المحادثة الثالثة
قال: وكان جُؤجُئي قد جاش بالشعر عندما نظرت التمثال في حالَيه، وخبرته في يوميه، فقلت فيه:
وحضرني بشأن هذا الأثر شيء من قبيل ما مر بالفكر بشأن الأهرام، فأمَّلت من جهة أن ينشط المصريون يومًا لتشييد بنائه، وتكملة أعضائه، وتجديد حُسنه ورُوائه، عساهم يقضون بهذا العمل الجليل حقَّ خير ملك لخير جيل رأى وادي النيل، وتمنيت من جهة أخرى أن تفشو التماثيل في مصر؛ لأن فيها بعض المكافأة لمن سلف، وتعظيم شأن الحياة في نفس الخلف.
ثم فكرت في رجل عظيم القدر جليل المقام، خطير الشأن في صحائف الأيام، لا صحف الأقوام؛ تضيء مزاياه ثنايا التاريخ، وترفعه أعماله فوق البرجاس والمريخ، إذا مات رشحته الأمة المصرية ليُمثَّل بالحجارة الأبدية، ويُبجَّل بالكلمات الذهبية؛ فما زال بي الوهم والخيال، حتى وجدت طلبتي في الرجال، ولم يبقَ إلا عمل التمثال، فقلت حينئذٍ في نفسي: أين من يصنعه، وأين آلاتٌ ترفعه؟ وكنت خرجت من أحلامي في المدينة الغابرة، وبلغت مقامي في ضواحي القاهرة، فنمت أطيب المنام، أصِلُ الأحلام بالأحلام، حتى إذا طلع الفجر، انتهيتُ أشْوَقَ ما كنت إلى النسر، يطول النهار ولا صبر، كأن إحدى ساعاته شهر، ومالي لا أشتاق معلِّمي الحكمة في الحديث، وملهمي القديمَ من العلم والحديث، وممثلَ الحقيقة في حسي، وكنت أجهلها في أمسي، أو أغالط فيها نفسي.
ولما جاء الأصيل، هجت إلى شاطئ النيل، فوجدته كما عهدته، وألفيت الحال ما زال: صغرت مدينة وكبرت مدينة، وعطلت ضفة وضَفَتْ على أختها الزينة، فاطمأن قلبي وقلت: صدق النسر وعدًا، وعمدت لأقرب الزوارق الحاضرة، وهي كالعرائس في النيل خاطرة، بعضها في جيئة وذهاب، ومنها المتسابق في كل منساب، الآخذ بأنواع الرياضات والألعاب، حتى خُيل لي أنه التامين، أو أني لَدَي السين في باريز؛ فنظرت إليه وأنا أحسب أن سأجدُ ساريةً أحطُّ عليها، وأستند في وقوعي إليها، فوجدت جزاء من ينقل قدمه ولا يبصر قُدَّامه؛ إذ علق جناحي، فالتفتُّ فإذا أنا في يد رجل تعلوه كبرة وفترة، ويضرب لونه إلى الصُّفرة، وعليه ثياب مزركشة من ثمين الكتان، وقد جلس أمامه غلام من أوسم ما استخدم الكبراء، فقلَّبني قليلًا ثم دفعني إلى ذلك الغلام، وقال: هذه طلبتنا، ساقتها الآلهة إلينا، فتحفَّظ عليها؛ فقد تفاءلت أن شفائي فيها، ما زال طبيب الرأس يحيلني على طبيب الأحشاء، وهذا يرشدني إلى الطبيب الروحي، وهو يرى دوائي في مساءلة الهياكل، وقد أعيت الجميع علتي، حتى وصف لنا مُضحكنا «أوتا» الذي اشتهر بصدق تجاريبه، على قصر قامته وتشويه خلقته، أن رأس الهدهد إذا سُحق، وأُضيف إليه قُلامةٌ من حافر البغل، ومُزج هذان بشيء من شحم الخنزير المذبوح قربانًا لأوزيريس الإله والقمرُ في ليلة تمامه، ثم تناولت كل يوم حبةً من هذا التركيب؛ فقد ينفعني ذلك في علتي التي حارت فيها العقاقير، وعجز عنها الأطباء!
قال الهدهد: فما استتمَّ الرجل حتى ذُبحت من الذعر بغير مُدية، وقلت في نفسي: ما ذنبي حتى يختلط رأسي بحافر البغل وشحم الخنزير، وليس أحقرَ من هذين! فجعلت أفكر في حيلة تنقذني من هذه المِيتة الشنيعة، فرأيت أن أنطلق لعل الأمير يستعظم الأمر فيضن بي، ففعلت، فإذا أنا طليق الجناح أطير، فنظرت تحتي فرأيت الرجل يشير نحوي براحتيه، كأنه يستغفر لي أو يستغيث بي.
والزورق يكاد ينقلب بمن فيه من هول ما فاجأ رجالَه من أمري وشهدوا من حالي مع مولاهم، فضحكت من رؤيتهم على هذا الحال، وارتفعت في المطار حتى جازتني المدينة، فجعلت أحط تارة فوق جدار، وأستتر أخرى في الأشجار، وأتنقل من حانوتٍ إلى دار، وأنا في هذه الأثناء ألحظ مجمل الأحوال، وأتزوَّد من المدينة نظرة عامة، فرأيت حركة لم أرَ مثلها فيما غبر.
وشهدت من العظمى ما يصغِّر المدائن الكُبَر، شوارع وسيعة، ودورٌ رفيعة، وحدائق بديعة، وجماهير متدفقة، وشرطة منبثَّة متفرقة، وخيل مركوبة، ومركبات مجرورة، ومخازن تفيش من صنوف المتاجر، وحوانيت لا تحصى لديها ضروب الصنائع، وكان من أعجب ما رأت العينان، أُنس الحيوان إلى الإنسان، واطمئنان الطير إليه في كل مكان؛ تمشي بجانبه آمنة، وتتوثب حوله مطمئنة، وأعجبُها الكراكيُّ، رأيتها تتألف الأهالي وكنت أظنها لا تُستأنس.
ورأيت نساء العامة يحملن أحمالهن على الأكتاف، ويجعلها رجالهم فوق الرءوس، وتلبس المرأة ثوبًا واحدًا، ويلبس الرجل ثوبين، وقد دهِشت من تَوَحُّدِ الزي عند القوم، وإيثارِهم من اللباس الكتَّان أو الصوف، واختيارِهم من الألوان الأبيض مع نظافةٍ تُضرب بها الأمثال، فكأنما كملت الجوامع فيهم حتى هذه؛ وتحيتُهم في الطريق أن يُفضي أحدهم بيمناه إلى الأرض؛ وإذا عارض كبيرهم صغيرهم تنحَّى حتى يعبر، وإذا مرَّ به وهو جالس قام له حتى يمر.
ورأيت جميع الحيوان في الطريق إلا الخنزير، ثم عرفت السبب اتفاقًا؛ وذلك أني بَصُرْتُ بزحام فاقتربت منه، فعلمت مِن تساؤل الناس أن أحدهم تمسَّح به خنزير، فهم يسوقونه إلى النهر ليُغمس فيه بجميع ثيابه، وهم يعتقدون أنه لا يَطْهُرُ بدون ذلك، فرثيت في نفسي لحاله، وضحكت من أمر هذه العادة؛ ثم احتواني ميدان عظيم، ينحسر الطرف في جوانبه، ولا تحيط العين بأطرافه، فابتهجت باستقباله، وقلت: لعله ميدان الملك، ولعل الملتقى قريب!
وفي الواقع كان الأستاذ بنتاءور أول إنسان وقع نظري عليه، رأيته يشير بوجهه المتهلل نحو السماء، وكأنما يفتش عني الجِوَاء، ويَنْشُدُني في طبقات الهواء، فلما أخذني بصره، رفع يده يستنزلني، فهبطت فيها، ثم وثبت منها إلى كتفه منتفضًا من التأنُّس والحبور، مرنقًا من غَلَب السرور، فسألني عن أمري، وما لقيت من وحدتي في رحلتي، فحدثته حديثي أولَه وآخره، فضحك من حادثة الزورق، وقال: تلك وحدة لم يكن لك عنها غنًى وأنت في أول أيامك بهذه المدينة؛ لأني أردت أن تجمع في حكمك عليها بين ما تسمع مني وما تراه في خاصة نفسك، من أحوال أهلها وأطوارهم، وأخلاقهم وعاداتهم؛ فما رأيك في ذلك المريض؟
قلت: أحمق جاهل يا مولاي، وأطباؤكم أحمق منه وأجهل؛ وإني لأعجب منهم كيف يبلغون في الطب إجارةَ الجسد من الفساد، وحِفْظَه من البِلى على مدى الآباد، ثم ينزلون إلى الإيمان بالرُّقَى والطلاسم، واعتقادهم أن رأس الهدهد وحافر البغل من العقاقير النافعة في بعض الأدواء!
قال: الخرافات يا بنيَّ وُجدت مع الإنسان منذ البداية، وسوف تصحبه إلى النهاية، ولو بلغ من المدنية أقصى غاية، وأظنك عهدتَ باريز لا تخلو منها، وهي فيما يزعمون عاصمة العواصم، وكرسي التمدن القائم!
قلت: كذاك هي يا مولاي.
قال: لكن هَلَّا أخذت من عبارة المريض أن الأطباء في منفيس ضروب، وأن تَوَزُّعَ الأعمال قاعدةُ التطبيب بينهم؛ فهذا للرأس، وذاك للبطن، وآخر لأمراض العين، ورابع لأدواء الأذن؛ كلٌّ على قدر اجتهاده في الفرع الذي وقف نفسه عليه.
وهذا ما صار إليه الطب أخيرًا عند الغربيين، وهم يعتقدون أن ذلك بداية النجاح الحقيقي، وفاتحة عصر للعلوم الطبية لا يقف ارتقاؤها فيه عند حد، فلو لم يكن من فضل أطبائنا الحمقى الجهلاء سوى أن القوم أخذوا عنهم هذا المبدأ الجليل، لكفى؛ على أنني عالم بأن الطب لم يتقدم في هذه العاصمة التقدم اللائق بمزلتها في الحضارة، الجديرَ بمبالغها في المدنية؛ ولهذا الأمر أسباب، أهمها قلة الأمراض في هذه الأمة؛ لأنهم من جهة يعتنون بأمر نظافة الأبدان والملابس؛ إذ من عاداتهم أن يغتسل واحدهم ثلاث مرات بالنهار ومرتين بالليل، فمثلهم كالمتقين منكم معشر المسلمين، الذين يتوضئون خمس مرات في اليوم؛ ومن جهة أخرى لأنهم في الغالب رجال عمل ونهوضٍ وحركة، وإذا كان النشاط في الطباع، سلمت الجسوم من الأوجاع.
وبديهي أن توسيع العلوم يكون بقدر الحاجة إليها، فإذا عظمت عَظُم الاشتغال بها، وكثر الاختراع فيها، وإذا قلَّت قَلَّ، وأكبر برهان على ذلك ما أشرتَ إليه من بلوغنا الدرجة القصوى في التحنيط والتصبير، فلولا اعتقاد الأفراد أن الأجسام بعد الموت مقدَّسة لا ينبغي أن يصل إليها الفساد، لما اجتهد الأطباء المختصُّون بهذا الفن فيما يمارسون من جليله وحقيره، حتى بلغوا فيه إلى درجة الإعجاز، منساقين برغبة الكافة، ملبِّين منادِيَ الحاجة العامة.
وما يقال عن التحنيط يقال كذلك عن فن العمارة والإنشاء؛ فليس السبب في رقيه بيننا هذا الرقيَّ المعجز الباهر، إلا مبالغةَ المصريين منذ القدم في قيمة الآلهة وتصوُّرَهم إياهم في منتهى العظمة المؤبَّدة الأزلية؛ فلا يرفعون لهم من الهياكل إلا ما يليق بمقامهم هذا ويسكنونه إلى الأبد؛ على أنك لو قست دور الأهالي من جميع الطبقات، وما رأيتها عليه من البساطة والاقتصاد في البناء، بالهياكل وما شهدت من فخامتها، واجتليت من زخارفها، لعلمت أن دعواي مبرهنة من نفسها، ولأيقنت أن قصور المصريين في الطب لم يكن عن جهل وقلة ذكاء، لكن عن عدم حاجة ماسة وقلة اعتناء.
قلت: صدق مولاي وأفاد، لكن هذا ميدان الملك، فأين قصره؟
قال: تظل تحلم بالملك! وقد أذكرتني أن لي كلمة أقولها لصائغه الخاص بأمر جلالته، فلنبدأ به الآن.
قلت: الأمر إليك يا مولاي.
فمشى النسر وأنا فوق كتفه، حتى مرَّ بحانوت ضيِّق المدخل رزيِّ المنظر، فرأيته يهمُّ بالولوج، فقلت: لعلك ضالٌّ يا مولاي؛ فمثل هذا الحانوت لا يكون لصائغ الملك!
قال: بل الضالُّ أنت يا كثير العجلة.
فخرست، ودخل الأستاذ، فخفَّ لاستقباله رجلان: كهلٌ وغلام، وكانا ساعة دخولنا متقابلَين على مِنَصَّة للعمل، مكبَّيْن على الذهب يُفرغانه ثم يصوغانه، فحيَّيَاه حقَّ تحيته، ثم عادا إلى العمل وأخذا بما كانا فيه، وعندئذٍ قال الرجل للأستاذ: أتأذن يا مولاي أن أتمم حديثي مع هذا الغلام، ثم أتلقى أوامرك؟ فأجابه: افعل، فلا تكره أن نشاطره الفائدة. فاندفع الرجل يقول: اعلم يا بني أن الأمانة رأس مال التاجر، وهي والإتقان كلاهما رأس مال الصانع، وقد صيرتُهما لي عادةً منذ مارست هذه الصناعة، فلم أكلَّف عملًا إلا استجمعت قواي لتجويده وإحكامه، وفكرت في إتقانه قبل الفكر في إتمامه، فإن بدا نقص بعد ذلك بَرَّأتُ نفسي وقلت: عليَّ بذلُ الجهد وليس عليَّ أخذُ المستحيل. وكنت في بدء تعاطي هذه الحرفة مساعدًا لمحبِّ الحقيقة أستاذي الذي انتقل إلى الدُّور الأبدية، فتعلمت منه محبة العمل والإخلاص فيه وبَذْلَ الجهد في إتقانه، وهو الذي ذهَّب تابوت الملك سيتي، والد جلالة الملك، ونَقَشَه فأبدع نقشه.
وكان أجره عن ذلك مائة قلادة من الذهب، خرجت إليه من الخزائن السلطانية، فهنأته يومئذٍ بما نال من جسيم الربح، فكان جوابه لي: اعلم أنه لو عُرضت عليَّ خزائن الملك جمعاء وأنا في العمل أصنع التابوت، لما أعرتها نظرًا؛ لأني رجوت أن يقال: ملك الصناعة، شرَّفها يوم موتِ ملك الجماعة! فوعيت هذه النصيحة كما يوعَى الوحي الآتي من جانب الآلهة، وها أنا أبذلها لك كما بُذلت لي من قبلُ فكانت أصل سعادتي وسرَّ نجاحي، والسبب في تحصيل هذه الثروة الجسيمة، وارتقائي في القصر هذه المنزلة العظيمة.
قال الهدهد: وكان الرجل يقدم النصائح لتلميذه وكأنها قلائد يصوغها، وبنتاءور يتثاءب ويتمطى، فخشيت أن يحول بنومه المعهود، دون سماعي مقالة الصائغ إلى آخرها، فكان ما خفت أن يكون، وغلب على النسر النعاس، فقال لي بلسان متلعثم: إذا جاء الليل نامت الشياطين، فارجع إلى عشك الآن والقني غدًا في هذا الحانوت.
قال الهدهد: فلم يكن إلا إغماءة حتى رأيت نفسي فوق سطح بيت العمدة في ميت رهينة، فاستعذت بالله، وأقلعت من فوري للطيران، أؤم عُشِّي في حلوان.