المحادثة الأولى
حَكَى الهُدهد منبئ الأنباء، وشيطانُ بعض الشعراء، قال: أكثرتُ مخالطة الناس حتى ندمت، وأطلْتُ النظر في الكتب حتى سئمت، واشتقت إلى عِبرة مرموقة موموقة، وحكمةٍ من نفسها مَسُوقة. آخُذُها ولو من سُوقة، لا مطروقةً ولا مسروقة؛ فخرجت إلى الأهرام في وقتٍ من أوقاتنا الموصوفة، ويوم من أيامنا المختارة، ذَهَب نهارُه إلا أواخره، وتناوَبَ على الجو صاحيه وماطِرُه:
فبلغتُ فضاءَها، وإذا ذهبُ الأصيلِ عليه يزهو آونة، ويصدأ بالغيم آونة، والشمس صفراء في الأفق منكسرة الأشعة، قد كادت ولَمَّا تفعل، كأنها عين الأشقر الأحول، فوثبتُ إلى الهرم الأكبر، وحططت فوق حجر، ثم تَقَصَّيتُ النظر، فكانت فاتحة العِبَر، وباكورةَ العظات الكُبَر؛ إذ رأيت السُّيَّاح حوالَيِ الأثر، يرتعون في الأصل ويلعبون، وينزلون عن الإبل ويركبون، وقد ضَفَتْ عليهم ثيابُ الكبرياء، وجرُّوا ذيول الزهو والخُيَلاء؛ فغضبتُ من رؤيتهم على هذه الصورة، وعَيْثِهِم في القبور بعد عبثهم بالجثث المقبورة، فقلت: «أيتها الحجارة الخالدة، اسخري من هؤلاء كما سخرتِ من قمبيز وخيله، واستهزئي بهم كما استهزأتِ بنابليون وجنوده!»
قال: ثم وقفت أتأمل قبور الملوك العظام، وأذكر عبثَ الأنام لا الأيام، وأعجب للأهرام — وهي من عمل الأسرة الرابعة، وبنيانُ المصريِّ في أول عهده بالحياة وبداية دخوله في الحضارة — كيف رسخت في الأرض رسوخَه في العلم، ووقفت للدهر وقوفه في الفن، وكلما تأملتها جزتني العِبرة عن النظرة، والعظة عن اللحظة؛ فرأيت النعيم كيف يزول، والحال كيف يَحُول، والدولة كيف تَدُول، والمُلْك الكبير إلامَ يَئُول، وبعث الموقفُ مني فقلت:
وأدَمتُ النظر إلى الأهرام، لا لعِظَمٍ في الجِرْم وفخامةٍ في البُنيان، ورسوخٍ في الأرض وطولِ زمان؛ فإن استعظام رؤية الأجرام من خلائق الصبيان، لكن كمرآةٍ أرى فيها قدماء المصريين كما هم في الأعصر الأُوَل، ولَمَّا يكتملوا دُوَلًا أربع، فلا أرى إلا صورًا واضحة، وأشباحًا لائحة؛ ثم أنظر فيها المصريين الأحياء وكأنما أتأملهم في مرآة مُحدَّبة مُقعَّرة؛ صورٌ ممسوخة، وأشباحٌ مُعْوَجَّة، وأعضاء كمختلط الأشلاء من ضياع التناسب، وما اختلف الزُّجاج لكن هي الأخلاق تُحسِّن وتُقبح، وتُعلي وتُسفل، وتُقَوِّم وتُعَوِّج، وتُريك من قومٍ ما لا تُريك من آخرين؛ ما أبعد ما بين الأصل والفرع، وشتان ما بين الوالد والمولود؛ ذلك قَبيلٌ شادَ وسادَ، وأجار من البِلَى الأجساد، ونشر سلطانه على البلاد والعباد، وأخذ لآثاره من بَعده ميثاقًا من الآباد، حياته للموت وموته للحياة، يعمل للذِّكْر، ويهيِّئ للأحاديث، ويترك للأبناء، ويعلم أن السِّيَر حياة ثانية في هذه الدار الفانية، وأن ليس الموت إلا سَفَرًا من الأسفار، ونقْلَةً من دارٍ إلى دار:
ونحن معشر الأبناء فيما نزعم، وذراري المصريين القدماء فيما نتوهم، أمة نيام، لا نعرف المُلك إلا في الأحلام، كأنَّا وُلاة العهود شابُوا وآباؤهم قيام؛ يومنا يوم العاجزين، وغدُنا غدُ اليائسين، وأمسُنا لا للدُّنيا ولا للدين؛ معنى الحياة عندنا شيء باطل، وطرفاها نعيمٌ زائل، وماهيتها أيامٌ قلائل، لا ندَّخر صالحاتٍ ولا باقيات، ولا نرجو عُلُوًّا في حياة ولا ممات، يترك أحدُنا لولده من وجْدِه، ولا يترك لهم من مجده!
قال الهدهد: وما لبثت الشمس أن غربت عن بلادٍ وطلعت على بلاد، فآفاقٌ في مهرجان وأُخَرُ في حِداد، فحدثت نفسي بالانثناء، فرارًا من وحشة الظَّلماء، لكني ما هممت حتى شعرت بانتفاض طائر من الجوارح، وسمعت هاتفًا يقول: يا منادِيَ الحَجر، ومُناجيَ الأثر، أخطأتك مصدوقةُ الخبر، وغابت عنك أمهاتُ العِبر، هلَّا قلتَ في شكوى الحال ونجوى هذه الأطلال:
وأمسك الهاتف عن الكلام، فالتفتُّ مذعورًا لعلِّي أرى على المكان شبح إنسان، أو خيال شيطان، فلم أرَ غير نَسْر، مستجمع في وَكْر، نَسَج عليه الدهر، وهو يرنو بصفراوين كالتِّبر، في كلتيهما إنسانٌ كنقطة من حبر، فدنوت منه وتأملت فيه، وإذا هو قد وَهَن منه العَظْم، وتناثر الريش من الكِبَر، وشد مِنسَره إلى ساقَيه بأسباب من الهرم، وأكل على جُؤْجُئه الزمنُ وشَرِب القِدم؛ فقلت: لعله نوحُ النُّسور، أو بعضُ ما حمل نوحٌ معه من الطيور، وابتدرت خطابه فقلت: سلامًا أيها الشيطان! إن كنتَ لُبَدَ لُقمان، فإني هُدهد سليمان.
قال النسر واستضحك: افتريت على النبيين والطير، وانتحلت لي ولك ما للغير، أنا آدمُ الشعراء ولا إطراء، وأولُ من نَطَق بالقافية الغَرَّاء فوق هذه الغبراء!
قال الهدهد: وكنت لم أفقه ما رمز إليه، ولم أعلم مُراده من بيتَيه، فبشرت نفسي وقلت: شيطانٌ قديم، فلأَعْلمنَّ منه ما لم أعلم، وفوق كل ذي علم عليم. ثم قلت أخاطبه: الأيام أيها النَّسر مدارس الأحلام، ولا يستوي في العلم كهلٌ وغلام، فلا أستحيي أن أسألك مَن أنت؛ فقد استبهم عليَّ ما بيَّنت؟
قال: أنا من سَمَّيتَ في قريضك، وكرَّمتَ في شعرك، وبعثتَ في قوافيك؛ فضلٌ لك لا أنساه، وما كنت تراني لولاه.
قلت: لئن صدقتْ مزاعمي، فأنت الروح الأكبر، والشيطان الأشهر، والنسر المعَمَّر، بنتاءور شاعر الملك رعمسيس، وحامل لواء البيان في طيبةَ ومنفيس.
قال: إنه أنا، وإني بك لقرير، كنت أراك تستمع لواعظ الدهر، فوق هذه المنابر، وتجمع الخَبَر والخُبر عن ذلك الملك الغابر، والسلطان الغائب الحاضر، وجديرٌ بأقدم المقابر أن تعظ الزائر والعابر؛ فهمستُ في أُذنك بالبيتين، أريد أن أريك ما لم ترَ عين. انظر كيف ترَ مَنْف؟
قلت: أطلال بالية، ورسوم عافية، عندها قرية كبعض القرى، لا تكاد تحسب من الثرى.
قال: فكيف عين شمس؟
قلت: مَزارع ورمال، لا جلال عليها ولا جَمال.
قال: فانظر الفسطاط كيف تراها؟
قلت: بُيَيتاتٌ وأديرة، وديار مستنكرة.
قال: فما هذه البلدة الزاهرة، والروضة الناضرة، والذُّرِّية السافرة؟
قلت: مدينة القاهرة.
قال: لمن هي؟
قلت: لغير أهلها.
قال: هي إذن في حُكم المدن الغابرة، عواصمُ أربع، كن مقارَّ دُول، وكراسيَّ ممالك، وقواعد حكومات، تُغِير إحداهن الشمس بأبَّهة الملك وعظمة السلطان، حضرت الأهرامُ يومَها وأمسَها، وشهدت مصرعها وكانت رمسها، فاسأل ربك لقومك أن يكفيهم نحسها!
قال الهدهد: فأطرقت أتأمل في معاني هذه الكلم الجوامع، وأتدبَّر مغازي هذه الحِكم الروائع، وأنا أستعرض كُرة الأرض في خاطري، وأقلب صفحات التاريخ في فكري، فلا أجد لفضاء الأهرام مثلًا فيما وصفه النسر، إلى أن أخرجني من إطراقي بأن قال: أرى الهدهد بين عِبرة جلَّت حين تجلَّت، وفكرة في المدائن الأربع كيف تولَّت، فهل لك في كلماتٍ تُمثِّلك وقوتك في الظلمات، وتُريك الأمم في حال ذهابها، كيف ينقصها الآلهة من أخلاقها وآدابها.
قلت: لو كان فيهما آلهةٌ غير الله لفسدتا، إني أراك في ضلالك القديم!
قال: قطعتَ حديثي لأمر لا يعنيك، لك ما تعبد ولي ما أعبد، ولا يَزِرُ النسر وِزْرَ الهُدهد؛ فإن كان لك في الصحبة فعلى ثلاث: ألَّا تُجري الأمور على هواك، وألَّا تنظر فيها بمقتضى طباعك، وأن تأخذها ولا تسأل عن أسبابها؛ فهذه الثلاثة تُخرِج من العلم إلى الجهل، فكيف تخرج من الجهل إلى العلم.
قلت: ذلك لك يا شاعر الآلهة فأنجز الآن ما وعدت.
قال: هلك الفراعنة وخلَت الأسِرَّةُ منهم، وذهبت دُولهم، ونُبشت قبورهم، وعُرِضت جُثثٌ عزَّت عليهم على الناس، ومأتمهم بينكم معاشر المصريين قائم لا ينفضُّ، وما مقعدكم منه إلا كالمُعَدِّدة: تبكي ولا دمع، وتندب ولا حزن، وتهتف بما لا تعرف من أخلاق الميت وصفاته، وسُنَّةٍ سارها في حياته، يفخر أحدكم بالعظم الرميم، ويتحلى في حديثه بالمجد القديم، ويُسَرُّ وهو عُطلٌ من الغنى عديم، بمبالغ غيره من اليسارة والنعيم، فإذا ذكر المصريون القدماء، رفعتم الأنوف للسماء، وزعمتم أنكم سلالة الفراعنة العظماء، لكم التاجان وعرشكم على الماء؛ وإذا جرت أحاديث العرب، قلتم بيننا أقربُ النَّسب، ولنا ما تركوا من حَسَب، وما هو إلا سبب قطعتموه، ودِين ضيَّعتموه، ولسان عربي بالعجمة بعتموه؛ وإذا سُمِّي جد الأتقياء، وواسطة عقد الأنبياء، كنتم كلكم لآلئ الشرف، وما خرج قط خَزَف من ذلك الصَّدَف، وإذا نُصر التُّرك في حرب، وتركوا دَوِيًّا في الشرق والغرب، كنتم السيوف والأكُفَّ والضرب، وما ذقتم لها من حرب ولا كرب؛ وإذا مات ملكٌ ليس منكم ولستم منه، ولا يُسأل عنكم ولا تسألون عنه، وخلَّف لقومه سيرة تسير كالأمثال، وخلَّى مفاخر لن تبيد ولن تُنال، كنتم المؤبِّنين الشعراء، لغيركم الميراث وعليكم الرثاء!
قال الهدهد: وبينما أنا في الإصغاء، آخُذ الحكمة الغرَّاء عن آدم الشعراء، إذ قَطَع الحديث وتركني مفكرًا في كل ما هاج بي ذكره من قديم وحديث، ثم صرفني على أن ألتقيه في مَنْفَ أصيلَ الغد، وإن غدًا لناظره لقريب.