكتشفت أن عملي في المنطقة يُحتِّم عليَّ التجوال المستمر في أنحائها. سألت عن مرشدِ طریق فدلوني على رجل يُقيم بالدرب الأحمر، تبيَّن لي أنه أعمى، ولكن أهل الحل والعقد أكَّدوا لي صدق فِراسته وعمق خبرته، وحِفظه زوايا الحي عن ظهر قلب.
وتأبَّطتُ ذراعه فسار بي بقدمَين ثابتتَين، وسرعان ما وثقتُ به وآنست إليه.
كان يمكن أن أبقى معه وحده حتى نهاية العمر، لولا أن صادفتنا ذات يوم بائعة خبز ذات حُسن، فودَّعت مُرشدي وسرت معها. وتجمعني الطريق أحيانًا بمرشدي القديم، فأُحييه بوجد، ولكنه يرد عليَّ بفتور ويمضي كل في سبيله.
وربما حلا لنا في بعض أوقات الفراغ أن نذكره في سياق الدعابة والعبث، ولكن هيهات أن یُنكر عاقل فضله.
سَلِّم نفسك
خطر على بالي فتفجَّر قلبي بالشوق. ذهبتُ إلى مسكنه في آخر مساكن الضاحية المحفوفة بالحقول. رحَّب بي بود قائلًا: مضى عمرٌ على آخر زيارة، ولكنك جئتَ في وقت مناسب.
قال ذلك وهو يُشير إلى خوان قصير، وُضعت عليه صينية بالعشاء المكوَّن من سمك مشوي، وزيتون مخلل، وخبز ساخن.
ودَعاني للعشاء فجلست.
وما كدنا نبسمل حتى ترامى إلينا صوت من مُكبِّر يصيح: سلِّم نفسك.
وثب إلى مفتاح الكهرباء فأغلقه، فساد الظلام. وسرعان ما انهال علينا الرصاص من جميع الجهات كالمطر.
وقلت لنفسي وأنا أرتعد من الرعب: سعيد من يستطيع أن يُسلِّم نفسه.
بعد الخروج من السجن
غصَّ البهو بطُلَّاب الحاجات.
جلسنا نتبادل النظر في قلق، ونمد البصر إلى الباب العالي المفضي إلى الداخل، المغطَّى بجناحَي ستارة عملاقة خضراء.
متى يبتسم الحظ ويجيء دوري؟ متى أُدعى إلى المقابلة فأعرض حاجتي وأتلقَّى الرجاء؟ الباب مفتوح لا يَصد قاصدًا، ولكن لا يفوز باللقاء إلا أصحاب الحظوظ.
على ذاك تمضي الأيام، فأذهب بصدر منشرح بالأمل، ثم أعود کاسف البال.
وخطر لي خاطر: لماذا لا أختفي في مكانٍ في الحديقة، حتى إذا انفضَّ السامر وخرج الرجل لرحلته المسائية، رميتُ بنفسي تحت قدمَيه؟
لكن الخدم انتبهوا لتسلُّلي، وساقوني إلى القسم، ومن القسم إلى السجن، فأُلقِيت في ظلماته.
عبثًا حاولتُ تبرئة ساحتي.
كيف أذهب طامعًا في وظيفة شريفة، فينتهي بي المآل إلى السجن؟
وانتهى إلينا التهامس بأن الرجل الجليل سيزور السجن، ويتفقَّد حاله، ويستمع إلى شكاوى المظلومين.
عجبت أن يتيسَّر لي في السجن ما تعذَّر في الحياة.
وهذه حاجتي إلى عطفه تشتد وتتضاعف.
وأحنيتُ رأسي بين يدَيه وقصصت قصتي.
لم يبدُ عليه أن صدَّق، ولم يبدُ عليه أنه كذَّب.
قلت بضراعة: كل ما أتمنَّى أن يسمح لي باللقاء بعد الخروج من السجن.
فقال بصوت هادئ وهو يهم بالسير: بعد الخروج من السجن!
النهر
في دُوامة الحياة المتدفِّقة جمعَنا مكان عام في أحد المواسم.
من تلك العجوز التي ترنو بنظرة باسمة؟
لعل الدنيا استقبلتنا في زمن متقارب.
واتسعت ابتسامتها، فابتسمتُ رادًّا التحية بمثلها.
سألتني: ألم تتذكَّر؟
فازدادت ابتسامتي اتساعًا.
قالت بجرأة لا تتأتَّى إلا للعجائز: کنتَ أول تجرِبة لي وأنت تلميذ …
وساد الصمت لحظة، ثم قالت: لم يكن ينقصنا إلا خطوة!
وتساءلتُ مذهولًا: أين ضاعت تلك الحياة الجميلة؟!
حديث من بعيد
في حارتنا بيت مسكون لا يقربه أحد؛ فهو مُغلق الباب والنوافذ، مستسلم لعوامل البِلى.
أمرُّ به فلا أصدِّق عينَي وأقول لنفسي: ما هي إلا أسطورة من أساطير الأولين.
وفاجأني المطر يومًا وأنا أمر أمام بابه، وأسخر منه كعادتي، وإذا بصوتٍ يتهادى إليَّ هادئًا: إن كنتَ في شك، بِت ليلةً في البيت؛ يأتِك البرهان بلا وسيط.
ركبني الرعب وانعقد لساني.
وتذكَّرتُ ما قرأتُ عن عالم الأرواح، فقال الصوت: كن مع العقل وإلا تعرَّضت لتجرِبتنا القاسية.
واشتدَّ المطر، فسكتَ الصوت كأنما قد ذاب فيه.
فیلسوف صغير جدًّا
يُطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دُنُو النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيتُه في الأمان والغِبطة. تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة.
الآن يُؤذن الصوت الأبدي بالرحيل. ودِّع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول. وما المجهول يا قلبي إلا الفناء. دَع عنك تُرَّهات الانتقال إلى حياة أخرى. كيف ولماذا وأي حكمة تبرِّر وجودها؟ أمَّا المعقول حقًّا فهو ما يَحزن له قلبي. الوداع أيتها الحياة التي تلقَّيتُ منها كلَّ معنًى، ثم انقضَت مُخلفةً تاريخًا خاليًا من أي معنًى.
«من خواطر جنين في نهاية شهره التاسع».
أصل الحكاية
الست في الشرفة ترنو إلى أسفل من وراء الخَصاص بعينَين ملؤهما اليقظة والحنان. الصبي يلعب أسفل البيت ويغنِّي. وبين الحين والحين يمضي إلى حارة من الحارات التي تصب في جوانب الميدان آتيةً من أنحاء المدينة المترامية. وعند المغيب ينتزع الصبي نفسه من دنيا اللعب والسياحة ويدخل البيت.
ولم يدُم الحال على ذلك طويلًا.
خلت الشرفة من الحنان.
وأُدخل الصبي داخل حارة فلم يرجع.
المتنبئ
دُعينا إلى سهرة في بيت صديق. وجلسنا حوله في الحديقة الصغيرة يُسكرنا شذا زهر البرتقال.
وحَدَّثَنا الصديق عن مشروع قَيِّم لعلنا نُسهم فيه. ولمحتُ على ضوء عود ثقاب زميلًا غائبًا عن وجودنا في دنيا أحلامه، فلمسته بكوعي، ولكنه لم يلتفت نحوي.
وفي طريق العودة قلت له: يقينًا أنك لم تسمع كلمةً ممَّا قال صاحبنا.
فقال ببساطة مثيرة: قلبي حدَّثني بأنه سيرحل عن دنيانا قبل طلوع الشمس!
العجب أن صاحب المشروع رحل حقًّا قبل شروق الشمس.
أمَّا الأعجب فهو أن الصديق الآخر الذي تنبأ رحل عند الفجر.
ومن يومها كلما جاد الزمان بساعة طيبة، أبَيت أن أغيب عنها بشيء مضى أو بشيء آتٍ.
شكوى القلب
ثقُل قلبي بعد أن أعرض عني الزمن، وراح الطبيب يبحث عن سر عِلته في صورته التي طبعتها الأشعة. تأمَّلته بفضول حتى خُيل إليَّ أنه يراني كما أراه، وأنَّا نتبادل النظر. وجالت أيضًا نظرة عتاب في عينَيه، فقلتُ له كالمعتذر: طالما حمَّلتك ما لا يُطاق من تباريح الهوى.
فإذا به يقول: والله ما أسقمني إلا الشفاء.
السر
طالما سمعتُ الحكايات عن الملاك المتجسِّد في صورة امرأة. وكم بحثتُ عنه في الميادين والطرق والحواري وأنا أقول لنفسي: إن رؤيته تُضارع رؤية النور في ليلة القدر!
وفي ليلة الموسم المباركة سمعتُ همسًا بأنه سيمر عند السبيل حين سطوع القمر. وتجوَّلتُ حول السبيل بِنية العاشق وعزيمة البطل. وإذا بامرأة تلوح لفترة قصيرة، فاقتحمني وجهها السافر الملائكي وغمرني بالهُيام والنشوة، ولكني لم أسعَ وراءها لعلمي باستحالة العبور من دنيا البشر إلى دنيا الملائكة.
عند ذاك انكشف لي سر حبي الأول.
مُلخَّص التاريخ
أحببت أول ما أحببت وأنا طفل، ولهوت بزمني حتى لاح الموت في الأفق. وفي مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذي يُخلفه الحبيب الفاني. وغرقت في خِضَم الحياة. ورحل الحبيب. واحترقت الذكريات تحت شمس الظهيرة. وأرشدني مرشد في أعماقي إلى الطريق الذهبي المفروش بالمعاناة، والمفضي إلى الأهداف المراوغة. فطَورًا يلوح السيد الكامل، وطَورًا يتراءى الحبيب الراحل.
وتبيَّن لي أن بيني وبين الموت عتابًا، ولكنني مَقضي عليَّ بالأمل.
رجل الأقدار
لم أنسَ ذلك الرجل. كان معلمي فترةً طويلةً من العمر. اشتهر في حياته بتلاحق المحن، والتعاسة الزوجية، ورقة الحال. ولكنه اشتهر أيضًا بالصبر والقدرة على معايشة الألم والانغماس في الكآبة. ولمَّا تقدَّم به العمر انضاف إلى متاعبه تصلُّب الشرايين. وأخذَت ذاكرته تضعف وتتلاشى، ومضى ينسى فيما ينسی خسائره وجميع ما ناله من عَنَت الحياة؛ فخف عبؤه وهو لا يدري. وطعن في المرض، فنسي زوجته تمامًا وأنكرها، وأصبح يتساءل عن سر وجودها في بيته. وذهب عنه الكثير من کدره. وبلغ به المرض مداه فنسي شخصه، ولم يعُد يعرف من هو؛ وبذلك تسنَّم قمة الراحة. هكذا أفلت من قبضة الحياة القاسية، حتى غبطه من كان يرثي له.
الصفح
إعجابي بكِ يا سيدتي يفوق أي حساب. إنك تُنوِّرين المكان بصفاء شيخوختك. تَلقَين الإساءة بالصمت، وتغفرين للمسيئين إليك؛ فلم أعرف أُمًّا قبلك بهذا الوفاء.
قلت لها يومًا: إنكِ ضحية القسوة والأنانية …
فقالت باسمة: بل إني ضحية الحب.
ولمَّا قرأَت الدهشة في وجهي قالت: أنتَ تتوهَّم أن سلوكهم معي صادر من قسوة وأنانية. الحقيقة أنه صادر من حبهم الشديد لأبنائهم، وهكذا كنتُ أُحبهم، ومن أجل ذلك قد صفح قلبي عنهم.
الضحكة
وقفتُ فوق فُوَّهة القبر أُلقي نظرة الوداع على جثة العزيز التي يُعِدونها للرقاد الأخير. ترامَت إليَّ ضحكته المجلجِلة قادمةً من الماضي الجميل، فجُلت بنظري فيما حولي، ولكني لم أرَ إلا وجوه المُشيِّعين المتجهِّمة.
وعند الرجوع من طريق المقابر همس صديق في أذني: ما رأيك في ساعة راحة بالمقهى؟
وسَرت الدعوة في أعصابي برعشة ارتياح. ونشطت قدماي إلى حيث المجلس، وقدح الماء المثلج والقهوة المُحوَّجة، ومناجاة اللاحقين عن السابقين.
الاختيار
ذهبتُ إلى السوق حاملًا ما خَفَّ وزنه وغلا ثمنه، واتخذتُ موضعي منتظرًا رزقي. وهدأ الضجيج فجأة، واشرأبَّت الأعناق نحو الوسط. نظرتُ فرأيتُ ست الحسن تتهادى في خطى ملكة على أحسن تقویم.
سلبَت عقلي وإرادتي قبل أن تتم خطوة، فنهضتُ لأتبعها مخلفًا ورائي العقل والإرادة وأسباب رزقي، حتى دخلتُ بيتًا صغيرًا أنيقًا يُطالع القادم بحديقة الورد. واعترض سبيلي بوَّاب مَهيب الجسم، حسن الهندام، وحدجني بنظرة مستنكرة فقلت: إني على أتم استعداد لأهبها جميع ما أملك.
فقال الرجل بلهجة قاطعة: إنها لا تُرحِّب بمن يجيئون إليها هاجرین عملهم في السوق.
السؤال
راحت القافلة تخوض الصحراء، يقودها عزيف الناي، ودق الطبول، والصمت من حولها محيط، ولا يبدو أن لشيء نهاية. وخطر لي أن أتساءل عن الموضع الذي يُحب صاحب القافلة أن يسير فيه.
سمعني جار فقال: في مقدمة القافلة كما يليق بمقامه. ولكن ماذا دعاك للسؤال؟
وإذا بجارٍ آخر يقول: بل لعله في المؤخرة ليُراقب كل حركة. ماذا يهمُّك من ذلك؟
ولم أجد ما أُجيب به. وظننتُ أن الأمر انتهى، وأنني سأعرف الجواب عند انتهاء الرحلة.
ولكني وجدتُ الرءوس تتقارب، والأعين تسترق النظر إليَّ، والرِّيبة تتفشَّى في الجميع. رباه كيف أُقنعهم بأنني لم أقصد سوءًا، وأنني لا أقلَّ عن أيٍّ منهم ولاءً للرجل؟
ودنا مني رجل صارم الوجه وقال لي: اترك القافلة ودعنا في سلام.
ولم أرَ بُدًّا من الخروج لأجد نفسي في خلاء مطبق وکرب مقيم.
في الظلام
كنتُ راجعًا إلى بيتي أخوض ظلمات الليل، ولا بصيص نور يشع في الظلماء. وارتطمت بشبح فوقفت حذرًا متوثِّبًا وأنا أتساءل: من أنت يا عبد الله؟
فقال: لعلك صاحب الحظ الذي أبحث عنه.
– أي حظ تعني؟
فقال بعذوبة: إني أدعوك إلى سهرة في بيتي يجول فيها الحب والطرب.
فخطر لي أنه يهذي.
وفي لحظة الشك غابت أنفاسه المتردِّدة، فعلمت أنه اختفى.
وغصَّني الندم على إفلات فرصة قد تكون هي الحظ المأمول.
وما زلتُ أدور في الظلام مناديًا حتى بُح صوتي.
أقوى من النسيان
طالعني وجهه بوضوح، ومن قریب بقوة نفَّاذة، وهمس في أذني: تذكَّرني لتعرفني حين ألقاك.
ولمَّا صحوتُ لم تغِب عني صورته. وكم شُغلت عنه بالعمل حينًا وباللهو حينًا، ولكنه يعود بكل قوته وكأنه لم يغِب لحظةً واحدة!
وأتساءل تحت وطأة القلق: متى يلقاني؟ كيف يتم اللقاء؟ وما الداعي إلى ذلك كله؟
ويندر أن أطرد عني الهواجس حتى في الأحضان الدافئة …
ذكاء الجسد
فوق السطح وقفا يتناجيان، هو أطول قامةً وهي أجمل وجهًا، أمَّا أنا فألعب بالطوق مرة، ثم أُراقبهما ولا أفهم. ويَغيبان في حجرة السطح قليلًا، ثم يرجعان، فأعود إلى استراق النظر بمزيد من الحيرة.
وجاء الإدراك مُتعثِّرًا من خلال الأعوام الحامية …
الشروق والغروب
رأيته في حالَين مختلفَين.
مرةً والشمس تُشرق عليه فبدا غايةً في البهاء والجلال، يتكلَّم فيجد السامع الحكمة فيما يفهمه من كلامه، والشعر فيما لا يفهمه.
ومرةً والشمس تَغيب عنه فبدا ضئيلًا مسكينًا يُهرول في أسمال بالية، يتكلَّم فيجد السامع الابتذال فيما يفهمه من كلامه، والبلاهة فيما لا يفهمه.
الشبيه
كان الشبه العجيب بين القاضي والمتهم لافتًا أنظار النساء والرجال الذين صحبوا جارتهم أم المتهم إلى المحكمة.
وتذكَّر أُناس منهم بِكري المرأة الذي فقدته في زحام المولد، ولكن أحدًا لم يربط بحالٍ بين الولد التائه والقاضي. وقالت امرأة همسًا: القاضي ابن ناس، أمَّا الولد المفقود فلا يقع إلا في أيدي أولاد الحرام.
وكانت الأم قد نسيت بِكریها تمامًا، ولم تعُد تفكِّر إلا في ابنها القابع في القفص.
حتى نطق القاضي بالحكم الرهيب.
وعند ذاك دوَّى الصوات في قاعة الجلسة.
ربة البيت
یا ربة البيت اصحي، صلِّي ثم ابسطي يدَيك بالدعاء.
جهِّزي الفطور وادعي إلى المائدة رجلك وأولادك.
عاوِني الصغار على تنظيف أنفسهم، وكَشِّري لمن يركن إلى الكسل.
اكنسي بيتك ورتِّبيه وتسلَّي بترديد أغنية.
سوف يجمعهم الحظ السعيد حول مائدة العشاء إذا سمح الدهر.
ويبقى الأولاد للمذاكرة، ويذهب الرجل إلى المقهى للسمر.
اغتسلي ومشِّطي شعرك، وغيِّري ملابسك، وبخِّري غرفة النوم. قد شهد اليوم ما يستحق الشكر والحمد.
تذكَّري ذلك إذا جاء اليوم الذي يتفرَّق فيه الجميع كل إلى سكنه.
واليوم الذي لا تجد هذه الذكريات من يتذكَّرها.
سيدتي الحقيقة
عرفت منازل الحقيقة في عصر الفطرة.
عندما تقرفص المرأة أمام طشت الغسيل، أُقرفص قُبالتها، فتلعب يدَي في الماء، وتسترق عيناي النظر.
عندما ألهو فوق السطح في الليالي البدرية، أمد يدي في الفضاء لأقبض على وجه القمر.
عندما نزور القبر في المواسم، أركِّز عينَي على جداره لأرى.
نِعم الرفيق الشغف والمنازل.
شهد الضحك علينا
شهدنا مجلس السمر بالحديقة على أتمِّ ما نكون من العدد والمرح. ينتقل بنا الحديث من شأن إلى شأن كالنحل بين الزهور، والجو الرطيب يضج بضحكاتنا.
في تلك الجِلسة نسِيَنا الدهر ونسيناه. وإذا بأحدنا يقول فجأة، ودون مناسبة ظاهرة: تصوَّروا أين وكيف نكون بعد نصف قرن؟!
الجواب أيها الصديق غاية في البساطة، وإن يكن في الوقت نفسه غايةً في التعقيد، ولكن لماذا تُذكِّرنا بذلك؟
اليوم يمر على تلك الجِلسة ربع قرن فقط، على ذاك لم يبقَ من سُمَّارها إلا اثنان.
ويذكر أحدهما الآخر بقول العزيز الراحل.
ويتنهَّدان ويتخيَّلان أين وكيف ما حلا لهما التخيُّل.
هل حقًّا عاش أولئك جميعًا، وتبادلوا المودة والأمل؟!
أصل الحكاية
سارت في ظل أمها، وكان هو يلعب في الطريق. أسعد ما يُسعد أمها ضفيرتها الفوَّاحة بشذا القَرنفل. أمَّا هو فكان يلعب الحجلة. توقَّف قليلًا ريثما تمر الأم وابنتها الصغيرة. نظرت إليه نظرةً غامضة، فامتلأ بالخيلاء، وانطلق يعدو ليشهد الجميعُ على قوته وسرعته.
ودَعت الأم بالخير لكل مخلوق وهمست: أخاف عليها من النظرة، وأخاف عليه من الجري. فاشملهما بالرعاية يا رب.
وكان ثمَّة رجل جالس في ركن ممن يقرءون الخواطر، فقال لها وكأنما لا يعنيها بالذات: فلْتنظر إليه ما طاب لها النظر، ولْیجرِ هو حتى تخور قواه فيخمد.
مأوى النعمة
ما أجمل العصفور في طيرانه وشدوه. مرةً في سكرة من النشوة هتفت: يا ليتني خُلقت عصفورًا. وإذا بي أنقلب عصفورًا يُحلِّق ويشدو، ويثب من غصن إلى غصن. ومن خبرتي السابقة حذرت القطط والزواحف، وعشقت شعاع الشمس. منذ قديم وأنا أغبط العصافير على تحليقها ورؤيتها لجمال حبيبتي الذي لا يبلغه الهائمون فوق الأرض. أيقنتُ مع الجهد الضائع أنه لا سبيل إلى الفوز إلا بالطيران واستراق النظر من فوق هامَات الشجر. وجعلتُ أخطف النظرات المحترقة بالأشواق وهي تتهادى في أعماق البيت. وارتویتُ برحيق الهناء حتى ثملت. ويومًا رأيتُ فوق سور السطح طبقًا مملوءًا بالقُرطم؛ فتحلَّب ريقي، ونسيت الحذر وطرت نحو الطبق، وحططت عليه، ورحت ألتقم بمنقاري الحب بنَهَم وسرور. وإذا بيدٍ تقبض عليَّ بحنان وصوت عذب يقول: أخيرًا وقعت …
وأودعتني القفص، وقد بعث مسها في كِياني سكرةً لا تجيء إلا من خمر الفراديس.
وكلما فاض كأس حظي بالسعادة، أقبلَت بحسنها الدري لترنو إليَّ وتُقدِّم لي الماء والغِذاء.
وها أنا يغمرني جنون السرور والفرح.
وفي أوقات الفراغ أتطلَّع إلى جماعات العصافير فوق الشجرة سعيدةً بين الشدو والطيران، ولكن لا شدوها ولا طيرانها بشيء يُذكر إلى جانب قرب الحبيب.
عبد ربه التائه
كان أول ظهور الشيخ عبد ربه في حيِّنا حين سُمع وهو ينادي: «ولد تائه يا أولاد الحلال.»
ولمَّا سُئل عن أوصاف الولد المفقود قال: فقدته منذ أكثر من سبعين عامًا؛ فغابت عني جميع أوصافه. فعرف بعبد ربه التائه. وكنا نلقاه في الطريق أو المقهى أو الكهف، وفي کهف الصحراء يجتمع بالأصحاب، حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى، وأن يُسمَّى کهفهم الخمارة.
ومذ عرفته داومت على لقائه ما وسعني الوقت وأذن لي الفراغ. وإن في صحبته مسرة، وفي كلامه متعة، وإن استعصى على العقل أحيانًا.
التعارف
وكان لي صدیق خطاط ومن مريدي الشيخ، فرجوته أن يُقدِّمني إليه، فمضى بي إلى الكهف مخترقين صحراء المماليك، وهناك رأيته وسط صحبه يتبادلون أنخاب المناجاة في نشوة هادئة نقية، فقدَّمني صديقي بين يدَيه، ولكنه استمرَّ فيما كان فيه غير ملتفت إلى ما أضرم الحياء في قلبي، ولكن صديقي أخذني من يدي وجلسنا في آخر الصف.
وهمستُ في أذنه: الأفضل أن نذهب …
فهمس في أذني: لقد قَبِل صداقتك، ولو كان رفضك لطردك بإشارة من يده.
وخُتمت الليلة بغناء طويل جميل، ولدى العودة سألني صاحبي: ما رأيك في المكان وأهله؟
فقلت: دخلوا قلبي بلا وسيط. عُروتهم ساحرة، أصواتهم عذبة، والمكان جذَّاب هادئ، ورائحته زكية …
عندما التقت العينان
مضى زمن قبل أن يلتفت إليَّ وتلتقي عينانا. ولمَّا شاعت ابتسامة في ملامحه، وثبْت إلى جانبه وقلت: اقبلني في طريقتك …
فسألني: ماذا يدفعك إلينا؟
فقلت بعد تردُّد: أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها.
فقال بوضوح: حب الدنيا مِحور طريقتنا وعدونا الهروب.
وشعرت بأنني أنطلق من مقام الحيرة.
الانتظار
ولكن لماذا هذا الكهف بالذات؟
قيل إن سيدة المكان كانت تطوف بالموقع حول الكهف في المواسم. وكثيرون قد جُنوا بسحر جمالها، وجدُّوا في البحث عنها دون جدوى. وقيل إنها قد تختار قرینها ذات يوم في الكهف. وقصد الكهفَ أناس لا حصر لهم، ولكن عبد ربه التائه ومريديه صمدوا إلى النهاية.
أغلب أحاديثهم وأغانيهم عن المرأة الجميلة، ينتظرون الرضا ولا يعرفون اليأس.
مأمور
وجذب انتباهي شخص لا مثيل لنشاطه في خدمة الإخوان، فسألت عنه، فقال عبد ربه التائه: له حكاية فاسمعها. ما ندري ذات ليلة إلا وقد اقتحم علينا خلوتنا ويقول: صدر الأمر بإغلاق الخمارات!
فقلت له: شرابنا النجوی فاشرب هذه الكأس.
وقدَّمتُ له شرابًا. وكان سحر المكان قد شاع في جسده وروحه فشرب، ثم تركنا وذهب. وفي ليلة تالية رجع مرتديًا ملابس عاديةً وقال باستسلام: تركتُ الخدمة وجئتُ إليكم …
فهلَّلنا وكبَّرنا. ومن ساعتها وهو مندمج في مودتنا.
وفي المواسم يغنِّي ويرقص حتى مطلع الفجر.
الذكرى المباركة
سألني صديقي الحكيم عن حلم لا أنساه، فقلت: وجدتني في خمَّارة وسط جماعة من أهل الخير والبركة، نشرب ونغني. وسأل سائل: تُرى من يكون صاحب الحظ السعيد؟
وانزاحت الستارة المسدلة على باب الخمَّارة، ودخلت امرأة عارية تموج برحيق الحياة وفتنتها.
ووقفنا ذاهلين ننظر وننتظر. واتجهت المرأة نحوي حتى التصقت بي، وحلَّت عقدة شعرها المعقوص فانصبَّ حولنا كموجة عاتية فغطانا.
وثمل الجميع بسعادة شاملة وأنشدنا معًا:
داء
قال الشيخ عبد ربه التائه: بالأمس وأنا راجع من السهرة قُبيل الفجر، اعترضني في ظلمة الحارة شخص لم أتبيَّن معالمه، وقال لي: أنا قادم إليك من وراء النجوم.
فهزَّتني العزة وقلت بفرح: من أجلي أنا هبطت؟
فقال بنبرة لم تخلُ من امتعاض: لم تسلم بعدُ من الخيلاء!
واختفى صاعدًا بسرعة البرق.
فمن يُعيده إليَّ ومعه الغفران؟!
فسألته: وماذا كنتَ تنوي أن تطلب منه؟
فأجاب متجاهلًا سؤالي: الحياة فيض من الذكريات تصب في بحر النسيان. أمَّا الموت فهو الحقيقة الراسخة.
الشكوى
كان الكهف عامرًا بالخِلَّان، والنشوة تُذيب الأحجار.
ونفخ نافخ فأطفأ الشموع، وتردَّدت الأنفاس في ظلام دامس.
وتهادى صوت إليهم يقول: «في السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة والروائح المنكرة.»
وذهبتُ تاركًا صمتًا ثقيلًا، فقال أحدهم: إنها رسالة.
وقال آخر: بل هو أمر.
وانطلقوا في الأسواق يحملون على كل خسيس ومنكر.
وغضب السادة، فزمجروا بالغضب، ولوَّحوا بالعصي.
الرقص في الهواء
ومرةً قال لي الشيخ: إن القصص التي تُنشر ليست بالقصص الحقيقية. وأراد أن يُقدِّم لي قصةً فقال: في أحد أصابیح الربيع جذبتني ضجة نحو الباب الأخضر. خُضت حاجزًا من البشر يلتف حول رجل وامرأة، قيل إنهما كانا من مجاذيب الحسين. ثم أغواهما الغرام، فهجرا دنيا الأسرار إلى دنيا العشق، ورؤيا وهما يترنَّحان من السُّكر، ويترنَّمان بالأغاني الساخنة.
وكاد الناس يفتكون بهما لولا تدخُّل الشرطة.
ونُسي الأمر مع الزمن. وذات صباح وأنا أسير في الصحراء رأيتُ سحابةً تهبط كالطائرة أو السفينة حتى صارت في متناول الرؤية الواضحة.
رأيتُ على سطحها رجلًا وامرأةً يرقصان، وسمعت صوتهما قائلًا: متى تصعد يا عبد ربه؟!
عبير من بعيد
قال الشيخ عبد ربه التائه: ساقتني قدماي إلى القبر المهجور الذي رحل جميع من كانوا يُعنَون بتذكُّره. وجدته آیلا للسقوط وعليه طابع العدم. وصدر نداء خفي من الذاكرة، فأقبل نحوي جمع من النساء والرجال كما عهدهم الزمان الأول. وردَّد أحدهم ما قاله لي مرارًا: لا أُغيِّر ريقي قبل أن أسمع أغنية الصباح في الإذاعة.
الخلود
قال الشيخ عبد ربه التائه: وقفتُ أمام المقام الشريف أسأل الله الصحة وطول العمر. دنا مني مُتسوِّل عجوز، مُهلهَل الثوب، وسألني: هل تتمنَّى طول العمر حقًّا؟
فقلتُ بإيجازِ من لا يود الحديث معه: ومن ذا الذي لا يتمنَّى ذلك؟
فقدَّم لي حُقًّا صغيرًا مغلقًا وقال: إليك طعم الخلود. لن يكابد الموت من يذوقه!
فابتسمتُ باستهانة فقال: لقد تناولته منذ آلاف السنين، وما زلتُ أنوء بحمل أعباء الحياة جيلًا بعد جيل …
فغمغمت هازئًا: يا لك من رجل سعید!
فقال بوجوم: هذا قول من لم يعانِ كَرَّ العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد.
فتساءلت مجاريًا خياله الغريب: تُری من تكون من رجال الدهر؟
فأجاب بأسًی: کنت سيد الوجود، ألم ترَ تمثالي العظيم؟ ومع شروق كل شمس أبكي أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة، وآلهتي الغائبة!
السمع والطاعة
قال الشيخ عبد ربه التائه: قلتُ له بخشوع وعيناي لا تُفارقان طلعته: لم أرَ أحدًا في مثل بهائك من قبل.
فقال باسمًا: الفضل لله رب العالمين.
– أُريد أن أعرف من تكون يا سيدي.
فقال بهدوءٍ وكأنه يتذكَّر: أنا الذي كان يوقظك من النوم قبل شروق الشمس.
أصغيت باهتمام، فواصل: أنا الذي ناصرتك على الكسل فانطلقتَ مع العمل.
فكَّرتُ بعمق فيما قال، واستمرَّ هو: أنا الذي أغراك بحب المعرفة.
فهتفت: نعم … نعم.
– وجمال الوجود أنا الذي أرشدتك إلى منابعه.
– إني مدين لك إلى الأبد.
وساد صمت متوتر، وشعرت بأنه جاء يطالبني بشيء، فقلت: إني طوع أمرك.
فقال بهدوء شديد: جئت لأضع فوق عملي نقطة الكمال.
سؤال عن الدنيا
سألتُ الشيخ عبد ربه عمَّا يقال عن حُبِّه النساء والطعام والشعر والمعرفة والغناء، فأجاب جادًّا: هذا من فضل الملك الوهاب.
فأشرتُ إلى ذم الأولياء للدنيا، فقال: إنهم يَذمُّون ما ران عليها من فساد.
المشي في الظلام
قال الشيخ عبد ربه التائه: عرفتُ الرجل في طورَين في حياته الطويلة.
عرفته في شبابه محبًّا للعبادة، ملازمًا للمسجد، مأخوذًا بسماع القرآن الكريم.
وفي شيخوخته ساقه قدره إلى الخمارة، فأدمن الخمر متناسيًا ما لا يهمه.
وكان يرجع إلى بيته في الهزيع الأخير من الليل، ثملًا يترنَّح، ويغنِّي أغاني الشباب، خائضًا الظلمة الحالكة.
وحذَّره محبوه من المشي في الظلام، فقال: حُرَّاس من الملائكة يُحيطون بي، ويشع من رأسي نور يضيء المكان …
قول
قال الشيخ عبد ربه ذات ليلة في سهرة الكهف: ما أجمل قصص الحب! عفا الله عن الزمن الذي يُحييها ويُميتها.
تعریف
سألت الشيخ عبد ربه: ما علامة الكفر؟
فأجاب دون تردُّد: الضجر.
سيدتي الجميلة
قال الشيخ عبد ربه: حدَث ذلك وأنا أسير بين الطفولة والصبا.
رأيتُ فوق الكنبة الوسطى تحت البسملة، امرأةً جالسةً لم أشهد في حياتي شيئًا أجمل منها. ابتسمَت إليَّ فذهبتُ إليها، فحنت عليَّ، وقبَّلتني، ووهبتني قطعةً من الملبن. وكتمتُ السر لیدوم العطاء. وكلما ذهبت إلى الحجرة؛ رجعت مجبور الخاطر بقبلة وقطعة من الحلوى.
ويومًا ذهبت كالعادة، فوجدت الحجرة خالية.
هل أفقد الجمال والسعادة؟
وسألتُ أمي عن الضيفة الجميلة الكريمة.
فدُهشت لسؤالي، كما دُهش أبي، وجعلتُ أحلف بأغلظ الأَيمان.
ولم يُصدِّقا حرفًا ممَّا حكيت، وساورهما القلق طويلًا. وظلَّت الكآبة كامنةً في الأعماق حتى هلَّت ليالي القمر.
على وشك الهروب
حدَّث الشيخ عبد ربه التائه قال: أغرتني نشوة الطرب ذات مرة بالتمادي في الطرب، حتى طمعتُ أن أثب من الطرب الأصغر إلى الطرب الأكبر، فسألتُ الله أن يُكرمني بحسن الختام.
عند ذاك همس في أذني صوت: «لا بارك الله في الهاربين.»
عندما
سألتُ الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟
فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة …
ساعي البريد
في تلك الليلة من ليالي الكهف اشتدَّت الريح وانهلَّ المطر، ولعبت دفقات الهواء المتسلِّلة من المدخل بذؤابات الشمع، فخفقت القلوب بعنف، ومدوا الأبصار إلى المدخل وانتظروا، فازداد خفقان القلوب.
وهمس أحدهم: يقولون إن ليلة هذا العام مباركة.
وتطلَّعَت القلوب إلى المدخل بكل ما تملك من قوة.
وترامى إليهم صفير فهبوا واقفين، وعند ذاك دخل ساعي البريد بزيه المألوف وحقيبته، يكاد يغرق في الماء الذي تشرَّبته ثيابه.
وبهدوء أعطى كل يد ممدودة رسالة، وذهب دون أن ينبس. وفضوا الظروف ونظروا في الرسائل على ضوء الشموع.
وجدوها بيضاء لا شيء فيها.
وهتف عبد ربه: العقبى للصابرین.
عزرائیل
قال الشيخ عبد ربه التائه: استدعاني المأمور يومًا وقال لي: كلماتك تدفع الناس إلى التمرُّد، فحذارِ!
فقلت له: أسفي على من يُطالبه واجبه بالدفاع عن اللصوص ومطاردة الشرفاء!
فصاح بي: هذا إنذار نهائي …
ولمَّا كان عزرائيل يخِف لنجدتي في الملمات؛ فقد تجلَّی ثواني للمأمور، حتى ارتعدت مفاصله، وسقط عن كرسيه هاتفًا: الله بيني وبينك!
الرحمة
سألتُ الشيخ عبد ربه التائه: كيف لتلك الحوادث أن تقع في عالم هو من صنع رحمن رحیم؟
فأجاب بهدوء: لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت!
الواعظة
قال الشيخ عبد ربه التائه: اعترضتني في السوق امرأة آية في الجمال، وسألتني: هل أعظك أيها الواعظ؟
فقلت بثقة: أهلًا بما تقولين.
فقالت: لا تُعرض عني؛ فتندم مدى العمر على ضياع النعمة الكبرى.
في الحظيرة
قال الشيخ عبد ربه التائه: حلمت بأنني واقف في حظيرة أغنام مترامية الأطراف. وكانت تأكل وتشرب وتتبادل الحب في طمأنينة وسلام. تمنَّيت أن أكون أحدها، فكنتُ جَديًا بالغ القوة والجمال.
ويومًا جاء صاحب الحظيرة يتبعه الجزار حاملًا سكينه.
انتهاء المحنة
سألتُ الشيخ عبد ربه التائه: كيف تنتهي المحنة التي نُعانيها؟
فأجاب: إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل.
لا تصدِّق
قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني رجل وقال لي: لا تصدِّق … ما أنت إلا ابن الصدفة العمياء … وصراع العناصر … بلا هدف جئت … وبلا هدف تذهب … وكأنك لم تكن.
فقلت له: سبق أن صدَّق أبوك ما لا يجب تصديقه؛ فخسر الراحة والنعيم.
الفعل الجميل
حدَّث الشيخ عبد ربه التائه قال: عثرتُ يومًا على حقيبة تحوي كنزًا من المال، وفيها ما يدل على شخص صاحبها وعنوانه.
وكان من المنحرفين الذين ابتُليت بهم البلاد، فقرَّرتُ ألَّا أردَّها إليه، وأودعتها سرًّا بدروم رجل فقير من أصحابنا عُرف بالتقوى، وأنا لا أشك في أنه سيُنفقها في سبيل الله. ثم علمتُ أنه ردَّها إلى صاحبها نازلًا عن حقه الشرعي فيها، فحزنت وأسفت.
ثم تُوفي صاحبنا التقي الفقير فهُرعت إليه، وغسَّلته وكفَّنته، وحملته إلى الجامع، وصليت عليه. ولمَّا انتهت الصلاة لمحت بين المصلِّين خلف نعشه الرجل الغني المنحرف وهو يبكي بحرارة.
واهتزَّ فؤادي وقلت: سبحانك يا مالك الملك، تعلم ما لا نعلم. وربما جاءت الصحوة بإذنك من حيث لا يدري أحد.
دعاء
أصابتني وعكة فزارني الشيخ عبد ربه التائه، ورقاني ودعا لي قائلًا: اللهم مُنَّ عليه بحسن الختام، وهو العشق.
العريس
سألتُ الشيخ عبد ربه التائه عن مثله الأعلى فيمن عاشر من الناس، فقال: رجل طيب، تجلَّت کراماته في المداومة على خدمة الناس وذكر الله. وفي عيد ميلاده المائة سكر ورقص وغنَّى وتزوَّج بِكرًا في العشرين.
وفي ليلة الدخلة جاءت كوكبة من الملائكة فبخَّرته ببخور من جبل قاف.
العزلة
قال الشيخ عبد ربه التائه: كنت أعبر ميدانًا غاصًّا بالخلق، فرأيتُ مجذوبًا يضرب بعصاه في جميع الجهات كأنما يقاتل کائنات غير منظورة، حتى خارت قواه، فجلس على الطِّوار، وراح يُجفِّف عرقه. وطيلة الوقت لم يبالِ به أحد، فاقتربتُ منه وسألته: ماذا كنتَ تفعل يا عبد الله؟
فأجاب بحنق: كنت أُقاتل قوةً جاءت تروم القضاء على الناس، ولكن لم يفهم عملي أحد، ولم يعاوِني أحد.
صوت القبر
قال الشيخ عبد ربه التائه: كنت أسير في طريق المقابر راجعًا من سهرة الخمَّارة. تسلَّل إليَّ صوت من قبر وهو يسأل: لماذا انقطعتَ عن زيارتنا والحديث معنا؟
فأجبته: لا يحلو لكم الكلام إلا عن الموت والأموات، وقد مللت ذلك.
صفحة القلب
قال الشيخ عبد ربه التائه: رحت أُشاهد قلبي في مرآة كاسي، فهالني صفاؤه، وقلت له: من يصدق أنك خفقت بذلك الحب كله؟ كيف كنت عالمًا يموج بالنساء والرجال والأشياء؟
ولم يبقَ من دليل يا قلبي على حقيقة ما كان، إلا دموع تفجَّرت في الهواء، وتلاشت في الفضاء.
الثبات
رأيتُ الشيخ عبد ربه التائه ماشيًا في جنازة. ولعلمي بأنه لا يُشيِّع إلا الطيبين، انضممتُ إلى صفه حتى صلَّينا عليه معًا، ثم سألت الشيخ عنه فقال: رجل نبيل وما أندر الرجال النبلاء! أبی رغم طعونه في العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك …
ذلك الحب
قلت للشيخ عبد ربه التائه: سمعت قومًا يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا …
فقال: حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل وَلَع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر.
عتاب الموت
قال الشيخ عبد ربه التائه: مرةً ضايقتني فكرة الموت أكثر من المعتاد. كنت أهم بالنوم فخطر لي أن الموت قد يزورني في النوم فلا يطلع عليَّ الصباح. وسألتُ الله السلامة رحمةً بأناس ينتظرون معونتي في اليوم التالي.
واستغفر الله طويلًا، ثم غمغم: شد ما تشرَّبت عمق التسبيح في مقام الحيرة.
الطوفان
قال الشيخ عبد ربه التائه: سيجيء الطوفان غدًا أو بعد غد. سيكتسح الفساد والفاسدين العاجزين، ولن تبقى إلا قلة من الأكْفاء. وتنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة. ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه لتعيش ولو يومًا واحدًا في المدينة الآتية.
في التجارة
قال الشيخ عبد ربه التائه: حذارِ … فإنني لم أجد تجارةً هي أربح من بيع الأحلام.
الزمن الحلو
قال الشيخ عبد ربه التائه: وجدتني على ربوة أنظر إلى شاشة عرض مبسوطة في الفضاء. ورقصَت فرقة من الفاتنات، وغنَّت على إيقاع كوني، فنثرن من حرکاتهن لآلئ النور البهيج.
سألت بصوت جهير: من أنتن؟
فأجبن: نحن الأيام القليلة الحلوة التي مرَّت في غايةٍ من البهاء والصفاء، ولم يَشُبها کدر.
الراقصان
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما روَّعني شيء كما روَّعني منظر الحياة وهي تُراقص الموت على ذلك الإيقاع المؤثِّر الذي لا نسمعه إلا مرةً واحدةً في العمر كله.
المطارد
قال الشيخ عبد ربه التائه: هو يُطاردني من المهد إلى اللحد، ذلك هو الحب.
الفائز١
قال الشيخ عبد ربه التائه: ذاع في الحارة أن المرأة الجميلة ستهب نفسها للفائز. وانهمك الشباب في السباق بلا هوادة. ومضى الفائز إلى المرأة ثملًا بالسعادة مُترنِّحًا بالإرهاق. وعند قدمَيها تهاوی قرينًا للوجد فريسةً للتعب. وظلَّ يرنو إليها في طمأنينة حتى لعب النعاس بأجفانه.
الهاوية٢
قال الشيخ عبد ربه التائه: حتى أنا شهدتني حجرة الاستقبال وأنا أنتظر راجيًا التوفيق.
ويدخل الأب وقورًا ودودًا، ولكنه يُنذر بالقيود والعواقب.
ودعاني صوت باطني إلى الهرب.
ثم تجيء هي متعثِّرةً في الحياء فأسقط في الهاوية.
الحياء
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما تجلَّى لعينَي إلا نور الوجنات وعذوبة الحياء.
أُكرِّر السؤال فتغوص في الصمت أكثر.
تجود بكل ثمين، ولكنها من الكلام تجفل.
الضيف
قال الشيخ عبد ربه التائه: كان بيتنا عامرًا بالأحباب.
وذات يوم نزل بنا ضيف لم أرَه من قبل.
وحرصًا على راحته أرسلني أبي لألعب بعيدًا.
ولمَّا رجعتُ وجدت البيت خاليًا؛ فلا أثر للضيف، ولا للأحباب.
حزن الحياة
سُئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟
فأجاب: نعم … إذا كان من عُشاقها المخلصين …
القبر الذهبي
قال الشيخ عبد ربه التائه: رأيتُ في المنام قبرًا ذهبيًّا قائمًا تحت شجرة سامقة غاصة بالبلابل الشادية.
وعلى صورة نُقشت بأحرف جميلة واضحة كلمات تقول: هنيئًا لمن عاش ومات في بوتقة الهجران.
الكمال
قال الشيخ عبد ربه التائه: الكمال حلم يعيش في الخيال، ولو تحقَّق في الوجود لمَا طابت الحياة لحي.
السحر
قال الشيخ عبد ربه التائه: تبدو الحياة سلسلةً من الصراعات والدموع والمخاوف، ولكن لها سحر يفتن ويُسكر.
الوفاء في الملاح
قال الشيخ عبد ربه التائه: آه من تلك المرأة الجميلة التي لا وفاء لها.
لا هي تشبع، ولا عشاقها يتعظون.
طبيعتنا
قلت مرةً للشيخ عبد ربه التائه: قد أُرحِّب بتعب عام متصل، ولكني أَضيق بعطلة شهر واحد.
فقال: طُبعنا على حب الحياة وكره الموت.
الكذب الصادق
قال الشيخ عبد ربه التائه: بعض أكاذيب الحياة تتفجَّر صدقًا.
المشيئة
قال الشيخ عبد ربه التائه: في الكون تَسبح المشيئة، وفي المشيئة يَسبح الكون.
الحب المتبادل
قال الشيخ عبد ربه التائه: إنهما اثنان، بقوته خلق الأول الآخِر، وبضعفه خلق الآخِر الأول.
العقل
قال الشيخ عبد ربه التائه: لقد فتح باب اللانهاية عندما قال: «أفلا تعقلون؟»
برقية
قال الشيخ عبد ربه التائه: في إحدى ليالي الكهف التي لا تُنسى، غلبني السُّكر بعد أرق وحيرة. وإذا بذرة هائمة في أعماق الكون تهمس في وجداني أن أطمئن.
لقاء في الظلام
قال الشيخ عبد ربه التائه: وأنا في مطلع الشباب حلمت هذا الحلم: رأيت الصحْراء متراميةً أمامي، فأوغلت فيها ثملًا بحريتي. ولمَّا أدركني المساء أردتُ أن أرجع، ولكنني ضللتُ سبيلي، وضِعتُ في الظلمة كنسمة هائمة. واستحوذ عليَّ الخوف واليأس. ونظرتُ إلى السماء فلم تقُل لي النجوم شيئًا. وانتبهتُ على تردُّد أنفاس تلفح وجهي، فجفلت وتساءلت: من هنا؟
فأجاب صوت هادئ: اتبع شبحي …
فتبعته مُسلمًا أمري للمقادير. وكلما مرَّ الوقت دون وقوع ما يریب، اطمأننت. ودسَّ الشبح في يدي قارورة، وطلب مني أن أشرب، فشربت شربةً رويةً سرى تأثيرها من الرأس إلى القدمَين. وسألت: أي شراب هذا؟
فأجاب الشبح: خمر صنعتها في بيتي.
وكدت أرتعب لولا أن طارت بي النشوة فوق الهواجس.
وهلَّت بشائر الشروق ونحن نسير. ولمحتُ وجهه على ضوء أول شعاع، فإذا به وجه امرأة لم أشهد لحسنها مثيلًا من قبل.
ورجوتُها أن تقف لحظة، وركعتُ أمامها في خشوع، وأحطتها بذراعَي.
شهيق زفير
قال الشيخ عبد ربه التائه: مع شهيق الكون وزفيره، تَهيم جميع المسرات والآلام.
الحرية
قال الشيخ عبد ربه التائه: أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه، وهو يمارس حريته بالحق.
السر
ولم يكن الشيخ عبد ربه التائه يُخفي ولعه بالنساء. وفي ذلك قال: الحب مفتاح أسرار الوجود.
حديث الموت
قال الشيخ عبد ربه التائه: رأيتُ الموت في هيئة شيخ فانٍ وهو يقول معاتبًا: «لو كففتُ عن عملي عامًا واحدًا لانتزعتُ منكم الإقرار بفضلي.»
التفاؤل
سألت الشيخ عبد ربه التائه: لماذا يغلب عليك التفاؤل؟
فأجاب: لأننا ما زلنا نُعجب بالأقوال الجميلة، حتى وإن لم نعمل بها.
ما تشاء
أثار الشيخ عبد ربه التائه عجب بعض المریدین بإغراقه في الحياة الدنيا، فقال لهم: «افعل ما تشاء بشرط ألَّا تنسى وظيفتك الأساسية، وهي الخلافة.»
المهزلة والمأساة
قال الشيخ عبد ربه التائه: من خسر إيمانه خسر الحياة والموت.
السرعة
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما نكاد نفرغ من إعداد المنزل حتى يترامى إلينا لحن الرحيل.
المستشار
قال الشيخ عبد ربه التائه: حُبًّا في الهداية؛ قرَّرتُ زيارة صاحبكم الذي ضجَّت الأرض من ظلمه وفساده. طلبت مقابلته فاستقبلني مستشاره وقدَّم لي القهوة. والتقت عينانا لحظة، فعرفتُ فيه إبليس متنكِّرًا. ولمَّا أحسَّ بأنني عرفته ضحك قائلًا: خسرت هذه الجولة فالعب غيرها …
الخصم القوي
قال الشيخ عبد ربه التائه: يا من أيقظتن الفؤاد في دار الفناء، أشهد بأنكن خلقتن الخصم القوي الذي يتحدَّى الموت.
الاختيار
قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءتني امرأة جميلة تسألني الرأي في مسألة تعنيها. ولمَّا وافيتها بالجواب قرأت طالعها في جبينها الوضاء.
وقلت لها: «أمامك طريقان؛ طريق العفة والسماء، وطريق الحب والإنجاب.»
فقالت بابتسامٍ واحتشام: «لقد أعَدَّني ذو الجلال للحب والإنجاب، ولن أُخالف له مشيئة.»
بحر
قال الشيخ عبد ربه التائه: وجدتني في بحر تتلاطم فيه أمواج الأفراح والأكدار.
شكر
قال عبد ربه التائه: الحمد لله الذي أنقذنا وجوده من العبث في الدنيا، ومن الفناء في الآخرة.
خفقة
قال الشيخ عبد ربه التائه: خفقة واحدة من قلب عاشق، جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان.
أنا الحب
قال الشيخ عبد ربه التائه: كنا في الكهف نتناجی حین ارتفع صوت يقول: «أنا الحب. لولاي لجفَّ الماء، وفسد الهواء، وتمطَّى الموت في كل ركن.»
الاقتحام
قال الشيخ عبد ربه التائه: حاولتُ يومًا العزلة، ولكن تنهُّدات البشر اقتحمت خلوتي.
الحب والحبيبة
قال الشيخ عبد ربه التائه: قد تَغيب الحبيبة عن الوجود، أمَّا الحب فلا يَغيب.
لا تلعن
قال الشيخ عبد ربه التائه: لا تلعنوا الدنيا فهي تكاد ألَّا يكون لها شأن بما يقع فيها.
واجب العزاء
قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني رجل شاكيًا، فسألته عمَّا به فقال: إني غريق في بحر المتع ولا أشبع!
فقلتُ له: سأزورك يوم تشبع؛ لأُقدِّم لك واجب العزاء.
الدنيا والآخرة
قال الشيخ عبد ربه التائه: إذا أحببتَ الدنيا بصدق، أحبتك الآخرة بجدارة.
بلا ترحيب
قال الشيخ عبد ربه التائه: الصديق الذي يندر أن نرحِّب به، هو الموت.
السر
قال الشيخ عبد ربه التائه: كما تحب تكون.
الوسط
قال الشيخ عبد ربه التائه: أناس شغلتهم الحياة، وآخرون شغلهم الموت.
أمَّا أنا فقد استقرَّ موضعي في الوسط.
الترنُّح
قال الشيخ عبد ربه التائه: كُتب على الإنسان أن يَسير مُترنِّحًا بين اللذة والألم.
الجوهران
قال الشيخ عبد ربه التائه: جوهران مُوکلان بالباب الذهبي يقولان للطارق: تقدَّم فلا مفر، هما الحب والموت.
الدورة اليومية
قال الشيخ عبد ربه التائه: استلقيتُ فوق الأرض الخضراء تحت ضوء القمر أَهِيم في الرؤية، فهمسَت الأرض في أذني شاكية: «يَنفسون عليَّ لقمتي اليومية، وما فعلتُ سوى أن استرددتُ ما سبق أن وهبت.»
سر وراء السر
قال الشيخ عبد ربه التائه: قلت للحياة: حقًّا إنك سر من أسرار الوهاب.
فقالت بحياء: إن أبنائي يسألونني، فلا يجدون عندي إلا السؤال.
الوقت الأخير
سألتُ الشيخ عبد ربه التائه: كيف نتعامل مع وقت الرضا والسرور؟
فأجاب: اعتبره آخر ما تبقَّى لك من وقت.
انظر
قال الشيخ عبد ربه التائه: إن مَسَّك الشك، فانظر في مرآة نفسك مليًّا.
نسمة الحب
قال الشيخ عبد ربه التائه: نسمة حب تَهُب ساعة، تكفِّر عن سيئات رياح العمر كله.
خطبة الفجر
قال الشيخ عبد ربه التائه لسمار الكهف: أسكِت أنين الشكوى من الدنيا. لا تبحث عن حكمة وراء المحير من فعالها. وفِّر قواك لِمَا ينفع. وارضَ بما قسم. وإذا راودك خاطر اكتئاب، فعالجه بالحب والنغم.
الزمن
قال الشيخ عبد ربه التائه: يحق للزمن أن يتصوَّر أنه أقوى من أي قوة مُدمِّرة، ولكنه يحقِّق أهدافه دون أن يُسمَع له صوت.
الصراع الشامل
قال الشيخ عبد ربه التائه: أشمل صراع في الوجود هو الصراع بين الحب والموت.
الأصل
قال الشيخ عبد ربه التائه: أطبق الشر على الإنسان من جميع النواحي؛ فأبدع الإنسان الخير في جميع المسالك.
الخيال
قال الشيخ عبد ربه التائه: قد يُدرك المُعمر يومًا أنه أطول عمرًا من أجمل رموز الحياة.
الطائر الأخضر
قال الشيخ عبد ربه التائه: أحببتُ حتى الذروة، وحلَّقتُ بجناحَي النجاح، وأطربني الغناء في الليالي البدرية. وعند المغيب هبط الطائر الأخضر، فغرَّد وأشجاني دون أن أفقه له معنًی.
خفقة قلب
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما بین کشف النقاب عن وجه العروس وإسداله على جثتها، إلا لحظة مثل خفقة قلب.
الحركة
قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني قوم وقالوا إنهم قرَّروا التوقُّف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم: تحرَّكوا دون إبطاء؛ فالمعنی کامن في الحركة.
لا تندم
قال الشيخ عبد ربه التائه: اخفق يا قلبي واعشق كل جميل، وابكِ بدمع غزير إذا شئت، ولكن لا تندم.
حسن الختام
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما أجمل أن تُودِّعها وقد ازداد كلٌّ منكما بصاحبه رِفعة.
عنوان
قال الشيخ عبد ربه التائه: اقترح تعليق لوحة فوق مدخل الكهف يكتب فيها: «الله يديم دولة حسنك».
ما يملأ الفضاء
قال الشيخ عبد ربه التائه: لولا همسات الأسرار الجميلة السابحة في الفضاء؛ لانقضَت الشهب على الأرض بلا رحمة.
اللهفة
قال الشيخ عبد ربه التائه: کابدتُ من الشوق ما جعل حياتي لهفةً مكنونةً في حنين.
الغباء
قال الشيخ عبد ربه التائه: لا يوجد أغبى من المؤمن الغبي، إلا الكافر الغبي.
الغناء
قال الشيخ عبد ربه التائه: الغناء حوار القلوب العاشقة.
الآن
قال الشيخ عبد ربه التائه: الحاضر نور يخفق بين ظلمتَين.
الدَّین
قال الشيخ عبد ربه التائه: الحياة دَین ثقيل، رحم الله من سدَّده.
الصفح
قال الشيخ عبد ربه التائه: أقوى الأقوياء من يصفحون.
تذكرة
قال الشيخ عبد ربه التائه: عندما يلم الموت بالآخر، يُذكِّرنا بأننا ما زلنا نمرح في نعمة الحياة.
الواحة
قال الشيخ عبد ربه التائه: في الصحراء واحة هي أمل الضال.
الحديقة
قال الشيخ عبد ربه التائه: ما أجمل راحة البال في حديقة الورد!
الفرج
وفي ليلة الموسم جمعنا الكهف فلم يتخلَّف أحد.
في الخارج عوت الرياح الباردة، وزمجرت.
في الداخل جاد كل صدر بحنينه حتى عمَّت نشوة شادية.
وقال الشيخ عبد ربه التائه: هنيئًا لمن قام بواجبه في السوق، أو تحدَّى الكدر.
غضضنا الأبصار من الحياء، وأصغينا إلى ناي الراعي القديم.
وقال الشيخ: انظروا إلى باب الكهف، ولا تُحوِّلوا عنه الأبصار.
وخفقَت القلوب حتى ارتعشَت جذورها في انتظار الفرج.
وفي لهفتنا، رأته البصيرة وسمعته السريرة.