المحادثة الخامسة
قال الهدهد: كان الغد، وجاء الأصيل، وآن الموعد، فأعملت جناحي أستقبل منفيس، فلما وصلتها قصدت دار العلم والفلسفة فيها فدخلتها، فرأيت الطلبة يخرجون من الدرس، وكانوا يستعدون له بالأمس، وقد أحاطت عصبة منهم بالنسر يُماشونه ويلقون عليه الأسئلة شَتَّى، ويأخذون من بحر علمه وروضة بيانه، فأشرفت على حلقتهم أخطف السمع، فسمعت أحدهم يقول للأستاذ: ما هي الفضيلة يا مولاي؟ قال: ترك الرذيلة. قال: وما الرذيلة؟ قال: هي جاران في دارٍ: الجهل، والبطالة في الشباب.
وسأله آخر: علمتنا يا مولاي أن الراحة والسعادة كلتيهما في العمل، فدُلَّني على عمل ألتمسهما فيه. قال: ابنُ من أنت؟ قال: ابن نجَّار في المدينة. قال: عليك بمنشار أبيك، فإن فيه الراحة والسعادة.
وسأله ثالث: بماذا تشقى هذه البلاد وبماذا تسعد يا مولاي؟ قال: بالنيل والثور وبالمحراث.
وألقى عليه رابع هذا السؤال: مَن العالِم يا مولاي ومن الحكيم ومن الطبيب؟ قال: العالم من لا ينام، والحكيم من لا يَطْعَم، والطبيب من لا يموت! قال: هذا هو المستحيل يا مولاي؛ فما تريد بهذه المبالغة؟ قال: أردت أن العالم من عَلَّم بالنهار وتعلَّم بالليل، والحكيم من زهدَ في هذه الدنيا وقنع منها بكِسرة، والطبيب من ترك طبًّا يعيش به الناس بعد موته.
وسأله تلميذ آخر: ما هي الفلسفة يا مولاي؟ قال: هي احتقار الدنيا، ورحمة الناس. قال: وما فضلها؟ قال: تحول دون الهوى والغضب، وكلا هذين مذلة. قال: وكيف تؤخذ يا مولاي؟ قال: توجد في الطباع، ولا تؤخذ من الرقاع.
قال الهدهد: ثم أشار النسر إلى الطلبة أن ينفضُّوا من حوله، ففعلوا إلا اثنين من خاصة تلاميذه، ظلا يماشيانه وأنا أطير حيث يسيرون، حتى أخذوا إلى المدينة، وعندئذٍ وقعت فصرت فوق كتف الأستاذ، فلم يقف ولم يلتفت، لكن سمعته يقول لصاحبه: ما فاته درسي لا تفوته صحبتي، ومن صحبني فليصبر معي، ليس للعلم وطن، ولا للحكمة دار، بل العاقل من له على كل أرض مدرسة، وعلى كل طريق أستاذ، المدرسة تقيم العقل في طريق العلم ولا تتكفل بوصوله، كالمعبد يمد السريرة في الاعتقاد ولا يتكفل لها بكشف الغطاء، فرب عابد من نفسه وصل، ومتعلم من نفسه حصل، عرفت صنوف العلم فلم أرَ كالفلسفة يأخذها المرء من نفسه، ثم من حيث التفتَ فرأى، وكلما قيل له فسمع من حديث المتكلم إن صدقًا وإن كذبًا، وصموت الصامت إن بكامةً وإن بَكَمًا، ونعيم المنعَّم وبؤس البئيس، ومشية المستكبر، وهذيان المُهَوَّس، وعربدة السكران، ومن النمل في مشاغلها، والنحل في معاملها، والذرِّ في مُستثاره، والبرق في مستطاره، والزهر إقباله وإدباره، والفلك ليله ونهاره، والبحر مضطرَبه وقراره، ومن النفس إذا اعتلَّت وإذا صحَّت، وإذا طمعت وإذا قنعت، وإذا رغبت وإذا تسلَّت، وإذا جشأت وإذا اطمأنت، وإذا شكرت وإذا جحدت، ومن الطباع إذا امتُحنت، والسرائر إذا بُليت، والأهواء إذا اختُبرت. مدارس لا يفرغ اللبيب منها، ودروس لا يصبر الحكيم عنها.
قال الهدهد: ففهمت أن النسر يعتذر، وأنه ينهى عن الكلام ويأمر بالسكوت، فامتثلت ولم أنبس.
ثم سرنا فمررنا في طريقنا على دار تُشيَّد ويُبالَغ فيها ويوشك بنيانها أن يتم من زحمة الأيدي عليه؛ وكان ربها عندها بين غلمانه وأعوانه، وكان الأستاذ يعرفه، فاقترب منه وحيَّاه، فردَّ التحية، فخاطبه النسر قائلًا: لمن هذا القبر أيها السيد؟
قال: هذا قصر يا مولاي لا قبر!
قال: وجدنا آباءنا يؤبِّدون القبور لا الدور؛ لأنها مواطن القرار، ومنازلنا جميعًا معاشر السُّفَّار، فعلامَ تظلم سُنَّتهم، ولا تسير في الحكمة سيرتهم؟
قال: إني واهبها للملك، ولا يوهب له إلا ما يليق به.
قال: إن الملك في غنوة عن مثلها، ولو كان ممن يطمحون إلى ما تملك أيدي الرعايا، أو يفرحون بما يزلف لهم من ثمين الهدايا، لما ساد الأمم، ولا اعتز ولا احتكم؛ إنه ليجيء إليه من أقاصي البلاد، ويدخل في خزائه من كرائم المال، ما لو جُعل بعضه فوق بعض لطاول الجبال، وإنه لأحرى بك أيها السيد، أن تهدم هذا الصرح من أساسه، ثم تجود على كل فقير في وادي النيل يتضور جوعًا بطوبة من أنقاضه، يشد بها على لحم بطنه لتخفف عنه من ألم الجوع.
ثم ودعه وسار، فما زلنا نذهب في المذاهب والنسر دليلنا، حتى انتهينا إلى دار حقيرة البنيان، عندها صبيَّان يلعبان، فقصد الأستاذ قصدهما، ودعاهما إليه، وقبَّلهما فوق جبينهما، ثم قال يخاطبهما وعيناه تفيضان من الدمع: كان أبوكما رجل صدق، وكان وفيًّا، فلتجزينَّه السماءُ فيكما، ولتباركنَّ فيكما لأمكما. ثم التفت إلى صاحبيه وقال: ألا أنبئكما مَن مالك هذا البيت الزَّرِيِّ؟
قالا: بلى.
قال: ذاك الذي يبني قصرًا ليهديه إلى الملك، وهو لا يسامح تلك الأرملة ولا هذين اليتيمين في أجرة شهر واحد، فما أظلمه وما أظلم الملك يوم يقبل هديته، وما أظلم الحياة وما أظلم الناس!
ثم ودعهما الأستاذ وانطلق يمشي ونحن نتبعه، حتى دخل في طريق ضيقة، فاندفع فيها حتى أتى عليها، وكان في آخرها منزل، فوقف به ثم دق الباب، فخرج إليه رجل وقور، يدل تجعيد وجهه على تقدُّم ميلاده، فحيَّاه النسر، فردَّ التحية، فسأله: ما صنع الملك باليتيمين وأمهما؟
قال: رأف بهم وأمر أن يُجْرَى لهم رزق من الخزانة السلطانية.
قال: خيرًا فعل، والخير سجية فيه؛ فعُدْ إلى أهلك فقد اطمأن قلبي.
ثم تركه واستمر في مسيره، والفَتيان يماشيانه، وقد سأله أحدهما: مَن الرجل يا مولاي؟
قال: للملك جواسيس يتخذهم، لا على رعيته، ولا على صحابته، لكن على المتعففين من الفقراء، وعلى الأرامل والأيتام، يدلُّونه عليهم لينظر في أمرهم، وهذا الرجل من أدِلَّاء الملك على الخير، ولا أجر له على ذلك غير رضى نفسه، وطلب الهدوء لها في رمسه.
هذا ما يفعله رمسيس، ومُلك الدنيا له، وأمر تدبيرها بيده، مباركًا له في الآل والحال، والرعية والسلطان، وليأتينَّ يوم يتخذ الملوك جواسيس على الأرملة واليتيم، ليسلبوهما شبر أرض، أو جدار منزل؛ فأولئك ملكهم في دمار، وتاريخهم في سجلٍّ من عار.
ثم عطف الأستاذ على حانة خمَّار فدخل، فتخلَّف الفَتيان، فأبى إلا أن يتبعاه، وهناك جلسنا في ناحية، وطلب النسر شيئًا من الخمر له ولتلميذيه، وكان إزاءنا ثلاثة فتيان، تُرى عليهم دلائل النسب والحسب، وكأنما عرفوا الأستاذ، فاحتال أحدهم حتى تسلسل وانصرف، وتحوَّل الثاني إلى زاوية فانكمش فيها، ولبث الثالث كما وجدناه ثابتًا لا يتحرك؛ فالتفت النسر إلى أحد الصاحبين وسأله قائلًا: أعرفت هؤلاء يا بني؟
قال: هم يا مولاي بنو صديقك القائد فلان.
قال: هم بعينهم يترددون إلى هذا المكان، وقد علم والدهم بذلك، فتشبَّث بي أن أتداركهم بالنصح والخمرُ في رِقِّهم قبل أن يصبحوا في رِقِّها؛ فكيف وجدتَهم يا بني؟
قال: أما الأول يا مولاي فيخجل من نفسه، وأما هذا المنكمش المستتر فيخجل من الناس، وأما هذا الثالث المتهتك فلا يخجل من نفسه ولا من الناس!
قال: أصبت يا بني. ثم أقبل على رفيقه وسأله: وكيف رأيك فيهم أنت يا بني؟
قال: أرى يا مولاي أن يوكَل الأول لنفسه؛ لأنها سوف تزجره، وأن يُنْصَح للثاني؛ لأن المقالة تنجح فيه، وأن يُنْعى هذا الثالث إلى أبيه!
فضحك الأستاذ من جوابه، وحكم بصوابه؛ ثم التفت إلى ذلك الفتى المنكمش، وناداه: مالك يابن الأخ لا تكون رابعنا؟
قال: إن أذن مولاي فعلت. ثم خفَّ إلينا فجلس معنا، فحيَّاه الأستاذ ولاطفه، ثم خاطبه فقال: ما أطيب الخمر يا بني!
قال: أطيب منها يا مولاي هذا الثناء عليها منك.
قال: كيف تجدها؟
قال: فيها لطف، وهي محرقة.
قال: كذلك الشرارة: تجدها لطيفة المُتَّقد، وقد تُضرم نارًا على بلد!
قال: وإنها لتدبُّ خفيَّة ضعيفة، ثم تتمكن ظاهرة قوية.
قال: وهكذا الداء!
قال: وإن الجسم ليستريح معها، وتخرج النفس بها من عالم الهموم إلى عالم موهوم.
قال: خير لشاربها إذن أن ينتحر؛ فالراحة كل الراحة في الموت!
قال: وإنها يا مولاي لعادة، والنفس بما اعتادت منقادة!
قال: الآن صرحت، فإن كان ولا بد فخذ منها لطربك، ولا تعطها من عقلك وأدبك، واتخذ منها صحة ولا تتخذ منها مرضًا، واشربها مع حكيم يقول لها قفي، وخذها في مجالس الكرام؛ فهناك أوائلها طرب، وعواقبها أدب.
قال: ألنت يا مولاي فنجحت، ولو ألححت لما أفلحت، فلا يكونن إلا ما نصحت.
قال: بقيت يا بني في النفس حاجة: إن أباك أشفق من السفهاء أن يمدوك وأخويك في الغي، فسلطني عليكم؛ فأما ذاك الذي استحيا فله نفسٌ تزجره وهي حسبه، وأما أنت فقد رأيتُ من عقلك ما يطمئن به قلبي، وأما هذا الذي يشربها جهرًا، ويلحظ اللائمين فيها شزرًا، فالحيلة فيه قليلة، والنصيحة معه مستحيلة؛ فإذا لقيت أباك فتُب من تلقاء نفسك إليه، واكفني شبهة المنِّ عليه بهداية ولديه.
قال: أمرتَ ممتثلًا يا مولاي. فودعه الأستاذ ونهض وصاحباه على أثره.
قال الهدهد: فلما خرجنا من الحانة رأينا الناس يزدحمون على بابها، والتفتُّ إلى النسر فرأيت الغيظ على وجهه، وسمعته يقول لصاحبيه: ما أولع الناس بالناس، يشتغل أحدهم بشئون أخيه، وفي أيسر شأنه ما يُلهيه! علم الملأ أن بنتاءور دخل في هذه الحانة، فاجتمعوا ينظرون كيف خروجه، فلأستقبلن جمعهم، ولأخطبن فيهم. ثم فعل فقال: أيها الناس، الماس فوق التراب ماس، والخزف خزف ولو حمل على الراس؛ أما والآلهة في معابدهم، وآباء الملك في مراقدهم، لَرُبَّ صادر عن هذا المنزل أطهرُ من خارج من هيكل! أيها الناس، من زلَّ منكم فليستتر، ومن رأى زلة فليستر، من علم على أخيه فلينصح له همسًا، وليرحمه في نفسه، وليَدْعُ له في صلاته. أيها الناس، ثلاثة تعرض ولا يأمنها أحد أن تُفاجئ: المرضُ، والمصيبة، والغواية؛ وما شكر أحدكم الآلهة على الخلاص منها بأفضل من رحمة الواقعين فيها. رأيتم من السفاهة والمجانة أن يلجَ شيخ في هذه الحانة فاجتمعتم، ولو عقلتم لما فعلتم؛ إن للعقل كما للقدم زلة، وإن للحليم كما للجاهل ضلة، وإن النفس مع الهوى مائلة، والعاقل من إذا مال مع النفس اعتدل. أيها القوم، إن ملككم لكبير، وإن عدوَّكم لكثير، أمركم نافذ في المشرق، وسيفكم في كل مَفْرِق، وعِداكم يسيرون، وحُسادكم يسعرون، فاستبْقوا نفوسكم وهذبوها، وحافظوا على أبدانكم وربوها، وأعدوها ليوم تدعوكم الأوطان لتقرِّبوها، لا تعطوا الغواية أزمَّتكم فتسلب منكم ذكاءكم وهمتكم؛ دخل الرعاة بلادكم في شبيبة الدهر، فأفسدوا فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكان آباؤكم على أخلاقهم القديمة، يأخذون الفضيلة ويذرون الرذيلة، صحاح العقول، صحاح النفوس، صحاح الأبدان؛ فاستجمَعوا في وقت السكون، ثم وثبوا في وقت الوثوب، فاسترَدُّوا ملكهم بقوة؛ ويراد منكم أن تكونوا في الأمن في درع مضاعفة من الفضيلة، لا تأمنون الدهر أن يأتي على عجل. يا حمَلة السلاح، لا تقتلكم في السلم الراح. يا حملة العلم، لا تغلبكم الخمر على الحلم. يا معاشر الصناع، من كان الوقت رأسه ماله، والصحة سبب رزقه، والكسب قوت عياله، فليهجر الخمرة فإنها مضيعة الوقت، مضرة الصحة، آفة النشاط.
قال الهدهد: فبينما النسر يتكلم والجمع يسمعون، برز الخمَّار له بين رجلين من الشرطة كان استأجرهما، فطلبا إلى الأستاذ أن يمسك عن الكلام، وألا يذم الخمر في بيتها، ولا يطعن عليها في وجهها؛ ثم أبلغاه أن صاحب الحانة يدعوه إلى المحكمة في اليوم التالي ليطالبه أمام القضاة ببدل ما ألمَّ به من الضرر ولحِق به من الخسارة، بسبب هذه الخطبة في هذا الموقف. فامتنع الأستاذ من الكلام كما أشار، وأجاب بأنه سيوافي المحكمة في الغد، وهناك يكون له وللخمار شأن.
ثم مشينا نخترق الصفوف، وهي تتنحى للنسر وتنحني له في طريقه، حتى خرجنا من ذلك القسم من المدينة، ودخلنا في قسم آخر؛ فقال الأستاذ لصاحبَيه: غدًا نتبارز أنا والخمر، ويحكم القضاة بيني وبين التَّجر.
قال أحدهما: قد كان لك يا مولاي غنًى عما أتيت، إنك ظلمت إنسانًا من حيث هَدَيت.
قال: إن الطرق مدارس العامة، ولا يعلمهم فيها إلا الخطباء، والرجل يظلم الناس ليل نهار، ومن ظلم ظالمًا فما ظلم؛ إني لا أشفق من الخمر على الخاصة؛ فإن لهم عقولًا تردُّهم أحيانًا إلى الاعتدال في أمرهم، وأشغالًا من العيش وأسبابًا من السعة تُعينهم على الخمر وتقيهم كثيرًا من عواقبها؛ ولكني أُشفق منها على العامة؛ فهي فيهم سلطان جائر، يفتك ولا يرحم، وشيطان ثائر، يسكن الرءوس فيملؤها شرًّا، ويتملك النفوس فيملؤها خبائث، وإذا هلكت العامة في أمة فقد هلكت الخاصة.
قال الهدهد: وبينما أنا مؤتنس بحديث النسر، أسمعه ولا أملُّه، وأتعظ بجميع ما يأتي ويذر، وإن لم يخاطبني في هذه المرة ولم أخاطبه، إذ قطع الحديث كعادته وتثاءب، فعلمت أن الساعة أتت، ثم نظر إليَّ وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني غدًا في المحكمة، تسمع وتره.