المحادثة السادسة
قال الهدهد: فلما كان اليوم التالي، سئمت من النهار وطوله، ومن ينتظر يسأم، حتى إذا مال ميزانه واصلت الآفاق ركبتها إلى منفيس، وأنا أنتظر أن يكون لتلك المحاكمة نبأ، وأرجو أن أقف على درجة القضاء عند المصريين القدماء، لعلمي بأن العدل — كما قيل — أساس الملك، ولا عدل إلا حيث القضاء يدور دولابه، ويُولاه أربابه، وتوثق أسبابه؛ فهو مرآة الحكومات التي تتراءى فيها بما هي عليه من استقامة أو عِوَج، وظلم أو عدل، وصلاح أو فساد، وارتقاء أو انحطاط؛ وأساس الممالك، إذا سلم سلمت، وإذا تهدَّم انهدمت؛ وعنوان شعور الأمم وتعقُّلها، ودرجتها في العرفان، ومبالغها من الفضيلة الإنسانية؛ لأن القوانين التي تضعها كل أمة وتتواصى بالخضوع لها، ليست إلا مجموعة تاريخها وآدابها وأخلاقها وعاداتها، ولأن القائمين عليها بهذه القوانين ليسوا إلا أفرادًا من أبنائها، يبصرون بعينها، ويسمعون بآذانها، ويشعرون مثل شعورها، ويجدون مثل وجدانها؛ فإذا زكوا زكا سائر الأمة، وإذا خبثوا خبثت الأمة جمعاء.
قال: فلما احتوتني المدينة رأيت الزُّمَر آخذين طريقًا يتدفقون فيه، فقلت في نفسي: لعل الزحام من أجل بنتاءور وقضيته، وطفقت أطير إلى حيث يسيرون، حتى تجمعت الجموع، أرى لديها هالة، وعليها من العدل رونق وجلالة، فقلت في نفسي: دارَ القضاء لا محالة، ومرقت من فوري فصرت فيها، أجول مع الجائلين في نواحيها، وهناك علمت أن هذا البناء الرفيع، مقر حاكم القسم، وأنه يجلس فيه للقضاء بين الناس؛ فقد رأيت كثيرًا من دور الحكومة في الأقاليم، وهي التي يجلس فيها عُمَد البلاد وأعيانها وحكام القرى للفصل في المنازعات، فلم أرَ ما يحاكي رفعة هذه الدار.
فأجابه أحدهم: إن قسم الصناعة أكبر أقسام المدينة يا مولاي، فلا غرو أن تكون دار الحكومة فيه بهذا العِظم، لكن أيأذن لي مولاي إن سألته: ألم يأنِ لحكومة جلالة الملك أن تجعل القضاء عملًا مستقلًّا، ونظامًا قائمًا بذاته، فلا يقضي بين الناس شيخ القرية، ولا حاكم القسم، ولا قائد العسكر؟
قال: وأيُّ بأس بهؤلاء إذا انتُدبوا للقضاء، وهم أشد الناس امتزاجًا بالأهالي، وأعرَفهم بطباعهم وأحوالهم، وجُلُّهم على معرفة واستقامة أخلاق، بل إن الأهالي كثيرًا ما يَفزعون بمنازعاتهم إلى أفراد منهم اشتهروا بالعلم والخبرة ليفصلوا فيها، وهم يرتاحون لقضائهم، ويقبلون أحكامهم، ويمتثلون الصارم منها كالجلد، وربما كانت هذه الأحكام أدنى إلى العدل وأقرب للصواب مما يصدره قضاة تقيمهم الحكومة ولا تنتقيهم، ولقد رأيت الحكام في القرى إذا تصدروا للقضاء جلس بجانبهم نفرٌ من الكتَّاب والأعيان ليُمدُّوهم بالرأي ويردُّوهم إلى الصواب فيه.
قال الهدهد: فاستغربت هذه الأقوال، وعجبت للدهر كيف تشابه وجهُه وآخره؛ فهذا قضاء العُمَد كان من ضمن نظامات المصريين القدماء، وهو اليوم الشغل الشاغل والمسألة الكبرى في مصر؛ وهؤلاء المحلَّفون كانوا يؤازرون القضاة على عهد الفراعنة، وهم اليوم من ضرورات القضاء في باريز مركز الحضارة الحاضرة.
ثم التفت النسر حوله وقال لأصحابه: ما أجلَّ هذا الموقف!
وهناك بَصُرْتُ بالنسر في ناحية يحيط به جماعة من أصدقائه وتلاميذه، فاقتربت منه، فهبطت مستقري من كتفه، فالتفت إليَّ مبتسمًا فقال: جُعل هذا الموقف للفضيلة ينصرها فيه دعاتُها، كما جُعل للجرائم يفتضح فيه جُناتها، والمتمثلان فيه اثنان: جانٍ تعلن براءته، وهذا يبكي عليه من في الأرض، وبريء تُعلن جنايته، وهذا يبكي عليه من في السماء، ومن لي أن أكون الثاني!
فقال له أحدهم: قضاة منفيس يا مولاي قضاة عدل ودراية، فلا خوف على رفيع شرفك منهم.
قال: لا يضطرب إلا القاضي العادل، ولا يخطئ إلا القاضي العليم؛ ولو أن لبنتاءور أن يحاكم نفسه بنفسه، لحارَ في شأنه مع الحمار فلم يدرِ أيقضي لنفسه أم عليها.
قال أحدهم: هبهم يا مولاي حكموا لصاحب الحانة بشيء من المال يأخذه منك عوضًا لما لحق به من الخسارة المزعومة، فما يكون شأن هذا الحكم؟
قال: أكون قد أعطيت الفضيلة شيئًا من مالي لا أستكثره عليها ولا أُتبعه المن.
فسأله آخر: ما القضاء يا مولاي؟
قال: محكمة ظاهرية ألجأ إليها فسادُ المحكمة الباطنية.
قال: فما العدل؟
قال: شيء كان مع الإنسان الأول حين لم يكن له في الأرض شريك يزحمه، وكان لا يجد عليها من يظلمه.
قال الهدهد: فبينما النسر وأصحابه في التحادث، إذ دُعي المتقاضيان للمثول في موقف القضاء، فدخل الأستاذ ونفرٌ من الشهود له وعليه، وكان القضاة نحو سبعة، هم حاكم القسم ومعاونوه من كُتَّاب الناحية وأعيانها، وكان مترديًا حلة للقضاء بيضاء ضافية محلاة الحواشي، تزهو بقلائد العقيان التي كان الحكام يزينون بها صدورهم كلما جلسوا للحكم بين الناس، فلما صار النسر بين أيديهم قال له الحاكم: أيها الأستاذ، إن لك بمقتضى مناصبك السامية في المملكة أن ترغب عن قضائنا إلى قضاء جلالة الملك، كما لك أن تقبل منا، قضينا لك أم عليك، فانظر ماذا تؤثر؟
قال: رضيت بقضائكم لأن مناصبي السامية في المملكة ليس من شأنها أن تميزني على خصمي هذا في موقف يستوي فيه الخصوم، ويُقتَصُّ فيه للحصى من النجوم، فاسمعوا له ولي، ثم اقضوا ما أنتم قاضون.
قال: إنه يقول إنك أزريت به وبتجارته، وإنه لا بد له من بدل، ويطلب من المحكمة أن تحكم له بمال يأخذه منك، وقد جاء بشهود من عنده للإثبات، فهل جئت بشهود من عندك للنفي؟
قال: ليس لي شهود من عندي أيها القاضي، وما خطر لي قط على بالٍ أن الشهادة تتجزأ؛ لأنه لا فضيلة ولا عبادة، حيث يختلف اثنان في شهادة؛ وإني لأعجب لكم معشر الحكام كيف تقبلون من شاهد أن يُثبِت ومن آخر أن ينفي، وأنتم تعلمون أن أحدهما كاذب، أو محرِّف للشهادة لا محالة، وقبول الكذب إغراءٌ به؟ إن الشاهد دعامة القضاء، إذا مَتُنَتْ مَتُن، وإذا وهنَتْ وَهَن، فقوِّموه تقوموا به، ولو أن من الآلهة قضاةً في الأرض، ومن الملائكة متقاضيين وفسد الشاهد لفسدوا جميعًا. الشاهد عنوان الأمة، فاجعلوا عنوانها الصدق والفضيلة، لا المَيْن والرذيلة، إن شاهدَيْن يقول أحدهما رأيت نهارًا فيقول الآخر رأيت ليلًا، ويقول الأول سمعت ضحكًا فيقول الآخر سمعت بكاء، لمن حقهما أن يُفْصَل بينهما قبل أن يُفْصَل بين المتقاضين؛ فمن كذب منهما يُسلب السمع والأبصار، وينادى عليه في الناس بالفضيحة والعار.
قال الحاكم: إن مقام هذا المقال المدرسة لا المحكمة أيها الأستاذ، لا بد لنا أن نسمع الشهود، فليخرجوا وليبقَ منهم واحد.
فخرجوا إلا واحدًا، فطلب القاضي منه أن يؤدي اليمين القانونية، وهي عند المصريين القدماء: «أقسم بحياة الملك، وبنعمة الآلهة …» فأداها، ثم قص على المحكمة ما رأى وما سمع، وحدَّث القضاة حديث الخطبة، وأعاد عليهم منها حتى فرغ من الشهادة فذهب لشأنه، وجيء بغيره فأداها، ثم شهد ثالث ورابع وخامس، فرأيت الكل على خلق واحد من توخي الصدق والتوجه إلى الحقيقة والإيجاز في العبارة، فغبطت قضاة الفراعنة بهم وبسائر الأمة، أمة الأخلاق، ورثيت في نفسي لقضاتنا، علمًا بما يكابدون من جهل الشهود وروغانهم من الحقيقة، وخبطهم في المقالة، بما يُخرج القاضي أحيانًا من سكينته، ويشتت خواطره، ويذهب بثمين وقته سدى.
ثم طلب القاضي من صاحب الحانة أن يشرح دعواه، فتقدَّم رجل أسمر اللون، صغير الهامة، رقيق العنق، قبيح الوجه، فسأله الحاكم: من أنت؟ قال: فلان الكاتب يا مولاي، أنابني صاحب الحانة عنه في تقرير شكواه، وشرح دعواه.
قال: إذن تكلم.
فأقسم الرجل ثم شرع يقول: دخل السيد الأستاذ بنتاءور، وصديق ملك العالم، حانتنا التي بشارع الصناعة، يصحبه فتَيان، فلبث ريثما شرب قدحًا من نبيذ منفيس، ثم خرج فلم ندرِ به إلا وقد وقف بباب الحانة فمنعه، واعترض للناس في طريقهم إليها فقطعه، وخطب في المارة بعد ذلك فاستوقفهم، وجلب الزحام بعضه بعضًا حتى خُيل للرائي أن الحانة قُتل فيها قتيل، أو حدث فيها حادث جليل، وكانت الخمر موضوع خطبته، أولها وآخرها، فوصفها بأقبح الأوصاف، ونهى عن شربها، وحذَّر من عواقبها، وذكر مضارَّها، وبيَّن نصيب كل طبقة من طبقات الأمة منها، وطالت خطبته حتى سمعها خلق كثير، ومن فاته أولها لم يفُته آخرها. ويعلم القضاة من جهةٍ أن تجارة الأهلين حرة في بلاد جلالة الملك، وأن قوانين جلالته لا تحرِّم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ويعلمون من جهةٍ ثانية أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ فلو قال الأستاذ في الخمر ما قال وهو في التعبُّد بالهيكل أو في التعليم بالمدرسة، لما وجد لائمًا ولا مُؤاخِذًا؛ لكنه عمد لشخصٍ معيَّن فأزرى به وبتجارته، بمرأًى ومسمع من الكافة، ويعلمون كذلك أن أُلَّاف الحانات بين الناس هم العامة في الغالب، وهؤلاء يتأثرون بذكر اسم الأستاذ بنتاءور، فكيف إذا سمعوا حديثه، وكان مداره ذم الخمر في بيتها، وتقبيح تجارتها بين أعين تجارها، ويعلمون أيضًا أن المارة في أي قسم من أقسام المدينة، إنما يكون معظمهم من أهله وسكانه، وحانتنا إنما جُعلت لأبناء تلك الناحية التي خطب الأستاذ عليها، فكل ضرر ينشأ عن خطبته إنما يلحق بالحانة خاصة ويصيب صاحبها بالذات.
هذه شكوانا بسطناها للحاكم وأعوانه، آملين من عدالتهم أن يقدِّروا الخسارة التي سبَّبها الأستاذ لنا بخطبته، وأن يسوموه أداء العوض إلينا.
فحين فرغ الرجل من شرح الشكوى، لم يتمالك بنتاءور أن ضحك ثم قال: أيها القضاة، أعطوا الخمَّار من مالي ما شئتم، ولا تعطوا هذا الأحمق منه فتيلًا!
فسأله الحاكم: وأي علاقة بينكما وليس هو إلا محاميًا عن صاحب الحانة؟
قال: علمت أنهما اشترطا أن يكون له النصف مما تحكمون به عليَّ، وأن الخمَّار عارضه في ذلك بادئ بدء، فكان جوابه أن التجارتين سواء؛ فكما أن الخمَّار يسلب الناس أموالهم، كذلك المحامي يشاطرهم أرزاقهم.
زعم الخصم أن قوانين جلالة الملك لا تحرِّم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ونحن نقول إنها تبيح السم أيضًا ولا تحظر الاتجار به، ما دام من العقاقير، وكلَّما أُخِذ بمقادير.
على أننا لم نحرِّم الخمر ولم ننهَ عنها، وكيف وقد شربنا منها قدحًا باعتراف الخصم؛ لكن دَعَوْنا الناس إلى الاعتدال في أمرهم وأخذِ القليل منها إذا لم يكن من شربها بُد؛ فمثلنا كمن يقول لهم وهو على باب صيدلية لا حانة: يا أيها الناس، لا تأخذوا السم إلا بمقدار! فهل علينا إن قلنا هذا من حرج؟ شتان بين النوعين من السم، هذا يأخذه المرء وهو يعافه، وهذا يتناوله وهو يَلَذُّه؛ هذا يتجرعه وهو يدري، وهذا يتعاطاه وهو لا يدري؛ هذا إذا أخذ قليله نفع، وإذا أخذ كثيره أراح، وهذا صحة تزول، وشعور يعتوره ذبول، وعلةٌ تطول، وميتة عذابها يهول.
وزعم الخصم أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ ونحن نقول إن الموقف لم يكن أصلح منه للخطابة؛ لأن مدمن الخمر لا يُرْثَى له إلا في الحانة، كما أن الميت لا يؤبَّن إلا في القبر.
وزعم الخصم أن خطبتنا من شأنها أن تؤثِّر في العامة الذين هم المشَّاءون إلى الحانات، وهذا ما كنا نبغي، فإنا نلتقي بالخاصة في المجالس، ونكتب لهم ما تصل إليه أيديهم وأفهامهم، لكن لا يجمعنا والعامة إلا الطريق، ونُصْحُهم دَيْنٌ علينا أينما لقيناهم.
وزعم الخصم أن البلاء مقصور على حانته؛ لأنها إنما جُعلت لأبناء الناحية التي حاربنا فيها الخمر، فأصبح ينتظر من سكانها أن يولوا الوجوه عنها؛ وهذا يسوءنا بقدر ما يُحزن صاحب الحانة؛ فقد وددنا لو عم النفع بقدر ما خص الضر.
أيها القضاة، لا تحكموا للخمار فتحكموا على الفضيلة، ولا تقضوا له فتقضوا على التجارة الشريفة؛ لأن التاجر بالخمر قاسي القلب لا يرحم صرعاه، غدَّار لا يشيع جنازة قتلاه، غشاش لا يقف في الغش عند حد، شرِهٌ لا يقصر في الكسب عند غاية، فإذا لم يكن منك رقيب عليه، ولم يضرب القضاء على يديه، عظُم شرُّه، وعم ضرُّه، وتشبَّه به الكثيرون من أهل الكسل والشَّرَه!
ثم نطق القاضي بهذا الحكم: نحن حاكم قسم الصناعة، من أسباب حكمنا الذي نُصدره باسم جلالة الملك، مقتبسين من أنوار عدله المشرقة على العالم، أن النيات موازين الأعمال، لا غنى للقضاء عن تقديرها والتأمل فيها والوقوف حيث هي من صلاح أو فساد في الحكم على صلاح الأعمال أو فسادها؛ ونية الأستاذ بنتاءور يوم خطب في شارع الصناعة، كانت معقودة على أن ينفع الناس ولا يضر بصاحب الحانة، وأيضًا إن الفضيلة هي روح الشرائع التي يحكم بها جلالة الملك رعاياه، فلا ينبغي لها أن تُنصر عليها الرذيلة في حال من الأحوال؛ والأستاذ بنتاءور إنما نهى عن الإكثار من الخمر وإدمانها الذي هو رأس الرذائل، ونرى كذلك أن الأستاذ بنتاءور هو من كبار أساتذة الأمة وأهل الإرشاد فيها، وهذه الوظيفة العالية يؤديها أمثاله الحكماء في كل زمان ومكان، أينما وجدوا وكيفما ارتأوا، وكل تعرُّض لهم فيها تعرضٌ للفضيلة، وبناء على ذلك حكمنا ببطلان دعوى الخمَّار، وأن يدفع إلى الأستاذ بنتاءور عشرين قطعة من الذهب؛ لأنه سلبه بعض وقته الثمين، وأخَّره عن أشغاله النافعة في دعوى لم يكن من شأنها أن تُرفع إلى القضاء؛ ولهذا السبب نفسه حكمنا على الكاتب فلان المحامي عن الخمَّار بخمسين جلدة يُجلدها في صحن دار الحكومة هذه بمشهد من الناس، عقوبة له على غشه صاحبه، ولكيلا يجترئ أمثاله الكُتَّاب على أخذ أموال الناس بغير الحق.
قال الهدهد: ثم تثاءب النسر تثاؤبه المعهود، وفاهَ بكلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين. وأمرني أن ألقاه غد ذلك اليوم في دار الأمير «أوني».