فضيحة الأب براون
لن يكونَ من العدل أن نسجِّل مغامراتِ الأب براون من دون الاعتراف بأنه تورَّط ذات مرة في فضيحة غامضة. ولا يزال هناك أشخاصٌ — ربما كانوا من مجتمعه الخاص — يقولون إن هناك وصمةً تلحق باسمه.
حدث الأمرُ في فندق مكسيكي خلَّاب يقع على الطريق ويتمتَّع بسمعةٍ ماجنة، كما اتضح فيما بعدُ، وبالنسبة إلى البعض فقد بدا أن القَسَّ قد سمح ذات مرة بأن تستوليَ عليه نزعةٌ رومانسية، وأدَّى به تعاطفُه مع الضعف الإنساني إلى إتيان سلوكٍ ماجن غير قويم. إن القصة نفسَها بسيطة؛ وربما كان عنصر المفاجأة فيها هو تلك البساطة التي تلفُّها.
إن حرب طروادة قد بدأت بهيلين؛ وهذه القصة الشائنة بدأت بجمال هيباتيا بوتر. يتمتَّع الأمريكان بقوةٍ كبيرةٍ — وهي شيء لا يقدِّره الأوروبيون دومًا حقَّ قدره — في إنشاء المؤسسات من الطبقات الدنيا؛ ويكون هذا بالمبادرات الشعبية. ومثلُها مثلُ كلِّ شيء جيد آخر، فإن لهذه القوة جوانبَ أكثر طيشًا؛ وأحد هذه الجوانب — كما أشار إليها السيد ويلز وآخرون — هو أن الشخص يمكن أن يُمسيَ مؤسسة عامة بشكل غير رسمي؛ حيث يمكن لفتاة تتمتع بجمال رائع أو ذكاء ألمعيٍّ أن تُصبحَ أقرب إلى ملكة غير متوَّجة، حتى ولو لم تكن نجمةً سينمائية أو تجسيدًا للفتاة المثالية طبقًا لتشارلز دانا جيبسون. ومن بين هؤلاء الذين كانوا سعيدي — أو تعيسي — الحظ ليوجدوا بهذه الطريقة أمام الناس وبهذا الشكل كانت هيباتيا هارد، والتي تجاوزت المرحلةَ التمهيدية لتلقِّي مجاملات احمرَّت لها وجنتاها خجلًا في مقالات المجتمع في الصحافة المحلية حتى اتخذت موضعَها لتُصبح مطلوبةً في مقابلات مع رجال صحافة حقيقيين. وقد أدلت الفتاةُ بتصريحاتها في مواضيع مثل الحرب والسلام والوطنية ومنع المسكِرات والتطور والكتاب المقدَّس بينما كانت ابتسامتها الساحرة تعلو وجهها؛ وإذا لم يكن أيٌّ من تلك التصريحات يقترب كثيرًا من الأسس الحقيقية لسُمْعتِها، فقد كان من الصعب بنفس القدر تقريبًا أن نعرف الأسسَ الحقيقية لما تتمتع به من سُمعة. إن الجمال، وكونها ابنةَ أحدِ الرجال الأغنياء، هما من الأشياء غير النادرة في بلدها، لكنها أضافت إليهما ما تسبَّب في جذْب أنظار الصحافة الحائرة. هذا بالإضافة إلى أنَّ أيًّا من معجبيها لم يرَها فعلًا، أو كان يأملُ حتى أن يراها، ولم يكن أيٌّ منهم بمقدوره قط أن يحصلَ على أيِّ استفادة ولو كانت بسيطةً من ثروة أبيها. فالأمر ببساطة هو نوع من أنواع الخيال الشعبي، أو البديل العصري للأساطير؛ وقد أرسى هذا للأسس الأولى لنوعٍ من الرومانسية أكثر عصفًا وتعقيدًا ستدركه هي فيما بعد، وسيعتقد الكثيرون بسببه أن سُمعةَ الأب براون — وآخرين كُثُر — قد دُمِّرت تمامًا.
لقد تقبل — برومانسية في بعض الأحيان وباستسلام في أحيان أخرى — من أطلق عليهن المجتمع الأمريكي الساخر الأخوات سوب أن تلك الفتاة قد تزوجت بالفعل من رجل أعمال جدير بالاحترام والتقدير يحمل اسمَ بوتر. وكان من الممكن حتى ولو للحظة اعتبارُ أنها تحمل اسمَ السيدة بوتر، على أساس من التفهم العام بأن زوجها كان فقط هو زوج السيدة بوتر.
ثم حدثت الفضيحةُ الكبرى، التي روَّعت أصدقاءها وأعداءها بما يتخطَّى أكثر آمالهم جموحًا؛ فقد اقترن اسمُها (كما تقول العبارة الغريبة) برجل يمتهن الأدبَ ويعيش في المكسيك؛ وهو رجلٌ أمريكيُّ المنزلة والمقام، لكنه إسبانيٌّ من أصل أمريكي من حيث الروحُ. ولسوء الحظ، كانت هي على النقيض تمامًا منه؛ بمعنى أن كل رذيلة لديه تجد الفضيلة المقابلة لها لديها. لم يكن الرجل سوى رودل رومانيس الشهير؛ ذلك الشاعر الذي حظيت أعمالُه بشعبية كبيرة بفعل رفض المكتبات لها أو بفعل ملاحقات الشرطة له بسببها. على كل حال، شوهد نجمُها الهادئ بالاقتران مع هذا المذنَّب. فقد كان الرجل من النوع الذي يُشبَّه بالمذنَّب؛ ذلك أنه كان فظًّا لاذعًا؛ تنطبق الصفةُ الأولى على شكله، والثانية على شِعْره. وهو أيضًا من النوع المدمِّر؛ فقد كان ذيلُه عبارة عن سلسلة من حالات الطلاق، التي قال البعض إن هذا يُعدُّ نجاحًا له بصفته عاشقًا، وقال البعض إنه فاشلٌ جدًّا بصفته زوجًا. كان الأمر صعبًا على هيباتيا؛ فهناك مساوئ تلحق بعيش الحياة الخاصة المثالية أمام أعين العامة؛ كالنظر إلى الجزء الداخلي من متجر من خلال واجهة العرض. وقد أفاد محاوروها من الصحفيين بتصريحات مريبة عن قانون الحب الأكبر للإدراك الذاتي الأعلى. فصفق الوثنيون، وسمحت الأخوات سوب لأنفسهن بأن يُدلين بملحوظة عن الندم الرومانسي، حتى إن بعضهن تمتَّع بجرأة قاسية ليقتبس من قصيدة مود مولر، لدرجة أن أكثر الكلمات حزنًا من بين التي قيلت وكُتبت كانت جملة «كان من الممكن». أما السيد أجار روك، الذي كان يكره أخوية سوب كرهًا رهيبًا مبررًا، فقد قال إنه في هذه الحالة يتفق تمامًا مع تنقيح بريت هارتي للقصيدة:
«ما كان ينبغي أن يكون من نراهم يوميًّا هم الأكثر حزنًا.»
ذلك أن السيد روك مقتنعٌ تمام الاقتناع ويوقن يقينًا راسخًا بأن هناك أشياء كثيرة ما كان ينبغي لها أن تكون. وهو يعمل ناقدًا عنيفًا وقاسيًا للاضمحلال الوطني، في صحيفة «منيابوليس ميتيور»، كما كان رجلًا شجاعًا وصادقًا. وربما قد تخصص كثيرًا في روح الغضب والسخط، لكن تلك الروح كانت تتحلَّى بأصولٍ سليمةٍ بما يكفي فيما له صلة بردَّة فعله تجاه المحاولات القذرة للخلط بين الصواب والخطأ في الصحف الحديثة ومحاولات القيل والقال. وقد عبَّر السيد روك عن هذا في البداية في صورة احتجاج على رسم هالة رومانسية حول القتلة ورجال العصابات. وربما كان يميل كثيرًا إلى الافتراض بنفاد صبر قوي أن كل رجال العصابات من ذوي الأصول اللاتينية، وأن كلَّ مَن هم من ذوي الأصول اللاتينية كانوا رجالَ عصابات، لكنَّ إجحافَه وتحامله هذين — حتى وهو يتَّسم بضيق الأفق — كانا يختلفان بعضَ الشيء عقب نوع معين من جيَشان العاطفة وعبادة الأبطال كسلوك غير ناضج، حيث كان الناس على استعداد لأن ينظروا إلى قاتل محترف باعتباره زعيمًا من زعماء الموضة، طالما قال الصحفيون إن ابتسامته ساحرة وإن حُلَّته التي يرتديها كانت لا بأس بها. على كل حال، لم تُختزل هذه التحيزات من جانبه في صدره فقط؛ لأنه كان في الواقع يطأ أرض اللاتينيين حين وقعت أحداثُ هذه القصة؛ حيث كان يسير بغضب وهو يصعد تلة ما خلف الحدود المكسيكية، باتجاه الفندق ذي اللون الأبيض المهدَّب بأشجار الزينة، ذلك الفندق الذي من المفترض أن آل بوتر ينزلون فيه وتتخذ منه الآن هيباتيا الغامضة بلاطًا لها. كان أجار روك يمثِّل نموذجًا جيدًا للشخص البيوريتاني، حتى بمجرد النظر إليه؛ ربما كان بيوريتانيًّا من القرن السابع عشر بكل ما تحمله الكلمة من معنى أكثر منه شخصًا بيوريتانيًّا أكثر ليونة وتعقيدًا من القرن العشرين. كان الرجل سيُسرُّ كثيرًا ويشعر بامتنانٍ كبير إذا ما أخبرته أنَّ قبَّعته السوداء العتيقة وعبوسَ وجهه المعتاد وملامحَه المتصلبة تتسبَّب في كآبة تكاد تغطي أرض النخيل والكروم المشمسة تلك. نظر السيد أجار روك عن يمينه وشماله بعينَين تلمع فيهما شكوكٌ كبيرة. وبينما هو كذلك، رأى شخصين يقفان على الجسر الذي يعلو موضعَه، وكانت هيئتُهما واضحة أمام مشهد غروب الشمس شبه الاستوائية في السماء الصافية؛ وهما يقفان في وضعية خاطفة كانت ستجعل الشكوك تدبُّ في رجل أقلَّ تشككًا منه.
كان أحدهما بارزًا، حيث كان يقف تمامًا عند زاوية انعطاف الطريق أعلى الوادي، كما لو أن موضعه هذا هو مكانه الطبيعي وكما لو كان وضعه الجسماني يُشبه تمثالًا. وهو يرتدي معطفًا كبيرًا أسود اللون على طريقة اللورد بايرون، ورأسه الداكن يعتلي ذلك المعطف بصورة جميلة ليُصبح قريبَ الشبه كثيرًا برأس اللورد بايرون. كان للرجل الشعر المجعد نفسه مع أنف مكوَّر؛ وبدا وكأنه يحمل سماتِ التذمُّر والاحتقار والسخط نفسها تجاه العالم. وقد أمسك في يده عصًا طويلة، أو عكازًا، لها رأس رمح من النوع الذي يُستخدم في تسلق الجبال، فكانت في تلك اللحظة تُوحي بشكل غريب بأنها رمحٌ حربيٌّ. ومما يزيد من غرابة الموقف هو شيء مناقض بطريقة هزلية فيما يخصُّ شكلَ الرجل الآخر، ذلك أن الأخير كان يحمل مظلَّة. وهي جديدة ومطوية بإتقان، وتختلف كثيرًا على سبيل المثال عن مظلة الأب براون، وكان الرجل يرتدي زيًّا أنيقًا خفيفًا وكأنه كاتبٌ في عطلة؛ وهو ذو بنية جسدية بدينة وقصيرة وله لحية، لكن مظلته كانت ممدودةً ومرفوعة بل كان أيضًا يُلوِّح بها وكأنه سيهجم بها على الرجل الآخر. فاندفع الرجل الطويل نحوه، لكن اندفاعه هذا كان بغرض دفاعي؛ ثم سرعان ما تحوَّل الأمر إلى مشهد كوميدي؛ ذلك أن المظلة فُتحت من تلقاء نفسها وبدا أن صاحبها قد اختفى خلفها، بينما بدا الرجلُ الآخر وكأنه يدفع برُمحه خلال درع حربية كبيرة وغريبة، لكنه لم يُكمل هجومه، ولم يطُل النزاع بينهما؛ فقد أخذ رمحه واستدار بسرعة وسار على الطريق؛ بينما اعتدل الرجل الآخر في وقفته وبدأ يطوي مظلَّته بإتقان ثم استدار هو الآخر إلى الجهة المقابلة نحو الفندق. لم يسمع روك أيَّ كلمة من الكلمات التي قيلت، والتي لا بد وأنها سبقت هذا الشجارَ السريع والعبثي، لكنه أثناء سيره على الطريق في إثر الرجل القصير ذي اللحية، جال برأسه الكثير من الأشياء. فقد كان المعطف الرومانسي الذي يرتديه الرجل وحُسن ملامحه الأوبرالية، جنبًا إلى جنب مع ثقة الرجل الآخر القوية بنفسه، تتلاءمان مع القصة التي أتى ليبحث بشأنها؛ وعلم أن هذين الرجلين الغريبَين كانا: رومانيس وبوتر.
وقد تأكدت وجهةُ نظره بشتى الطرق حين دلف إلى الشرفة المدعمة بالأعمدة؛ وسمع صوتَ الرجل ذي اللحية مرتفعًا وكأنه يجادل شخصًا أو يعطيه أمرًا. كان يتحدث بلا شك إلى مدير الفندق أو أحد العاملين به، وسمع روك ما يكفي ليعلم أنه كان يحذِّرهم من رجل خطير وغريب يوجد في الجوار.
كان الرجل القصير يقول ردًّا على غمغمة من الشخص الآخر: «لو أنه قد نزل بالفندق بالفعل، فلا يسعُني سوى أن أقول إنه يجدر بكم ألا تسمحوا له بالدخول مرة أخرى. ينبغي على شرطتكم أن تبحث عن رجل من هذه النوعية، لكن على كلِّ حالٍ، لن أسمح له أن يُزعجَ السيدة.»
أنصت روك لحديث الرجل في صمت تام وقناعة متزايدة؛ ثم انسلَّ عبر المدخل نحو تجويف صغير حيث استطاع أن ينظر في سجلات الفندق، وحين فتح آخر صفحاته، رأى أن «الرجل» قد نزل بالفندق بالفعل. كان ينظر إلى اسم «رودل رومانيس»، تلك الشخصية العامة الرومانسية، وكان الاسم مكتوبًا بحروف كبيرة ومنمَّقة؛ وبعد مسافة تحته وجد اسمَي هيباتيا بوتر وإليس بوتر ملتصقَين بعضهما ببعض، وكانت أسماؤهما مكتوبةً بحروف صحيحة وبخط يدٍ يغلب عليه الطابعُ الأمريكي.
نظر أجار روك حوله بعينَين نكدتَين، فرأى فيما يحيط به بل وحتى في أبسط تفاصيل زينة الفندق كلَّ شيء كان يكرهه بشدة. ربما من غير المنطقي أن يتذمر المرءُ بشأن نمو ثمار البرتقال على أشجار البرتقال، أو حتى في الأُصص الصغيرة؛ فماذا عن نموها على تلك الستائر البالية أو ورق الحائط الباهت كشكل من أشكال الزينة، لكن هذه الأقمار الحمراء والذهبية والتي تتخللها أقمارٌ فضية مزخرفة بدتْ وبصورة غريبة بالنسبة إليه هي قمة العبث؛ فقد رأى فيها ذلك التدهورَ الحسي الذي تستنكره مبادئُه فيما يخص الأساليب الحديثة، كما ربطت تحيزاته وعلى نحوٍ مبهم بينها وبين دفء الجنوب ونعومته. بل أزعجه أيضًا أن يرى قطعةً من قماش داكن، تُبرز نصف لوحة للرسام واتو عن راعٍ يُمسك بجيتار، أو أن يرى قرميدًا لونه أزرق منقوش عليه رسمة شائعة لكيوبيد وهو يمتطي دولفينًا. وكان منطقه السليم سيخبره بأنه ربما رأى هذه الأشياء في واجهة عرض أحد المتاجر في الجادة الخامسة، لكن في مكانها هذا، بدت تلك الأشياء وكأنها تسخر من وثنية شعوب البحر المتوسط. ثم فجأة، بدا أن مظهرَ كلِّ هذه الأشياء يتغير، تمامًا كما لو كانت مِرآة ثابتة تضطرب الصورة التي تعكسها حين يمرُّ أمامها جسدُ شخص ما؛ وسرعان ما أدرك أن الغرفة تعج بحضور شخص يتطلب منه كامل انتباهه. استدار روك استدارة خفيفة وكأنه كان يقاوم النظر، وأدرك أنه يقف في مواجهة هيباتيا الشهيرة، التي قرأ وسمع عنها كثيرًا ولسنوات طويلة.
كانت هيباتيا بوتر — أو هيباتيا هارد سابقًا — هي أحد أولئك الأشخاص الذين تنطبق عليهم قطعًا كلمةُ «متألق» بل ويمكن أن نذهب إلى أن الكلمة مشتقةٌ منها. ذلك أنها كانت تمثل ما قالته الجرائد بأن شخصيتها تشعُّ منها. وكانت ستبدو جميلةً بنفس الدرجة — وكانت ستبدو أكثرَ جاذبية بالنسبة إلى بعض الأذواق — لو أنها كانت تتميز بالتحفظ وضبط النفس، لكنها تعلَّمت دومًا أن تعتقد بأن التحفظ أو ضبط النفس ما هما إلا ضربٌ من الأنانية. كانت تقول إنها أفنت نفسها في ذلك، لكن ربما الأصح هو أنها وجدت نفسها، وهي تؤمن إيمانًا لا يتزعزع بما تقوم به؛ لذا فإن عينَيها الزرقاوين اللامعتين كانتا أخَّاذتين، كما في التشبيه المجازي القديم الذي يُشبِّه العينين بسهام كيوبيد، التي توقع في الحب حتى ولو كانت على بعد مسافة كبيرة عنك؛ لكنَّ عينَيها أيضًا كانتَا تمثِّلان مفهوم الغزو المجرد الذي يتخطَّى أيَّ مفهوم للتدلل والغزَل. وقد صفَّفت شعرها الأشقر بطريقة تُشبه هالةً مقدسة، فبدا وكأنه يشعُّ ضوءًا كهربائيًّا. وحين عرفت أن الرجل الغريب أمامها هو السيد أجار روك من جريدة مينيابوليس ميتيور، لمعت عيناها أكثر فكانتا أشبهَ بأضواء البحث القوية التي تجوب آفاق الولايات المتحدة.
ولكن السيدة كانت مخطئة في هذا؛ كما هي في بعض الأحيان؛ ذلك أن أجار روك لم يكن هو أجار روك نفسه صحفي جريدة منيابوليس ميتيور، بل كان في هذه اللحظة مجردَ أجار روك؛ وقد تنامى بداخله دافعٌ أخلاقي كبير وصادق يتخطَّى جرأة المحاور الفظة. لقد خالجه شعورٌ متضارب للغاية بالشهامة وبحسٍّ قومي تجاه الجمال، مع تلهُّفٍ فوري للقيام بفعل أخلاقي من نوع معين — والذي كان يتَّسم بالقومية أيضًا — لمواجهة مشهد رائع؛ ولتوجيه إهانة نبيلة. تذكَّر هيباتيا الأصلية، تلك الفتاة ذات الجمال الأفلاطوني المحدَّث، وتذكَّر كيف أنه كان مفتونًا وهو صبي برومانسيات كينجزلي حيث يشجبها الراهب الشاب لكونها عاهرة ووثنية. قابلها روك بجاذبية الحديد للمغناطيس وقال:
«عذرًا سيدتي، أريد أن أتحدث معكِ على انفراد.»
قالت السيدة بينما كانت تمسح الغرفة بنظراتها الرائعة: «في الواقع، لا أعلم إن كنت تظن أن هذا المكان يمنح الخصوصية التي تنشدها أم لا.»
مسح روك أيضًا الغرفة بعينَيه ولم يرَ أيَّ إشارة على حياةٍ حوله سوى أشجار البرتقال، عدا ما بدا وكأنه فطر عيش غرابٍ أسود كبير، وهو ما أدرك أنها قبَّعة أحد القساوسة من السكان الأصليين، والذي جلس يدخن في برود سيجارًا محليًّا ذا لون أسود، وكان القسُّ ثابتًا لا يتحرك وكأنه نبات. نظر روك للحظةٍ إلى ملامح القسِّ الحادة والخالية من التعابير، ولاحظَ وقاحةَ ذلك الشخص الريفي، حيث يكون القساوسة في معظم الوقت من الريف وذلك في البلدان اللاتينية وخصوصًا في البلدان الأمريكية ذات الأصول اللاتينية؛ ثم خفض روك من نبرة صوته قليلًا بينما ضحك وقال:
«لا أتخيَّلُ أن ذلك القسَّ المكسيكي يتحدث لغتنا، فأولئك الكسالى لا يتعلمون أيَّ لغة سوى لغتهم التي يتحدثون بها. أوه، لا يمكنني أن أجزم إن كان مكسيكيًّا، فقد يكون ذا جنسية أخرى، أفترضُ أنه قد يكون هنديًّا هجينًا أو زنجيًّا، لكنني أجزم أنه ليس بأمريكي. إن مؤسساتنا الكهنوتية لا تقدم مثل هذا النوع المنحط من القساوسة.»
قال المنحط وهو يُبعِد السيجار الأسود عن فمه: «في الواقع، أنا إنجليزي واسمي براون، لكنني سأغادر إن كنتما تريدان الانفراد بعضكما ببعض.»
قال روك بحرارة: «إذا كنتَ إنجليزيًّا فينبغي أن تتمتع بغريزة أوروبية لرفض كلِّ هذا الهراء. في الواقع، يكفي أن أقول الآن إنني في موضع يجعلني أشهد أن هناك رجلًا خطيرًا يتجول في الأرجاء من هذا المكان؛ إنه رجل طويل القامة يرتدي معطفًا مثل ذلك المعطف الذي نراه في صور الشعراء المجانين.»
قال القسُّ بنبرة معتدلة: «حسنًا، لا يمكن أن نستفيد كثيرًا من هذه المعلومات، فمعظم الناس هنا يرتدون هذا المعطف؛ ذلك أن الأجواء تُصبح باردة فجأة بعد الغروب.»
رمقَه روك بنظرة تنمُّ عن ارتياب؛ وكأنه يشكُّ في وجود شيء من مراوغة بشأن كلِّ ما تمثَّل له من خلال القبعات التي على شكل فطر عيش الغراب وضوء القمر. ثم قال متذمِّرًا: «ليست المشكلة في المعطف وحده، رغم أنها تعود جزئيًّا للطريقة التي كان يرتديه بها. لقد كان مظهر الرجل دراماتيكيًّا، كلُّ شيء فيه حتى وسامته دراماتيكية. وإذا ما أذنتِ لي سيدتي، فإنني أنصحك وبشدة ألا تتعاملي معه إطلاقًا، إذا ما أتى إلى هنا وسبَّب لكِ إزعاجًا. لقد طلب زوجُك من طاقم الفندق بالفعل أن يمنعوه من الدخول.»
انتفضت هيباتيا واقفةً على قدمَيها، وبإيماءة غير اعتيادية مطلقًا غطَّت وجهها ودفعت بأصابعها بين شعرها. بدتْ وكأنها ترتعش، وربما كانت مخنوقةً بعَبَراتها، لكن حين عادت إلى حالتها الطبيعية كانوا قد انفجروا في نوبةٍ من الضحك.
قالت هيباتيا: «أوه، أنتما مضحكان للغاية.» وبطريقة غير معتادة منها، تملَّصت منهما وانطلقت كالسهم نحو الباب واختفت.
قال روك بنبرة تنمُّ عن شعوره بعدم الارتياح: «إنهن عادة ما يكنَّ هيستيريات بعض الشيء حين يضحكْن بهذه الطريقة.» ثم شعر وكأنه في حيرة من أمره، فقال للقسِّ وهو يلتفت له: «كما كنت أقول، إذا كنت إنجليزيًّا، فينبغي لك حقًّا وعلى كل حال أن تتخذ نفس موقفي تجاه هؤلاء اللاتينيِّين. أوه، أنا لستُ من نوعية مَن يتحدثون هراءً بحق الشعوب الأنجلوسكسونية، لكن هناك ما يُسمى بالتاريخ. يمكنك دومًا أن تقول بأن أمريكا تستقي حضارتها من إنجلترا.»
قال الأب براون: «ولتهدئة كبريائنا أيضًا، ينبغي أن نعترف أن إنجلترا تستقي حضارتها من اللاتينيِّين.»
اتَّقد في ذهن الآخر مرة أخرى إحساسٌ ساخط بأن مُحاورَه كان يحاول أن يضعَ جدارًا بينهما — وأن محاولتَه تلك كانت دفاعًا عن الجانب الخطأ — وذلك بطريقة تتَّسم بالغموض والمراوغة؛ وهو يعترف باختصار أنه فشل في أن يُدرك السبب وراء ذلك.
قال الأب براون: «في الواقع، كان هناك ذلك الرجل اللاتيني — أو ربما كان وغْدًا لاتينيًّا — والذي يُدعى يوليوس قيصر، وقد قُتل فيما بعدُ في مبارزة بالسيف؛ أنت تعلم أن هؤلاء اللاتينيِّين دومًا ما يستخدمون السكاكين. ثم كان هناك شخصٌ آخر ويُدعَى أوغسطينوس، والذي أدخل المسيحية إلى جزيرتنا الصغيرة؛ ولا أعتقد حقًّا أننا كنا سنصبح متحضرين كثيرًا لولاهما.»
قال الصحفي الذي كان يشعر بالانزعاج إلى حدٍّ ما: «على كلٍّ، هذا تاريخ قديم، وأنا مهتمٌّ أكثر بالتاريخ الحديث. إنني أرى أن هؤلاء الأوغاد يُحضرون الوثنية إلى بلادنا، ويدمرون المسيحية الموجودة بها. كما أنهم يدمرون كلَّ ما هو موجود من منطق سليم. إن كلَّ العادات الراسخة والنُّظم الاجتماعية الثابتة، والأساليب التي استطاع المزارعون الذين هم آباؤنا وأجدادنا من خلالها أن يعيشوا في هذا العالم قد ذابت لتُصبح ثريدًا بفعل الأنباء المثيرة والشهوانية عن نجوم السينما الذين يُطلَّقون كل شهر أو نحو ذلك، والتي تجعل كلَّ فتاة سخيفة تعتقد بأن الزواج ما هو إلا وسيلة لتحمِل لقب مطلَّقة.»
قال الأب براون: «أنت محقٌّ تمامًا، وبالطبع أتفق معك كثيرًا في هذه النقطة، لكن ينبغي أن نجد بعض الأعذار. ربما كان هؤلاء الجنوبيون عرضةً لهذا النوع من الأخطاء. لا بد وأن تتذكَّر أن لشعوب الشمال أخطاءً من نوع آخر. ربما كانت الأجواء المحيطة هنا تشجِّع الناس على أن يعطوا أهميةً كبيرة للأمور الرومانسية البحتة.»
عند سماعه هذه الكلمة، ثارت في أجار روك أحاسيسُ السخط الشديد التي نمَت بداخله طوال حياته.
وقال بينما هوَى بقبضته على الطاولة الصغيرة أمامه: «إنني أكره الرومانسية. لقد حاربتُ الصحف التي عملت لحسابها طوال أربعين عامًا بسبب هذا الهُراء الجهنمي. إن كلَّ زواج بين أحد الأوغاد ونادلة في حانة يسمَّى هروبًا للعشَّاق أو شيئًا من هذا القبيل؛ والآن يمكن لهيباتيا هارد سليلة الحسب والنسب أن تجد نفسها متورطةً في حالة طلاق رومانسية فاسدة، ستزفُّ أخبارها إلى العالم أجمع وكأنها أنباء زفاف ملكي. ذلك الشاعر المجنون الذي يُدعى رومانيس يحوم حول الأرجاء؛ وأجزمُ لك أن الأضواء تتبعه، وكأنه أحد اللاتينيِّين الأوغاد الذي يُدعى بالمحبِّ العظيم في الأفلام. لقد رأيته بالخارج؛ وهو يتمتَّع بالوجه الذي يجذب إليه الأضواء. والآن أُعرب عن شعوري بالأسى العميق تجاه الأخلاق والمنطق السليم. إنني أشعر بالأسى تجاه بوتر المسكين، ذلك التاجر البسيط والصريح من بيتسبرج والذي يعتقد أنه يمتلك الحق في الحفاظ على بيته. وهو على وشك أن يخوض صراعًا من أجل ذلك أيضًا، فقد سمعته وهو يصرخ في وجه إدارة الفندق ويُخبرهم بأن يُبقوا ذلك الوغد الحقير بعيدًا عن المكان؛ وهو محقٌّ أيضًا؛ حيث يبدو أن الناس هنا خبثاء ولديهم أساليبهم الملتوية، لكنني أخشى أن يكون قد غرس فيهم خشية الله بالفعل.»
قال الأب براون: «في واقع الأمر، أنا أتفق معك بشأن مدير الفندق والعاملين فيه، لكن لا ينبغي لك أن تعمِّم حكمك على المكسيكيِّين جميعًا من خلال هؤلاء الرجال. كما أنني أتصور أيضًا أن الرجل الذي تتحدث عنه لم يصرخ في العاملين هنا فقط، وإنما أعطاهم ما يكفي من الأموال لكي يضمنَهم إلى جانبه. لقد رأيتهم وهم يُغلِّقون الأبواب ويتهامسون فيما بينهم بحماسة. وبالمناسبة، يبدو أن صديقك الصريح والبسيط هذا يمتلك الكثيرَ من الأموال.»
قال روك: «لا شك أن أعماله تسير على خير ما يرام؛ فهو من أفضل رجال الأعمال. ماذا تقصد؟»
قال الأب براون: «تصورت أن هذا قد يُوحي لك بفكرة أخرى.» ثم نهض من مكانه في كياسة شديدة وغادر الغرفة.
في ذلك المساء، راقب روك آل بوتر باهتمام شديد وقت العشاء؛ واستطاع أن يحصل على بعض الانطباعات المغايرة، رغم أن أيًّا من هذه الانطباعات لم تؤثر في شعوره العميق بالخطر الذي يهدِّد سلامَ عائلة بوتر. وقد ثبت له أن بوتر نفسه يستحقُّ دراسة أدق وأعمق؛ ورغم أن الصحفي تقبَّل في البداية كونه رجلًا عاديًّا ومتواضعًا، لكن السعادة غمرتْه بإدراكه لتفاصيل أدق لما اعتبره بطل قصة مأساوية أو ضحيتها. كان بوتر يتمتع فعلًا بملامح رصينة مميزة، رغم ما يبدو عليه من القلق والعدوانية في بعض الأحيان. وحصل روك على انطباع بأن الرجل يتعافى من مرض ما؛ فقد كان شعره ضعيفًا لكنه طويل نوعًا ما، كما لو أنه أهمله حديثًا، كما ساهم ذقنُه الغريب في إيصال الفكرة نفسها للناظر إليه. وقد تحدَّث إلى زوجته مرة أو اثنتين بطريقة حادة ولاذعة، متذمِّرًا بشأن بعض الأقراص الدوائية أو أشياء لها علاقة بعلم الجهاز الهضمي، لكنَّ قلقَه الحقيقي كان معنيًّا بلا شك بالخطر الذي يحوم بالخارج. وقد لعبت زوجتُه دورها معه بطريقة رائعة إذا لم يكن بتلطف منها فكانت وكأنها جريزلدا الصابرة، لكنَّ عينَيها أيضًا كانتَا تطوفان باستمرار على الأبواب والنوافذ، كما لو كانت خائفةً بفتور من هجوم سيشنُّه أحدهم. وبعد انفعالها المثير للفضول، كان لدى روك سببٌ وجيهٌ لكي يخشى ألا يكون خوفها سوى خوف طفيف.
هذا وقد وقع الحدث الاستثنائي في منتصف هذه الليلة؛ ذلك أن روك — الذي كان يتخيل أنه هو آخر من يتوجَّه نحو فراشه كي يخلد إلى النوم — شعر بالدهشة حين وجد أن الأب براون لا يزال جاثمًا منعزلًا تحت شجرة برتقال في الردهة، وهو يقرأ كتابًا في هدوء. ردَّ الأب براون على تحية الآخر من دون أن ينطق بكلمة إضافية، وحين وضع الصحفي قدمَه على أولى درجات السلَّم، اهتزت مفصلات الباب الخارجي وقعقعت بفعل صدمة الضربات التي يتلقَّاها الباب من الخارج؛ وصاح صوتٌ جهوري كان أعلى من وقْع الضربات على الباب يطالب بالدخول. بطريقة ما كان الصحفي متأكدًا من أن الضربات على الباب هي بفعل عصًا ذات رأس مدبَّب وكأنها عصا تسلُّق. نظر الصحفي إلى الطابق السفلي المُظلم، ورأى عمال الفندق يهرعون هنا وهناك لكي يتأكدوا من أن الأبواب مغلقة، لا لكي يفتحوها. ثم صعِد السلَّم ببطء نحو حجرته، وجلس يكتب تقريره بينما يعتريه شعورٌ بالغضب الشديد.
وصف الصحفي الحصار المضروب حول الفندق والأجواء الشريرة؛ ورفاهية الفندق الرديئة، ومحاولات القسِّ في التملص منه؛ وفوق كلِّ ذلك، وصف ذلك الصوت المريعَ الذي يصيح بالخارج، وكأنه ذئبٌ يحوم حول المنزل. ثم، وبينما كان يكتب، سمع صوتًا مغايرًا، فوقف من مكانه فجأة. كان الصوت عبارةً عن صفير طويل متكرر، وفي حالته المزاجية تلك شعر تجاه ذلك الصوت بكُرهٍ مضاعف؛ ذلك أنه كان يُشبه صفير الكشف عن متآمر وكذا صوت طائر يصيح بنداء التزاوج. تبِع ذلك الصوتَ فترةٌ من الصمت المطبق، جلس خلالها جامدًا، ثم انتفض من مكانه فجأة؛ لأنه سمع صوت ضوضاء أخرى. كان الصوت حفيفًا خافتًا تبعه قرعٌ حادٌّ أو خشخشة؛ وهو على ثقة تقريبًا أن أحدًا كان يرمي شيئًا على النافذة. سار الصحفي في خطوات متصلبة وهبط السلَّم إلى الطابق الذي أصبح الآن مظلمًا ومهجورًا؛ أو لنقل شبه مهجور، ذلك أن القسَّ الضئيل كان لا يزال جالسًا تحت شجرة البرتقال المضاءة بإضاءة خافتة وكان لا يزال يُطالع كتابه.
قال روك بنبرة جافة: «يبدو أنك تُطيل السهر.»
قال الأب براون رافعًا بصرَه إليه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ عريضة: «يا لي من شخصية ماجنة، أن أقرأ اقتصاديات الربا في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل.»
قال روك: «المكان مغلق.»
رد الآخر: «مغلق ومحكم الإغلاق. يبدو أن صديقك ذا اللحية قد اتخذ كافة التدابير. وبالمناسبة، يبدو صديقُك هذا منزعجًا؛ كنتُ أعتقد أنه غاضب أثناء العشاء.»
غمغم الآخر: «هذا طبيعيٌّ للغاية، إذا كان يعتقد أن هناك شخصًا فظًّا في هذا المكان الهمجي يحاول أن يدمِّر حياته وبيته.»
قال الأب براون: «أليس من الأفضل أن يحاول المرءُ أن يجعل حياتَه لطيفة وجميلة من الداخل، بينما يحاول أن يحميَها من الأشياء التي تُهدِّدُها من الخارج.»
قال الآخر: «أوه، أعلم أنك ستحاول أن تجتهدَ في البحث عن مبررات، ربما كان غاضبًا ولاذعًا مع زوجته، لكنه محقٌّ. اسمع، يبدو لي أنك أعمقُ مما يُظَن بك، وأعتقد أنك تعرف عن هذا الشأن أكثر مما تُبدي. ما الذي يحدث بحقِّ السماء في هذا المكان الجهنمي؟ لماذا تجلس طوال الليل لتراقب الأمور؟»
قال الأب براون بنبرة متأنية: «في الواقع، كنت أعتقد أن هناك من يريد غرفتي.»
«من يريدها؟»
قال الأب براون في وضوح وشفافية: «في واقع الأمر، أرادت السيدة بوتر غرفةً أخرى، فأعطيتها غرفتي؛ لأنني أستطيع أن أفتح النافذة. اذهب وانظر بنفسك إذا أردت.»
قال روك وقد أحدثت أسنانُه صريرًا: «سأنظر في أمر شيء آخر أولًا. يمكنك أن تؤدِّيَ حِيَلك الرخيصة في هذا الفندق الإسباني الرخيص، لكنني ما زلتُ على اتصال بالعالم المتحضر.» ثم هُرع إلى داخل كابينة الهاتف واتصل بصحيفته؛ وقصَّ عليهم حكاية القسِّ الخبيث الذي قدَّم المساعدة للشاعر الخبيث. ثم هُرع صاعدًا السلَّمَ حتى وصل إلى حجرة القسِّ، والتي كان القسُّ قد أضاء بها شمعة قصيرة لتوِّه، فرأى أن النوافذ أمام غرفته مفتوحةٌ على مصراعيها.
كان قد وصل في الوقت المناسب ليرى سلَّمًا قويًّا منفصلًا عن عتبة النافذة ويقف تحته على العشب رجلٌ نبيل كان يضحك بشدة. كان الرجل الضاحك طويلَ القامة داكنَ البشرة، وكانت بصحبته سيدةٌ شقراء تضحك بشدة هي الأخرى. هذه المرة، لم يكن بمقدور السيد روك حتى أن يطمئن نفسه بأن ضحكتها كانت هستيرية. كانت ضحكتها عميقة إلى حد مخيف؛ وكانت تتردَّد في أرجاء المسارات المتعرجة للحديقة بينما اختفت هي والشاعر في الأجمَة المظلمة وتواريَا عن الأنظار.
نظر أجار روك إلى رفيقه وقد اعتلت وجهَه ملامحُ تنمُّ عن الاندهاش الشديد؛ وكأنه كان ينظر إلى يوم القيامة.
قال روك: «ستسمع أمريكا كلُّها بما حدث هنا. ويمكن القول بكلمات بسيطة إنك ساعدتها على الهرب مع عشيقها ذي الشعر المجعد.»
قال الأب براون: «أجل، لقد ساعدتها على الفرار مع عشيقها ذي الشعر المجعد.»
صاح به روك: «وتقول بأنك ممثلٌ عن السيد المسيح بينما تتبجح بجريمتك.»
قال القسُّ بنبرة معتدلة: «لقد انخرطت في الكثير من القصص التي وقعت بها جرائم، ويُسعدني كثيرًا أن هذه القصة لا تشتمل على جريمة. إنما هي قصة ملحمية بسيطة تُروَى ساعةَ الجلوس بجوار المدفأة؛ والتي تنتهي بألفة وتآلف.»
قال روك: «وتنتهي أيضًا بسلَّم من الحبال بدلًا من أن تنتهيَ بحبل فقط، أليست بامرأة متزوجة؟»
قال الأب براون: «أوه، بلى.»
قال روك محتجًّا: «ألا يتعيَّن عليها أن تكون مع زوجها؟»
قال الأب براون: «إنها مع زوجها.»
ذهل الآخر حتى انتابته نوبةُ غضب وقال: «أنت تكذب. لا يزال زوجُها المسكين يغطُّ في نوم عميق في فراشه.»
قال الأب براون بنبرة حزينة: «يبدو أنك تعرف الكثيرَ عن علاقاته الخاصة. يمكنك تقريبًا أن تكتب قصة حياة الرجل ذي اللحية. ولكن يبدو أن الشيءَ الوحيد الذي لم تعرفه عنه قطُّ هو اسمه.»
قال روك: «هُراء. إن اسمَه مدوَّن في سجلِّ الفندق.»
أجابه القسُّ بينما كان يُومئ برأسه: «أعلمُ أنه مدوَّن فيه، وبحروف كبيرة أيضًا؛ إنه اسمُ رودل رومانيس. أما هيباتيا بوتر، والتي قابلَته هنا، فقد دوَّنت اسمها تحت اسمه بخط عريض، بحيث كانت تُشير إلى أنها تريد الهربَ معه؛ ودوَّن زوجُها اسمَه تحت ذلك، حين سعى خلفهما إلى هذا المكان. وقد سجَّل الأخيرُ اسمَه تحت اسمَيهما، وكأنه بذلك يُشير إلى معارضته هذا واحتجاجه عليه. أما رومانيس (الذي يمتلك الكثيرَ من المال، ذلك الرجل الذي يشتهر ببُغضه للبشرية واحتقاره البشر) فقد قدَّم رشوة للأوغاد من العاملين في هذا الفندق لكي يُغلِّقوا أبواب الفندق ويوصدوها ويحجزوا الزوج الشرعي في الخارج. وكما قلت أنت فعلًا، ساعدتُه أنا في الدخول إلى هنا.»
حين يعرف المرءُ شيئًا يقلب معلوماتِه رأسًا على عقب؛ كأن يعرف بأن ذيل الكلب هو ما يهزُّ الكلب، وأن السمكة تصطاد الصياد؛ وأن الأرض تدور حول القمر؛ فإنه يأخذ بعضَ الوقت قبل أن يسأل ما إن كان ما سمِعه حقيقة فعلًا. لا يزال المرء مقتنعًا بإدراك أن ما قيل له هو مقابل الحقيقة الواضحة الجليَّة. وأخيرًا قال روك: «تقصد أن ذلك الرجل القصير هو رودل ذلك الشاعر الرومانسي الذي نقرأ عنه دومًا؛ وأن الرجل ذا الشعر المجعَّد هو السيد بوتر من بيتسبرج.»
قال الأب براون: «أجل، وقد عرفت هذا في اللحظة التي وقعت عيناي فيها عليهما. لكنني تحققتُ من الأمر فيما بعد.»
ظل روك يفكر بعضَ الوقت ثم قال في النهاية: «بالكاد يمكنني أن أفترض أنك محقٌّ. ولكن كيف توصلتَ إلى هذه الفكرة على الرغم من هذه الحقائق؟»
بدا الخجل على الأب براون؛ فانزوى إلى كرسي وحدَّق في الفراغ، حتى ارتسمت ابتسامةٌ خافتة على وجهه المستدير الأبله.
ثم قال: «حسنًا، أنا لست رومانسيًّا في حقيقة الأمر — كما ترى!»
قال روك في فظاظة: «لا أعرف ما أنت بحق الجحيم.»
قال الأب براون بنبرة ودودة: «والآن أنت رومانسي. على سبيل المثال، ترى شخصًا يبدو وكأنه شاعري، وتفترض أنه شاعر. أتعرف كيف يبدو معظم الشعراء؟ أتعرف الالتباس الكبير الذي خلَّفه وجود ثلاثة أشخاص ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية ويتميَّزون بمظهر حسن في مطلع القرن التاسع عشر: وهم بايرون وجوته وشيلي! صدِّقني، قد يكتب المرء بالطريقة العامة: «أطبقت الحسناء بشفاهها الملتهبة على شفتيَّ.» أو أيًّا كان الذي كتبه ذلك الرجل، من دون أن يتصف هو بصفة الجمال. بالإضافة إلى ذلك، أتدرك كم يصبح المرء متقدمًا في السن حين يذيع صيتُه في أرجاء العالم كله؟ لقد قام واتس برسم الشاعر سوينبيرن بهالة من الشعر، لكن سوينبيرن كان قد أصبح أصلعَ قبل أن يسمع أحدث معجبيه الأمريكان والأستراليين بقصيدته عن خُصَل الشعر الذهبية. وكذلك كان الحال بالنسبة إلى دانونزيو. وفي الواقع، لا زال رومانيس يتمتع بمظهر حسن، كما ترى لو نظرت إليه عن قرب؛ إنه يبدو كرجل مثقف؛ وهو كذلك بالفعل. ولكنه أحمقُ لسوء الحظ، مثله في ذلك مثل الكثير من الرجال المثقفين. لقد سمح لنفسه بإهماله أن يُصبح أنانيًّا، كما أنه يعاني من مشكلات في الهضم؛ لذا فإن تلك السيدة الأمريكية الطموحة — والتي اعتقدَت أنها سترتفع إلى قمة جبل الأوليمبس مع إلهات الإلهام التسع بهروبها مع الشاعر — قد وجدت أن إمضاء يوم واحد أو اثنين معه كان كافيًا بالنسبة إليها. لذا فحين أتى زوجُها خلفها بحثًا عنها، واقتحم المكان، شعرت هي بسرور كبير لأنها ستعود إليه.»
تساءل روك قائلًا: «لكن ماذا عن زوجها؟ ما زلت متحيرًا بشأن زوجها.»
قال الأب براون: «أوه، لقد قرأتَ الكثير من روايات الشهوانية الحديثة.» ثم أغلق عينَيه جزئيًّا كاستجابة لنظرة الاحتجاج التي رمقه بها الآخر. واستطرد الأب براون قائلًا: «أعرف الكثير من القصص التي تتزوج فيها امرأةٌ بارعة الجمال من رجل عجوز، لكن لماذا؟ في هذه النقطة، تكون الروايات الحديثة بعيدة كلَّ البعد عن الحداثة، شأنها في ذلك شأنُ الكثير من الأشياء الأخرى. لا أقول إن هذا لا يحدث أبدًا، لكن ذلك نادر الحدوث الآن، إلا إذا كان ناتجًا عن خطأ ارتكبته تلك المرأة بنفسها. إن الفتيات في هذه الآونة يتزوجن ممن يحببن، خصوصًا لو كانت الفتاة مدلَّلة مثل هيباتيا. ومن هذا الذي تتزوج به فتاة مثلها؟ إن فتاة جميلة وثرية مثلها سيكون لها كثيرٌ من المعجبين؛ فمن ستختاره؟ تقول أكثر الاحتمالات بأنها ستتزوج وهي في سنٍّ صغيرة وستختار أكثرَ الرجال وسامةً ممن قابلتهم في حفل راقص أو في نادٍ للتنس. وفي الواقع، يتسم رجال الأعمال المألوفون بالوسامة في بعض الأحيان. لقد ظهر أمامها شابٌّ وسيم (يُدعى بوتر) وهي لا تُمانع إن كان تاجرًا أو لصًّا. لكن، وبالنظر إلى البيئة المحيطة، ستسلِّم بأنه تاجر على الأرجح. أيضًا، ومن المرجح كثيرًا أنه يُدعى بوتر. أترى، أنت رومانسيٌّ للغاية بحيث إن قضيتك كلها مبنية على فكرة أن شابًّا وسيمًا لا يُمكن أن يكون اسمه بوتر. صدِّقني، لا تُوزَّع الأسماء على البشر على النحو الملائم تمامًا.»
قال الآخر بعد أن صمت لحظة: «حسنًا، وماذا حدث بعد ذلك في اعتقادك؟»
نهض الأب براون فجأة من المقعد الذي كان قد تهاوى إليه؛ فعكس ضوءُ الشمعة قوامَه القصير على الجدار والسقف، فأعطى ذلك انطباعًا غريبًا بأن توازن الحجرة قد اختلَّ.
ثم غمغم وقال: «أوه، هذا هو لبُّ الأمر كله. هذا هو الشيطان الحقيقي، وهو أسوأ من الشياطين الهندية القديمة في هذه الغابة. أنت تظن أنني أقدِّم حجة لصالح أولئك الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية بأساليبهم الماجنة، وفي الواقع، فإن الشيء الغريب بشأنك …» ورمش بعينيه من خلف نظارته بسرعة ثم أكمل حديثه قائلًا: «إن أغرب شيء بشأنك هو أنك محقٌّ بطريقة ما.
أنت تقول فلتسقط الرومانسية، وأنا أقول إنني سآخذ فرصتي في محاربة الرومانسية الحقيقية، ربما لأنها قليلة ثمينة، خارج الأيام الأولى للشباب المتَّقدة الحماسة. أقول استبعد الصداقات الفكرية، واستبعد الارتباطات الأفلاطونية، واستبعد القوانين العليا لتحقيق الذات والبقية، وسأجازف أنا بتحمل المخاطر الطبيعية لما سأقوم به. استبعد الحب الذي لا يُعد حقيقيًّا، وإنما هو مجرد كبرياء وخيلاء وحبٍّ للشهرة وجذب للانتباه، وسنأخذ نحن فرصتنا في محاربة الحب الحقيقي — حين ينبغي محاربتُه — بالإضافة إلى الحب الذي هو مجرد فسوق وانغماس في الشهوات. يعلم القساوسة أنه سيكون هناك عاطفة لدى الفتية والفتيات، كما يعلم الأطباء أنهم سيصابون بمرض الحصبة، لكن السيدة بوتر في عقدها الرابع من العمر، وهي لا تهتمُّ كثيرًا بذلك الشاعر إلا لأنه مصدرُها للشهرة أو رجل الدعاية الخاص بها. هذه هي الفكرة؛ كان الرجل هو مصدر شهرتها. إن الصحف التي تعملون بها هي ما تسبَّبت في إتلافها، وكذلك رغبتها في أن تُصبح محطَّ الأنظار، ورغبتها في أن ترى نفسها متصدرة للعناوين، حتى ولو كانت تلك العناوين عن فضيحة، ما دامت أعلى منزلة وأكثر شهرة من الفضائح الأخرى. إنها رغبتها في أن تُصبح كجورج ساند التي يرتبط اسمُها أبد الدهر باسم ألفريد دي موسيه. وحين انتهت فورةُ رومانسية شبابها، وجدت أن ما لحِق بها هو خطيئة منتصف العمر؛ خطيئة الطموح الفكري. إنها لا تتمتع بأي نباهة أو فطنة، لكنك لست في حاجة للنباهة والفطنة لتكون مثقَّفًا.»
أضاف روك بتلقائية: «ينبغي أن أقول إنها كانت ذكية من جانب واحد.»
قال الأب براون: «أجل، من جانب واحد. من جانب واحد فقط. من الجانب العملي، وليس في أيِّ جانب من الجوانب التي لها علاقة بهؤلاء اللاتينيين المساكين هنا. أنت تلعن نجوم السينما وتقول لي بأنك تكره الرومانسية، فهل تعتقد أن نجمة السينما — التي تزوجت للمرة الخامسة — مخدوعة بأي رومانسية تُذكر؟ مثل هؤلاء يُهَيمِن على تفكيرهم التوجه العملي؛ إنهم عمليون أكثر منك. أنت تقول إنك معجب برجل الأعمال البسيط الصارم، فهل تعتقد أن رودل رومانيس ليس برجل أعمال؟ ألا ترى أنه كان يعلم — تمامًا كما كانت تعلم هي — مميزات الإعلان عن هذا الشأن العظيم مع مثل هذه الجميلة المشهورة؟ كما كان يعلم جيدًا أيضًا أن سطوته عليها لم تكن مستقرةً بما يكفي؛ وهذا يفسِّر قلقه ورشوته للخدم في الفندق ليغلِّقوا الأبواب. لكن ما أريد قوله أولًا وأخيرًا هو أن الفضائح ستقل كثيرًا لو توقف الناس عن إضفاء الطابع المثالي على الخطيئة وظهروا بمظهر الخطَّائين. إن هؤلاء المكسيكيين المساكين يعيشون كالحيوانات في بعض الأحيان، أو ربما يخطئون كالبشر، لكنهم لا يضفون الطابع المثالي على الأشياء. ينبغي أن يعترف المرء لهم بهذه الأفضلية على الأقل.»
ثم جلس الأب براون مرة أخرى فجأةً كما وقف، وضحك بطريقة تعبِّر عن أسفه وقال: «في الواقع أيها السيد روك، هذا هو اعترافي الكامل؛ هذه هي القصة الفظيعة الكاملة عن كيف أنني ساعدت في تسهيل الهروب لاثنين في علاقة رومانسية. ويمكنك أن تفعل ما تشاء بها.»
قال روك بينما انتفض واقفًا: «في هذه الحالة، سأذهب لغرفتي وأُجري بعض التعديلات على تقريري. لكن، أولًا وقبل كلِّ شيء، ينبغي أن أتصل بالصحيفة وأخبرهم أنني كنت أزودهم بحزمة من الأكاذيب.»
لم يمرَّ أكثر من نصف ساعة، بين اللحظة التي اتصل فيها روك بصحيفته ليبلغَهم بأن القسَّ كان يساعد الشاعر للهرب مع السيدة، واللحظة التي اتصل فيها بهم ليخبرهم أن القسَّ قد منع حدوث الشيء نفسه، لكن في هذه الفترة القصيرة من الوقت ظهرت فضيحةُ الأب براون وتضخمت وتناثرت مع الرياح. كانت الحقيقة لا تزال متأخرة بمقدار نصف ساعة عن الافتراء الذي نال من سُمعة الأب براون، ولم يكن بمقدور أحد أن يتيقَّن متى وأين ستلحق الحقيقة بالافتراء. إن ثرثرة الصحفيين وشغف الأعداء تسبَّبَا في نشر القصة الأولى في المدينة، حتى قبل أن تظهر في أول شكل مطبوع لها. كان روك بنفسه قد صحَّح القصة وأنكرها في الحال في رسالة ثانية توضح كيف كانت نهاية القصة الحقيقية، لكن هذا لم يشكِّل بأي حال من الأحوال يقينًا بأن القصة الأولى قد وُئدَت. ويبدو أن عددًا كبيرًا جدًّا من الناس قد قرأ الطبعة الأولى من الصحيفة لا الثانية. وعاودت فضيحة الأب براون القديمة أو قصة القسِّ الذي دمَّر عائلة بوتر في الظهور في كل أرجاء العالم وكأنها نارٌ تنبعث من بين الرماد. وقد ظل المدافعون الدءوبون عن الأب براون يراقبون القصة، ويحاولون معالجتها بإنكارها وفضح كذبها وإرسال خطابات احتجاج عليها. وفي بعض الأحيان، كانت هذه الخطابات تُنشَر في الصحف، وفي أحيان أخرى لم تكن تُنشر، لكن لم يعلم أحدٌ عدد الناس الذين عرفوا بالقصة دون أن يعرفوا بتكذيبها. كان من الجائز وجودُ أعداد كبيرة من البسطاء السذَّج الذين يعتقدون أن الفضيحة المكسيكية كانت حادثة تاريخية مألوفة مسجَّلة كمؤامرة البارود التاريخية. ثم يأتي شخص ليُظهر لهؤلاء السذَّج حقيقة الأمر، فقط ليكتشف أن القصة القديمة قد ظهرت مجددًا بين ثلة قليلة من المثقفين، الذين يبدون وكأنهم آخر من يمكن أن تنطليَ عليهم خدعتها. وهكذا ظلت هاتان الصورتان عن الأب تتلاحقان في كل أرجاء العالم إلى الأبد؛ الأولى عن مجرم بذيء هارب من العدالة، والثانية عن شهيد مشوَّه بفعل افتراء في حقِّه، في هالةٍ من محاولات لردِّ اعتباره. لكن أيًّا من هاتين الصورتين لا تمثِّل الأب براون الحقيقي، الذي لم يكن مشوهًا على الإطلاق، وإنما كان يسير في الحياة متثاقلًا بصحبة مظلته القوية، فكان يحبُّ الكثير ممن يقابلهم، وينظر إلى العالم بكل ما فيه وكأنه رفيق له وليس قاضيًا يُصدر أحكامًا بشأنه.