المحادثة العاشرة
قال الهدهد، جارُ الأثر، ونجِيُّ الحجر، يتطلبُ فيهما العِبر، ويأخذ الخبر عمن غبر: ولما أصبحت أعدت أمس في يومي، كما يفعل قومي، فباشرت أشغالًا لا تنفع، وأخذت بأعمال لا ترفع، وأكلت كأمسي، وشربت كالبارحة، ولقيت الوجوه المألوفة، وجلست المجالس المعتادة، وقرأت جرائد مشحونة الصفحات، أفكهُ ما فيها الإعلانات!
إلى أن سرى الأصيل، فتنقلت من شاطئ إلى شاطئ، ولفظتني ضفة إلى ضفة؛ وكنت أخذت من كلمة النسر في صرفي، وما رَسَم له ربُّه من الوقوف بي على الفسطاط، والإشراف بي على معالمها، واطلاعي على مواكب دولة العرب فيها، أن بساط الرؤيا قد انطوى فيما يتعلق بمنف والدول الأولى، وأنَّا قادمان على الفسطاط، مستقبلان وجوه العرب، وافدان على هذه الدولة التي وصف الرشيد ما كانت عليه من انبساط الظل، وامتداد النفوذ، واتساع الملك والسلطان، في قوله لغمامة ظللته ولم تمطر، وكان يرجو أن يستدفع الحرَّ بمطرها: «أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يُجبى إليَّ!» وفي ضوء هذا الفخر سرى الإسبانيون في أيام دولتهم، حيث زعموا الشمس لا تغيب عن أملاكهم؛ ثم زالت هذه الكلمة عنهم إلى الإنكليز، فهي آية ملكهم اليوم؛ ثم ترثها أمة غيرهم؛ سُنَّة الله في خلقه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
قال: فلما صرت في منف، رأيت الدهر قد جعل عاليها سافلها، وصيَّرها كبعض القرى، ولم يَبقَ عليها من أنقاض ذلك البنيان الباذخ، وبقايا تلك العمارة الكبرى، إلا آثارها هنا وهنا؛ منها القائم وكان قاعدًا، والقاعد وكان قائمًا، وبعضها مشوَّه في أحسن محاسنه، منقوص من أطرافه، أو مفقود تفتش عن مكانه لا تجده، فقعدت أعجب للدهر كيف طال على ذلك الطَّول، وعلا فوق تلك العلياء، وأتقصَّى النظر فأرى قصور الرومان موحشة مهجورة، وكانت بالأمس آهلة معمورة، أخنى عليها الذي أخنى على منازل الفراعنة من قبل، وأنظر أكواخ الفلاحين تموج بنسائهم وصغارهم كبيوت النمل، وقد سكنوا إلى الدولة القائمة كما سكنوا إلى الدول من قبلها، فأقول في نفسي: «هكذا الحكماء وإلا فلا، فلو رُدَّ أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه إلى الحياة — وهو أزهد خلق الله في الدنيا — لما أخذ حقيقة الزهد إلا عن هذه الأمة!»
وبينما أنا أنظر حولي بعينٍ تعتبر، وأخرى تستعبِر، إذا صوت النسر يستسيرني إليه، فوافيته، وكان عند قدمَي رمسيس وهو من حجر، وعَهِدته بالأمس عند رأسه وهو بشر مُحْتضَر؛ فابتدر خطابي يقول: ما بال الهدهد يستعبر؛ أيُبكيه من الأيام أن تتصرف بالأنام، ورحاها تطحن على الدوام، وسيفها على رقاب الأقوام في الحرب والسلام؟
انظر يا بُنيَّ إلى الحسد كيف حمل الأمم على الإزراء بالقوم بعد اندثارهم، والعَيث في ديارهم، والعبث بآثارهم، وهدم البقية الباقية من منازلهم؛ فقاتلوا الحجر، وحارَبوا الأثر، وسبَوا التماثيل والصور، ودخلوا على الأموات الحُفر؛ ولو استطاعت إحداهن أن تدَّعي صُنعًا لبعض هذه الآثار لفعلت، ولامتلأت منها فارس، فأتِينا، فروما؛ فقد صدر عن الرومان أنهم كانوا يستعيرون رءوس التماثيل مما ترك اليونان، لأجسامٍ مما صنعت أيديهم، وبالعكس، ثم يوهمون أن الكل من عملهم، وهذا عند ذكر السرقة غاية. أتى على شيطاني يا بني عشرون قرنًا يجاور الآثار، ويندب على طلول الديار، وهي نهب بيد البِلى والدمار، فلم أعهد أن أيدي العاثين انتفضت منها، وأكفَّ المخرِّبين انكفَّت عنها، إلا منذ هبط العرب أرض مصر.
قلت: إنك لتُطرِي القوم يا مولاي.
قال: وإنهم لأهلُه يا بني، فما حكمَ بين الناس أعدلُ من عمر، ولا سادهم أفضلُ منه، ولئن صدق أن في القول شيئًا من القائل فعمر هو الإنسان الكامل، حيث يقول: «رأيت جميع البِر فلم أرَ بِرًّا أفضلَ من الرحمة!» والرحمة في اعتقادي أعلى مراتب الأخلاق، وقد جازت بعضَ الأنبياء في بعض الأمر ولم تَجُزْ عمر في شيء منه.
قلت: إني إذن لسعيد يا مولاي أن أعلم من أمرهم بالمشاهدة والعِيان، ما أضيفه إلى معرفتي في التاريخ.
قال: لا نزال في إجلالهم ووقارهم، والاعتناء بأمرهم، والنظر فيما يأتون ويذرون، والسكون إلى ظلهم في مصر، حتى يقتلوا عثمان، ويفتك المصريون منهم بالوقور في الصحابة، الكريمِ في الأصهار، السمحِ في الخلفاء، الكبير في الشيوخ؛ فإذا فعلوا ودَّعنا أيامهم، ونبذنا جوارهم، ووكلناهم إلى السماء تأخذهم بدمه، فتصب عليهم المصائب، وتُنزل بهم المحن، وتغمسهم في الفتن، وتبدلهم من الخلافة الحقة بالملك الباطل، وتردهم إلى نعيم الدنيا الزائل!
قلت: لقد رضيتُ بما رضيتَ لي يا مولاي، وحسبي أن أعيش يومًا واحدًا في خلافة عمر، وولاية عمرو.
قال: الآن نتهيأ للزيارة، ونستعد للخروج إلى مقر الإمارة، فسطاطِ الأمن والعمارة؛ ضالةِ عمرو التي طالما نشدها، ولم يألُها طلبًا حتى وجدها.
قال: كذلك زَيَّن عمْرو لعُمر فتح مصر، وكذلك فتحها؛ والتاريخ — كما قيل — مكرَّر معاد؛ وقد حدثك رمسيس عن الإقدام، وذكر لك فضله وشرح لك مزاياه، وهذان دليلان قاما عرَضًا في الحديث على صدق قوله، وصواب رأيه، وما كان رمسيس ليعرف الشوقَ ولا الصبابة، لولا أنه كابدهما وقاسى، وكان في مقدمة رجال الإقدام، فإن أردتم ببنيكم خيرًا، وضعفت قلوبكم أن تتمادوا في الجناية عليهم، فربُّوهم منذ الصغر على الإقدام؛ فإنه — كما قال رمسيس — سعادة الأفراد وحياة الأمم.
قلت: أوشك الأصيل يا مولاي أن يفيض ذهبه، فإن أمرت انتقلنا إلى الفسطاط.
قال: تلك مقدمة لم يكن لنا عنها غِنى؛ والآن لك أن تطير معي إلى حيث الإسلام يحكم، والأخلاق تسود.
قلت: إن أذن مولاي بدَّلنا هذا الزي بغيره، لنأمن نظر الرماة، وزجْرَ الجماعات.
قال: الناس والطير وهذه الحجارة — وأومأ إلى الآثار — في كلاءة رجل يتقي الله في السماء، ويخاف عُمرَ في الأرض، فلو نالنا أحد في حِماه بظلامة، لفزعنا بالشكوى إلى صاحب الإمامة، ولأنشدناه: «جاءت سليمانَ الزمانِ حمامة!» على أنه لا بأس بتغيير الزي؛ فأيهما تختار: آلقبطي، أم العربي؟
قلت: الثاني يا مولاي؛ لأنه لباس الفاتح، وشعار الحاكم، ينبئ عن عزِّ الملك، ويخبر عن سناء الدولة، وقد خلفت جنود «الملك إدوارد» في مصر يتنحى السَّراة لأحدهم حتى يعبُر كأنه في رداء «ولنتون»، أو مطرف «نابليون» وإن مست طرفَ ثوبه يَدٌ مسها السيف.
قال: هذا ليس شأن عمرٍو وأصحابه في مصر؛ فهم المؤمنون؛ العزة لهم ولمن في ظِلهم بالسواء، وقد كان الرومان قبلهم كمن ذكرت من الإدلال على هذه الأمة، والمرح في هذه الأرض، على ما بينهم وبين القِبط من مودة في الدِّين ورحمة، فكان الصليبُ يعلو على الصليب، والناقوس يخرِس الناقوس، والكنيسة تزري بالكنيسة؛ وكان مذهب الرومان في عبارة المسيح هو الدين كله، وما سواه فضربٌ من الهذيان يُسخر من أهله ويُعتدى على أصحابه؛ وكان الأمير في القبط يحكم فيه سوقة من الرومان، وكانت الحكومة الكبرى في روما عمياء عن هذا الظلم المبين، صماء عن تظلُّم المصريين، إلى أن قدم العرب مصر، وتم لهم على الرومان النصر، واطمأن عمرو بالولاية، وسكن أولئك البؤساء إلى حكومته السمحاء، ودخلوا في الإسلام أفواجًا، يحببه إليهم تسَمُّحُ العرب، وتحلُّم زعيمهم، واجتماعهم على كلمة الإسلام، وتَساويهم فيما جاء به من الأحكام، وكونه بينهم كالحقيقة لا تقبل الانقسام، ولا يجادل فيها الخاص فكيف العام! وأن سيرة العامل وأصحابه فيهم هي أقرب مما أراد المسيح عليه السلام من الناس: أن يتساوسوا، ويتصافحوا، ويتعاونوا، وأن يكونوا رحماء بينهم؛ وأبعدُ عما أراد القسوس بالناس منذ القدم، من شغب التمذهب، وفتنة الانقسام والتفرق إزاء الحقيقة الباهرة. العرب في مصر بضعة آلاف، وفيهم المقاتِلة؛ فكيف فتحوا، ثم كيف أصلحوا، ثم كيف وطدوا فيها بنيانهم، وعلَّموا أهلها لسانهم، ثم كيف استأصلوا الوثنية من هذا الوادي، وزحزحوا منه النصرانية، وأرسوا فيه الحنيفية؟ كل ذلك في أيامهم الأُول، بل في حكومة ابن العاص. إذا أضفت إلى ذلك أن الدعوة إلى الإسلام لا تقوم على الحوْل والحيلة، علمت أن العرب تعلَّموا حقيقته ثم علَّموها الناس؛ فكانوا حيثما استعمروا من الأرض كالمصباح النقي، يحمل النور البهي.
قلت: أرى الحديث فتح بعضه بعضًا يا مولاي، فماذا اخترت لنا من الزِّيِّ؟
قال: قد انتُدِبنا يا بني للنظر والاختبار، واستقراء أحوال العرب في هذه الدار؛ فما لنا لا نتلبس بلباس المحكوم، ونتردَّى ثياب المؤتمِر؛ لكي ننظر بعينيه، ونسمع بأذنيه؛ فإن كان شقيًّا بدولة القوم، تعِبًا بحكومتهم، عرفنا ذلك بالخُبرِ لا الخَبر، وشفعنا له عند عَمرٍو أو عُمر؛ وإن كان ناعمًا في ظلِّهم، راضي العيشة على عهدهم، أخذنا بنصيبٍ من حاله، ووقفنا على حقيقة أمره.
قال الهدهد: وبينما نحن في الحديث لم نبرح المكان، هتف هاتف بالأذان، ودقت بالناقوس يدان، فلم أدرِ إلا ونحن على الفسطاط، في زِي قِسيسين من الأقباط؛ فضحكت من نفسي، وعجبت لاختلاف يومي وأمسي، والتفتُّ إلى النسر فرأيته يبتسم كذلك؛ فتمثَّل بهذا البيت من الشعر، وهو من قصيدة لي في مديح العباس:
قلت: هذا مما حَلَّيت به العباس يا مولاي، فكيف نزعته عنه وكسوته عمرًا؟
قال: بضاعة عمرٍو رُدَّت إليه؛ فلا والنفسِ والخلود، ودينِ الآباء والجدود، ما فُتح لأبُوَّة العباس في مصر إلا بسرِّ هذه الراية، ولا دخلوها إلا ليعزُّوا هذه الآية؛ على أن الشعراء كثيرًا ما يمدحون زيدًا ويعنون عَمْرًا؛ وقد صدق صاحبنا من حيث كذب في قوله:
قلت: إنك لتُزرِي بأصحابك يا مولاي.
وتراه يقول بعد ذلك:
وما أحسن هذا الشعر وألطف هذا التصوير، لو لم يتجرد فيه الشاعر من رقة القلب ورحمة النفس وكرم الشيمة؛ فهو يبيح ممدوحه دماء العباد، ويُملكه أعمارهم، وينوِّه بسفح الدماء وسفكها، ويتمنى له بعد ذلك الانفراد بالخلد الذي كرهه أبو العلاء لنفسه حيث قال:
فهلا هجر أبو الطيِّب الصناعة إلى الروحانية التي هي حقيقة الشعر ورجاحة الموزون والمراد من المنظوم، والروحانية لا تقوم على مثل هذه الجفوة والقسوة والغلظة، لكن تكون بمثل ما قال في مثل هذا المقام:
تأمَّل يا بني هذين البيتين، وانظر كيف هدمت الصناعة الأول، ورفعت الروحانية الثاني؛ وأقبح من بيت المتنبي في استباحة دم الأفراد، بيته في استباحة جماجم الملوك:
فما قتلة «كارنو» و«همبرنو» و«إليزابيث» و«مكنلي»، وما اقتضتهم الفوضوية من صدور الملوك والملِكات وجنوبهم وأحشائهم، بأشنع ولا أفظع ولا أبغض إلى السموات وما أظللن، والأرَضين وما أقللن، من نسر صاحبك؛ وإني لأعجب للفوضويين كيف لم يهتدوا لهذا البيت فيتخذوه شعارهم، أو يتخذوا فيه قرارهم!
قال الهدهد: ورأيت الناس يُهرَعون إلى صلاة المغرب، فندمت على ما فاتني من المشاهدة والعيان في هذه الزورة الأولى، وقلت للنسر: قد كان لنا يا مولاي غِنًى عن أبي الطيب وحديثه، والنظرِ في طيِّبِه وخبيثه، لا سيما وهذا أول أصيل قضيناه على الفسطاط.
فأخذ النسرَ من عبارتي الغضب، وقال: أحدِّثك عن شعر العرب وشاعرهم، ونحن قادمون على دولتهم في ابتدائها بمصر فتزعم أنني حِدتُ عن الغرَض، وخرجت عن الموضوع! وما الشعر والبيان إلا عنوان الأمم، يُستدل بهما عليها.
ثم تثاءب النسر وقال: موعدنا غدًا مجلس عمرو. فما هي إلا إغماءة، ثم إذا أنا بحلوان.