المحادثة الحادية عشرة
قال الهدهد: وكان موعدي مع النسر أن نلتقي في مجلس عمرو، فلما كان الأصيل خرجت إلى الفسطاط، في زي قِسيس من الأقباط، كما سبق بذلك الاشتراط؛ فحين بلغت مدينة ابن العاص، التي فتحها للإسلام بالرأي قبل الفتح بالسيف، وافيت مقرَّ الإمارة، وهناك ما كان أسهل الوصول، وأيسر الدخول! رُفعت الحُجُبُ بين عامل عمر وبين الزُّمَر؛ واقتدى به وجوه العرب في سلوكهم؛ والناس على دين ملوكهم؛ فاستقبلت مجلسًا أليَقَ بالوعاظ والعلماء منه بالملوك والأمراء؛ وقدمت على أميرٍ تاجه العمامة، ومطرفه القباء، وصولجانه السيف، وكرسيه التراب، وحاشيته الأصحاب، وقصره خيمة ممدودة الأطناب؛ يحيط به العرب وكأنه أحدهم، وهو زعيمهم في مصر وسيدهم؛ وكان النسر بين يديه، قد سبقني إليه، وهو يبالغ للعامل في الخطاب، ويلقي السؤال ويأخذ الجواب؛ فسمعته يقول له: هذه دنياكم يا ابن العاص، لا تغترون بها، ولا تحفلون بحبها؛ وإنها لَدنيا العقلاء، وطَلِبة الحكماء، فكيف دينكم؟
قال: أسهلُ وأيسر وأسمح: الشهادة وهي كلمة، والصلاة وهي عصمة، والزكاة وهي رحمة، والحج وهو حكمة؛ وما سوى ذلك فزيادة في العبادة، أو بدع تأتي بها الأيام، وأعراض لا يصدأ بها جوهر الإسلام.
قال: نعمت الدنيا لو لم تزُل عن الخلفاء، وتئُول إلى الملوك والأمراء؛ وحبذا الدين لو سلِم من عبث الفقهاء، وعيث الجهلاء.
قال: وما يمنعك أيها القسيس أن تستقبل هذه الدنيا وتدخل في هذا الدين؟
قال: إني أتبع دينًا يقال فيه في جملة الدعاء: «إيزيس لو لم تتوحدي لما كانت الأشياء، ولن تصل إلى حواشي حجابك يد الأحياء!» فالمعبود إذن واحد، وإن اختلفت الأسماء.
قال: أي الأديان هذا؟
قال: دين المصريين القدماء.
قال: عجبًا! أفي مصر بقية من القوم؟
قال: ليس للظالم دين يا ابن العاص، والرومان قوم ظالمون، دخلوا هذه البلاد فأفسدوا فيها، وهدموا ما بنى أصحاب المسيح عليه السلام بزهدهم وتجرُّدهم وتسمُّحِهم، من بنيانٍ للنصرانية متين، وركنٍ للمسيحية مكين؛ وغادروا مصر لا تخلو من عاكف في خاصة سريرته على دين آبائه وأجداده، وأنا من هذا الفريق.
قال: الآن أنهاك عن عبادة الأصنام، وآمرك بالدخول في الإسلام، فإما أن تقبل، وإما أن تُقتل!
قال: القتل أحب إليَّ يا ابن العاص، ولكن لي كلمة أقولها وأرجو أن تسمع لي.
قال: هات.
قال: على التمسك بالدين قامت دولتنا القرون الطوال، ومن شدة التمسك به أدركها الزوال، فذهبت من أجل «هرر»، وأمست إحدى العِبر، ولا أكره أنا أيضًا أن أذهب على الأثر.
قال الهدهد: فلم أدرِ بالأستاذ إلا وقد عاد سيرته الأولى، فإذا هو نسر يطير بين أعين القوم، وهم من أمره في أعظم الدهش، فلحقت به؛ وما زلنا ننفذ الأفق حتى هبطنا ناحية من الفسطاط، فتمثلنا كما كنا قِسيسين من الأقباط، وهناك التفت إليَّ وقال: كيف وجدتني وصاحبك؟
قلت: ألان لك وجه الأمر وخاشنَ آخره.
قال: بالحق ألان، وبالحق خاشن؛ لأن مقاومة الوثنية فرض على نُصراء العقل وحُماة الحقيقة، وقد تكفَّل بها الإسلام لسائر الملل.
قلت: قد كان لك غِنًى يا مولاي عن التكشف له، وإطلاعه على حقيقة معتقدك.
قال: أردت أن أريك كيف يحفظ القوم دينهم في الكبيرة والصغيرة.
عجبًا لكم معشر المصريين، أنتم أمة التاريخ وليس لكم فيه كتاب! هلَّا تشبهتم بآبائكم الأولين! فلقد كان الواحد منا أحرص الناس على حديثٍ بعده يؤبِّده في حجر يُشيده، وذكرٍ مع الزمن يخلده، في أثرٍ ينضده؛ وكان أحب الأعمال إلى ملوكنا وضع التاريخ وتدوين السِّيَر، لعلمهم بأن التاريخ دليل الأمم، ومرشد الشعوب، وإن قومًا لا يعرفون ماضيهم لا يكون لهم بحاضرهم اعتناء، ولا في آتيهم رجاء، أليس عارًا عظيمًا على الشرقيين، وفيهم اليوم العالم الذكي، والكاتب الألمعي، ألَّا يعلموا من سيرة «الأمير عبد الرحمن» المتوفى بالأمس، غير ما تنقله صحف الغربيين ومجلاتهم.
وإني أسترعيك لقضية لا تفوت أهل النظر في أحوال البشر، والباحثين في طبائع الاجتماع.
قلت: وما تلك يا مولاي؟
قال: يدهش الناظر المتأمل، والباحث المدقق، لما يرى من التفاوت البيِّن في الأخلاق، والتباين الظاهر في الطباع بينكم معاشر النازلين هذا الوادي في شمال أفريقيا، وبين أمة البوير سكان الجنوب؛ ويحار فلا يدري بأي الآراء الثلاثة يأخذ، وإلى أي المذاهب الثلاثة يرجع: أيذهب مع القائلين بفعل البيئة في الأمم، وتأثير الإقليم في الشعوب، وسلطان المقام على المقيم؛ فيحكم أن جار الليث أسد، وجار العيْرِ وتد؛ أم يجاري الذاهبين إلى أن اختلاف الطبائع ليس إلا نتيجة اختلاف الأجناس؛ أم يعتمد على رأي القائلين بأن العقل البشري — وهو مركز القوى المدركة في الإنسان، والنفس — وهي مهبط الفضائل أو الرذائل فيه — ليسا إلا هِبَتَين يشترك فيهما أصناف العباد، وإن تفرقوا في أطراف البلاد، وإنما يصح العقل بالتعليم الصحيح، وتقوم النفس بالتربية الحقة؟ على أنني إلى هذا الرأي الثالث أمْيَل، وعليه في اعتقادي المعَوَّل؛ فعليكم بالعلم، خذوه نافعًا دافعًا، واهجروا منه ما يُميت إلى ما يُحيي، واطلبوه لدنيا تعملون لها كأنكم تعيشون أبدًا، أو لآخرة تعملون لها كأنكم تموتون غدًا، وعليكم كذلك بالتربية، فإنها باب مدينة العلم، لا تُدخَل إلا منه؛ خذوا صحيحها ولا تأخذوا فاسدها، واطلبوها لأنفسكم؛ فإن كبرت عنها فلأبنائكم، فإن لم تكمل لهم كملت لأبنائهم من بعدهم؛ وكونوا الحفظة الذين تكرُمُ عليهم بلادهم في الشدة أضعاف ما تكرم عليهم في الرخاء؛ يبكونها بالدموع آونة، وفي القلوب آونة؛ لا يغفلون لها عن حرمة، ولا يقصرون لها في الخدمة؛ حبها لهم العشق، لا التفات فيه إلى ملامة، ولا قيمة معه للسلامة.
أعمار الأفراد قِصار، والأمم طويلة الأعمار؛ وآمال الواحد الفرد تفوت بموته وآمال الجماعة لا تفوت، وإنما هي لهم مثل الورق للشجر: يُنزعه حينًا ويُكساه حينًا؛ وما بنى قوم بناءهم في المجد ولا قامت سعادة أمة إلا على العلم والتربية؛ وهما إنما يحصلان في المدرسة، وليس ما يمنعكم من إنشائها؛ فإذا أنشأها غنيكم غير مسرف، ودخلها الكهل بالليل غير مستنكف، ولزمها الصبي بالنهار غير متكلف، وأخذتم العلم فيها كما يريد زمانكم الذي أنتم مخلوقون له أن يؤخذ، فقد استقبلتم الحياة من وجهها الحق، وأخذتم في التقدم العصري بالسبب الأوثق.
اللغة رأس مال الأمة في العلم والعرفان، والدين رأس مالها في التربية والأخلاق؛ فاجعلوا المحل الأول في مدارسكم لهذين؛ فالثمرات إنما تأتي بقدرهما. الإنسان إذا علم كان إنسان العين، وإذا جهل كان إنسان الغابة؛ والعلم إن لم يتأسس بالتربية كان لحامله محنة، وللناس فتنة؛ فاجمعوا بينهما في الدار، ثم في المدرسة، ثم في الحياة؛ تلك المدارس الثلاث الكبر؛ فأما الدار فالأستاذ فيها المرأة، وأما المدرسة فالمعلم فيها الرجل، وأما الحياة فالمربي فيها الزمن؛ فابدءوا بالنساء فعلِّموهن في الصغر يعلِّمنكم في الكبر، وربوهن في الطفولة يربينكم في الكهولة، ولا تنشئوا مدرسة واحدة للرجال إلا وقد أنشأتم مدرستين اثنتين للنساء.
إذا اشتغل الحليم بالسفيه شارف على السفاهة، وإذا اشتغل العالم بالجهول شارف على الجهالة، وأكثر ما ينتشر السفهاء والجهلاء، وأشد ما يكون إفسادهم وإيذاؤهم في الأمم وهي في بداية نهضتها؛ فمثلها عندئذٍ كالأنهار الكبيرة في أزمنة الفيضان: تسوق الأقذار فتساق بتيارها، ويختلط الخبيث بالطيب، ثم لا تلبث أن تلفظ الفاسد وتستبقي الصالح، فينصلح الماء وتفيض الخيرات على البلاد والعباد؛ فلا يثبطن لئامكم كرامكم، ولا تلقوا للصغائر مما يحدِثون بالًا، واعملوا كلٌّ بما تعلَّم من علم أو صناعة، وأتقنوا العمل؛ فإن إتقانه يلقي عليه اليمن والبركة، ويولد بين العاملين المنافسة والمسابقة والمزاحمة، وعلى هذا تقوم حياة الأمم كما تقوم حياة الأفراد على دورة الدم.
ليس بين دبيب الحياة في الأمة وبين ظهورها كاملة الأدوات تامة الصفات، إلا مثل ما يخفق فؤاد الجنين لأول وهلة، ثم تمسك الحياة فيه بعضها بعضًا وينمي بعضها بعضًا؛ فلا تزال به حتى تخرجه إلى الوجود فيؤدي فيه وظيفته، ويستوفي فيه برهته؛ ولا أجد مثلًا لما أصف إلا أمة اليابان، وإنها لدليل حاضر، وشاهد معاصر، على أن الحياة ربما كانت أسرع جريًا بالأمم منها بالأفراد؛ فقد جاوز اليابانيون أطوارها الأُول إلى هذا الشباب المرجو المخايل، المبشر بأبرك أعمار في المدنية والحضارة، في نحو ربع قرن من الزمن؛ وهي برهة قد لا تكفي الواحد من الأفراد ليبلغ في الصبا أملًا، أو يُحسِن في الحياة عملًا.
قال الهدهد: كان النسر يتكلم وكأن كلامه حديث الجيبة، تأخذه الآذان، وهو يأخذ الوجدان، بيد أنه حِكم غرَر، وحقائق كُبر، تستوجب النظر؛ حتى أمسك عن الكلام فوددت أنه لم يمسك، وقلت له: لو خُيرت يا مولاي فيما أريد لما اخترت إلا أن يبعثك الله فتمشي في القوم خطيبًا هاديًا، وطبيبًا مداويًا، تتتبع أقصى الداء، وتصف عزيز الدواء.
قال: ليكونن لي ولكم شأن يوم تجمعنا القاهرة.
قلت: ومتى تدخلها يا مولاي؟
قال: يوم يُقتل عثمان ويصير أمر العرب من الخلافة إلى الملك، فهناك أنفض يدي من دولتهم، وأصدر بك عن الفسطاط وأرِد القاهرة، عاصمة مصر الحاضرة.
ثم أخذت النسر الإغماءة المعتادة، فتثاءب وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، وموعدنا غدًا دار العجوز.
وأصابني مثل ما أصابه، فما هي إلا غمضة عين ثم انتباهة، حتى رأيت الفسطاط أطلالها، وحاذيت في القطار تلالها، فعجبت للحال وتحوُّلها والروح وتنقُّلها، وأخذت في نفسي على النسر هذا الرجوع إلى الخلط في المواعيد، وإتعابي بدار العجوز أنشدها ولا أنشدها: