المحادثة الثانية
قال الهدهد: فأقلعت للطيران، أؤمُّ عُشِّي في حلوان، وأنا كمن مَرَّ به غرام على منازل الآرام، يتلفَّت قلبي إلى تلك الأجرام، ويعز على نفسي أن تفارق الأهرام، ثم جاشت في صدري هواجس، وامتلأ خطراتٍ من الوساوس، فتمنيت على فئة غير هذه الفئة، وأمَّلت من حكام مصر بعد مائة، أن يتخذوا من الأهرام مقابر، للنفر الأنفعين الأكابر، فيُدفن فيها الجليل والعزيز، كالبنثيون في روما وباريز، أمنيةٌ إن شئت عُدَّها سخافة، وإن شئت قل حديث خرافة:
تخيَّلتُ ثم خِلتُ الأمر قد تم، وأعلنت الحكومة مشيئتها فيه، وصدر الأمر العالي به، ولم يبقَ إلا العمل بموجبه، فأنشئت الأضرحة الفخيمة في تلك الحجر القديمة، وأقيم الحُرَّاس على أبواب الأهرام، وكُتب على مداخلها بماء الذهب: لعظماء الرجال شكرُ الأوطان، وقيل هذا القبر فأين الميت …؟
قلت: وما بَدَّلَك يا مولاي؟ وما هذه الحال؟ وَهَبْني جئتُ إليك، فأين تريد أن تجعلني؟
قال: تقدَّمْ ثم تكلَّم.
فَطِرت من فوري إليه، فتلقَّاني بكلتا يديه، ثم رفعني فوق كتفه، وقال: هذا مكانك فاستقم فيه، ولا تُكثر من التلفُّت والانتفاض فتؤذيني.
قلت: سمعًا وطاعة يا مولاي.
وعندئذٍ أشار إلى الملاحين أن ينثنوا بنا راجعين، فسالت أيديهم بالزورق في نهرٍ سَرَى به الجلال، وخُطَّ عليه الجَمال، تتلاقى السفن فيه كالجبال، تنوء بالبضائع والغلال، وتفيض من الرجال والأموال، فسألت النسر: لمن هذه الأرباح يا مولاي؟ لقد أذكرتني كنوزَ سليمان عليه السلام، وجواريَه المنشآتِ في البحر كالأعلام.
قال: هذه رعية مولانا الملك رمسيس، تروح وتغدو بين طيبة ومنفيس، ناهضين بالمتاجر الجسيمة، قائمين بالأعمال العظيمة، تجري السفن بهم ليل نهار، بين شاطئين كلاهما محطٌّ لرحال التجار.
قلت: وإلى أين تمضي بي الآن يا مولاي؟
قال: ألم أقل لك موعدنا منف؟ وها نحن قادمون، وهذه معالمها تبدو وتظهر، وتلك مجاليها تُضيء وتُزهر.
فأخذني الدهش، وصحت: الله أكبر!
فأنكر النسر عليَّ صيحتي، وقال: ألم أؤدِّبك بالأمس؟ فهلا دارَيتنا في دارنا، وأرضيتَنا في أرضنا؟
قلت: وما عساي كنت أقول يا مولاي؟
قال: كان أولى بك أن تسكت، أو أن تقول: الشمس كبيرة وحفيدها رمسيس كبير!
قلت: لا أعود لمثلها يا مولاي، فهل لي أن أرى حفيد الشمس ذاك؟
قال: ستراه وتسمعه، فلا تَعْجَل ولا تؤذني بأسئلتك!
ثم استقرَّ بنا الزورق ونالت أقدامنا منفيس، فإذا بها تحلَّت من الزخارف بكلِّ نفيس، وتجلَّت تختال في حلل البهاء وتميس، حيث التفتُّ رأيت حولي عزازةً وعمارة، وثروةً ويسارة، وصناعةً وتجارة، وجاهًا وإمارة، وجنودَ البَرِّ والبحَّارة، من كل زِيٍّ وشارة؛ فلم أتمالك أن اغرورقت عيناي بالدمع، فالتفت النسر إليَّ وقال: أدمعةُ سرورٍ وفرح، أم عَبرة أسًى وتَرَح؟
قلت: بل كلتاهما يا مولاي، فلئن سرَّني أن أرى هذا المجد لمصر أولًا، لقد ساءني أني لا أراه لها أخيرًا.
قال: لو أن فوق كل شبر من أرض مصر هدهدًا يملؤه دمعًا لما أغنى ذلك عنها شيئًا، فعليك بالتأمل والاستقراء، قبل البكاء والاشتكاء، والتبصر والاعتبار، قبل النحيب والاستعبار!
فكفكفت دمعي وقلت: لا يكونن إلا ما أمرت يا مولاي.
قال الهدهد: ثم مررنا بهيكل يأخذ العين ويتملك النفس ويأسر الخاطر، ويستوقف اللُّبَّ قبل الناظر، فتوجَّه النسر وجهته، ثم دخل بين حرَّاس ينحنون له تعظيمًا وإجلالًا، وكُهان يُوفونه تحية واستقبالًا، وهنالك جعل يطوف بي حول القواعد والأركان، ويرفع بصره إلى دعائم البنيان، ويتنقل بي من مكان إلى مكان، ويذهب بي صعدًا وصبَبًا، في حُجَر عالية غالية، ومقاصير خالية من عيبٍ حالية، منها الداجي المظلم الحالك، وبعضها منوِّر للشمس إليه مسالك، وهو يقول: هذا يا بُنَي الهيكل الأشهر، بيت «فتاح» الإله الأكبر، حامي حمى هذه المدينة، ومُلبِسها الأمن والنعمة والزينة، تنقَّلْ معي من حَجر إلى حَجر، ومِلْ معي عن أثرٍ إلى أثر، وأنعِم النظر في هذه النقوش والصور، ترَها في ضمائر الجفن أدقَّ من الخواطر والفِكَر، وما صُنعت في نور الشمس ولا في ضياء القمر، لكن في ضوء سراجٍ ضئيل غير وهَّاج، ثم تأمَّل في الحجر بجانب الحجر، كأنهما واحدٌ انقسم على نفسه شَطرين. انظر إلى هذه الجبال كيف قُطعت، وإلى الآساس كيف وُضعت، وإلى العُمُد كيف رُفعت، وإلى الزخارف كيف جُمعت! هل ترى في جميع ذلك إلا معرفةً في العلم، ودرايةً في الفن، ومهارة في الصناعة؟ وغير إحكام في الصنع، وإتقان في العمل، ورغبة في الثناء، وهمة عالية في الأمر، وذكاء فائق في الأمور، وطاعة واجبة للملك على الرعايا، وعدالة مفروضة للرعايا على الملك؛ وهذه يا بُنَيَّ أُسُس الآداب، ورءوس الأخلاق، وقُوى الحياة في الأمم، وسرُّ نجاح الشعوب.
قال الهدهد: وكنت أراعي النسر وفكرتي في المَلِك، أتمنى أن أراه مرة واحدة، فناجيته بذلك، فغضب من هذه المفاجأة، وقال: الملوك أيها الهدهد في كل مكان من ممالكهم، إذا تغيَّبوا حضرت مآثرُهم، وإذا احتجبوا سَفَرت مفاخرهم، فحيث نقلت القَدم في هذه العاصمة، حدَّثك عزُّ المُلك عن المَلِك ووصفتْه لك هذه الدولة الكبرى كأنك تراه؛ على أني سأُنيلك سُؤلك، وأجعلك من رمسيس بحيث تسمع وترى، فلا تعجل عليَّ، ولا تكن كمن يزورون الآستانة ولا أرب لهم إلا «حفلة السلاملك»، وإذا قضوا أَرَبهم من حضورها رجعوا إلى أوطانهم متبجحين بما لم يعلموا من أبهة ذلك الملك، وعظمة ذلك السلطان!
قلت: أفيرضيك أن أكفَّ عن السؤال يا مولاي؟
قال: اسأل ما شئت إلا الصغائر، فإنها تقتل النفوس، وتطفئ نور العقول، وما اشتغل بها شعب إلا هلك حَيًّا. إن لرمسيس وجهًا كبعض الوجوه، وجسمًا كسائر الأجسام، لكن إذا وقفت على شيء من بسطة ملكه، وامتلأت نفسك مهابة من سعة دولته، ورأيت آثار نعمته على رعيته، ثم لقيته بالذات لقيت إلهًا في زي إنسان، تنحسر في جلالته العينان، ويخفق لأدنى لحظة منه الجَنَان.
قلت: مررنا في مجيئنا إلى الهيكل بعمائر شتى، وأبنية تشيَّد، وهياكل تُعمر، فكنت أرى العمَّال صنفين، والصنَّاع فريقين مختلفين، فما شَرُفَ من الأعمال وكان للعقل والرأي معظمُ الأثر فيه، تولَّاه المصريون بأنفسهم، وما خَسَّ منها وكان شاقًّا يشترك فيه الساعد والجسم، كعمل الطوب، وجرِّ الأثقال، قام به طوائف من الناس زَرِيَّةٌ أزياؤهم، مختلفة صورهم، مسودَّة وجوههم، فمَن هؤلاء يا مولاي؟
قال: غرباء أُسِروا في الحروب وجيء بهم إلى مصر، فأرواحهم مباحة للملك، ينهب منها ما يشاء، ويُسخِّر مَن استبقَى فيما يشاء، ويجود ببعضها على قواد جيوشه الذين جَنوا معه ثمر الوقائع، وشهدوا بجانبيه المعارك والمعامع.
قلت: عجبًا لكم معشر الآباء، تبلغون هذه المبالغ من المدنية، وتأخذون هذا النصيب من الحضارة، ثم تقسوا قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ فلو اطَّلع الإفرنج — خلفاؤكم في الأرض — اليوم على سيرتكم هذه في معاملة الغريب والأسير؛ لأنكروها عليكم إنكارًا، ثم لَوَلَّوْا منكم فرارًا.
قال: يبقى الحَيْفُ ما بقي السيف، وليس ما نسبت إلى أصحابك من الرحمة المتناهية، وعَزَوْتَ إليهم من الفلسفة العالية إلا ضلَّة من حلمك، وقلَّة في علمك؛ ينكرون على ملوكنا أن يلعنوا من ليس من دينهم من الأمم، وما أشبههم في ذلك بإدوارد السابع، يوم ذم المذهب الكاثوليكي بمسمع من الأشراف تُبَّاعِ هذا المذهب؛ ويرموننا بفرط الكراهية للغريب واقتناء الحقد له، ولنا في ذلك أعذار مقبولة، فما بششنا في وجهه قط، ولا استنمنا إليه مرة، إلا طمع في مُلكنا وأفسد علينا أمرنا؛ على أننا علَّمنا الأمم من بعدنا شرع الوطنية، وعرَّفناهم كيف يطول عمر الدولة عند قوم، وتمد برهةُ الحكم بينهم، إذا هم اعتمدوا في جميع أمرهم على أنفسهم، وضربوا على يد الأجنبي أن تعبث في شئونهم، ولئن بالغنا للغرباء في سوء المعاملة، فلنا من موقع بلادنا الطبيعي عذر واضح؛ فما مصر إلا سَهْلٌ سَهْلٌ غَزوُه والإغارةُ عليه، ووادٍ مكشوفٌ للأبصار الطامحة إليه؛ فلو لم يسهر عليه منا الساهرون لما لبث في قبضتنا طوال تلك القرون؛ أما أسير الحرب عندنا فأشقى منه أسيرُ الاستعمار عندهم، يزرع لهم ويحصدون، ويبني لهم ويسكنون، ويسهر عليهم وينامون، ويفتح لهم البلاد ويمتلكون، وإلى بعض هذا ينتهي الشقاء والصَّغارُ والهُون.
قلت: يكاد علمك يسع الأشياء كلها يا مولاي، فلو علمتُ ما مراد الملك رمسيس من مواصلة الغزو ومتابعة الغارة، والخروج من حرب والدخول في حرب، ومنزلته بين الملوك الغابرين منهم والحاضرين ما لا ترى أبصارهم خلفها مطرحًا، فهلَّا أقر السيف وحقن الدماء؛ فقد ملك الأرض فهل يريد أن يملك السماء!
قال الهدهد: فعَذُبت مقالة النسر في نفسي، كأنها لفظ الشفاء على لسان طبيب، وقلت: لقد أخرجتني من يأسي يا مولاي، وعلَّمتني من مستقبل مصر ما لم أكن أعلم!
فتنهَّد بنتاءور وقال: تجمع كلَّ أمة جوامعُ شتى من لغة ودين وجنس، وأمل ويأس، وسراء وضراء، وأنتم لا تعرفون غير جامعة الموت تجمع الأعداء.
ثم قطع الحديث وقال: هذا شيء نتحادث فيه بعدُ، فلنبقَ فيما نحن فيه من اجتلاء المناظر والمَشاهد، ومناجاة المعالم والمعاهد.
قلت: ذلك أنفع لي يا مولاي، فما هذا التمثال القائم بين مقاصير الآلهة من الهيكل، وبين مجلس الملك ومنصب عرشه منه، إني أراه كعَون بن عنق في ضخامته التي يزعمون!
فمشى النسر إلى التمثال وجثا لديه، ثم نهض وقال: فرغ الملك من حروبه التي تسير كالأمثال، وأمَّن تخومَ ممالكه، وأخذ بالثقة من المستعمرات الواسعة، وفرَّق جيوشه في البسيطة يعززون فيها آية الملك ويحمون أطرافها، وأصبح من ثبوت الدنيا له، واستقامة الأمر في يده، بحيث قلتُ في وصفه ومدحه:
… حتى إذا فرغ من تشييد مملكته والاحتياط لحفظها، وجعلها بمأمن من الحساد والأعداء، فكر فيما يُخلد اسمه، ويؤبِّد ذكره، ويكفل لتاريخه الدوام، فبنى المدائن، وأنشأ في كل واحدة منها هيكلًا خاصًّا بإله أهلها الذي يعبدون، وسوَّر هذا الهيكل القديم بالأعمدة التي تراها محيطة به، وليس أفخم ولا أضخم ولا أجلَّ في الأعين منها؛ أمر أن تُصنع صورته معظَّمة وتُجعل في الهيكل، فعُمل له هذا التمثال وطوله ثلاثون ذراعًا، وهو من عمل الأسرى وحدهم، وقد عُني الملك بأمر ذلك، فرغب أن يُكتب أنه «لم يعمل مصري في هذا التمثال.»
قلت: وفيمَ هذا التبرؤ يا مولاي، ولو أنه من صنع المصريين لكان بالملك أَليَق، ولكانوا به أحق؟
قال: إن رجلًا يرفع أكبر دولة في الأرض، ويقهر أربعين أمة، ويضع حدود مملكته أنَّى شاء، لا يؤخذ بكبيرة، فكيف يُنتقد في صغيرة!
قلت: لأنك في دفاعك هذا عن الملك أشعَر منك في مدحه!
قال: إنما أديت بعض حقه.
وهنا غلب النعاس على النسر، فجعل موعد الهدهد ميدان الملك في أصيل الغد.